نظراتٌ في منهج تقييد وكتابة العلم
نظراتٌ في منهج تقييد وكتابة العلم
(على ضوء قواعد المحدثين)
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا}[1].
والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الخَلْق من مَلَك، وإنس، وجانّ.
أما بعد:
نظراتٌ في منهج تقييد وكتابة العلم
(على ضوء قواعد المحدثين)
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا}[1].
والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الخَلْق من مَلَك، وإنس، وجانّ.
أما بعد:
فتشمل هذه الورقات نظرات في منهج تقييد العلم، والعناية التي أَوْلاها السابقون للتعامُل مع فروق الرِّوَايات، والنُّسَخ في العُلوم الشرعية، وَفْقَ القواعد والضوابط التي رَسَمُوها للكتابة والقيد، باعتبارها من دعائم وَثَاقَةِ النُّصوص عند المسلمين،
وقد كنت أرْصُدُ هذه الفروق ثم أتأمَّلُها، وذلك أثناء عملي ضمن فريق التحقيق بالدّار الجريسية، والتي انبثق منها مشروع العناية بالكتاب الإسلامي؛ بِناء على رغبة الأستاذ الدكتور/ خالد بن عبدالرحمن الجريسي، فقَدَّمَتْ به الدار خدمة جليلة لمجموعة من الكتب المهمة، بعضها قد صدر، وبعضها ما زال تحت الخدمة، وتولَّى الإشرافَ الفنّيَّ على هذا العمل الدكتور/ سعد بن عبدالله الحميد، الذي وُفِّق لفَكِّ كثير منَ المشكلات المعقَّدة في المخطوطات، بما حباه الله تعالى من علم وأناة، وحِلم، وقد أفاد منه فريقُ التَّحقيق فائدةً كبيرةً،
نرجو اللَّه أن يوفِّقَهم لتسخيرها في خدمة العلم، وأن يجزي الشيخينِ خير الجزاء.
وسوف أُسَلِّطُ الضوء من خلال هذه النظرات على منهج كتابة وتقييد العلم؛ بِناء على القواعد التي رسَمَها المُحدِّثُون، لتتضح أهمية الأَخْذ بها؛ من أجل العمل على إبرازها للطلاب، لضمان استمرار قوة التوثيق في ظلِّ التطوُّر والازدهار المشاهَد في سوق الطباعة والنشر، وفي مجال تداوُل المعارف والمعلومات؛ خشيةً من التَّردِّي الذي قد يَنتج من تأثير عامِلَيِ الربح والخسارة على جَوْدة المطبوعات، مِمَّا سأُبَيِّنُهُ بعد قليل، وأهَمِّ الأسباب التي تُساعد في ضبط الجَوْدة والرَّصانة لعمليَّة نقل العُلوم وتداوُلِها، من خلال عرض بعضِ الأمثلة التطبيقية التي وقفتُ عليها، فأسألُ الله أن يجد فيها طُلابُ العلم الفائدةَ المَرْجُوَّة، وألا يجعلها من الصَّوارف، ومضيِّعاتِ الوقت.
كتابة العلم، وتقييده في الماضي والحاضر:
بدأ المسلمون كِتابة العلم وتدوينَه في صدرِ الإسلامِ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - بين ظهرانَيْهِم؛ فقد روى البخاريُّ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قالَ: "ما مِن أصحابِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَحَدٌ أكثرُ حديثًا عنه مِنِّي، إلا ما كان من عبدِاللهِ بن عَمْرٍو؛ فإنَّه كان يكتبُ، ولا أَكتبُ"[2]. وروى البخاري ومسلم، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في خُطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي طلب أبو شاة أن تُكتَب له، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اكتبوا لأبي شاة...))[3]. وروى البخاريُّ، عن أبي جُحيفة، قال: قلتُ لعليٍّ - رضي الله عنه -: "هل عندكم كتاب؟" قال: "لا إلا كتابُ الله، أو فَهْمٌ أُعطِيَهُ رجلٌ مسلم، أو ما في هذه الصحيفة"، قال: "قلت: فما في هذه الصحيفة؟" قال: "العَقْلُ[4]، وفِكاكُ الأسيرِ، ولا يُقْتَلُ مسلمٌ بكافرٍ"[5].
وكانوا في البداية يَحْتَرِزُون منَ الاسترسال في كتابة العلم، والاستغراق فيها؛ إجلالاً وصَوْنًا لكتاب الله أن يَخْتَلِطَ به غيرُه، فلما اطْمأنُّوا لذلك، وجُمع القرآن الكريم، بدأت كتابة الحديث والعلوم الشرعية باستفاضة، وانقسم العلماء والمتعلِّمون إلى مجموعات شَتَّى؛ فمنهم من صَرَفَ هِمَّتَهُ للقرآن الكريم، ومعرفة حروفه وعلومه، ومنهم منِ انصرف لكتابة الحديث، ونَقْد متونِهِ وأسانيده، ومنهم من أعمل فِكره في استنباط المعاني والأحكام والآداب، من نصوص القرآن العظيم، والسنَّة المُطَهَّرَة؛ ونتيجةً لذلك: فقد أصبح لكل فنٍّ رجالُه؛ مما أدى لتمايُز التخصصات بحكم اتِّساع الخِضَمِّ العِلْميِّ، وفي ذلك روى الخطيب البغداديّ عنِ الأعمش، أنه سأل الإمامَ أبا حنيفة - رحمهما الله - عن بعض المسائل، فأجابه بما لم يَدُرْ في خَلَدِهِ، فقال الأَعْمَشُ: مِنْ أين لكَ هذا؟ فقال أبو حنيفةَ: أنتَ حدثتنا عن إبراهيم بكذا، وعن الشَّعْبِيِّ بكذا، فكان الأَعْمَشُ بعد ذلك يقول: "يا معشر الفقهاء: أنتم الأطباء، ونحن الصَّيادِلَة"[6].
وعَرَفَ النَّاسُ حلقات العِلْمِ، وجِلْساتِ المُذاكرة، والإملاء، والمُقابلة، والتصحيح؛ منذ وقت مُبكِّر، ونتَجَتْ عن هذه المُمارسة بُرُوزُ الضَّوابِطِ المتِينة، والقواعد الدَّقيقة، والرموز والمصْطَلَحات لكتابة العلم والمعرفة، وهو ما بَرَهَنَ على تَمَيُّز هَذِه الأُمَّة بِجَوْدَة أصولها المعرفية، وقد أراد الله - سبحانه وتعالى - لها ذلك؛ لتشريفها بمسؤُوليَّة حِفْظ الدّين الخاتم، الذي قال الله - جلَّ وعلا - فيه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[7]. فامتازتِ الأمَّة المسلمة بحِفْظ القرآن الكريم، وتمييزِهِ عن سائر الكلام، بما فيه الكلام المنسوب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم تمييز كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كلام الصحابة والتابعين، وقد كانتِ الأُمَم قبلها لا تُمَيِّز كلام الله تعالى عن أقوال الأنبياء، ولا أقوال الأنبياء عن أقوال الأحبار والعلماء، فكان تَفْريطُهم في ذلك سببًا من أسباب التحريف، والتبديل في الأديان السابقة.
وكانتِ الكتابة في القُرون الأولى يدويَّةً، وأدواتها مَعْرُوفة، ولها رُموزٌ مُتداوَلة بين أهل الاختصاص، وقد اهتمَّ العلماء منذ عهود مَضَتْ بتأليف الكُتب، التي بَيَّنَتْ قواعدَ وضوابطَ وآدابَ الكتابة والنَّقْل، وأعقب ذلك بعضُ الكتابات التفسيرية، التي فسرتِ الرَّمز، وكشفت عن المُعَمَّى من هذه القواعد والضوابط؛ فأخَذَتْ هذه الشروح بمجَامع ألباب المُستشرقين، فعَكَفُوا على دراستها، واستطاعوا من خلالها الدخول لتُراثِنا، فكأن مشاركاتهم في القرنينِ الماضيينِ قد أدْهَشَتِ البعض منَّا، لأنها كانت مبنيَّة على تلك الضوابط والقواعد، وليس هذا إدعاء تَنْقُصُهُ البراهين، وإنَّما هو حقيقة تؤكدها الدَّلائل؛ ومن ذلك:
ضَعْفُ وَثَاقَةِ النصوص في ثقافاتِ ومعارفِ المستشرقينَ؛ قديمِها وحديثِها؛ بل في ثقافاتِ ومعارفِ غيرِهم منَ الأُمَم الأخرى؛ كما يدل على ذلك أيضًا الجَوْدة العالية التي بلغتها كُتُب التوثيق، والدَّلالة عند أسلافنا، فلو قارنَّا بين أعمال المستشرقين الدقيقة هذه، وبين جُهود المسلمين التي سبقَتْها لعرفنا قَدْر أنفسِنا، ويمكن المقارنة بين كتابَيْ: "مِفتاح كنوز السنة" الذي وضعه الدكتور/ أ. ي. فنسنك، ونقله للعربية الأستاذ/ محمد فؤاد عبدالباقي، و"الجامع المفهرس لألفاظ الحديث النبوي الشريف"، الذي وضعه الدكتور أ. ي. فنسنك أيضًا بالاشتراك مع جماعة من المستشرقين -باعتبارهما من كُتُب الدَّلالة على مواضع الرِّوَايات - من ناحية، وبين كتاب "تحفة الأشراف" للحافظ أبي الحجاج المِزِّيِّ (ت742هـ)، وكتاب "إتحاف المهرة" للحافظ ابن حجر العَسْقَلانيِّ (ت852هـ)، باعتبارهما من كُتُب الدَّلالة أيضًا -: لَعَرَفْنا الفَرْق؛ فكتاب "مفتاح كنوز السنة"، وكتاب "الجامع المفهرس"، وُضِعا فقط للدَّلالة على مواضع وجود الألفاظ، وقد قضتْ عليهما التقنية الحديثة، وفقدا قيمَتَهُما، بظهور الأقراص المُدْمَجَة، وأصبحا في أضابير الكُتُب ضِغْثا على إِبَّالَة، شأنُهما في ذلك شأن بَعْضِ كُتُبِ الفَهْرَسة اللَّفظية، بينما ظلَّت أهمية "التحفة"، و"الإتحاف" كما هي، حتى بعد ظهور هذه الأقراص، وسيظلان من الأهمية بمكانٍ سامٍ، إلى أن يَرْفَعَ اللَّهُ العلم، ويَرِثَ اللَّهُ الأرض ومَنْ عَلَيْها، فهُما بِجانِب أهميَّتِهِما في الدَّلالة على مواضع تَخْرِيج الروايات يُعتبرانِ من عُمُد التوثيق المهمة للأسانيد، فبهما تُضبَط الأسانيد، وبهما تُمَيَّز فروق النُّسَخ:
فعلى سبيل المثال: أخرج ابن ماجَهْ في كتاب الطب، من السنن، في باب: (الاستشفاء بالقرآن)، الحديث رقم (3501): حدثنا محمد بن عبيد بن عتبة بن عبدالرحمن الكِنْدِيُّ، حدثنا علي بن ثابت، حدثنا سَعَّاد بن سليمان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي - رَضِيَ الله عنه - قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((خير الدواء القرآن))، وتكرَّر هذا الحديث في نفس الكتاب، وتكرر معه عنوان الباب، وهو الحديث رقم (3533): إلا أنَّه وقع في معظم النُّسَخ المطبوعة المُتداوَلَة التي وقفتُ عليها، من سنن ابن ماجَهْ في الموضع الثاني هذا: (معاذ بن سليمان)، بدل: (سَعَّاد بن سليمان).
ولما كانت كتب التوثيق والدَّلالة عندنا متقَنةَ الصنعة، فإنها قد أصبحت حِرْزًا مَنيعًا يَقِي مصادرنا المعرفيةَ الرئيسة منَ الاختراق؛ فأسانيد الكتب الستة، وأطراف مُتُونها قد حوتها "تحفة الأشراف" للحافظ المِزِّيِّ - رحمه الله - بالإضافة لأسانيد وأطراف المتون لاثنَيْ عَشَرَ ما بين مسنَدٍ، ومصنَّفٍ حواها كتاب إتحاف المَهَرة الذي نسجه الحافظ ابن حجر - رحمه الله - على مِنوال التحفة، وحديث ابن ماجه المتقدِّمُ ورد في "التحفة" بإسناد واحد، وفيه: سَعَّاد بن سليمان[8]، وبهذا نعلم أن ما وقع في بعض النُّسَخ المطبوعة المتداولة من سنن ابن ماجَهْ، من رواية (معاذ بن سليمان)، إنما هو تصحيف من (سَعَّاد بن سليمان)، ولم أقف على الصواب إلا في نسخة سنن ابن ماجه التي حققها الدكتور/ بشار عواد معروف - وهو الذي حقق "تحفة الأشراف"، و"تهذيب الكمال" - فأوضح ذلك وأبان أنه تصحيف، ولا يمكن معرفة ذلك من كتابي المستشرِق أ. فنسنك؛ لكونهما اقتصرَا في الدَّلالة على الألفاظ دون الأسانيد؛ فحَرِيٌّ بنا - وقد جَهِلَ بعض المُخْتَصِّين منا جهودَ أسلافنا الراقية - أن نَزْفُرَ آهةً حَرَّى، ونتمثل بقول الشاعر:
وَكُلُّ طَرِيقٍ أَتَاهُ الْفَتَى عَلَى قَدَرِ الرِّجْلِ فِيهِ الْخُطَا
فقد توارت هذه الثمرات بالحُجُب، وغارتْ في أكمام وطَيَّات الكُتُب، حتى لا يكاد يُبْصِرُها إلا بَحَّاثّةٌ جَلْدٌ صابرٌ، وخِرِّيتٌ لَوْذَعِيٌّ ماهرٌ[9]، فلما عرفها المستشرقون، وقاموا بالبحث فيها، ونشروا بعضها، وتَلألأَتْ جهودهم بجواهرنا الثمينة، ظن بعضُ من خَالَطَهُم، وتَلْمَذَ لهم أنَّهم أوَّل من وضع هذه القواعد.
وتَطَوَّرَتِ الكتابة منذ عهد قريب فصارت آلية، وكانت في بدايات تطوُّرها قريبة من الكتابة اليدوية في العُهود الأُولَى، ثم أخذت تتطور شيئًا فشيئًا، إلى أن تَمَّ اكتشاف عُنْصر الإلكْتُرون، الذي ما فتئ يتطوَّرُ هو الآخَر يومًا بعد يوم، وبصورة مُدْهِشة، حتَّى أصبح من السهل على طالب العلم أن يَجمع آلافَ المُجَلَّدَات في قُرْص يسعه الجيب؛ لِيَتِمَّ تشغيله على أجهزة الحاسوب الثابتة والمحمولة، ويُتوقَّع أن يصغُرَ حجمه عن ذلك - مع تطوُّر التقنية المُتلاحِق - فيا لَيْت شعري كم كان سيسعد به إذ ذاك الحُفَّاظ الذين قطعوا الفيافِيَ والوِهادَ لو ظهرت في عهدهم هذه الأقراص! من أمثال أبي عبدالله محمد بن إسحاق بن مَنْدَهْ (ت395هـ)، الذي أمضى في الرحلة نَيِّفًا وثلاثين سنة[10]، وماذا كان سيجني المَوْسُوعِيُّونَ الأقدمون من هذه المعارف المَبْثُوثة عبر الأثير، والتي أصبحت في متناول اليد، من الشبكة الأثيرية، حتى إن المتفكِّر في هذا التسهيل لَيَعْجَبُ لكلام شفي بن ماتع الأصبحي - رحمه الله - الذي قال: "تفتح على[11] هذه الأمة خزائن كل شيء، حتى تفتح عليهم خزائن الحديث"[12].
ومع هذا التطوُّرِ انبثقت التخصصات المِهَنِيَّة في الكتابة، فأصبح الناسخ مختصًّا بمعرفة لوحة مفاتيح الحروف في الحاسوب، وقد لا يلزمه أن يكون عارفًا بكثير مما يكتبُ، كما نشأت مهنة المُصَحِّح والمُدقِّق اللُّغَوي، ولم تكن في السابق مهنة، وإنما كانت العملية تتم عبر جلسات الإملاء وتتقن في جلسات المقابلة، وهذا التطور قد استلزم مُهمَّة جديدة، هي: مراجعة تَجارِب الطباعة التي تعتبر إحدى مراحل المُقابلة.
وبعد أن كانت المعلوماتُ البحثيةُ - في العهود المُتأخِّرة القريبة - تُدَوَّن في قطع ورقية صغيرة عرَّفها الأستاذ/ عبدالسلام هارون، وغيره بالجُذَاذَاتِ[13]؛ ليتم ترتيبها فيما بعد، فقد يَسَّرَ الله على طلبة العلم في أوائل القرن الخامِسَ عَشَرَ الهجريِّ أن يستعينوا بالحاسوب، الذي وَفَّرَ عليهمُ الكثير من الجُهْد والوقت، بما له من خواصِّ البحث في المكتبات الإلكترونية، وبما له من مزايا النَّسْخ، والقصِّ، واللصق، والإضافة، والمَحْو، وعَمَلِ الحَوَاشي السُّفلية على تعدُّد أنماطها، وعمل الفهارس.
ومع اتّسام الحاسوب بالدّقَّة الفائقة، إلا أنَّه في بعض الأحيان يَحدُثُ أن تتبدَّل بعض الكلمات في المكتبات الإلكترونية التي يحتويها إلى كلمات أخرى، منها ما هو مفهوم في نفسه؛ ولكنَّه لا يُؤدِّي الغرض المطلوب منه، ومنها ما هو غير مفهوم أصلاً، فقد لاحظتُ أن اسم (معن) تغير في الإصدار الأول من برنامج المكتبة الألفية إلى (ينعقد)، ولفظ (الكندي) تغير إلى (سِنان)، ولفظ (له صحبة) تغير إلى (له البغوي)، ولفظ (أَخُوهُ) تغير إلى (يتحقَّق)، ولفظ (الزاهد) تغير إلى (لصاحب)، وغير ذلك من الألفاظ، وذلك بسبب سوء تثبيت بعض الملفات، أو لأسباب فنية أخرى يعرفها أهل الاختصاص، ولا علاقة لذلك بالفيروسات، هذا بالإضافة إلى عدم الاطمئنان إلى سلامة النص نفسه؛ لأنه لا ضمان لمقابلته على أصله، وهذا يستدعي الانتباه والحذر عند استخدام خاصِّيَتَيِ القصِّ واللصق من هذه المكتبات؛ لانعدام الثقة بهذه النصوص المنسوخة من الحاسوب، مما يؤكد مساس الحاجة إلى الرجوع إلى الكتاب في طبعاته المُحْكَمَة.
ولا يفوتني هنا أن أرفع إشارة حمراء، للتنبيه على المخاطر التي قد يَجرها هذا التطوُّر الكبير، فَعَسَى أن يتواصَى الحريصون على سلامة النصوص العلمية من الخَطَر الدّاهم، الذي يشكله الانفتاح الأثيري على جَوْدة الموادِّ المطبوعة، بحكم ما قد تواجهه سوق الطباعة من كساد مُحْتَمَل؛ نتيجةً لتَرَاجُعٍ مُتَوقَّعٍ في هامِش الأرباح، بالنظر لارتفاع تكلفة الإنتاج، من جرَّاء الحِرْص على الجَوْدة، والدّقة، وإتقان المُقابلات، والتّصْحيح، وما يضيفه التجويد من زيادة في المصروفات، بسبب طول المدة في تحصيل الجَوْدَةِ المُبْتَغَاة، وفي ظل ما يُشَكِّلُهُ الماسِح الضوئي من تعدٍّ على حقوق الطّباعة والنشر، وذلك لسُهولة استخدامه في تصوير المطبوعات، والاعتداء عليها، أو بَثِّها، وتداوُلها عَبْرَ الأثير دون رقيب ولا حسيب، مما يدفع بكثير من دور النشر لتخفيف الجَوْدة والعناية بالموادِّ العلمية، إلى حدٍّ قد ينحدر إلى مستوى العَبَثِ.
قواعد النقل وضوابط الكتابة بين الماضي والحاضر:
لقد اهتمّ سلفُنا الصالح بتقييد العلم وكتابته، وتوصَّلَتِ الأجيال المتعاقبة عبر الحِقَبِ إلى وضع قواعدَ وضوابطَ لتقييد العلم وكتابته، ومع هذا التطور الهائل، والازدهار التَّقَنِيِّ المُتنامِي فإنَّ الحاجة لمعرفة تلك الرموز القديمة لقواعد القَيْدِ والكتابة، ومعرفة الخطوط عبر القرون تظل ثابتة، لا تَتَقَهْقَر؛ بل تزداد الحاجة لمعرفتها يومًا بعد آخَرَ، بحُكْم موقع المخطوطات في دوائر المعارف، لذا فإنَّه من المُهِم؛ بل من الوَاجِب على طُلاَّب العلم أن يحرصوا على معرفة الخُطوط والرموز، وقواعد كتابة المخطوطات؛ كما يُؤْمَل من الأساتذة أن يزيدوا في بيان هذه القواعد، وتوضيح هذه الرموز، إذ إن معرفتها تُعتبر عنصرًا مهمًّا من عناصر الرد والقَبول، لكثير من الموادِّ العلمية، التي يُتوقَّع أن ترى النور، بغرض نشر المعرفة أحيانًا، وبغرض الدّسِّ، والكَيْد، والتشويه أحيانًا أخرى، مِمَّا يستوجِبُ تضافُرَ جهود المُخّتصِّين في كل فرع، من مُنْطلق المُراقبة والمُدَافعة.
وتلبيةً لهذه الحاجة فقد قام بعض المُعاصِرين بوضع قواعِدَ للتعامُل مع المخطوطات، فكتب الدكتور/ صلاح الدين المُنَجِّد كُتَيِّبًا عن قواعد تحقيق المخطوطات، استقاها - كما قال - من القواعد والضوابط التي وَضَعَها المستشرقون، وأَعْرَبَ في كُتَيِّبِهِ هذا عن انبهاره بمشاركاتهم، وأَوْصَى بالأَخْذ بقواعد نشر التراث التي وضعُوها، وهو بهذا التوجيه - قَصَدَ أو لم يقصد - يَدُقُّ إسفينًا بين طلاب المعرفة، وبين ما دوَّنه علماء المسلمين من قواعدَ وضوابطَ لنقل وكتابة العلم، وقد سعى للتوطئة لرأيه هذا في بداية مُقدمته للقواعد التي جمعها في كُتَيِّبِهِ، باستعراض النجاح الذي حَظِيَ به الكُتَيِّبُ، واللغات التي ترجم إليها وهي: الفرنسية، والإسبانية، والإيطالية، والفارسية، والتركية، والإنجليزية. ثم عرَّضَ بالأستاذ/ عبدالسلام محمد هارون، محاولاً التقليل من جهده، بأنَّه لا يعرف القواعدَ والضوابطَ التي وضعها المستشرقون[14]. بَيْدَ أنَّ إِسْفينَه قدِ انْحَنَى مُرْتدًّا عليه، إذ لم تكن له القوةُ الكافيةُ لاختراق الجدار الواقي لأصولنا المعرفيَّة، لما لهذا الجدار من صلابة ومَتانَة.