حسن الخلق وأهميته لطالب العلم - لسماحة الشيخ إبن عثيمين - رحمه الله .
إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له
وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، بعثه الله تعالى بالهدى ، ودين الحق ليظهره على الدين كله ، بعثه الله تعالى بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا ، وداعيا الى الله بإذنه وسراجا منيرا ، فبلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، ووفق الله من شاء من عباده فاستجاب لدعوته ، واهتدى بهديه ، وخذل الله بحكمته من شاء من عباده فاستكبر عن طاعته ، وكذب خبره ، وعاند أمره ، فباء بالخسران والضلال البعيد.
أيها الإخوة
يطيب لي أن أتحدث إليكم عن الخُلق الحسن
والخُلق كما يقول أهل العلم :
هو صورة الإنسان الباطنة ، لأن للإنسان صورتين : صورة ظاهرة ، وهي خلقته التي جعل الله البدن عليها.
وكما نعلم جميعا أن هذه الصورة الظاهرة منها ما هو جميل حسن ، ومنها ما هو قبيح سيئ ، ومنها ما بين ذلك .
وصورة باطنة منها صورة حسنة ومنها صورة سيئة ، ومنها ما بين ذلك ، وهذا ما يعبر عنه بالخُلق .
فالخلق إذن هو :
(( الصورة الباطنة التي طُبع الإنسان عليها )) ،
وكما يكون الخلق طبيعة فإنه يكون كسبا ، بمعنى أن الإنسان كما يكون مطبوعا على الخلق الحسن الجميل قد يحصل على الخلق عن طريق الكسب والمرونة – ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للأشج بن قيس :
[ إن فيك لخُلُقين يحبهما الله ، الحلم والأناة ، قال : يا رسول الله أهما خلقان تخلقت بهما أم جبلني الله عليهما ، قال : بل جبلكم الله عليهما ] أخرجه مسلم.
فهذا دليل على أن الأخلاق الفاضلة تكون طبعا وتكون تطبعا
ولكن الطبع بلا شك أحسن من التطبع
لأن الخلق إذا كان طبيعيا صار سجية للإنسان وطبيعة له لا يحتاج في ممارسته الى التكلف ، ولا يحتاج في ممارسته الى التصنع
ولكن هذا فضل الله يؤتيه من يشاء ، ومن حرم هذا "أي من حرم الخلق على سبيل الطبع فإنه يمكنه أن يناله على سبيل التطبع وذلك بالمرونة والممارسة كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وكثير من الناس يذهب ظنه الى ان حسن الخلق لا يكون إلا في معاملة الخَلق ، دون معاملة الخالق . ولكن هذا فهم قاصر فإن حسن الخلق كما يكون في المعاملة مع الخلق يكون في معاملة الخالق. فموضوع حسن الخلق إذن معاملة الخالق جل وعلا . ومعاملة الخلق أيضا 0
فما هو حسن الخلق في معاملة الخالق ؟
حسن الخلق في معاملة الخالق يجمع ثلاثة أمور :
1_
تلقي اخبار الله تعالى بالتصديق .
2_
تلقي احكامه بالتنفيذ والتطبيق .
3_
تلقي اقداره بالصبروالرضى .
فهذه ثلاثة اشياء عليها مدار حسن الخلق مع الله عز وجل .
اولا : تلقي أخباره بالتصديق :
بحيث لا يقع عند الانسان شك او تردد في تصديق خبر الله تعالى لان خبرالله سبحانه وتعالى صادر عن علم وهو اصدق القائلين كما قال تعالى عن نفسه :
{ ومن أصدق من الله حديثا }
( النساء اية :87) .
ولازم تصديق أخبار الله ان يكون الانسان واثقا بها مدافعا عنها مجاهدا بها بحيث لايدخله شك او تشكيك في اخبار الله تعالى وأخبار رسوله_ صلى الله عليه وسلم_ واذا تخلق بهذا الخلق امكنه ان يدفع كل شبهة يوردها المغرضون على أخبار رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ سواء أكانوا من المسلمين الذين ابتدعوا في دين الله ما ليس منه ام كانوا من غير المسلمين الذين يلقون الشبهة في قلوب المسلمين ولنضرب لذلك مثلا : ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ان النبي _صلى الله عليه وسلم _ قال :
"اذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فان في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء "
هذا خبر رسول الله_ صلى الله عليه وسلم . وهو صلى الله عليه وسلم في أمور الغيب لا ينطق عن الهوى الا بما أوحى الله إليه ، لانه بشر والبشر لا يعلم الغيب بل قد قال الله له :
{ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي }
( الأنعام آيه :50)
هذا الخبر يجب علينا أن نقابله بحسن خلق وحسن الخلق نحو هذا الخبر أن نتلقى هذا الخبر بالقبول وأن نجزم بان ما قال النبي _صلى الله عليه وسلم _في هذا الحديث فهو حق وصدق وإن اعترض عليه من يعترض . ونعلم علم اليقين أن ما خالف ماصح عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم _فإنه باطل لأن الله تعالى يقول :
{ فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون }
(يونس آية:32)
ومثال آخر :
من أخبار يوم القيامة .أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشمس تدنو من الخلائق يوم القيامة بقدر ميل . سواء كان ميل المكحلة أو ميل المسافة . هذه المسافة بين الشمس ورؤوس الخلائق قليلة . ومع هذا فان الناس لا يحترقون بحرها مع أن الشمس لو تدنو الان في الدنيا مقدار أنملة لاحترقت الدنيا،فقد يقول قائل كيف تدنو من رؤوس الخلائق يوم القيامة بهذه المسافة ثم يبقى الناس لحظة؟ فما هو حسن الخلق نحو هذا الحديث ؟ حسن الخلق نحو هذا الحديث ان نقبله ونصدق به وان لايكون في صدورنا حرج منه ولاضيق ولاتردد وأن نعلم أن ما اخبر به الرسول _صلى الله عليه وسلم- في هذا فهو حق ولا يمكن ان نقيس احوال الاخرة على احوال الدنيا لوجود الفارق العظيم فإذا كان كذلك فإن المؤمن يقبل مثل هذا الخبر بانشراح وطمأنينة ويتسع فهمه له ، هذا في الأخبار.
ثانيا: تلقي احكامه بالتنفيذ والتطبيق :
إن حسن الخلق في معاملة الله بالنسبة للأحكام أن يتلقاها الانسان بالقبول والتنفيذ والتطبيق فلا يرد شيئا من أحكام الله. فإذا رد شيئا من أحكام الله فهذا سوء خلق مع الله سواء ردها منكرا حكمها أو ردها مستكبرا عن العمل بها أو ردها متهاونا بالعمل بها فان ذلك مناف لحسن الخلق مع الله عز وجل . ولنضرب لذلك مثلا الصوم لاشك انه شاق على الانسان لان الانسان يترك فيه المألوف من طعام وشراب ونكاح وهذا أمر شاق ولكن المؤمن حسن الخلق مع ربه عز وجل يقبل هذا التكليف يقبل هذا التشرف وهذه النعمة من الله _عز وجل _يقبلها بانشراح وطمأنينة وتتسع لها نفسه فتجده يصوم الأيام الحارة الطويلة وهو بذلك راض منشرح الصدر لأنه يحسن الخلق مع ربه لكن سيئ الخلق مع الله يقابل مثل هذه العبادة بالضجر والكراهية ولولا أنه يخشى من أمر لا تحمد عقباه لكان لا يلتزم بالصيام.
ومثال آخر في الصلاة :
الصلاة لاشك أنها ثقيلة على بعض الناس وهي ثقيلة على المنافقين كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:
"أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر " (البخاري ومسلم)
لكن الصلاة بالنسبة للمؤمن قرة عينه وراحة نفسه .
{واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين* الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون}(البقرة الآيتان:45،46)
فهي على هؤلاء غير كبيرة بل إنها سهلة يسيرة ولهذا قال النبي_صلى الله عليه وسلم _:
"جعلت قرة عيني في الصلاة"
( رواه أحمد . والنسائي . والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم . ووافقه الذهبي).
فحسن الخلق مع الله _عز وجل _بالنسبة للصلاة أن تؤديها وقلبك منشرح مطمئن وعيناك قريرتان تفرح اذا كنت متلبسا بها وتنتظرها إذا فات وقتها فإذا صليت الفجر كنت في شوق إلى صلاة الظهر وإذا صليت الظهر كنت في شوق إلى صلاة العصر وإذا صليت العصر كنت في شوق إلى صلاة المغرب وإذا صليت المغرب كنت في شوق إلى صلاة العشاء وإذا صليت العشاء كنت في شوق إلى صلاة الفجر . وهكذا دائما قلبك معلق بهذه الصلوات . هذا لا شك أنه من حسن الخلق مع الله .