من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 01.09.09 11:59
...
أخرج أحمد والترمذي عن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه" ..
الخصلة الثانية من هذا الحديث الشريف .. "والشرف لدينه" .. هي بيت القصيد وموضوع النقاش ..
من الأخطاء المتكررة والشنيعة .. في تربية النشء .. وبناء الفلذات .. القذف في روع الطالب أن يحصّل كل فضائل الدين والدنيا .. ويتحلى بالمروءة والنجدة والسخاء والجود والزهد والشهامة والفروسية .. ويكون فكها مليحا خفيف الظل .. يجيد الخطابة ويحترف الكتابة .. ويحفظ المتون ويشارك في الفنون .. ويقرض الأشعار ويحلل الأخبار .. وينكر المنكرات في المجالس .. ويعظ الناس .. ويحذرهم مغبة التفريط في صيام الهواجر وقيام الأسحار .. ويأسى على فساد المجتمع وانهيار الأخلاق وانتحار الفضيلة ..! ..
على الشاب أن يحيط بكل ذلك وأجمع منه في وقت قصير جدا من عمره القصير جدا ..
لا بد أن نشحنه بكل المكارم والفضائل والمعالي ونجمع له:
إقدام عمرو في سماحة حاتم **** في حلم أحنف في ذكاء إياس
ونصيّره الرجل الألف كما قال ابن دريد:
والناس ألف منهم كواحدٍ **** وواحد كالألف إن أمر عنى
لا بد أن يحوز الطالب الكمال وتُرى فيه مخايل النجابة والنضج ..
لكن – وبكل أسف – غالبا ما تجري الرياح بما لا تشتهي السفن .. وتخيب الظنون .. ونفاجأ بالطامة الكبرى .. ونجد أن الأمور ليس كما رسمنا وخططنا وتوهمنا .. وفي أحسن الأحوال نعترف بالخلل وننعي الجيل القادم ..! وننسى الركن الأهم في القضية التربوية .. الطالب لا الوسيلة التعليمية ولا غيرها كما يزعمون ..
الحقيقة المرة ..
هي الإغراق في الأماني .. والحرص على الشرف للدين .. والاهتمام بصورة الإسلام لا حقيقته .. والتلبس بمسوح ضأن على نفس قد دساها ..
الحقيقة ..
أننا لسنا واقعيين! ولم نتعامل بواقعية مع المتلقي المسكين .. لم نراعِ الحاجات النفسية .. والطبائع الجبلية .. والفروقات الفردية للناس ..
أردنا أن نستنسخ آلافا من الشافعي وشيخ الإسلام وصلاح الدين بتقنية التكلف وبسيف الحياء فخرج لنا آلافا من الشباب بإمكانات عادية ومتواضعة ..
أردنا عمرا وأراد الله خارجة .. والحمد لله على كل حال ..
سببٌ من أسباب ذلك هو تنافس المربين على الحظوة .. وحرص كل منهم على الشرف لدينه ..
لا بد لمن أراد أن يلحق بنا .. أن يتبعنا حذو القذة بالقذة .. ويأخذنا بكليتنا .. يفكر كما نفكر .. ويتكلم كما نتكلم .. ويكتب كما نكتب .. ويبكي في التراويح كما نبكي ويُعلن تحسره على أحوال المسلمين في كشمير والشيشان .. ويسب من نسب ويلعن من نلعن .. وإلا فإن قدره أقل من قدرنا .. وورعه دون ورعنا .. واهتمامه بالمسلمين ليس كاهتمامنا ..
فيضطر المسكين ليرضى عنه المربي – الذي يحتاج إلى مربي – إلى التصنع والتكلف .. حرصا على الشرف لدينه ..
وليست النائحة المستأجرة كالنائحة الثكلى ..!
هذا .. مع أنه لم تتجلى له معاني الإيمان بعدُ .. ولم تتداخل في دمه ووجدانه .. فيظل برهة على هذا التكلف الذي يزيد مع الأيام .. وهو يحسه في نفسه ويكرهه ويمجه ..
نحوجه أن يتشبع بما لم يعط .. ونضطره أن يصانع في أمور كثيرة .. حتى نقبله في صفنا .. ونعتبره في خندقنا!
.. نضيق على عباد الله .. والله لطيف بعباده .. !
قد نسينا أن بداية الألف ميل خطوة .. وأن حقائق الإيمان والتفاعل والانفعال مع أحوال المسلمين والوصول إلى مرحلة "المؤمن للمؤمن كالبنيان" .. مرحلة لا يصل إليها المرء إلا بعد جهاد جهيد وتربية شاقة وتزكية طويل أمدها
.. لا يمكن أن يبلغها الحدث والشاب اليافع .. إلا منة من الله .. وعجب ربنا من شاب ليست له صبوة! ..
قال ابن رجب الحنبلي:
وها هنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها، وتشابهت أعماله في التقوى والورع، فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة، ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبه، فإنه لا يحتمل له ذلك، بل ينكر عليه ...
وسأل رجل بشر بن الحارث عن رجل له زوجة وتأمره أمه بطلاقها، فقال: إن كان بر أمه في كل شيء، ولم يبق من برها إلا طلاق زوجته فليفعل، وإن كان يبرها بطلاق زوجته، ثم يقوم بعد ذلك إلى أمه فيضربها، فلا يفعل.
وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يشتري بقلا، ويشترط الخوصة: يعني التي تربط بها جزرة البقل، فقال أحمد أيش هذه المسائل؟! .. قيل له: إنه إبراهيم بن أبي نعيم، فقال أحمد: إن كان إبراهين بن أبي نعيم، فنعم هذا يشبه ذاك.
وإنما أنكر أحمد هذه المسائل ممن لا يشبه حاله، وأما أهل التدقيق في الورع فيشبه حالهم هذا ...
واستأذن رجلٌ الإمام أحمد أن يكتب من محبرته، فقال له: اكتب فهذا ورع مظلم
واستأذنه آخر في ذلك فتبسم، وقال: لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا، وهذا قاله على وجه التواضع وإلا فهو كان في نفسه يستعمل هذا الورع، وكان ينكره على من لم يصل إلى هذا المقام، بل يتسامح في المكروهات الظاهرة، ويقدم على الشبهات، من غير توقف. انتهى .
في كلام ابن رجب هذا تجلية لما أريد .. فالدعوة إلى معالي الأمور لا ينكرها إلا مجنون .. والذي أقصده كيف نبلغ المعالي
.. هل تربية النشء بطريقة التكلف والمجاملة هي طريقة صحيحة .. أم آفة يجب معالجتها واقتلاعها فورا؟! ..
قال السري السقطي: لئن أقابل الله بكل ذنب إلا التكلف .ا.هـ.
وأبلغ من ذلك قول الله تعالى على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم:
{قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين}
[ص/86]
وقد جاء في الحديث:
"كان خلقه سجية لا تلهوقا" ..
قال الثعالبي:
إذا كان يبدي من سخائه ومرؤته ودينه غير ما عليه سجيته فهو متلهوق.ا.هـ.
قريب من هذا .. ما أخرجه أبو نعيم في "الحلية"
عن إبراهيم قال: سمع عمر رضي الله عنه رجلا يقول: اللهم إني أستنفق نفسي ومالي في سبيلك
فقال عمر: أولا يسكت أحدكم، فإن ابتلي صبر، وإن عوفي شكر.ا.هـ.
إن أفضل الطرق لتربية الشباب .. ليس حملهم على التدثر بالفضائل والتحلي بالشمائل بسيف الحياء .. وجعل الشاب يتزيا بما لم يقر في قلبه بعد .. فإن نتائجه وخيمة .. وابحث هنا وهناك وستجدها! .. فليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل .. وهناك فرق بين التورع والتوارع! ..
أول ما يعلم الناشيء عند بعض المجموعات التوارع والتكلف فيفسد عليه التوارع دينه ودنياه كما يفسد الذئبُ الغنمَ ..
أحيانا .. نعيّش الشاب في واقع يحتم عليه أن ينكر كل منكر ... وشخصيته ضعيفة وتجربته قليلة .. نكلفه ما لا يطيق .. ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها .. فنتحمل نحن جزاء ما صنعته أيدينا من أي نتيجة أو عقبى فادحة ..
فيا فوز المربي الصادق الذي يغرس في صغاره شرف الدين!.
ويا خسارة المربي الكاذب الذي يغرس في صغاره الشرف للدين! ..
نعطي الشاب شريط "17 قصة مبكية" أو شريط "هادم اللذات" وننتظره يفرغ من سماعه ليعلن توبته ويسكب عبرته ..!
...
ونحن نريد الشباب كلهم أن يكونوا أبا بكر – رضي الله عن أبي بكر - ..
ومكلف الأيام ضد طباعها **** متطلب في الماء جذوة نارِ ..
إن التدرج سنة كونية وما ثاب إخوة يوسف إلا بعد دهر طويل ..
وما آمن عدي بن حاتم إلا بعد تردد سنين ..
وما دخل الناس في دين الله أفواجا إلا بعد تسعة عشرة عاما من الدعوة والتبليغ ..
والناس متفاوتون والإيمان درجات ..
ولا تخالط بشاشته القلوب إلا بعد تعب وبذل وتضحية ..
وهذه لا أحسبها تتحقق للكثير وهم في أولى خطوات الالتزام والتوجه للكريم العلام ..
إن أفضل أنموذج للتربية أُراه .. هي القدوة ..
نعم
هي القدوة الصالحة .. التي تأمر الناس بخلقها .. بتعاملها .. بنصحها .. بصدقها والنور الذي منحها إياه باريها ..
قال الشيخ عبد الله بن محمد الأمين الشنقيطي في ترجمة أبيه يصف كيف كان يربيهم وينشئهم، قال:
لا أذكر أن أبي قال لي يوما افعل كذا! أو لا تفعل كذا!
إلا أنه كان يمدح العلم ويذم الجهل أمامنا .. إلا الصلاة فكنت كثير النوم فيوقظني لصلاة الفجر فأنام فيضع الإبريق في أذني لأستيقظ .. رحمه الله ..
اقرأ سير الأوائل وكيف تأثرهم بمعلميهم وشيوخهم بالدل والسمت والسيرة .. رحمهم الله وقاتل الله أهل التكلف ..
والنقل
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=146749