إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا،
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران/102]
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء/1]
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا
(70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
[الأحزاب/70، 71]
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله
عليه وسلم ، وشر الأمور
محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فيا معاشر المسلمين، نتحدث إليكم في موضوع مهم، ومهم
جداً، وذلكم لأنه من خلاله - إن
شاء الله - تعرض قواعد وأصول يستعملها أهل السنة في التعامل مع من يخالفهم، وسواء كان الخلاف في أصول الدين أو فروعه؛ لأنه من المتقرر بمقتضى دلالة الكتاب والسنة أن العبرة هو بما دل عليه الدليل، وهذا الدليل على الحكم إما آية من آي التنـزيل الكريم، أو حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما أحسن ما قاله رابع أمراء المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه :(( لو كان الدين بالرأي، لكان باطن الخف أولى بالمسح من أعلاه
))، فإذا تقرر هذا أيها المسلمون، فإن حديثنا
معكم في هذا الموضوع الذي بانت لكم
عظيم مكانته وأهميته من خلال هذا العرض اليسير، فإن الحديث فيه يتضمن أموراً عدة:
الأمر الأول: أن الأصل في الإنسانية هو خالص التدين لله
- سبحانه وتعالى -، وحسن إتباع رسله، وهذا ما دل
عليه الدليل الصريح من الكتاب الكريم، ومن سنة نبينا صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى -:(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [البقرة/213]
وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله
عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
(( قال الله - تعالى-:وإني خلقت عبادي حنفاء، فأتتهم
الشياطين فاجتالتهم عن ذكر
الله، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به عليهم سلطاناً، وحَرَّمَتْ
عليهم ما أحللت لهم )).
فيتلخص لدينا من هذه الآية وهذا الحديث، وما هو في
معناهما من آي التنـزيل الكريم، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ما يأتي:
أولاً: أن الله - سبحانه
وتعالى - أرسل رسله، وكذلك أنزل كتبه لرد الناس إلى الصواب من أمر دينهم، بعدما
اختلفوا بغياً بينهم.
الثاني: في قوله - تعالى -: ( فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ
آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) إلى آخر الآية وهذا تنبيه إلى أنه يجب على المسلم حال الاختلاف أن ينظر إلى الحق، وبه يزن ما يرد عليه من الاقوال والأعمال ،( فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) . ويتبع هذا تنبيه آخر وهو: أن الاجتماع والاتفاق على ما أنزل الله
- سبحانه وتعالى - في كتبه على رسله هو
سبيل النجاة، وسبيل الفلاح، وسبيل السعادة في الدنيا والآخرة، وما عدا ذلك من أقوال المختلفين فليست بشيء، بل في الآية ما يشعر بذم المختلفين الذين خالفوا الحق، وركبوا الباطل، بعد ما بَين لهم الحق، ألم تسمعوا إليه - سبحانه وتعالى - في هذه الآية:(فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
) .
الثالث: هو أن الآية والحديث، وكذلكم ما هو في معناهما
مشعر بأن الدعاة إلى الله على بصيرة هم الذين يجندون أنفسهم ويبذلون كل ما آتاهم الله - سبحانه وتعالى - من العلم والعمل
والقوة والقدرة والوقت كي يردوا الناس إلى الأمر الأول، السمت الأول، وهو ما اختاره الله لعباده من الهدى ودين الحق.
يوضح هذا ما أخرجه أحمد ومسلم من حديث عبد الرحمن بن عبد
رب الكعبة عن ابن عمرو - رضي
الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( إنه لم يكن نبي
قبلي قط إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وأن ينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه قد جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرَها بلاء وأمور تنكرون... )) الحديث.
وكان وهب بن كيسان - رحمه الله - إذا قعد لأصحابه لا
يقوم حتى يقول لهم: ((اعلموا أنه لن
يصلح آخر هذا الأمر إلا ما أصلح أوله )) قال أصبغ بن الفرج لمالك - رحم الله الجميع - ومالك هو راوي هذا الأثر عن شيخه وهب بن كيسان - رحمه الله -: ماذا يريد؟ قال: يريد بادئ الدين أو التقوى.
ومما جاء في معنى حديث ابن عمرو من الشواهد على صدق ما
قاله وهب بن كيسان - رحمه الله -،
قوله صلى الله عليه وسلم :(( خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ))
وعلى ما أفادته الأحاديث المتواترة في هذا الباب، أجمع
أهل العلم والإيمان بدءً من
الصحابة، فأئمة التابعين، فمن بعدهم، أجمعوا على أنه يجب الأخذ بما دل عليه الدليل من كتاب الله، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلكم قول ابن عباس - رضي الله عنهما-:(( والله ما أظن أحداً أحب إلى الشيطان هلاكاً مني اليوم)) فقيل: وكيف؟
قال: (( تحدث البدعة في المشرق أو المغرب، فيحملها الرجل
إلي، فإذا انتهت إلي قمعتها
بالسنة، فترد عليه )). ومن قبل قال الفاروق رضي الله عنه
:(( إياكم وأهل الرأي، أعداء السنن، أعيتهم أحاديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن
يحفظوها، فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا )).
ومن أقوال التابعين ما أخرجه الدارمي عن الشعبي - رحمه
الله - قال: (( إياكم والمقايَسَة، فوالذي نفسي
بيده لإن أخذتم بالقياس لَتُحِلُّنّ الحرام
ولَتُحَرِّمُنّ الحلال، فما بلغكم عن من حفظ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فخذوا به - أو قال - فاحفظوه ))
وكان الإمام مالك - رحمه الله - يقول: (( السنة سفينة
نوح، من ركبها نجا ))
وقال عبد الله بن شَوْذَب الخراساني - رحمه الله -: ((
إن من نعمة الله على الأعجمي
والحدث إذا تنسكا، أن يُواخيا صاحب سنة فيحمِلُُهما عليها
)) فقوله: (تنسك) يعني تعبّد لله - سبحانه -، وهذه
الكلمة في عرفنا اليوم كلمة
بمعناها وهي: إلتزم.
الأمر الثاني: الذي يتضمنه حديثنا معكم معاشر
المسلمين والمسلمات في الرأي، الكثير منكم - لاسيما طلاب العلم-، لا يخفى عليهم ما تواتر عن السلف الصالح من الصحابة وأئمة التابعين، ومن بعدهم من أهل القرون المفضلة الثلاثة التي شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، ما تواتر عنهم في ذم الرأي وأهله.
أقسام الرأي:
وقد ثبت لدينا بالاستقراء
أن الرأي أقسام ثلاثة:
أحدها: رأي الفقيه العالم الراسخ في العلم، الناصح
للأمة حين تنـزل به نازلة، فلا يجد ما يَحُلُّها من الدليل لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من الإجماع، يبذل وسعه فَتُعْوِزُه الحِيَل، فيرى أنه لا بد من رأي في هذه المسألة، فيصيب رأيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا الصنف من الرأي شاهده ما أخرجه البخاري وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه عرضت عليه قضية امرأة تٌوفي زوجها قبل الدخول عليها، فقال: أقول فيها برأيي، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي، والله ورسوله بريئان منه، أرى أنها لها الصداق والميراث، وعليها العدة، فقام رجل فقال: أشهد على رسول الله لقضى في امرأة منا بمثل ما قضيت يا ابن مسعود. فكبر رضي الله عنه فرحاً أن أصاب برأيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا الرأي أيها السامعون من المسلمين والمسلمات محمود،
وصاحبه محمود، أولا: لأنه بذل وسعه واجتهد، وثانياً: عمد إلى الرأي حينما لم يجد دليلاً، وثالثاً: أن رأيه هذا وافق
السنة، وهذا من توفيق الله - سبحانه وتعالى - .
القسم الثاني: هو رأي الفقيه المجتهد الناصح للأمة الذي تنـزل به
نازلة كذلك،
فيجتهد فيها رأيه، فلا يصب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الفقيه محمود ومشكور، ويثنى عليه بما يثنى به على أهل العلم والإيمان، ولكنّ رأيه غير مقبول؛ لمخالفته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم :(( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد )) ، فهو عند من يعرف قدر العلماء المجتهدين الفضلاء محمود، مغفور له خطؤه إن شاء الله، معذور فيما أخطأ فيه، مأجور على اجتهاده، ولهذا فإن أهل هذا الصنف من الرأي لا يشنع عليهم العلماء، ولا يثرِّبون عليهم، بل يحفظون كرامتهم، ويصونون أعراضهم، ويعرفون لهم السابقة بالفضل وجلالة القدر، وإن كانوا لا يتابعونهم على ما أخطئوا فيه، لما هو متقرر عندهم أنه لا يسوغ متابعة المخطئ على خطئه ما دام قد تبين له أن الدليل على خلاف ذلكم الرأي وذلكم الاجتهاد.
القسم الثالث: من أقسام الرأي: هو رأي أهل الهوى الضلال،
الذين جعلوا عقلهم إماماً يحكمون به على النصوص، ولا يجعلون عقولهم تابعة
للنصوص، فهذا الرأي هو الذي حذر منه الأئمة،
وشنعوا على من يقول به؛ لأنه في هذا الرأي تعطيل للنصوص
وعدم العمل بها والركون إلى أقوال الرجال، وكان الإمام أحمد - رحمه الله - يذم الرأي بصفة عامة ويقول: (( عجت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان )) وكذلكم تواتر عن أئمة العلم والإيمان ذم هذا الصنف من الرأي، وذم أهله، والتشنيع عليهم، فمن ذلكم قول مفضل بن مُهَلْهَل - رحمه الله -: (( لو كان صاحب البدعة يحدثك في أول أمره بالبدعة لحذرته ونفرت منه، ولكنه يحدثك في بُدُوِّ مجلسه بالسنة، ثم يدخل عليك من بدعته فلعلها تلزم قلبك فمتى تفارق قلبك )).
وقال مصعب بن سعد - رحمه الله -: (( لا تجالس مفتوناً،؛
فإنه لن يخطئك منه إحدى
اثنتين، إما أن يفتنك فتتابعه، أو يؤذيك قبل أن تفارقه
)).
ومن هذا القبيل في ذم الرأي الذي هو مجرد قياس ومحض
اجتهاد مباينة للنصوص، قول مالك -
رحمه الله - :(( أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم )). وقال أيوب السختياني - رحمه الله
-:(( قال لي أبو قلابة: يا أيوب احفظ عني أربعاً:
1- لا تقل في القرآن برأيك
2- وإياك والقدر - يعني لا تخاصم فيه ولا تجادل -
3- وإذا ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأمسك
4- ولا تمكن أهل الأهواء من سمعك فيِقرُّوا فيه ما شاءوا
-أو قال: - ينبذوا فيه ما شاءوا ))
وكان ابن سيرين وتلميذه أيوب السختياني وغيرهما من
الأئمة إذا دخل عليهم أهل الأهواء
تركوا المجلس، بل قال قائل السلف: إني لا أحب أن أسمع منه القرآن.
فقيل له: وكيف؟ قال: أخشى أن يدخل علي فيه ما ليس منه.
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران/102]
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء/1]
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا
(70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
[الأحزاب/70، 71]
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله
عليه وسلم ، وشر الأمور
محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فيا معاشر المسلمين، نتحدث إليكم في موضوع مهم، ومهم
جداً، وذلكم لأنه من خلاله - إن
شاء الله - تعرض قواعد وأصول يستعملها أهل السنة في التعامل مع من يخالفهم، وسواء كان الخلاف في أصول الدين أو فروعه؛ لأنه من المتقرر بمقتضى دلالة الكتاب والسنة أن العبرة هو بما دل عليه الدليل، وهذا الدليل على الحكم إما آية من آي التنـزيل الكريم، أو حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما أحسن ما قاله رابع أمراء المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه :(( لو كان الدين بالرأي، لكان باطن الخف أولى بالمسح من أعلاه
))، فإذا تقرر هذا أيها المسلمون، فإن حديثنا
معكم في هذا الموضوع الذي بانت لكم
عظيم مكانته وأهميته من خلال هذا العرض اليسير، فإن الحديث فيه يتضمن أموراً عدة:
الأمر الأول: أن الأصل في الإنسانية هو خالص التدين لله
- سبحانه وتعالى -، وحسن إتباع رسله، وهذا ما دل
عليه الدليل الصريح من الكتاب الكريم، ومن سنة نبينا صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى -:(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [البقرة/213]
وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله
عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
(( قال الله - تعالى-:وإني خلقت عبادي حنفاء، فأتتهم
الشياطين فاجتالتهم عن ذكر
الله، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به عليهم سلطاناً، وحَرَّمَتْ
عليهم ما أحللت لهم )).
فيتلخص لدينا من هذه الآية وهذا الحديث، وما هو في
معناهما من آي التنـزيل الكريم، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ما يأتي:
أولاً: أن الله - سبحانه
وتعالى - أرسل رسله، وكذلك أنزل كتبه لرد الناس إلى الصواب من أمر دينهم، بعدما
اختلفوا بغياً بينهم.
الثاني: في قوله - تعالى -: ( فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ
آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) إلى آخر الآية وهذا تنبيه إلى أنه يجب على المسلم حال الاختلاف أن ينظر إلى الحق، وبه يزن ما يرد عليه من الاقوال والأعمال ،( فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) . ويتبع هذا تنبيه آخر وهو: أن الاجتماع والاتفاق على ما أنزل الله
- سبحانه وتعالى - في كتبه على رسله هو
سبيل النجاة، وسبيل الفلاح، وسبيل السعادة في الدنيا والآخرة، وما عدا ذلك من أقوال المختلفين فليست بشيء، بل في الآية ما يشعر بذم المختلفين الذين خالفوا الحق، وركبوا الباطل، بعد ما بَين لهم الحق، ألم تسمعوا إليه - سبحانه وتعالى - في هذه الآية:(فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
) .
الثالث: هو أن الآية والحديث، وكذلكم ما هو في معناهما
مشعر بأن الدعاة إلى الله على بصيرة هم الذين يجندون أنفسهم ويبذلون كل ما آتاهم الله - سبحانه وتعالى - من العلم والعمل
والقوة والقدرة والوقت كي يردوا الناس إلى الأمر الأول، السمت الأول، وهو ما اختاره الله لعباده من الهدى ودين الحق.
يوضح هذا ما أخرجه أحمد ومسلم من حديث عبد الرحمن بن عبد
رب الكعبة عن ابن عمرو - رضي
الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( إنه لم يكن نبي
قبلي قط إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وأن ينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه قد جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرَها بلاء وأمور تنكرون... )) الحديث.
وكان وهب بن كيسان - رحمه الله - إذا قعد لأصحابه لا
يقوم حتى يقول لهم: ((اعلموا أنه لن
يصلح آخر هذا الأمر إلا ما أصلح أوله )) قال أصبغ بن الفرج لمالك - رحم الله الجميع - ومالك هو راوي هذا الأثر عن شيخه وهب بن كيسان - رحمه الله -: ماذا يريد؟ قال: يريد بادئ الدين أو التقوى.
ومما جاء في معنى حديث ابن عمرو من الشواهد على صدق ما
قاله وهب بن كيسان - رحمه الله -،
قوله صلى الله عليه وسلم :(( خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ))
وعلى ما أفادته الأحاديث المتواترة في هذا الباب، أجمع
أهل العلم والإيمان بدءً من
الصحابة، فأئمة التابعين، فمن بعدهم، أجمعوا على أنه يجب الأخذ بما دل عليه الدليل من كتاب الله، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلكم قول ابن عباس - رضي الله عنهما-:(( والله ما أظن أحداً أحب إلى الشيطان هلاكاً مني اليوم)) فقيل: وكيف؟
قال: (( تحدث البدعة في المشرق أو المغرب، فيحملها الرجل
إلي، فإذا انتهت إلي قمعتها
بالسنة، فترد عليه )). ومن قبل قال الفاروق رضي الله عنه
:(( إياكم وأهل الرأي، أعداء السنن، أعيتهم أحاديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن
يحفظوها، فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا )).
ومن أقوال التابعين ما أخرجه الدارمي عن الشعبي - رحمه
الله - قال: (( إياكم والمقايَسَة، فوالذي نفسي
بيده لإن أخذتم بالقياس لَتُحِلُّنّ الحرام
ولَتُحَرِّمُنّ الحلال، فما بلغكم عن من حفظ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فخذوا به - أو قال - فاحفظوه ))
وكان الإمام مالك - رحمه الله - يقول: (( السنة سفينة
نوح، من ركبها نجا ))
وقال عبد الله بن شَوْذَب الخراساني - رحمه الله -: ((
إن من نعمة الله على الأعجمي
والحدث إذا تنسكا، أن يُواخيا صاحب سنة فيحمِلُُهما عليها
)) فقوله: (تنسك) يعني تعبّد لله - سبحانه -، وهذه
الكلمة في عرفنا اليوم كلمة
بمعناها وهي: إلتزم.
الأمر الثاني: الذي يتضمنه حديثنا معكم معاشر
المسلمين والمسلمات في الرأي، الكثير منكم - لاسيما طلاب العلم-، لا يخفى عليهم ما تواتر عن السلف الصالح من الصحابة وأئمة التابعين، ومن بعدهم من أهل القرون المفضلة الثلاثة التي شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، ما تواتر عنهم في ذم الرأي وأهله.
أقسام الرأي:
وقد ثبت لدينا بالاستقراء
أن الرأي أقسام ثلاثة:
أحدها: رأي الفقيه العالم الراسخ في العلم، الناصح
للأمة حين تنـزل به نازلة، فلا يجد ما يَحُلُّها من الدليل لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من الإجماع، يبذل وسعه فَتُعْوِزُه الحِيَل، فيرى أنه لا بد من رأي في هذه المسألة، فيصيب رأيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا الصنف من الرأي شاهده ما أخرجه البخاري وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه عرضت عليه قضية امرأة تٌوفي زوجها قبل الدخول عليها، فقال: أقول فيها برأيي، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي، والله ورسوله بريئان منه، أرى أنها لها الصداق والميراث، وعليها العدة، فقام رجل فقال: أشهد على رسول الله لقضى في امرأة منا بمثل ما قضيت يا ابن مسعود. فكبر رضي الله عنه فرحاً أن أصاب برأيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا الرأي أيها السامعون من المسلمين والمسلمات محمود،
وصاحبه محمود، أولا: لأنه بذل وسعه واجتهد، وثانياً: عمد إلى الرأي حينما لم يجد دليلاً، وثالثاً: أن رأيه هذا وافق
السنة، وهذا من توفيق الله - سبحانه وتعالى - .
القسم الثاني: هو رأي الفقيه المجتهد الناصح للأمة الذي تنـزل به
نازلة كذلك،
فيجتهد فيها رأيه، فلا يصب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الفقيه محمود ومشكور، ويثنى عليه بما يثنى به على أهل العلم والإيمان، ولكنّ رأيه غير مقبول؛ لمخالفته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم :(( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد )) ، فهو عند من يعرف قدر العلماء المجتهدين الفضلاء محمود، مغفور له خطؤه إن شاء الله، معذور فيما أخطأ فيه، مأجور على اجتهاده، ولهذا فإن أهل هذا الصنف من الرأي لا يشنع عليهم العلماء، ولا يثرِّبون عليهم، بل يحفظون كرامتهم، ويصونون أعراضهم، ويعرفون لهم السابقة بالفضل وجلالة القدر، وإن كانوا لا يتابعونهم على ما أخطئوا فيه، لما هو متقرر عندهم أنه لا يسوغ متابعة المخطئ على خطئه ما دام قد تبين له أن الدليل على خلاف ذلكم الرأي وذلكم الاجتهاد.
القسم الثالث: من أقسام الرأي: هو رأي أهل الهوى الضلال،
الذين جعلوا عقلهم إماماً يحكمون به على النصوص، ولا يجعلون عقولهم تابعة
للنصوص، فهذا الرأي هو الذي حذر منه الأئمة،
وشنعوا على من يقول به؛ لأنه في هذا الرأي تعطيل للنصوص
وعدم العمل بها والركون إلى أقوال الرجال، وكان الإمام أحمد - رحمه الله - يذم الرأي بصفة عامة ويقول: (( عجت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان )) وكذلكم تواتر عن أئمة العلم والإيمان ذم هذا الصنف من الرأي، وذم أهله، والتشنيع عليهم، فمن ذلكم قول مفضل بن مُهَلْهَل - رحمه الله -: (( لو كان صاحب البدعة يحدثك في أول أمره بالبدعة لحذرته ونفرت منه، ولكنه يحدثك في بُدُوِّ مجلسه بالسنة، ثم يدخل عليك من بدعته فلعلها تلزم قلبك فمتى تفارق قلبك )).
وقال مصعب بن سعد - رحمه الله -: (( لا تجالس مفتوناً،؛
فإنه لن يخطئك منه إحدى
اثنتين، إما أن يفتنك فتتابعه، أو يؤذيك قبل أن تفارقه
)).
ومن هذا القبيل في ذم الرأي الذي هو مجرد قياس ومحض
اجتهاد مباينة للنصوص، قول مالك -
رحمه الله - :(( أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم )). وقال أيوب السختياني - رحمه الله
-:(( قال لي أبو قلابة: يا أيوب احفظ عني أربعاً:
1- لا تقل في القرآن برأيك
2- وإياك والقدر - يعني لا تخاصم فيه ولا تجادل -
3- وإذا ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأمسك
4- ولا تمكن أهل الأهواء من سمعك فيِقرُّوا فيه ما شاءوا
-أو قال: - ينبذوا فيه ما شاءوا ))
وكان ابن سيرين وتلميذه أيوب السختياني وغيرهما من
الأئمة إذا دخل عليهم أهل الأهواء
تركوا المجلس، بل قال قائل السلف: إني لا أحب أن أسمع منه القرآن.
فقيل له: وكيف؟ قال: أخشى أن يدخل علي فيه ما ليس منه.
عدل سابقا من قبل أبو عبد الله أحمد بن نبيل في 02.07.08 18:33 عدل 1 مرات