كيف تتعلم البحث لشيخنا مقبل رحمه الله تعالى
كيف تتعلم البحث
كيف تتعلم البحث
الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وصحبه أجمعين
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فيقول الله سبحانه وتعالى:
{أفمن يعلم أنّما أنزل إليك من ربّك الحقّ كمن هو أعمى إنّما يتذكّر أولو الألباب}.
وروى البخاري ومسلم في "صحيحيهما":
عن معاوية رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: ((من يرد الله به خيرًا يفقّهه في الدّين)).
ورويا في "صحيحيهما":
عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتّى إذا لم يبق عالمًا اتّخذ النّاس رءوسًا جهّالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا?)).
وفي حديث أنس المتفق عليه، وحديث أبي هريرة المتفق عليه أيضًا: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذكر من أمارات الساعة: ((رفْع العلم، وظهور الجهل))، أو بهذا المعنى.
ونحن في هذا الزمن قد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ظهور الجهل وتفشّيه، حتى إنه أصبح كثير من المسلمين لا يميّز بين العالم والمنجّم، بل لا يميز بين المسلم والشيوعي
وكل هذا بسبب بعد المسلمين عن تعلّم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
إذا عرفت هذا، -ومعرفته بإذن الله تعالى نافعة للباحث- أعني أن الباحث إذا نظر إلى أحوال المسلمين وإلى حاجتهم، ونظر إلى تفشي الجهل، أنه يحتسب الأجر والثواب ويصبر، فإن طلب العلم يحتاج إلى صبر
ورضي الله عن عبدالله بن عمر إذ يقول: قل لطالب العلم يتخذ نعلين من حديد37.
وكذا يحيى بن أبي كثير -رحمه الله تعالى- يقول لولده عبدالله: لا يستطاع العلم براحة الجسم. ذكره الإمام مسلم في (كتاب الصلاة).
أما إذا لم يصحب الشخص الصبر والاحتساب فإنه يوشك أن يملّ، ويسأم، بل ربما إذا حصل على فائدة وأخرجها للمسلمين، ولم ير المسلمين يتقبلونها، ربما يحمله ذلك على أن يترك، كما حصل لغير واحد من المتقدمين،
وربّ شخص يحرق كتابه
وآخر يدفن كتبه
إما لخلل في كتبه، وإما لعدم إقبال الناس عليها،
كما قال بعضهم:
غزلت لهم غزلاً نسيجًا فلم أر لغزلي نسّاجًا فكسّرت مغزلي
فالشخص الذي لا يصبر ولا يحتسب ربما تأخذه السآمة، ويأخذه الفتور، سيما ونحن في مجتمع وعصر لا يشجع على العلم.
فربّ ولد محبّ للعلم يحول بينه وبين العلم والده الجاهل، وربّ شخص محبّ للعلم يحول بينه وبين العلم أهله الجاهلون
فمجتمعنا لا يشجّع على العلم، لكن ينبغي أن نصبر، وأن نحتسب، ولا نبالي، فرب العزة يقول في كتابه الكريم: {ياأيّها الّذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتّقوا الله لعلّكم تفلحون38}.
ويقول سبحانه وتعالى: {وجعلنا منهم أئمّةً يهدون بأمرنا لمّا صبروا39}.
فطالب العلم لابد أن يصبر، حتى وإن تراكمت عليه الأمور والمشاكل، ووجد ضيقًا في صدره
وربما يكلّف نفسه من الحفظ ومن الاهتمام بطلب العلم، حتى يجد قسوةً في قلبه
فلا ينبغي أن يثنيه عن هذا، فالشيطان لا يريد لك الخير، يريد أن يصرفك عن طلب العلم لأن طلب العلم في هذا الزمن أعظم حصن بإذن الله تعالى، يقيك من الفتن، فهو يعتبر حصنًا حصينًا، كما أن الذكر يعتبر حصنًا حصينًا، فكذلك العلم في هذا الزمن.
والذي ننصح به طالب العلم والمحب لسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يأخذ من اللغة العربية ما يستقيم به لسانه، وما يعرف به ارتباط المعاني،
فإن القرآن الكريم كما وصفه الله سبحانه وتعالى بقوله: {قرءانًا عربيًّا غير ذي عوج40}
وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عربية.
كما ننصحه أن يتعلم الخط والإملاء، فإنه ينبغي أن يؤهل نفسه للتحقيق والتأليف، والرد على المنحرفين، سواء كان في صحافة، أو في إذاعة، أو كان في كتب عصرية. ينبغي أن تكون همته عاليةً كما قال الشاعر:
فكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همّته في الثريا
ومن رزقه الله فهمًا وحفظًا، ثم قصّر في نفسه، وفي طلب العلم، فقد حرم خيرًا كثيرًا، كما ذكره الحافظ الخطيب رحمه الله تعالى في كتابه "الفقية والمتفقه".
إذا أخذ من اللغة العربية ما يستقيم به لسانه، ويمكن أن يكتفي "بقطر الندى" وأخذ من الخط ما يفهم لأن الخط عبارة عن نقوش اصطلح عليها الناس للتفاهم، فإذا كان خطه يقرأ، وقد عرف الإملاء، ولو أن يفهم "المفرد العلم" من أجل أن يعرف أصحاب المطابع الخط، ويعرف الناس الآخرون إذا أراد أن يكتب.
والمنحرفون يعيرون أصحاب المساجد، يقولون: لا يستطيع أحدهم أن يكتب اسمه، أو لا يستطيع أن يكتب إلى أبيه أو إلى قريبه,
ينبغي أن نقطع ألسنتهم، والكتابة مما امتن الله سبحانه وتعالى بها،
قال الله سبحانه وتعالى:
{ن * والقلم وما يسطرون?41}
وقال سبحانه وتعالى:
{اقرأ باسم ربّك الّذي خلق * خلق الانسان من علق * اقرأ وربّك الأكرم * الّذي علّم بالقلم * علّم الإنسان ما لم يعلم?42}.
وينبغي أن يحرص كل الحرص على تكوين مكتبة، فإن وجد علماء يثق بهم من علماء السنة، فننصحه أن يجلس إليهم
فرب جلسة عند عالم، خير من قراءة شهر
ويحرص على مجالستهم، فإذا لم يكونوا في بلده ينبغي أن يرحل إليهم، والرحلة مشروعة،
ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم يرغّب في الرحلة في طلب العلم، والصحابة رضوان الله عليهم كان أحدهم يرحل في المسألة الواحدة،
فالإمام البخاري رحمه الله تعالى قال: باب الرحلة في العلم، في كتاب العلم من "صحيحه"
ثم ذكر حديث الرجل الذي أتى يسأل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن امرأة سوداء زعمت أنّها أرضعته وأرضعت امرأته.
وفي "الأدب المفرد" للبخاري: أن جابر بن عبدالله رحل من أجل حديث واحد إلى عبدالله بن أنيس إلى الشام، فلما حدثه به رجع.
وقد ألف الخطيب -رحمه الله تعالى- كتابًا في الرحلة، فإن تيسر له أن يرحل إلى أهل العلم، ويجالس أهل العلم، فمجلس واحد ربما يكون خيرًا من قراءة شهر،
ويا سبحان الله لا تزال عبارة علمائنا الذين سمعنا منهم واستفدنا منهم، في أذهاننا إلى الآن فجزاهم الله خيرًا،
فلا أزال أذكر من شيخنا محمد بن عبدالله الصومالي -حفظه الله تعالى-: إذا رأيت شعبة عن عمرو فهو ابن مرة، وإذا رأيت سفيان عن عمرو فهو ابن دينار، وإذا رأيت عبدالله بن وهب عن عمرو فهو ابن الحارث،
وهكذا إذا جاء سفيان في السند في "صحيح مسلم" في الثالث أي: بينه وبين مسلم اثنان، قال: في الغالب بأنه سفيان الثوري، وإذا جاء في "صحيح مسلم" بينه وبين مسلم واحد، قال: فالغالب أنه سفيان بن عيينة.
لا أزال أذكر مثل هذه الفوائد التي استفدناها منه حفظه الله تعالى، تلقين الشيخ له أثر لا سيما الشيخ الذى يعمل لله ويعلّم لله،
أما الشيخ المستأجر الذى يدرس بأجرة فالفائدة قليلة،
فقد كنا في الجامعة الإسلامية، وبعض المشايخ يشرح الدرس حتى كأننا نشاهد الألفاظ بأعيننا، ونخرج بسبب عدم الثقة في الشيخ فلا نستفيد الفائدة التي ينبغي أن تستفاد.
فإن لم يتيسر له الحضور عند المشايخ ومجالستهم، فننصحه بتكوين مكتبة، والحمد لله الوجادة من طرق التحمل التي أجازها علماؤنا المتقدمون على الصحيح، يكون مكتبة من كتب السنة، ومن كتب الرجال، ومن كتب العقيدة، ومن كتب الفقه، ومن كتب التفسير،
ينبغي أن يحرص كل الحرص على أن لا يترك كتابًا من كتب المراجع الإسلامية إلا ويكون موجودًا في مكتبته بحسب القدرة والطاقة، والفائدة الواحدة من الكتاب تساوي الدنيا عند الذي يعرف قدر العلم، وعند من أصبح العلم أحب إليه من ماله وولده والناس أجمعين،
كما قاله شعبة في حديث تعب في الرحلة من أجل أن يتحصل عليه، وانتهى به الأمر إلى أن الحديث من طريق شهر بن حوشب، فقال: أفسده عليّ شهر، ولو صح هذا لكان أحب إليّ من أهلي ومالي وولدي والناس أجمعين. أو بهذا المعنى.
ذكر هذا الإمام الخطيب في كتابه "الرحلة" وكتابه "الكفاية"
وذكر بعضه ابن أبي حاتم في مقدمة "الجرح والتعديل43" في ترجمة شعبة.
فالفائدة الواحدة عند المحب للعلم والذي يعرف قدر العلم خير من الدنيا وما فيها، بل عبّر بعض أهل العلم بأن تحصيل الفوائد لا يعادلها شيء في نفسه
فيقول شعرًا:
سهري لتنقيح العلوم ألذّ لي
وتمايلي طربًا لحلّ عويصة
وصرير أقلامي على أوراقها
وألذّ من نقر الفتاة لدفّها
أأبيت سهران الدّجا وتبيته من وصل غانية وطيب عناقي
أشهى وأحلى من مدامة ساقي
أحلى من الدوكاة والعشاق
نقري لألقي الرّمل عن أوراقي
نومًا وتبغي بعد ذاك لحاقي
ثم بعد هذا جمْع ما تيسر من كتب اللغة، الكتب التى تشرح المفردات سواء كانت متعلقة بالحديث "كالنهاية" لابن الأثير و "الفائق" للزمخشري، أم كانت من قواميس اللغة "كالقاموس" و"تاج العروس" و"لسان العرب" وغير ذلك من الكتب التي لا بد أن يقتنيها فهو يحتاج إلى البحث فيها.
بقي كيف يستفيد من هذه الكتب؟
وهذا هو الذي يهمنا كيف يستفيد من هذه الكتب؟
يستفيد أحسن استفادة بالممارسة، وبالقراءة من كتب أصحاب التخاريج مثل "التلخيص الحبير" ومثل: "نصب الراية" ومثل "تفسير ابن كثير" يعتبر أيضًا من أعظم كتب التخاريج يبين طرق الحديث وإن كان تفسيرًا،
وطالب العلم المحب للعلم والذي لديه غيرة يستطيع أن يكتب، ويستفيد من مكتبته الصغيرة فقد كنت في مكة، وكان عندي مكتبة في دولاب صغير من الخشب، والحمد لله كتبت "الطليعة في الرد على غلاة الشيعة" والله المستعان.
فإن تيسر توفير الكتب فبها ونعمت، وإن لم يتيسر فينبغي أن تستفيد من مكتبتك الصغيرة، وأن تصبر، إلا أنه فرق بين توفر الكتب وبين عدم توفرها، فتوفر الكتب يوفر عليك وقتك فرب مسألة قد ألّف العلماء فيها المؤلفات من أمثال هذا: {بسم الله الرحمن الرحيم}أيجهر بها في الصلاة أم لا يجهر بها؟ الحافظ ابن عبدالبر له كتاب "الإنصاف في مسألة الخلاف" في هذا الموضوع، كذلك الدارقطني له كتاب في هذا الموضوع. يؤيد الجهر في {بسم الله الرحمن الرحيم}، والخطيب أيضًا له كتاب في هذا الموضوع بعض علمائنا المتقدمين مما لا أذكره، لأنه حصل صراع في هذه المسألة بين الشافعية وبين الحنابلة، الحنابلة يرون الإسرار، والشافعية يرون الجهر، فحصل صراع في هذه المسألة فكثرت التآليف فيها، والإسرار أصح لما رواه البخاري ومسلم في "صحيحيهما": عن أنس -رضي الله عنه- قال: صلّيت خلف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر، وعمر، وعثمان، رضي الله عنهم فكانوا يستفتحون القراءة بـ{الحمد لله ربّ العالمين}. وفي رواية: في "صحيح مسلم": لا يجهرون بـ{بسم الله الرحمن الرحيم}.
والجهر وارد لما رواه الحاكم في "مستدركه": عن أبي هريرة أنه صلى بأصحابه وقال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وليس كما يقول بعض الناس: إن نعيمًا المجمر تفرد به، بل تابعه عبدالرحمن بن يعقوب، وتابعه رجل آخر، فالحديث صحيح في الجهر، وحديث الإسرار أصح.
إنما أتينا بمثال من هذه المسائل ليعلم أن بعض المسائل قد ألّف علماؤنا فيها، وإذا كان قد ألف في المسألة وفّر عليك الوقت، وكذلك أيضًا الأحاديث الواردة في فضل رجب، ربما تتعب وأنت تتتبعها من الكتب، قد ألف الحافظ ابن حجر كتابًا -رحمه الله تعالى- في هذا وسماه "تبيين العجب فيما ورد في فضل رجب" وهكذا أيضًا القراءة خلف الإمام، ألف الإمام البخاري جزءًا، وألف الإمام البيهقي جزءًا.
والمسائل التى خصّت بالتأليف كثيرة، فهذا يوفر عليك وقتك.
إذا علمت هذا فكيفية الاستفادة من الكتب، ذكرنا لك فائدة وهي أن ترجع إلى التخاريج، وتنظر كيف يستفيدون.
شيء آخر
ترجع إلى معاني الحديث، فإن كان الحديث يتعلق بالطلاق رجعت إلى كتب الطلاق من "صحيح البخاري" ومن "صحيح مسلم" ومن "سنن أبي داود"، ومن "جامع الترمذي"، ومن "سنن النسائي"، ومن "سنن ابن ماجه"، إلى غير ذلك، وهكذا "سنن البيهقي" وإن كنت تعرف صحابيه يمكن أن ترجع إلى "تحفة الأشراف" لتعرف من أخرجه، أو ترجع إذا لم تجده في "تحفة الأشراف" إلى المسانيد كـ"مسند الإمام أحمد" و"مسند البزار" و"مسند الحميدي" إلى غير ذلك من كتب المسانيد.
وبقي شيء
ما إذا كان الحديث مشهورًا فعلماؤنا أيضًا ألفوا في هذا، فهناك كتاب "المقاصد الحسنة فيما اشتهر على الألسنة" للإمام السخاوي وهناك "كشف الخفا ومزيل الإلباس عما أشتهر على ألسنة الناس" للعجلوني، والعجلوني ربما يذكر الحديث ولا يذكر الحكم، وربما يكون حديثًا مخلاًّ بالعقيدة مثل حديث: ((إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور)) ذكره وسكت عليه، وهو دعوة إلى التمسح بأتربة الموتى، وإلى العقيدة الشركية، وإن كان يمكن أن يحمل الحديث أي: أنكم تزورون القبور، فإنّها تزهد في الدنيا، وتذكر في الآخرة، كما في حديث بريدة مرفوعاً ((إنّي كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنّها تذكّركم الآخرة)). رواه مسلم.
إن العجلوني ربما يذكر بعض الأحاديث فلا يتكلم عليها، بل هو نفسه مخرّف، فقد ذكر في مقدمة كتابه: "كشف الخفا ومزيل الإلباس" أنه يمكن أن يعرف الحديث أنه صحيح ويكون عند المحدثين ليس بصحيح، كيف يعرفه؟ بواسطة الكشف بأنه يكشف للولي إذا نزل جبريل بالحديث إلى النبي ?صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكشف له، ويكشف له بأنه ليس بصحيح ويكون عند المحدثين صحيحًا، ما هذا؟ إذًا فما فائدة كتابك "كشف الخفا" لم لا تعتمد على الكشف الذي هو أوهام وخرافات وخزعبلات، فرحم الله علماءنا المحدثين.
ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {ياأيّها الّذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا?44} وأوهام الصوفية وخرافاتهم وخزعبلاتهم تهدم علم الحديث.
وإن كنت مبتدئًا وكانت هذه الطريقة أو الطرق التى ذكرناها بعيدةً عليك، فننصحك بأن تأخذ سندًا من "سنن أبي داود" ثم تتبع رجاله رجلاً رجلاً،
وينبغي أن تتحرى في ابتداء أمرك حتى لا يلتبس عليك الأمر، فربما تجد وأنت تبحث عن محمد بن علي فتجد في "التقريب" جماعةً ممن يسمون محمد بن علي، فلا تدري من هو الذي في السند فكيف تستطيع التمييز؟.
بأمور منها: الطبقات، ومنها: الرموز، فأنت تبحث في "سنن أبي داود"، فإذا رأيت محمد بن علي لم يكن من رجال الجماعة، ولا من رجال أصحاب "السنن" ولا من رجال أبي داود عرفت أن هذا الرجل ليس هو الذي تبحث عنه. بعد هذا بالطبقة، ثم ترجع أيضًا إلى المشايخ تنظر إلى مشايخه ثم إلى الرواة من هو، وهم يميزون لك من هو، فإذا لم يتيسر لك هذا، فاجمع طرق الحديث فرب طريق يكون قد نسب فيها المحدث ويقولون مثلاً: محمد بن علي النيسابوري، أو مثلاً محمد بن علي يذكرون لقبه أو يذكرون كنيته. جمع الطرق أيضًا ربما تستطيع أن تميز بها.
فإذا لم تستطع أن تميز، وقد سلكت هذه المسالك فإن كانا ثقتين فلا يضر. من الأمثلة على هذا: علي بن محمد، شيخان لابن ماجة أكثر ابن ماجة عن علي بن محمد الطنافسي، وهناك علي بن محمد آخر أحدهما ثقة، والآخر صدوق، فلا يضر.
وإن اشتبه عليك ضعيف بثقة. ومن الأمثلة على هذا: إسماعيل ابن أبان المقرئ من مشايخ البخاري في طبقته إسماعيل بن أبان الغنوي متروك، والمقرئ من مشايخ البخاري. مثال آخر: الليثان: ليث بن سعد، وليث بن أبي سليم، ليث بن أبي سليم مختلط، وليث ابن سعد إمام.
مثال ثالث: عبدالكريم بن مالك الجزري، وعبدالكريم بن أبي المخارق اشتركا في كثير من المشايخ، واشترك كثير من الطلبة في الأخذ عنهما. الجزري من رجال البخاري، وابن أبي المخارق ضعيف.
مثال آخر أيضًا: أسامة بن زيد الليثي، وأسامة بن زيد بن أسلم، أسامة بن زيد الليثي يحسن حديثه عند بعضهم، وأسامة بن زيد بن أسلم ضعيف، فإذا كان أحدهما ضعيفًا والآخر ثقة توقفت.
فإذا انتهيت من رجال السند وعرفتهم، ووجدتهم ثقات ينبغي أن تجمع طرق الحديث، فرب حديث يكون سنده كالشمس، ثم بعد ذلك تظهر به علة أو يكون شاذًّا، ومع جمعك للطرق فإنك تعرف الشذوذ، وتعرف العلة، ورحم الله علي بن المديني، إذ يقول: (الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه)، ورب حديث كما تقدم يكون سنده كالشمس، وهو شاذّ، أو معل، فجمع الطرق أمر مهم.
كيف تستطيع أن تجمع الطرق؟ تقدم شيء من هذا، إن كان الحديث يتعلق مثلاً بفضيلة الوضوء، ترجع إلى أبواب الوضوء وأبواب الطهارة في الكتب على الأبواب.
فإن كنت تعرف صحابيّه رجعت أيضًا إلى "تحفة الأشراف" وإلى المسانيد.
ما عرفت لا ذا، ولا ذاك، لكنك الآن قد خرجت إلى طريق أخرى، لكن لو ذكرت حديثًا ولم تعرف صحابيه ولم تعرف إلا معناه، فينبغي أن ترجع إلى "المعجم المفهرس" فهو يتكلم عن المعاني، ويرشد، ولكن لا ينبغي أن تقتصر على "المعجم المفهرس"، بل هناك كتب لم تذكر في "المعجم المفهرس" من الأمثلة على هذا "مسند الحميدي" ومعاجم الطبراني الثلاثة "المعجم الكبير والمعجم الأوسط والمعجم الصغير" وكيفية الاستفادة من هذه الثلاثة المعاجم.
الاستفادة منها: أما "المعجم الصغير" فإنه على ترتيب شيوخه، وقد فهرس والحمد لله ونشرت فهرسته، فأما "المعجم الكبير" فإنه كالمسانيد على الصحابة، وإن كان يذكر فوائد ليست من الأحاديث و"المعجم الكبير" يخالف المسانيد، هو مثل المسانيد، بأنه على ترتيب الصحابة، يخالفهم ربما يذكر فوائد وآثار عن الصحابة، ويذكر تفسيرًا له إن كان من أئمة التفسير.
ومعرفة كيفية الاستفادة من الكتب أمر مهم، أذكر أننا في ذات مرة سألت بعض أهل العلم كيف أستطيع أن أستفيد من "التمهيد" لابن عبدالبر فجزاه الله خيرًا، كان لا يعرف مثلي كيف يستفاد لكن أعطاه الله بصيرة، قال: ائتنا بكتابه فأتينا بالكتاب، فإذا هو على ترتيب مشايخ الإمام مالك، فشيخ الإمام مالك في الحديث اسمه إبراهيم فارجع إلى "التمهيد" تجد خيرًا كثيرًا لأن التمهيد يعتبر من أحسن الكتب في جمع الطرق والكلام على المعاني والجمع بين الأدلة.
ونسيت شيئًا مهمًا مما يستفاد من "التمهيد" وهو ذكر الاختلاف في وصل الحديث وإرساله، أو وصل الحديث وانقطاعه، أو رفْع الحديث ووقفه، وطريقة الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- قريبة أو أنه استفاد الحافظ ابن حجر من "التمهيد" ومن طريقة "التمهيد" وفي طريقة إخراج الحديث، ثم الجمع بين الأدلة، ثم استنباط الأحكام، فجزاه الله خيرًا.
معرفة الاستفادة من الكتب من الأمور المهمة، فرب شخص يستطيع أن يستخرج الحديث في قدر نصف ساعة، ويخرج الحديث والحمد لله، لكن شخص آخر ممكن أن يبقى فيه سبعة أيام، وممكن أن يبقى فيه شهرًا.
وعند أن كنت مبتدئا مرّ بي حديث: ((يا عليّ لولا أن تقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت النّصارى في عيسى لقلت فيك مقالاً لا تمرّ بأحد إلا أخذوا التّراب من أثرك لطلب البركة)) وأنا كنت أكتب في "الطليعة في الرد على غلاة الشيعة" فوجدت في السند يحيى ابن يعلى، ووجدت جماعةً في "تهذيب التهذيب" ممن يسمون يحيى بن يعلى فما استطعت التمييز وصرت أسأل العلماء في الحرم، وغالبهم لا يهتم بالحديث فلم أجد منهم إجابة، حتى سألت بعض الباحثين فقال: هو يحيى بن يعلى الأسلمي القطواني قال: استفدت من "تهذيب الكمال" قلت: أين هو "تهذيب الكمال"؟ قال: في مكتبة الحرم المكي، ثم بعد ذلك ذهبت أهرول إلى مكتبة الحرم المكي حتى أنقله بعلوّ وأراجع ترجمة يحيى بن يعلى الأسلمي القطواني في "ميزان الاعتدال" إلى غير ذلك، فمعرفة الكتب ومعرفة الاستفادة من الكتب مهم.
وذات مرة كنت أبحث، فمرت بي كلمة لغوية، وكان عندي أخ في الله متخرّج من الجامعة الإسلامية كلية الشريعة، فأعطيته "القاموس المحيط" ليخرجها، فأخذ الكتاب ووضعه على فخذه، وأنا كما يقولون: واحرّ قلباه ممن قلبه شبم، فأنا استحييت أن أقول له: أعطني الكتاب من أجل أن أخرج الكلمة، وهو أيضًا استحيى أن يردّ لي الكتاب، ويقول لا أستطيع استخراجها فقلت له: مالك يا أخي ما تخرج الكلمة؟ قال: أنا لا أعرف كيف أستخرجها، وصار يضحك جزاه الله خيرًا.
فمعرفة الاستفادة من الكتب توفر عليك وقتك. بقي المواضيع، فرب حديث يتعلق بالعقيدة وأنت تريد أن تخرجه وما وجدته في "السنن" ولا في "صحيح البخاري" أنصحك أن ترجع إلى كتب العقيدة مثل "الأسماء والصفات" للبيهقي وكتاب "التوحيد" لابن خزيمة و"الرد على الجهمية" لعثمان الدارمي و"الرد على الجهمية" لابن منده، وإذا كان الحديث يتعلق بالترغيب والترهيب ترجع إلى "الترغيب والترهيب" للمنذري ليدلك على مخرجه، لأن "الترغيب والترهيب" ليس كافيًا. إذا كان الحديث يتعلق بالطب ترجع إلى كتب الطب التي ألفت في هذا ككتاب "الطب" للحافظ ابن القيم وكتاب "الطب" للحافظ الذهبي، وكتاب "الطب" لأبي نعيم إلى غير ذلك من الكتب التي ألفت.
فينبغي أن تنظر وتفكر في الموضوع الذى تريد أن تخرجه.
فإذا لم تر الحديث فلا توقف بحثك من أجل أنك ما رأيت الحديث، أو من أجل أنك ما رأيت ترجمة الراوي، فكيف تعمل؟ تترك بياضًا كما كان علماؤنا الأولون، يتركون بياضًا فابن أبي حاتم في كتابه "الجرح والتعديل" ربما يترك بياضًا. حتى تنتهي من البحث وتراجع، فإن وجدته وإلا قلت: لم أجده، كما يقول الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" وكما
يقول الحافظ الهيثمي في كتابه "مجمع الزوائد" يقول: في سنده فلان ابن فلان ولم أجده أو لم أجد له ترجمة، والحافظ أيضًا في "تخريج الكشاف" ربما يقول: الحديث لم أجده، لأن الزمخشري يعتبر حاطب ليل، وكذا الغزالي يعتبر حاطب ليل، وربما يأتيك شخص بكلام يظنه حديثًا، كما كنا نسمع ونحن في مكة عند أن أخبر الناس بأن اثنين صعدا إلى القمر، فإذا قائل يقول: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يصعد اثنان إلى ظهر القمر". أو بهذا المعنى. والحديث من موضوعات العصريين، فلا تتعب نفسك في البحث عنه،
ومن الأمثلة على هذا أيضًا قول بعض الأئمة "استووا فإن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج" وهكذا أيضًا "من تعلم لغة قوم أمن مكرهم" حديث ليس له أصل، ثم يطالبونك أن تخرجه من كتب السنة. ثم هب أنه في كتب السنة التي لم تطلع عليها، وهنا أمر أريد أن أنبّه عليه، فربما يقع فيه كثير من الناس ونحن من أولئك، ربما يستدل المستدل بجملة من الحديث وأنت تريد أن تستخرج هذا الحديث فتذهب وتبحث في كتب الفهارس في كتب الحديث وتتعب نفسك فلا تجد الحديث.
فإذا ذهبت تبحث في أوائل الحديث في كتاب مثل: "معجم الطبراني" فأحاديثه ليست موجودة في "المعجم المفهرس" وليست موجودة في "تحفة الأشراف" فكيف تعمل؟ ترجع إلى كتب الفقه إن كان يتعلق بالفقه، وهكذا سائر الفنون في الحديث.
بقى شيء في طريقة البحث
فإذا كنت تريد أن تكتب موضوعًا باستيعاب، والموضوع يستحق هذا فكيف تعمل؟
الذي أنصحك به أن تطالع كتب السنة كلها، وكلما وجدت حديثًا يتعلق بموضوعك كتبته، فإن كنت لا تريد الاستيعاب وتريد أن تكتب جملةً من الأدلة نظرت إلى الكتب التى ألّفت في هذا الموضوع.
وسآتي بمثال: فإذا كنت تريد أن تكتب في القدر، ومن جملة أبواب القدر المشيئة، فعليك أن ترجع إلى الكتب التى كتبت في القدر تجد أحاديث يسيرة في المشيئة، لكن لو ألّف أحد كتابًا في المشيئة من كتاب الله، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لخرج الكتاب مجلدًا.
وفق الله الجميع إلى ما يحبه ويرضاه
والحمد الله رب العالمين.
=========
41 سورة القلم، الآية:1-2.
42 سورة العلق، الآية:1-5.
43 الصحيح منه ما ذكره ابن أبي حاتم في المقدمة.
44 سورة الحجرات، الآية:6. 36 سورة الرعد، الآية:19.
37 ثم ظهر لي أنه ضعيف.
38 سورة آل عمران، الآية:200.
39 سورة السجدة، الآية:24.
40 سورةالزمر، الآية:28.
41 سورة القلم، الآية:1-2.
42 سورة العلق، الآية:1-5.
43 الصحيح منه ما ذكره ابن أبي حاتم في المقدمة.
44 سورة الحجرات، الآية:6.
والنقل
عن سحاب
http://www.sahab.net/forums/showthread.php?t=376723