من حقوق العلماء: الاعتذار لهم في الأخطاء
... الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أمّا بعد:
فإنّ الكلام في هذه المسألة قبل سنوات قليلة، عشرٍ أو زد عليها قليلا، كان يُعدّ من المسلّمات، ومن الحقائق الواضحات، بل من الواجبات المحتّمات، دون أيّ خلفيّات مُسْبَقَة، ولا ظنونٍ خاطئة ملْصَقة، ولكن ..أمّا بعد:
لمّا اختلط الحقّ بالنّابل، والتبس الحقّ بالباطل، أصبح لزاما علينا قبل التحدّث عن هذه المسألة أن نبيّن ثلاث قواعد توضِح الكثير من الحقّ للنّاس، وتزيل كثيرا من الإلباس ..
قواعد ثلاث إلى الّذين يلمزون المطّوّعين من المؤمنين في الدّعوة إلى الله والّذين لا يجدون إلاّ جهدهم ..
قواعد
القاعدة الأولى: المقصود بالأئمّة الّذين هم أهل لحسن الظّن بهم والاعتذار لهم، هم أئمّة الكتاب والسّنة على سير وفهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن تبعهم بإحسان .. الّذين عُرِفوا بتحرّي الاستدلال من هذا المعين الصّافي، والمنبع الكافي:
- لا يقدّم في باب ( العقائد ) قواعد أهل الكلام على كلام ربّ البريّة.
- ولا يقدّم في باب ( الأحكام ) آراء الرّجال على النّصوص الشّرعية.
- ولا يقدّم في باب ( السّلوك والتّربية ) خرافات الصّوفيّة.
- ولا يقدّم في مجال ( الدّعوة ) وطريقِها الأفكار البشريّة والسّياسات الوضعيّة والنّزعات الحزبيّة.
فإذا علمت أحدا هذه طريقته في الاستدلال، فهو السّنّي وإن أخطأ في بعض الفروع. لأنّ الخطأ في فرع من مسائل العقيدة أو الأحكام أو السّلوك أو المنهج الدّعوي لا يسلم منه أحد إلاّ المعصوم صلّى الله عليه وسلّم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيمن وقع في بدعة من البدع:
" ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولا يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون، كان من نوعِ الخطأ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك، ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمّة وأئمّتها، لهم مقالات قالوها باجتهاد وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنّة، بخلاف من والى موافقه وعادى مخالفه وفرّق بين جماعة المسلمين، وكفّر وفسّق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحلّ قتال مخالفه دون موافقه، فهؤلاء من أهل التفرّق والاختلافات، ولهذا كان أوّل من فارق جماعة المسلمين من أهل البدع الخوارج المارقون، وقد قاتلهم أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فلم يختلفوا في قتالهم كما اختلفوا في قتال الفتنة يوم الجمل وصفِّين، إذ كانوا في ذلك ثلاثة أصناف: صنف قاتلوا مع هؤلاء، وصنف قاتلوا مع هؤلاء، وصنف أمسكوا عن القتال "[2].
ويقصد رحمه الله بقوله: " ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمّة وأئمتها لهم مقالات قالوها باجتهاد وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنّة " بعض بحار هذا الدّين، كعكرمة، والثّوري، وسعيد بن جبير، والضّحاك، ومقاتل، وغيرهم كثير ممّا لا يمكن إحصاؤه.
إذن فهذا الكلام عن المقتدين بالكتاب والسنّة، أمّا المتّبعون لأهوائهم من المبتدعة وغيرهم، فليس على مثلهم يُلوى، ولا على مثلهم يحزن، من أمثال من جعل:
- علم الكلام أصلا يبني عليه الاعتقاد.
- والتعصّب للمذهب أصلا يبني عليه الأحكام.
- والطّرق الصّوفية وروّادها أصلا يبني عليه التّزكية والسّلوك.
- والتحزّب وقواعد اللّعب السّياسي أصلا يبني عليه الدّعوة إلى الله.
القاعدة الثّانية: إذا علمنا أنّ هذا العالم الواقع في هذا الخطأ لا يزال معتبرا من أئمّة الدّين، فهذا لا يعني أبدا ألاّ يبيّن خطؤه،
بل بيان الخطأ واجب شرعيّ، وهو من الميثاق الذي أخذه الله تعالى من العلماء، ولا يزال العلماء سلفا وخلفا يتكلّمون في المسائل المختلف فيها، ويبيّنون الصّواب، ويدمغون به الباطل. ومن أحسن الكتب التي ألّفت في بيان هذا المنهج الأصيل كتاب:" الردّ على المخالف من أصول الإسلام " للشّيخ بكر بن عبد الله أبي زيد رحمه الله.
نقول لذلك ليتبيّن الموقف الصّحيح من خطأ هؤلاء، وهو أن يكون وسطا بين الإفراط والتّفريط:
- فهناك طائفة فرّطت فقالت: نسكت على الأخطاء والزلاّت، ونغطّي الهفوات والهِنات !
- وطائفة قالت: لا، بل لا بدّ من التّشهير، والتّبديع والتّحذير !
- وطائفة رأت أنّ الحقّ وسط، لا نقص فيه ولا شطط، شعارها ودثارها: لا بدّ من بيان الخطأ، ولكن في رفق وأدب، وهي:
القاعدة الثّالثة : لا بدّ من الأدب والرّفق في النّصح وبيان الخطأ.
إذا كان هذا المخطئ لا يزال في دائرة أهل السنّة، وكان لزاما بيان ما وقع فيه من الخطأ، فلا بدّ من الأدب والرّفق في النّصح وبيان الخطأ. لأنّ الحقّ بطبعه ثقيل، فإذا أسبغت عليه طابع الشّدة نفر منك السّامع، ولم يتحقّق المقصود وهو بيان الحقّ والدّعوة إليه.
هذا حقّ المسلم على المسلم أن يجد الأعذار كلّ منهما للآخر، وأن يعطف كلّ منهما عل الآخر، وأن يحبّ كلّ منهما الخير للآخر، ما دام الجميع قد أجمع على أنّه لا معصوم من البشر، والكمال المطلق لله تعالى.
فالعالم أولى بهذا الحقّ من غيره، إذ فضلهم مشهور، وذنبهم بعد الاجتهاد مغفور.
واقرأ في كتب الأئمّة الأعلام الذين ملئوا الدّنيا بمصنّفاتهم، تجد الأدب الجمّ .. تجد التّواضع .. تجد الاحترام والتّقدير والإجلال .. تجد حفظ الفضل لأهله-ولا يعرف الفضل إلاّ من كان من أهله- .. تجد الأئمّة الحفّاظ إذا اطّلعوا على شيء قالوا: وقد قال فلان-عفا الله عنه- كذا، كلّ ذلك من باب الأدب، ولذلك قال الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم: { عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } [التّوبة 43]، فقدّم له المغفرة والعفو قبل العتاب واللّوم، لذلك ينبغي التّأدّب مع الأئمّة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
قال ابن القيّم رحمه الله تعالى
" فلأهل الذّنوب ثلاثة أنهار عظام يتطهّرون بها في الدّنيا، فإن لم تفِ بطهرهم طُهِّروا في نهر الجحيم يوم القيامة:
- نهر التوبة النّصوح.
- ونهر الحسنات المستغرقة للأوزار المحيطة بها.
- ونهر المصائب العظيمة المكفّرة.
فإذا أراد الله بعبده خيرا أدخله أحد هذه الأنهار الثّلاثة، فورد القيامة طيِّباً طاهرا، فلم يحتج إلى التّطهير الرّابع ".
وقد حقّق ابن تيمية رحمه الله تحقيقا ماتعا القاعدة في التعامل مع المخالف في مواضع من مصنّفاته، فبيّن وجوب التّفريق بين ما يسطّره وبين شخصه: فيجب بيان الخطأ المسطور وردّه أمّا الشخص:
- فقد يكون صادقا في خدمة الدّين، ولا يتعمّد الكذب.
- وقد يجتهد ويكون ما قاله هو مبلغَ علمه أو مقلِّداً، قال رحمه الله: " يقول الإنسان قولا مخالفا للنصّ والإجماع القديم حقيقةً، ويكون معتقداً أنّه متمسّك بالنصّ والإجماع، وهذا إذا كان مبلغَ علمه واجتهاده، فالله يُثِيبه على ما أطاع الله فيه من اجتهاده، ويغفر له ما عجز عن معرفته من الصّواب الباطن " اهـ
- ملاحظةُ ما مات عليه، فقد يكون قد تاب.
- ملاحظةُ الجهود المبذولة في نصرة الحقّ.
وقال ابن القيّم رحمه الله:
" من قواعد الشّرع والحكمة أيضا أنّ من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنّه يحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويعفي عنه مالا يعفي عن غيره، فإنّ المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلّتين لم يحمل الخبث. بخلاف الماء القليل، فإنّه لا يحمل أدنى خبث، ومن هذا قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعُمَر رضي الله عنه: « وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ » ، وهذا هو المانع له صلّى الله عليه وسلّم من قتل من حَسَّ عليه وعلى المسلمين، وارتكب مثل ذلك الذّنب العظيم، فأخبر صلّى الله عليه وسلّم أنّه شهد بدرا، فدلّ على أنّ مقتضى عقوبته قائم، لكن منع من ترتّب أثره عليه ما له من المشهد العظيم، فوقعت تلك السّقطة العظيمة مغتفرة في جنب ماله من الحسنات ".
والنقل
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=151975
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=151975