الفرق بين الصغيرة والكبيرة وبيان الآثار المترتبة على ذلك
بقلم:
الشيخ أبي عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان
ــ حفظه الله ــ.
الكلام في الفرق بين الصغيرة والكبيرة متشعِّب، وبحرٌ مُتلاطم، وهو مَحلُّ اختلافِ وجهاتِ نَظَرِ العلماء قديماً وحديثاً، وصنَّف في ذلك جمعٌ منهم.
وأحصر هذا المبحث في النقاط التالية:
أدلةُ التفريق بين الكبيرة والصغيرة.
توجيهُ كلام القائمين بعدمِ الفَرْق.
علاماتُ معرفة الكبيرة.
كلامُ جامعٌ للعلماء في التفريق.
معرفة الآثار المترتبة على الكبيرة.
هل يمكن معرفةُ الكبيرة بالاستنباط دونَ النّص؟
فنقول وبالله -سبحانه- الاستعانة:
لا شكَّ أنّ تقسيم الذنوب في الشريعة إلى كبائر وصغائرَ تتفقُ مع واقعية الشريعة وطبيعتها، فالأفعالُ ليست على رتبةٍ واحدةٍ، ولذا تَمايز الناس في الصلاح والفساد، كتمايز أهل الصلاح فيما بينهم، فهم ليسوا سواءً، وكذلك أهلُ الفساد فيما بينهم(1).
وجاءت النصوص في الكتاب والسنة الصحيحة والآثار السلفية في التفريق بين (الكبيرة) و (الصغيرة)، من ذلك:
أولاً: قوله -تعالى-: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، قال الطوفي: «فيه انقسامُ السيئات إلى كبائر وصغائر، وإنَّ اجتنابَ جميع الكبائر مكفرٌ لجميع الصغائر»(2) ، وقال:
«وتكفيرُ الصغائر باجتناب الكبائر مناسبٌ عرفاً وشرعاً»(3).
ثانياً: قولـه –تعالى-: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} [النجم:32]، وأكثرُ المفسرين على أن اللّمم: صغائر الذنوب(4) ، فنصَّت الآية بعبارتها على التفريق(5) ، ولذا قال السفاريني بعدَ أن أورد هاتين الآيتين: «فالصحيح التقسيم»(6).
ووردت أحاديثُ صحيحةٌ كثيرةٌ ترتَّب عليها معتقدٌ لأهل السنة في هذا الباب؛ من مثل:
«الصلوات الخمسُ، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفراتُ ما بينهما إذا اجتنبت الكبائر».
و«ما مِن مسلم تحضُره صلاةٌ مكتوبة، فيحسن وضوءَها وركوعها وسجودها؛ إلا كانت له كفارة لما مضى من الذنوب ما لم يأت الكبائر»(7).
فبناءً على هذين الحديثين -وغيرهما كثير- قرر أهل السنة أنّ الطاعات تكفّر الصّغائر(8) ، وما عداها من الذنوب فأمرها إلى الله -عز وجل-، والواجب على صاحبها التوبة منها، وأنّ الله يغفرها دون الشرك.
قال البيهقي -رحمه الله-: «ففي هذه الأخبار وما جانسها من التغليظ في الكبائر والتكفير عن الصغائر ما يؤكد قول مَن فرّق بينهما» (9).
وقد يُفهَمً من هذا: أنّ هناك مَن لم يفرق بين (الصغائر) و(الكبائر)، وهذا واقع بلا دافع، ولكنّ الخلاف فيه لفظي لا حقيقي، وإليك البيان بإيجاز:
ذهب بعض العلماء(10) إلى كراهية تسمية معصية الله صغيرة؛ نظراُ إلى عظمة الله -تعالى-، وشدة عقابه، وإجلالاً له -عز وجل- عن تسمية معصيته صغيرة؛ وأنها بالنظر إلى عظمته كبيرةٌ أيُّ كبيرة.
وبناءً عليه؛ قرروا أنّ جميع الذّنوب كبائر، وتسمية بعضها صغائر، هو بإضافتها إلى ما هو أكبر منها.
وهذا الاختلاف إنما هو في التسمية فقط، لكن جميع العلماء مجمعون على أنّ المعاصي منها ما يقدح في العدالة، ومنها ما لا يقدح، فسموا ما يقدح بها كبيرة، وما لا يقدح صغيرة (11).
قال الزركشي -بعد أن نقل الاختلاف في تقسيم الذنوب، وخَتَمَها بمن عدها جميعاً كبائر-:
«والظاهر أنّ الخلاف لفظي، فإن رتبة الكبائر تتفاوت قطعاً» (12)، ثم قال -رحمه الله تعالى-:
«إذا قلنا بالمشهور فاختلفوا في الكبيرة، هل تُعرفُ بالحد أو بالعد؟ على وجهين، وبالأول قال الجمهور، واختلفوا على أوجه (13):
قيل: المعصية الموجبة للحد. وقيل: ما لحق صاحبَها وعيدٌ شديد. وقيل: ما تُؤذِنُ بقلة اكتراث مرتكبها بالدِّين ورقَّة الديانة. قاله إمام الحرمين(14). وقيل: ما نصَّ الكتابُ على تحريمه، أو وجب في جنسه حدٌّ، والظاهر أنّ كل قائل ذكر بعض أفرادها، ويجمع الكبائرَ جميعُ ذلك(15) ، والقائلون بالعدّ اختلفوا في أنها هل تنحصر؟ فقيل: تنحصر، واختلفوا: فقيل: معينة.
وقال الواحدي في «البسيط»(16): الصحيح أنّه ليس للكبائر حدٌّ يعرفهُ العباد(17) ، وتتميز به عن الصغائر تمييز إشارة، ولو عُرف ذلك لكانت الصغائرُ مباحةً، ولكنّ الله -تعالى- أخفى ذلك على العباد ليجتهد كلُّ واحد في اجتناب ما نُهيَ عنه، رجاءَ أن يكونَ مجتنباً للكبائر، ونظيرُه إخفاء الصلاة في الصلوات، وليلة القدر في رمضان. اهـ.
ثم قيل: هي سبعة. وقيل: أربعة عشر. وقال ابن عباس: «هي إلى السبعين أقربُ منها إلى السبع». والصحيح أنها لا تنحصر، إذ لا يؤخذ ذلك إلا من السمع ولم يرِد فيه حصرُها، وقد أنهاها الحافظ الذهبي في «جزء» صنَّفه إلى السبعين.
ومن المنصوص عليه: القتل، والزنا، واللوط، وشرب الخمر، ومطلق السكر، والسرقة، والغصب، والقذف، والنميمة، وشهادة الزور، واليمين الفاجرة، وقطيعة الرحم، والعقوق، والفرار، ومال اليتيم، وخيانة الكيل، والوزن، وتقديم الصلاة، وتأخيرها، والكذب على محمد –صلى الله عليه وسلم- ، وضرب المسلم، وسب الصحابة، وكتمان الشهادة، والرشوة، والدياثة -وهي: القيادة على أهله-، والقيادة على أجنبي، والسعاية عند السلطان، ومنع الزكاة، واليأس من رحمة الله، وأمن المكر، والظهار، وأكل لحم الخنزير، والميتة، وفطر رمضان، والغلول، والمحاربة، والسحر، والربا، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونسيان القرآن بعد حفظه، وإحراق الحيوان بالنار، وامتناع المرأة من زوجها بلا سبب.
وتوقف الرافعي(18) في «ترك الأمر» وما بعده، ونقل عن صاحب «العُدّة» جعْلَ الغيبةِ من الصغائر، وهو يخالف نصَّ الشافعي، كيف وهي أخت النميمة! وقد روى الطبرانيُّ(19) حديث المعذَبيْن في قبريهما، فذكر (الغيبة) بدل (النّميمة)، ومنها إدمان الصغيرة»، ثم قال:
«أن الإصرار(20) على الصغائر حكمه حكم مرتكب الكبيرة الواحدة على المشهور، وقال أبو طالب القضاعي في كتاب «تحرير المقال في موازنة الأعمال»(21):إن الإصرار حكمه حكم ما أصر به عليه، فالإصرار على الصغيرة صغيرة، قال: وقد جرى على ألسنة الصوفية(22): وربما يُروى حديثاً، ولا يصح.
والإصرار يكون باعتبارين؛ أحدهما: حُكميّ؛ وهو: العزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها، فهذا حكمه حكم من كررها فعلاً، بخلاف التائب منها، فلو ذهل من ذلك ولم يعزم على شيء فهذا هو الذي تكفره العمال الصالحة من الوضوء والصلاة والجمعة والصيام، كما دل عليه الأحاديث»(23).
قال أبو عبيدة: لي هنا ملاحظات:
الأولى: معرفة الكبيرة بالحد أقعد، والأثر -على وجهٍ يأتي- أضبط، قال الرافعي حول التفريق بالقول بأن الكبيرة ما يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة: «أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر»، وعن القول: إن الكبيرة هي المعصية الموجبة للحد: «وهو إلى ترجيحه أميل».
ومع هذا، فلم يرتضِ العلائي هذه الفروق، فقال بعد أن نقل جملة من النصوص فيها التنصيص على بعض الكبائر، ثم تعرّض للأقوال المذكورة قائلاً:
«قلت: وفي كل منها نظر؛ لأنّ كلاً منها حد الكبيرة من حيث هي، وفيما تقدم من الأحاديث خصال ليست في واحد منها، لا سيما على الوجه الأول الذي اعتبر فيها شرعية الحدّ»(24).
قال أبو عبيدة: وهذا يلتقي كلاماً جيّداً مطولاً للصنعاني، سيأتي، والله الموفّق.
الثانية: ما ورد عن السلف في العدّ لا مفهوم له، مثل ما ورد عن ابن مسعود: «أكبر الكبائر أربعة . . .»، وعن ابن عمر: «سبع»(25) ، وفي رواية: «تسع»، حتى قال ابن عباس: «هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع»، وليس هذا محل حصر بسبعين، وإنما هو الذي سنح له بباله أو تقديره حينئذ(26).
وقد توسع ابن حجر الهيتمي في «الزواجر» في ذكر (الكبائر)، وقد انتقده بعض المحققين من العلماء، فقال محمد بن إسماعيل الصنعاني -رحمه الله- بعد كلام: هذا، ولقد صنّف ابن حجر الهيتمي كتابه «الزواجر»، وكثّر من الكبائر، حتى بلغت ثلاث مئة، ولكن جلُّها ما لا شاهد له من كتاب ولا سنة، وإنما هو مأخوذ من النهي عن كذا، وفيه: من فعل كذا . . .، إلى غير ذلك مما يُحيِّرُ مَن نظَرَ فيه»(27).
قال أبو عبيدة: وسبقه إلى نحوه العلامة الشيخ صالح المَقْبَليّ في ذيل كتابه النافع الماتع «العلم الشامخ في إيثار الحقّ على الآباء والمشايخ»، المسمى: «الأرواح النوافح»(28) ، وهذا نصُّ كلامه فيه -منتقِداً إيّاه-:
«وقد صنّف ابن حجر الهيتمي كتاباً في الكبائر، سماه«الزواجر»، فجاء بما لا يشهد له كتاب ولا سنة، ولا قلّد فيه أحداً، حتى يكون كعلومه الأخر، ولا ينبغي أن يُذكر مثل ذلك إلا إيقاظاً، والرجل ممن يتكلم كيف شاء، ثم حظي في متأخري الشافعية(29) ».
وقد أحسن المَقْبلي -رحمه الله- في إهمال عدّ الكبائر عند الهيتمي، إذ أوصلها في كتابه -كما في المطبوع منه- إلى أربع مئة وسبع وستين كبيرة، وليس ثلاث مئة، كما قال الصنعاني، والله الموفق.
الثالثة: أما قول الزركشي السابق: «وقد أنهاها الحافظ الذهبي في جزء صنفه إلى سبعين»، وقول ابن كثير: «وقد صنف الناس في الكبائر مصنفات، ومنها: ما جمعه شيخنا الحافظ أبو عبدالله الذهبي الذي بلغ نحواً من سبعين كبيرة»(30) ، فالأمر -أيضا- ليس على سبيل الحصر، إذ ذكر الذهبي -بالعدّ- في آخر ما ذكر: (الكبيرة السادسة والسبعين: من جَسَّ على المسلمين، ودلّ على عوراتهم)، ثم قال بعدها:
«فصل جامع لما يحتمل أنه من الكبائر»، وأورد تحته أحاديث عديدة، بلغت (تسعة وأربعين) حديثاً، اشتملت على نحو نصفِ عدَدِها مما قد يقال: إنه كبيرة.
وللبحث بقية . . .