من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 05.08.09 17:18
والعلم سبيل لا يفضي بصاحبه إلاّ إلى السعادة، ولا يقصر به عن درجة الرفعة والكرامة
0قليله ينفع، وكثيره يعلي ويرفع،
كنز يزكو على كلّ حال، ويكثر مع الإنفاق، ولا يغصبه غاصب، ولا يخاف عليه سارق ولا محارب0
فاجتهدا في طلبه، واسنعذبا التعب في حفظه، والسهر في درسه، والنصب الطويل في جمعه، وواظبا على تقييده وروايته، ثم انتقلا إلى فهمه ودرايته0
وانظرا أيّ حالة من أحوال طبقات الناس تختاران، ومنزلة أيّ صنف منهم تؤثران0 هل تريان أحدا أرفع حالا من العلماء، وأفضل منزلة من الفقهاء؟
يحتاج إليهم الرئيس والمرؤوس، ويقتدي بهم الوضيع والنفيس، يرجع إلى أقوالهم في أمور الدنيا وأحكامها، وصحة عقودها وبياعاتها، وغير ذلك من تصرّفاتها،
وإليهم يلجأ في أمور الدين وما يلزم من صلاة وزكاة وصيام وحلال وحرام0 ثم مع ذلك السلامة من التبعات، والخطوة عند جميع الطبقات0
000 وأفضل العلوم علم الشريعة، وأفضل ذلك لمن وفّق أن يجوّد قراءة القرآن، ويحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم0 ويعرف صحيحه من سقيمه، ثم يقرأ أصول الفقه، فيتفقّه في الكتاب والسنّة، ثم يقرأ كلام الفقهاء، وما نقل من المسائل عن العلماء، ويدرب في طرق النظر وتصحيح الأدلة والحجج، فهذه الغاية القصوى، والدرجة العليا))0
وقال أيضا-رحمه الله تعالى-: ( وأيّاكما وقراءة شيء من المنطق وكلام الفلافسة؛ فإن ذلك مبنيّ على الكفر والإلحاد، والبعد عن الشريعة والإبعاد0
وأحذّركما من قراءتها ما لم تقرآ من كلام العلماء ما تقويان به على فهم فساده وضعف شبهه وقلّة تحقيقه، مخافة أن يسبق إلى قلب أحدكما ما لا يكون عنده من العلم ما يقوى به على ردّه، ولذلك أنكر جماعة من العلماء المتقدمين والمتأخرين قراءة كلامهم لمن لم يكن من أهل المنزلة والمعرفة به؛ خوفا عليهم مما خوفتكما منه0
ولو كنت أعلم أنكما تبلغان منزلة الميز والمعرفة، والقوّة على النظر والمقدرة، لحضضتكما على قراءته، وأمرتكما بمطالعته، لتحققا ضعفه وضعف المعتقد له، وركاكة المغتر به، وأنه من أقبح المخاريق والتمويهات، ووجوه الحيل والخزبعلات التي يغتر بها من لا يعرفها، ويستعظمها من لا يميزها0
ولذلك إذا حقق من يعلم عند أحد منهم وجده عاريا من العلم، بعيدا عنه، يدّعي أنّه يكتم علمه، وإنما يكتم جهله، وهو ينمّ عليه، ويروم أن يستعين به، وهو يعين عليه0
وقد رأيت ببغداد وغيرها من يدّعي منهم هذا الشأن مستحقرا مستهجنا مستضعفا، لا يناظره إلا المبتدئ وكفاك بعلم صاحبه في الدنيا مرموق مهجور، وفي الآخرة مدحور مثبور0 وأما من يتعاطى ذلك من أهل بلدنا، فليس عنده منه إلاّ اسمه، ولا وصل إليه إلاّ ذكره0
وعليكما بالأمر بالمعروف وكونا من أهله، وانهيا عن المنكر واجتنبا فعله0
وأطيعا من ولاه الله أمركما، ما لم تدعيا إلى معصية، فيجب أن تمتنعا منها، وتبذلا الطاعة فيما سواها))0
3- لفتة الكبد في نصيحة الولد للإمام ابن الجوزي0
قال الإمام ابن الجوزي في مقدمة كتابه بعد أن حمد الله وأثنى عليه0 قال:
(( أما بعد0ف‘ني لما عرفت شرف النكاح وطلب الأولاد ختمت ختمة وسألت الله تعالى أن يرزقني عشرة أولاد، فرزقنينيهم، فكانوا خمسة ذكور وخمس إناث، فمات من الإناث اثنتان، ومن الذكور أربعة فلم يبقى من الذكور سوى ولدي أبي القاسم فسألت الله تعالى أن يجعل فيه الخلف الصالح، وأن يبلغ به المنى المناجح0
ثم رأيت منه نوع توان عن الجد في طلب العلم، فكتبت له هذه الرسالة، أحثّه بها وأحركه على سلوك طريقي في كسب العلم،
وأدلّه على الإلتجاء إلى الموفق- سبحانه وتعالى – مع علمي بأنه لا خاذل لمن وفّق، ولا مرشد لمن أضل،
لكن قد قال تعالى:
(( وتواصوا بالحقّ وتواصو بالصّبر))
وقال:
(( فذكّر إن نفعت الذّكرى))
ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم))0
وقال –رحمه الله تعالى – في موضع آخر من الكتاب:
(( وانظر يا بنيّ! إلى نفسك عند الحدود فتلمّح كيف حفظك لها، فإنه من راعى روعي، ومن أهمل ترك0
وإني لأذكر لك بعض أحوالي لعلك تنظر إلى اجتهادي وتسأل الموفق لي فإن أكثر الإنعام علي لم يكن بكسبي، وإنما هو من تدبير اللطيف بي0
فإني أذكر نفسي ولي همّة عالية وأنا في المكتب ابن ست سنين وأنا قرين الصبيان الكبار، قد رزقت عقلا وافرا في الصغر يزيد على عقل الشيوخ، فما أذكر أني لعبت في الطريق مع الصبيان قط ولا ضحكت ضحكا خارجا0 حتى أني كنت ولي سبع سنين أو نحوها أحضر رحبة الجامع فلا أتخير حلقة مشعبة، بل أطلب المحدث فيتحدّث باليسير، فأحفظ جميع ما أسمعه وأذهب إلى البيت فأكتبه0
ولقد وفق لي شيخنا أبي الفضل بن ناصر- رحمه الله تعالى – وكان يحملني الشيوخ فأسمعني المسند وغيره من الكتب الكبار، وأنا لا أغلم ما يراد مني، وضبط لي مسموعاتي إلى أن بلغت، فناولني ثبتها، ولازمته إلى أن توفي- رحمه الله تعالى- ، فنلت به معرفة الحديث والنقل0
ولقد كان الصبيان ينزلون إلى دجلة ويتفرجون على الجسر وأنا في زمن الصغر آخذا جزءا وأقعد حجزة من الناس إلى جانب الرّقة فأتشاغل بالعلم0
ثم ألهمت الزهد فسردت الصوم وتشاغلت بالتقلل من الطعام وألزمت نفسي الصبر فاستمرت وشمرت ولازمت وعالجت السهر، ولم أقنع بفن من العلوم، بل كنت أسمع الفقه والوعظ والحديث، واتبع الزهاد، ثم قرأت اللغة ولم أترك أحدا ممن يروي ويعظ، ولا غريبا يقدم إلا وأحضره، وأتخيّر الفضائل، وكنت إذا عرض لي أمران أقدم في أغلب الأحوال حق الحق0
فأحسن الله تدبيري وتربيتي وأجراني على ما هو الأصلح لي ودفع عني الأعداء والحساد ومن يكيدني،[و] هيأ لي أسباب العلم، وبعث إليّ الكتب من حيث لا أحتسب0 ورزقني الفهم وسرعة الحفظ والخط وجودة التصنيف0
ولم يعوزني شيئا من الدنيا، بل ساق إليّ من الرزق مقدار الكفاية وأزيد، ووضع لي القبول في قلوب الخلق فوق الحد، وأوقع كلامي في نفوسهم فلا يرتابون بصحته، وقد أسلم على يدي نحو مائتين من أهل الذّمة ولقد تاب في مجالسي أكثر من مائة ألف، وقد قطعت أكثر من عشرين ألف سالف مما يتعاناه الجهال0
ولقد كنت أدور على المشايخ لسماع الحديث فينقطع نفسي من العدو لئلا أسبق، وكنت أصبح وليس لي مأكل، وأمسي وليس لي مأكل، ما أذلني الله لمخلوق قط0 ولكنه ساق رزقي لصيانة عرضي0 ولو شرحت لك أحوالي لطال الشرح0
وها أنا قد ترى ما آلت حالي إليه، وأنا أجمعه لك في كلمة واحدة هي قوله تعالى: (( واتّقوا الله ويعلمكم الله))0
وقال أيضا- رحمه الله تعالى-:
(( فإذا أعدت درسك إلى وقت الضحى الأعلى، فصلّ الضحى ثماني ركعات، ثم تشاغل بمطالعة أو نسخ إلى وقت العصر، ثم عد إلى درسك من بعد العصر إلأى وقت المغرب وصلّ بعد المغرب ركعتين بجزأين، فإذا صليت العشاء فعد على دروسك ثم اضطجع على شقك الأيمن فسبّح ثلاثا وثلاثين، وأحمد ثلاثا وثلاثين، وكبّر أربعا وثلاثين، وقل: ( اللهم قني عذابك يوم تجمع عبادك)00
وإذا فتحت عينيك من النوم فاعلم أن النفس قد أخذت حظها فقم إلى الوضوء وصلّ في ظلام الليل ما أمكن، واستفتح بركعتين خفيفتين، ثم بعدهما ركعتين بجزأين من القرآن، ثم تعود إلى درس العلم، فإن العلم أفضل من كلّ نافلة))0
ثم قال- رحمه الله تعالى- :
(( وعليك بالعزلة فهي أصل كل خير، واحذر من جليس السوء، وليكن جلساؤك الكتب والنظر في سير الكاملين في العلم والعمل، ولا تقنع بالدون،
فقد قال الشاعر:
ولم أرى في عيوب الناس عيبا *** كنقص القادرين على التمام0
واعلم أن العلم يرفع الأرذال
فقد كان خلق كثير من العلماء لا نسب لهم يذكر ولا صورة تستحسن0
وكان عطاء بن أبي رباح أسود اللون مستوحش الخلقة،
وجاء إليه سليمان بن عبدالملك- وهو خليفة ومعه ولده- فجلسوا يسألونه عن المناسك،
فحدّثهم وهو معرض عنهم بوجهه،
فقال الخليفة لولديه:
( قوما ولا تنيا ولا تكاسلا في طلب العلم، فما أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود)0
وكان الحسن مولى- أي مملوكا- وابن سيرين- ومكحول- وخلق كثير وإنما شرفوا بالعلم والتقوى))0