صلاح آخر هذه الأمة بما صلُح به أولها
للشيخ عبيد بن عبدالله الجابري حفظه الله ورعاه
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق لظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له إقراراً به
وتوحيداً ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً مزيداً .أما بعد :
فقد أخرج الإمام الحافظ ، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي بسنده في كتابه القيم ( التمهيد ) عن مالك قال : كان وهب
ابن كيسان يقعد إلينا ولا يقوم أبداً حتى يقول لنا : اعلموا أنه لا يصلح آخر هذا الأمر إلاّ بما أصلح أوله . قلت : ’’ يعني الراوي عن مالك ’’ : يرد ماذا ؟ قال يريد في بادئ الإسلام أو قال التقوى )أ.هـ .
قلت : واعلم أيها القارئ الكريم أن ما قاله هذا العالم الجليل وهو ( أبو نعيم وهب ابن كيسان القرشي مولاهم المدني المعلِّم ، من كبار الرابعة المتوفى سنة سبع وعشرين ومائة ) مؤيداً بآي التنزيل الكريم وصحيح السنة وآثار السلف الصالح ، وهاك بعض أدلته على سبيل المثال لا الحصر وفق الترتيب السابق .
الشواهد من القرآن الكريم :
قال الله تعالى :{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } .
قال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله: ( هذه الآية هي الميزان التي تعرف بها من أحب الله حقيقة ومن ادعى ذلك دعوى مجردة ،
فعلامة محبة الله اتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذي متابعته وجميع ما يدعو إليه طريقاً إلى محبة الله ورضوانه فلا تنال محبة الله ورضوانه وثوابه إلاّ بتصديق ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وامتثال أمرهما واجتناب نهيهما ، فمن فعل ذلك أحبه الله ورسوله وجازاه جزاء المحبين وغفر له ذنوبه وستر عليه عيوبه ) أ.هـ .
وقال الحافظ الإمام ابن كثير رحمه الله : " هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في
نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى عليه وسلم أنه قال : ( من عمل عملاً
ليس عليه أمرنا فهو رد ) ولهذا قال : { إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم وهو من الأول " أ. هـ . محل الغرض .
وقال تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخروذكر الله كثيراً }
قال الإمام العلامة محمد بن على الشوكاني رحمه الله : " أي قدوة صالحة وفي هذه الآية عتاب للمتخلفين عن القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي لقد كان لكم في رسول الله حيث بذل نفسه للقتال وخرج إلى الخندق لنصرة دين الله أسوة , وهذه الآية وإن كان سببها خاصاً فهي عامة في كل شيء " أ. هـ محل الغرض . وقال الشيخ ابن سعدي في الآية " حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة وباشر موقف الحرب وهو الشريف الكامل ، والبطل الباسل , فكيف تشحون بأنفسكم عن أمرٍ جاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه فيه ؟!! فتأسوا به في هذا الأمر وغيره , واستدل الأصوليون في هذه الآية على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وأن الأصل , أن أمته أسوته في الأحكام إلاّ ما دل الدليل الشرعي على الاختصاص به , فالأسوة
نوعان : أسوة حسنة ، وأسوة سيئة . فالأسوة الحسنة في الرسول صلى الله عليه وسلم فإن المتأسِّي به سالك الطريق الموصل إلى كرامة الله وهو الصراط
المستقيم . وأما الأسوة بغيره إذا خالفه فهو الأسوة السيئة ، كقول المشركين حين دعتهم الرسل للتأسي بهم ( إنَّا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ) وهذه الأسوة الحسنة إنما يسلكها ويوفق لها من كان يرجوا الله واليوم الآخر فإن ما معه من الإيمان وخوف الله ورجاء ثوابه وخوف عقابه , يحثه على التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم " أ. هـ.
وقال تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب }
والمعنى : ( مهما أمركم به فافعلوه ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه فإنه إنما يأمر بخير وإنما ينهى عن شر ) وقوله : { واتقوا الله إن الله شديد العقاب } أي اتقوه بامتثال أوامره وترك زواجره فإنه شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره وأباه وارتكب ما عنه زجره ونهاه .
ونظير آية الحشر هذه قوله تعالى :{ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } قال
الحافظ ابن كثير في تفسير آية النور هذه : ( أي : عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله فما وافق ذلك قُبل وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائناً من كان . إلى أن قال :فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطناً وظاهراً ، { أن تصيبهم فتنة } أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة { أو يصيبهم عذاب أليم } أي في الدنيا بقتلٍ أو حدٍ أو حبسٍ أو نحو ذلك ) أ. هـ .
وما أجود ما قاله الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في قوله سبحانه وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله
سميع عليم } فإذا كان سبحانه قد نهى عن التقديم بين يديه فأي تقديم أبلغ من تقديم عقله على ما جاء به . قال غير واحد من السلف : و لا تقولوا حتى يقول ولا تفعلوا حتى يأمر . ومعلوم قطعاً أن من قدم عقله أو عقل غيره على ما جاء به فهو أعصى الناس لهذا النبي صلى الله عليه وسلم وأشرهم تقدماً
بين يديه أ.هـ .
وقال العلامة المفسر أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي رحمه الله في هذه الآية من سورة الحجرات قوله تعالى : { لا تقدموا بين يدي الله } أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وإيجاب اتباعه والاقتداء به وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه : ( مروا أبا بكر فليصل بالناس ، فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما قولي له إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس من البكاء ، فمر عمر فليصل بالناس ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنكنَّ لأنتن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر فليصل بالناس ) فمعنى قوله ( صواحب يوسف ) الفتنة بالرد عن الجائز إلى غير الجائز وربما احتج بغاة القياس بهذه الآية وهو باطل منهم , فإن ما قامت دلالته فليس في فعله تقديم بين يديه ، وقد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع , فليس إذاً تقدماً بين يديه { واتقوا الله } يعنى في التقدم المنهي عنه { إن الله سميع } لقولكم { عليم } بفعلكم أ.هـ.
وأقول لا ينازع ذو بصيرة ثاقبة وعقل مستنير في أن هذه الآيات الخمس صريحة الدلالة على وجوب التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه في كل ما شرعه وهذا هو الشاهد منها على ما قاله ابن كيسان رحمه الله .
الشواهد من السنة :
ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة الصحيحة التي تلقاها أهل المعرفة بحديثه بالقبول ما تواتر به النقل عنه صلى الله عليه وسلم في الحث
على اتباعه واتباع من سلك سبيله بعده , وهاك خمسة أحاديث منها :
الحديث الأول : عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : خيركم قرني ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، وقال عمران :
لا أدري أذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد قرنه قرنين أو ثلاثة , قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن بعدكم قوماً يخونون ولا يؤتمنون يشهدون ولا يستشهدون وينذرون ولا يفون ويظهر فيهم السمن ) .
الحديث الثاني : عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته )) متفق عليه.
فالشاهد من هذين الحديثي : أن إخباره صلى الله عليه وسلم أن الخيرية يعني الفضلة هي في قرنه والقرنين أو الثلاثة بعده . قال أهل العلم : المراد
بقرنه أصحابه والذين يلونهم هم التابعون والذين يلونهم هم أتباع التابعين
. قلت : وهذه القرون الثلاثة هي القرون المفضلة التي لا ينصرف لقب السلف الصالح عند الإطلاق إلاَّ إليها .
الحديث الثالث : عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : ( كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلاً فمنا من يصلح
خباءه ومنا من ينتعل ومنا من هو في جَشره إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصلاة جامعة ، فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( إنه لم يكن نبيٌ قبلي إلاّ كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ، وينذرهم عن شر ما يعلمه لهم ، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها ، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها وتجئ الفتنة ويرقق بعضها بعضاً ، وتجئ الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثم تنكشف ، وتجئ الفتنة فيقول المؤمن هذه ، هذه . فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ) رواه مسلم .
فلنتأمل أيها القارئ الكريم ما في هذا الحديث من فقه عظيم ، فقد أفاد أموراً كثيرة منها : -
أولاً : كمال هدي النبي صلى الله عليه وسلم إذ حرص على تعليم الأمة المعاملة إلى جانب العقيدة والعبادة .
ثانياً : بيان أن السلامة في السير على درب من مضى من الصحابة والتابعين وهذا نأخذه من قوله صلى الله عليه وسلم : ( وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في
أولها ) إذاً السلامة والنجاة والرشد والفلاح والسعادة في التمسك بهدي من مضى من الصحابة والتابعين الذين أخذوا من الكتاب والسنة الدين غضاً طرياً ، فالصحابة أخذوا من النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون أخذوا من الصحابة.
الحديث الرابع : عن عائشة رضي الله عنها , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) أخرجاه ، ولمسلم ( من
عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) ومعنى رد : مردود ، وما كان مردوداً فكأنه غير موجود , والرد إذا أضيف إلى العبادة اقتضى فسادها وعدم الاعتداد بها ، وإذا أضيف إلى المعاملة اقتضى إلغائها وعدم نفوذها ، والشاهد من الحديث في إخباره صلى الله عليه وسلم : أن الإحداث في أمره وهو الدين موجب لرد العمل .
الحديث الخامس : عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ،
فقلنا : يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا ، وفي رواية (فبما تعهد إلينا ) قال : أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبدٌ حبشي
، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعظوا عليها بالنواجذ ) رواه أبو داود والترمذي وابن عاصم وغيرهم ، وقال الترمذي حديث حسن صحيح . فالشاهد من الحديث قوله: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعظوا عليها بالنواجذ ) وهذا إخبارٌ منه صلى الله عليه وسلم بأن في ذلك صلاح آخر أمر هذه الأمة .
الشواهد من آثار السلف الصالح وأخبارهم :
اعلم أيها المسلم هدانا الله وإياك إلى مراشد أمورنا وصواب الأقوال والأعمال أن وصايا الأئمة ونصائح أهل الفضل وجلالة القدر وعلماء الأمة
بمثل ما نصح به أبو نعيم وهب بن كيسان رحمه الله قد تواتر بها النقل . يستبين ذلك جلياً من كانت له بصيرة ومعرفة بكتب القوم المعنية بنقل أصول الدين والاعتقاد مثل شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة وسنن الدارمي . وإليك خمساً من وصايا القوم ونصائحهم .
أولاً : عن شريح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه : إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به , ولا يلفتك عنه الرجال فإن جاءك ما ليس في كتاب الله
فانظر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بها , فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم فيه أحد قبلك , فاختر أي الأمرين شئت . إن شئت أن تجتهد برأيك ثم تقدم فتقدم , وإن شئت أن تتأخر فتتأخر , ولا أرى التأخير إلاَّ خيراً لك ) .
ثانياً : قال ابن مسعود رضي الله عنه : ( اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم ) .
ثالثاً : وقال الشعبي رحمه الله : ( إياكم والمقايسة فوالذي نفسي بيده لإن أخذتم بالقياس لتحلنَّ الحرام ولتحرمنَّ الحلال فما بلغكم عن من حفظ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فخذوا به ) .
رابعاً : قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : ( عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان ) قلت : وسفيان هذا هو سفيان بن سعيد الثوري .
خامساً : قال الأوزاعي رحمه الله : ( اصبر نفسك على السنة وقف حيث وقف القوم وقل بما قالوا وكُفَّ عمَّا كفوا عنه واسلك سبيل سلفك الصالح فإنه يسعك ما وسعهم ) .
وبعد : فيا أيها المسلم الناصح لنفسه الحازم في أمره إن كنت حريصاً على النجاة والفوز بسعادة الدارين ولا إخالك إن شاء الله إلاّ كذلك فافقه ما
تضمنته هذه المقالات السلفية , فإنها مطابقة في مضمونها ما قدمته قبلها من آي التنزيل الكريم وصحيح السنة وإياك إياك أن تسلك غير سبيل المؤمنين
واحذر فقد قال الحق جل ثناؤه : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً } .
رزقنا الله وإياك الإخلاص في الأقوال والأعمال والثبات على السنة في الحياة وبعد الممات وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتبه : عبيد بن عبدالله بن سليمان الجابري
المدرس بالجامعة الإسلامية سابقاً
23/07/2000 م
وهنـــــــــــــــــــــــــا ملف ورد
منقول من سحاب السلفية