خزانة الربانيون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    من منزلة السنة في التشريع الإسلامي

    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    الملفات الصوتية من منزلة السنة في التشريع الإسلامي

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 06.03.10 9:14

    من منزلة السنة في التشريع الإسلامي


    من منزلة السنة في التشريع الإسلامي 470674

    منزلة السنة
    المنزلة: هي المكانة والمرتبة.
    والمراد بها هنا : المرتبة التي تشغلها السنة النبوية في باب التشريع, حيث لا يستغنـي عنها بوجه من الوجـوه, إما مستقلة أو مبينة للكتاب, إذ لا بد من عرض كثير من اّيـات الأحكـام عليها, لتفسر المجمل, وتقيدالمطلق, وتخص العام, إلى غير ذلك من الأغراض التي تحققها السنة, والدور الذي تمثله ـــ إن صح مثل هذا التعبيـر ـــ .

    السنة في اللغة

    السنة في اللغة : هي الطريقة, سواء كانت محمودة أو سيئة, ويشهد لهذا المعنى حديث جرير بن عبد الله البجلي : (( من سن سنة حسنة, فله أجرها, وأجر من عمل بها ألى يوم القيامة, ومن سن سنة سيئة, فعليه وزرها, ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة )) . أخرجه مسلم . ومعنى الحديث: أي من أتى بخصلة حسنة, فله أجرها وأجر من تأسى به وعمل مثل عمله, لأنه الفاتح لباب الخير, والدال عليه بعمله, وكذلك تاحال بالنسبة للسيئة, لأن من أتى بخصلة سيئة, وتأسى به غيره, فعليه وزرعا ووزر كل من تأسى به بعده,لأنه فاتح لباب الشر بفعله ومبادرته.

    ويقول أهل اللغة: السنة: السيرة , حسنة كانت أو قبيحة .

    السنة في لسان علماء التشريع

    يختلف علماء الشريعة في معنى السنة اختلافا لفظيا لا جوهريا:
    فيطلق علماء الأصول لفظ السنة على أقوال الرسول ــ عليه الصلاة والسلام ــ وأفعاله وتقريره, وربما أطلقـوها على أعمال الصحابة, كعمل أبي بكر وعثمان ــ رضي الله عنهما ــ في جمع القرا ّن, وعمل عمر ــ رضي الله عنه ــ في تدوين الدواوين, ونحو ذلك, وهو مذهب جماعة من أهل الحديث.
    وقد يطلق الفقهاء السنة على الطريقة المسلوكة في الدين في غير وجوب أو لزوم .

    ومن عباراتهـم المعروفة فــي تعريف السنة: إن السنة ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه.

    ويطلق جمهور علماء الحديث السنة على ما يقابل البدعة, فيقال: فلان على السنة. إذا كان عمله و تصرفاته الدينية وفق ما جاء به رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ , كما يقال : فلان على البدعة. إذا كان مخالفا لهديه و سنته ـ عليه الصلاة والسلام ـ .

    ومن إطلاقات السنة عندهم أيضا : أنها قد تشمل صفاته الحميدة, وأخلاقه الكريمة, وسيرته العطرة, ويمكن أن يشهد لهم علـى هذا الإطلاق قول أم المؤمنـين خديجة ـ رضي الله عنها ـ : ((كلا والله , ما يخزيك الله أبدا, إنك لتصل الرحم, وتحمل الكل, وتقري الضيف, وتكسب العدوم, وتعين على نوائب الحق )) أخرجه البخاري ومسلم.

    وكذلك ما كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ معروفا به بين قومه, حتى قبل مبعثه من الصدق والأمـانة, لأن كل ذلك يستفاد منه في إثبات نبوته ـ عليه الصلاة والسلام ـ ورسالته, وهي مرادفة للحديث ـ كما ترى ـ بهذا الاعتـبار .

    حاجة الإنسان إلى الرسول والرسالة

    الإنسان ذلك المخلوق المختـار, ولكنه تحفه الشهوات, وتكتنفه متطلبات الغرائز, وتجتاحه الأهواء, وهـو أشبه ما يكون بالمريض مثلا , لا يجد سبيلا للخلاص مما حل به من مرض, والفوز بالبرء والعافية إلا بطبيب ناصح, فإن ائتمر بأمره فعزف عما تميل إليه نفسه, وامتنع عن الشهوات, ومتع ولذات, سلم من هلاك, وإلا فقد ألقى بنفسه في التهلكة, وهذا يعني: أن حاجة الإنسان للرسول ورسالته, وما تشتمل عليه سنته أمس من الحاجة إلى الطبيب والدواء, ويتضح ذلك بإجراء مقارنة ملموسة, بعيدة عن الفلسفة.

    وذلك أن غاية ما يصيب الإنسـان إن أعرض عن الطبيب, أن تعتريه الأسقام في بدنه, وأما إن أعرض عن الرسول والرسالة, ولم يحي قلبه بما فيها من الوحي الإلهي ـ كتابا وسنة ـ أن تعتريه الأسقام والاّ فات التي لا برء منها, ويموت قلبه ولا يرجى بعده الحياة, وتنضب ينابيع السعادة, وتغشاه أمواج غامرة متلاطمة من الشقاء والتعسة, ويغادره اليقين, ولا تعود الحياة إليه إلا بالعودة إلى نور الوحي والاستضاءة بنوره, والله المستعان

    السنة صنـــــــــو القراّ ن

    وتضح مما تـقدم أن ملخص معنى السنة: ما أضيف إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قول أو فعل أو تقرير, وأن السنة من الوحي الإلهي: } إن هو إلا وحي يوحى (4) علمه شديد القوى { ] النجم :4 ـ 5[ .

    كما يدل على ذلك من السنة قوله ـ عليه الصلاة والسـلام ـ (( ألا وإني أوتيت القراّ ن ومثله معي )) أخرجه أحمد في المسند(16722) من حديث المقدام ن معديكرب رضي اللهعنه, وصححه الألباني في صحيح الجامع (2643).

    فالسنة إذن صنو القراّ ن, وهي وحي مثله, وملازمة له, ولا تكاد تفارقه, ولا يكاد القراّ ن يفهم كما يجب أن يفهم إلا بالرجوع إلى السنة فى كثير من اّ ياته, ولا سيما اّ يات الأحكام .

    معنى الوحـــــــي

    الوحي: هو الإعلام الخفي والسريع, ولذلك يطلقون على الرموز والإشارات الخفية أنها من الوحي عند أهل اللغة ! ومنه الإلهام: " وهو إلقاء المعاني الخاصة في النفس " والوحي إلى غير الأنبياء من هذا القبيل, كالوحي إلى النحل } وأوحى ربك إلى النحل{ ]النحل:68[ .

    وأما في لسان الشرع: إعلام الله لأنبيائه بطرق خفية أخبار السماء, وما يريد أن يبلغه من التعليمات والتوجيهات والتشريع, بحيث يحصل لديهم علم قطعي, لا يتطرق إليه أدنى شك, بأن ذلك من عند الله سبحانه, فيكون مصدر الوحي هو الله وحده, فلا وحي إلا من الله, ومورود الوحي هم الأنبياء, فلا يكون الموحى إليه إلا نبيا, وهكذا يتضح أن المعنى الشرعي أخص من المعنى اللغوي كما ترى.

    أقســـام الوحي

    إعلام الله لأنبيائه ما يريد إعلامهم يكون بطرق ثلاثة, وقد أشار القراّ ن إلى هذه الطرق حيث يقول عز وجل : } وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء { ] الشورى :51[ .

    أولا : المراد بقوله تعالى : } إلا وحيا{. الإعلام, الذي هو الإلهام, وهو إلقاء المعنى المراد في قلب نبـي من أنبيائه حتى يفهمه جيدا, ويقطعبأنه من عند الله.

    ثانيــا: الكلام من وراء حجاب, كلاما حقيقيا يقطع بأنه سمع كلام ربه الذي كلمه كيف يشاء, دون أن يراه كما حصل لنبي الله وكليمه موسى ـ عليه السلام ـ في أول بدء الوحي, حيث : } نودي يا موسى (11) إني أنا ربك { ] طــه :11 ـ 12 [ . حتى سمع سماعا حقيقيا, ولكن دون رؤية وكذلك عند مجيئه للميقات, حيث يقول الله سبحانه: } ولما جاء موسى لميقاتــنا وكلمه ربه { ] الأعراف:143 [ . وقد حصل هذا النوع لنبينا محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ليلة المعراج, عندما فرض الله عليه وعلى أمته الصلوات الخمس, والقصة معرفة ولا حاجة لسردها.

    ثالثا : إعلام الله لنبي من أنبيائه ما يريد تبليغه بواسطة الملك " جبرائيل " ـ عليه السلام ـ وهذا النوع هو الغالب والأكثر وقوعا, وقد كان جبرائيل ـ عليه السلام ـ يأتي النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأشكال وصور مختلفة, إذ كان يأتيه أحيانا متمثلا بصورة الصحابي الجليل " دحية الكلبي ", وربما جاء بصورة أعرابي, وقد راّ ه مرتين على صورته الحقيقية : مرة عند غار حراء, حيث يتحنث قبل الوحي, ومرة عند سدرة المنتهى في ليلة الإسراء والمعراج, وقد لا يرى النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ الملك أحيانا, وإنما يسمع عند قومه دويا كدوي النحل, وصلصلة شديدة, فتعتريه حالة روحية غير عادية .

    تؤخذ هذه المعاني ـ كلها أو بعضها ـ من حديث عروة عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ , ذكره البخاري في صحيحه: (( أن الحارث بن هشام سأل رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقال : يا رسول الله, كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس, وهو أشده علي, فيفصم عني, وقد وعيت ما قال, وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا, فيكلمني, فاعي ما يقول. قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه, وإن جبينه ليتفصد عرقا)) ] أخرجه البخاري (2) ومسلم(2333) من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ [ .

    ومما لا يختلف فيه اثنان دارسـان للإسلام أن ديننا مبني على أصلين اثنين :

    الأصل الأول: أن يعبد الله وحده دون أن يشرك به غيره بجميع أنواع العبادات, وأن لا يصرف منها شيء لغير الله, وذلك معنى قول المؤمن: " أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له" .

    الأصل الثاني : أن يعبد الله بما شرعه على لسان رسوله وخليله محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو معنى قول المؤمن : " أشهـــد أن محمدا رســـول الله ".

    وصحة الأصل الأول تتوقف على تحقيق الأصل الـثاني, ومعنى تحقيقه نوجزه في صدق متابعة رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ , لأن اتباعه دليل محبة الله عز وجل , الذي محبته ومراقبته والأنـس به غاية سعي العبد وكده, وهي أيضا جالبة لمحبة الرب عبده ومغفرته له, إذ يقول ـ عز من قائل ـ : } قل إن كنتم تحبون الله فاتبعـوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم { ] اّ ل عمران: 31 [ .

    وذلك لأنه رسوله المختار ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليبلغ دينه الذي شرعه لعباده, وهو المبلغ عنه أمره ونهيه وتحليله وتحريمه, فالحلال ما حلله, والحرام ما حرمه, والدين ما شرعه وارتضاه, والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ واسطة بين الله و بين عباده في بيان التشريع, وما يترتب عليه من وعده ووعيده, وتبليغ وحيه الذي اشتمل على ذلك كله قراّ نا وسنة, وقد كلف بذلك بقوله تعالى : } ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفغل فما بلغت رسالته{ ] المائدة: 67[ وبقوله :} وما على الرسول إلا البلاغ المبين { ] النور: 54[ , وقوله: }وأنزلنا إليك الذكر لتبـين للناس ما أنزل إليهم{ ] النحل :44 [ وقوله :} وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن{ ] النحل:125[ .

    إن هذه الاّ يات من الذكر الحكيم تبين بوضوح وظيفة الرسول الكريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهي القيام بواجب التبليغ والبيان والدعوة إلى دين الله وإلى شرعه الذي شرعه الله تعالى لعباده وارتضاه لهم.

    وهذه الأوامر الربانية الثلاثة التي تقدم ذكرها في طي الاّ يات السابقة تحقق غرضا واحدا, وهو دلالة الخلق على الطريق الموصلة إلى الخالق سبحانه, وهو راض عنهم, حتى يكرمهم في دار كرامته, لقاء ما قاموا به من أداء ما أوجبه الله عليهم في هذه الدار, من تحقيق العبودية, ليصدق في حقه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قوله تعالى : } وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين{ ] الأنبياء:107[ .

    حقا إنه رحمة مهداة, ونعمة مسداة للبشرية جميعا, ولكن الشأن أن يرفع أتبعائه رءوسهم لدراسة سنته كما يجب, مكتفين ها, ليفهم كتاب الله على ضوئها, متجردين لها, تلك السنة التي هي ذلك البيان, وذلك البلاغ, وتلكـم الدعوة.

    وبعد : فلا يشك مسلم مهما انحطت منزلته العلمية, وضعفت ثقافته, وضحلت معرفته أن الرســول الكريم محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ بلغ ما أنزل إليه من ربه, وهو القراّ ن الكريم, وذلك لأن الإيــمان بأن الله نزل القراّ ن على رسوله الذي اصطفاه محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأنه بلغ ما نزل عليه إليهم كما نزل, وأنه بين للناس ما احتاج إلى بيان, وأجاب على أسئلتهم واستفساراتهم في موضوعات كثيرة, ودعاهم إلى الأخذ بما جاء به من ربه من الوحي, ولم يفتر عن الدعوة إلى ذلك حتى التحق بالرفيق الأعلى.

    إن هذا المقدار من الإيمان أصل من أصول هذا الدين, وأساسه الذي ينبني عليه كل ما بعده من واجبات الدين وفرائضه, وإذا كنا نؤمن هذا الإيمان ـ ويجب أن نؤمن ـ فأين نجد بيانه الذي يتحقق به امتثاله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لتلك الأوامر الربانية } بلغ{ } لتبين{ } ادع{ .

    الجواب : نجد ذلك في سنته المطهرة, ولا نجد في غيرها, تلك التي قيض الله لها من شاء من عباده, وهم جهابذة علماء المسلمين, فحفظوها وصانوها من كل مختلف, وكل معنى مزيف ليصدق قوله تعالى ـ وقوله : الحق وخبره المصدق ـ : } إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظــون{ ] الحجر: 9[ .

    والذكر المنزل المحفوظ هو القراّ ن بالدرجة الأولى, وقد حفظه الله بما شاء, وكيف شاء, وتدخـل السنة في عموم الذكر في الدرجة الثـانية عند التحقيق وإنعام النظر, وقد حفظها الله تعالى بأولئك الجهابذة العلماء ـ كما قلنا اّ نفا ـ والسنة التي يتم بها المطلوب : هي أقواله وأفعاله وتقريراته.

    السنــــــــــــــة هي الحكمـــة

    وقد ذكر الله الحكمة في عديد من اّ يات الكتاب العزيز مقرونة بالكتاب, ومما لا شك فيه أن المراد بالحكمة في تلك الاّ يات المشـار إليها كلها : هي السنة النبوية.

    ومن تلكم الاّ يات قوله تعالــــى : } ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم اّياتــك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم{

    وقوله تعالى:} لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم اّياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين{ ] اّ ل عمران: 164[ .

    وقوله : } وأنزل الله الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما{ ] النسـاء:113[ .

    وقوله: } واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به{ ]البقرة:231[ .

    وقوله سبحانه: } واذكرن ما يتلى في بيوتكن من اّ يات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا{ ] الأحزاب:34[ .
    والاّ يات في هذا المعنى كلها تعطف الحكمة على الكتاب عطفا يدل على المغايرة طبعا.

    يقول الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ : " فرض الله على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ " .

    وقال رحمه الله في رسالته المشهورة : " فذكر الله الكتاب وهو القراّ ن , وذكر الحكمة, فسمعت من أرضاه من أهل العلم بالقراّ ن يقول : الحكمة سنة رسوله .

    ثــــم قال الإمام ـ رحمه الله ـ معلقا على هذا القول : " وهذا أشبه ما قال والله أعلم " .

    ثـــــم علل قائلا : " لأن القراّ ن ذكر وتبعته الحكمة, وذكر الله منته على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة, فلم يجز ـ والله أعلم ـ أن يقال: الحكمة ها هنا غير سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ , وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله, وأنه افترض طاعة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم , وحتم عل الناس اتباع أمره, فلا يجوز أن يقال لقول فرض, إلا لكتاب الله, ثـم سنة رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ " .

    وإلى أن قال: " وذلك لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقرونا بالإيمان بالله وسنة رسوله مبينة عن الله معنى ما أراد, ثم قرن الحكمة بكتابه, وأتبعها إياه, ولم يجعل لأحد من خلقه غير رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ " .

    نبذة عن كلام أهل العلم في مكانة السنة وبيان حجتها

    وقد نقل البيهقي عن الإمام الشافعي عدة نقول في هذا الصدد نختار منها الاّ تي:

    قال الإمــام الشافعي ـ رحمه الله ـ : "وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ثلاثة أوجه :

    أحدهم: ما أنزل الله فيه نص الكتاب, فسن رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ بمثل نص الكتاب .

    والثاني: ما أنزل فيه جملة كتاب, فبين رسول الله عن الله معنى ما أراد بالجملة, وأوضح كيف فرضها عاما أو خاصا, وكيف أراد أن يأتي به العباد.

    والثـالث: ما سن رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ مما ليس فيه نص كتاب.

    فمنهم من قال :جعله الله له بما افترض من طاعته, وسبق علمه من توفيقه له, ورضاه أن يسن فيما ليس فيه نص الكتاب.

    ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب كتبيين عدد الصلاة وعملها على أصل جملة فرض الصلاة, وكذلك ما سن في البيوع وغيرها من الشرائع, لأن الله تعال ذكره قال : } يا أيها الذين اّ منوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تـكون تجارة عن تراض منكم{ ]النساء: 29[ . وقال :} وأحل الله لكم البيع وحرم الربا{ ]البقرة: 275[.
    فما أحل وحرم فإنما بين فيه عن الله , كما بين في الصلاة.

    ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله, فأثبتت سنته بفـرض الله تعالى .

    ومنهم من قال: كل ما سن وسنته هي الحكمة التي ألقيت في روعه من الله تعالى" انتهى كلام الشافعي.
    وقال الشافعي في موضع اّ خر:" كل ما سن فقد ألزمنا الله تعالى اتباعه, وجعل اتباعه طاعته, والعدول عن اتباعه معصيته, التي لم يعذر بها خلقا, ولم يجعل له من اتباع سنن نبيه مخرجا".

    قال البيهقي:" باب ما أمر الله به من طاعة رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ , والبيان أن طاعته طاعته " ثم ساق الاّ يات التالية: قال الله تعالى : } إن الذين يـبايعونك إنما يـبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه فسيؤتيه أجرا عظيما{. قال ـ غز من قائل ـ } من يطع الرسول فقد أطاع الله{ ]النساء:80[ . إلى غيرها من الاّيات البينات التي مضمونها أن طاعة رسوله هي طاعة له تعالى, وأن معصيته معصية له تعالى.

    ثم أورد البيهقي حديث أبي رافع قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه يقول : لا أدري!! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه )) أخرجه أبو داود والحاكم من حديث المقدام بن معديكرب قال : إن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ حرم أشياء يوم خيبر منها الحمار الأهلي وغيره.

    ثم قال رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (( يوشك أن يقعد رجل على أريكته, يتحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله, فما وجدنا فيه من حلال استحللناه, وما وجدنا فيه من حرام حرمناه, ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله)).] أخرجه ابن ماجه وأحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع (8186).

    ثم قال البيهقي: " وهذا خبر من رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ عما يكون بعده من رد المبتدعة حديثه, فوجب تصديقه فيما بعد".

    ويقول البيهقي في هذا الصدد : " ولولا ثبوت الحجة بالسنة, لما قال رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ في خطبته بعد تعليم من شهده أمر دينهم : (( ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب, فرب مبلغ أوعى من سامع)).

    ثم أخرج البيهقي بسنده عن شبيب بن أبي فضالة المكي, أن عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ ذكر الشفاعة, فقال رجل من القوم : (( يا أبا نجيد, إنكم تحدثوننا بأحاديث لم نجد لها أصلا في القراّ ن !! فغضب عمران فقال للرجل: قرأت القراّ ن كله؟!! قال: نعم. قال: هل وجدت فيه صلاة العشاء أربعا, ووجدت المغرب ثلاثا, والغداة ركعتين, والظهر أربعا, والعصر أربعا؟!! قال: لا. قال: عمن أخذتم ذلك؟!! ألستم عنا أخذتموه, وأخذناه عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ؟!! ثم قال: أوجدتم في القراّ ن من كل أربعين شاة: شاة, ومن كل بعير كذا, وفي كل درهم كذا )) إلى اّ خر ذلك الحوار الحاد الذي أفحم فيه الصحابي الجليل ذلك السائل الذي تجرأ فسأل ما ليس له, فاستحق التوبيخ والتأديب وفي الوقت نفسه يدل عل مدى ما يكنه سلفنا الصالح, من تقديرهم للسنة النبوية, والذود عنها, ومحبتها, وما من شك أن محبة سنته من محبته ـ عليه الصلاة والسلام ـ , ومحبته من أسس الإيمان, كما لا يخفى, والمحبة الصادقة إنما تتمثل في الاهتمام بسنته علما وعملا, وتقديرها, والاحتجاج بها, والذود عنها بكل سلاح ممكن ومتيســـر.

    مكانة السنة عند الخلفاء الراشدين

    السنة النبوية بعد ثبوتها وصحتها تتمتع عند المسلمين ـقديما وحديثا ـ بما يتمتع به القراّ ن الكريم من حيث وجوب العمل بها, والرجوع إليها عند التنازع, وترك الرأي من أجلها, فلنستمع قول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في هذا المعنى, إذ أخرج البيهقي بسنده عن عمر ـ رضي الله عنه ـ قوله وهو على المنبر : (( يا أيها الناس إن الرأي إنما كان من رسول الله مصيبا, لأن الله تعالى كان يريه, وإنما هو منا الظن والتكلف)) . لهذا نرى عمر رجاعا في كل ما يبلغه من حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حادثة ما, ونازلة علمية جديدة, لا علم له

    فيها بسنة ثابتة, وإذا ثبتـت السنة بادر دون أدنى توقف إلى العمل بالسنة والرجوع إليها.
    ومن شواهد ما ذكرنا ما يرويه ابن المسيب: أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان يقول : (( الدية للعاقلة, ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا. حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي , فرجع إليه عمر )) أخرجه أبو داود.

    ومنها : ما أخرجه البيهقي عن طاوس, أن عمر قال: (( أذكر الله امرأ سمع من النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الجنين شيئا؟ فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال : جنينا ميتا, فقضى فيه رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ بغرة. فقال عمر : لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا, إن كدنا أن نقضي في مثل هذا برأينا ))

    يقول الإمام الشافعي وهو يعلق على هذه الأخبار, وموقف عمر من السنة: " قد رجع عمر عما كان يقضي فيه, احديث الضحاك بن سفيان, فخالف حكم نفسه, وقال في الجنين: إنه لو لم يسمع هذه السنة, لقضى فيه بغيرها, وقال: إن كدنا نقضي فيه برأينا" .

    ومنها: ما أخرجه الشيخان من طريق ابن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة, أن عمر خرج إلى الشام , فلما جاء " سرغ " بلغه أن الوباء قد وقع بالشام, فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : (( إذا سمعتم به الأرض, فلا تقدموا عليه, وإذا وقع بأرض وأنتم بها, فلا تخرجوا فرارا )) فرجع عمر من " سرغ " .
    قال ابن شهاب: وأخبرني سالم بن عبد الله بن عمر: أن عمر إنما انصرف بالناس من حديث عبد الرحمن بن عوف.

    ومنها : ما أخرجه البخاري في صحيحه لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس, حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله أخذها من مجوس هجر.

    هذا بعض ما أثر عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ , وله مواقف أخرى كثيرة ومماثلة, وهو موقف كل صحابي من الخلفاء وغيرهم.

    وهاك بعض مواقف الخليفة الأول أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ
    عن قبيضة بن ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ لتسأله عن ميراثها, فقال لها أبو بكر: (( ما لك في كتاب الله شيء, وما أعلم لك في سنة نبي الله شيئا, فارجعي حتى أسأل الناس. فسأل الناس, فقال له المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ فأعطاها السدس. فقال أبو بكر: هل مغك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال له مثل ما قاله, فأنفذه لها أبو بكر )) ] أخرجه أبو داود (2894) والترمذي(2101) وابن ماجه(2724) وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود(617)[.

    هكذا نتبين من هذا الاستعراض السريع لنصوص أهل العلم ومواقفهم في مختلف العصور,تلك النصوص التي يصعب إحصاؤها, نتبين أن الأمة ما زالت, ولن تزال متفقة على أن السنة النبوية يجب أن يكون لها مقام معلوم في بيان الأحكام, وأنها حجة قائمة بنفسها, وأنه يجب الرجوع إليها, إذا لم يرد بها الكتاب, هذه من ناحية. ومن ناحية أخرى أنها بيان للقراّ ن, وتفسير له, ومفصلة ما أجمل فيه, وهذه المعاني كلها محل إجماع عند من يعتد بأقوالهم, ولا نعلم أحدا شذ عن هذه القاعدة, إلا الزنادقة وغلاة الرافضة الذين لا يتأثر الإجماع بمخالفتهم, بل لا يستشارون إن حضروا, ولا يسأل عنهم إذا غابوا, لأنهم فارقوا جماعة المسلمين ونابذوهم, واتبعوا غير سبيل المؤمنين بمواقفهم العدائية لأصحاب رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ , ذلك الموقف الذي أدى إلى رد إحاديث رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ المصدر الثاني للتشريع الإسلامي ـ بدعوى أنها رواية قوم كافرين, ومن باب ذر الرماد في العيون ـ عيون السذج طبعا ـ قالوا : نحن نعمل بالقراّ ن, ونقتصر عليه. وهذا كلام لا ينطلي على أولى النهى من طلاب العلم, وأهل الإيمان, والله الموفق.

    *من كتاب
    (( منزلة السنة في التشريع الإسلامي ))
    لفضيـــلة الشيخ العلامة
    محمد أمان بن علي الجامي
    عميد كلية الحديث الشريف ورئيس شعبة العقيدة بالدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمديـــنة النبوية " سابقا "

    والنقل

    لطفا من هنا
    http://www.alnasiha.net/cms/node/57


      الوقت/التاريخ الآن هو 15.11.24 4:07