لسنا بحاجة داعية للخوض في جماعة ابن عربي الصوفي الذي تسللت أفكاره إلى التصوف لواذاً، فقد جردت فيه وفي أتباعه الأسفار العظيمة التي تنوء بحملها العصبة من الرجال، وإنما نريد في مقامنا هذا أن نستخرج من بطون هذه الكتب دور علماء اليمن في مطلع القرن التاسع للتصدي لهذه الجماعة، ونستنبط منها الجانب المشرق حين أدلوا بدلوهم في هذا الباب، ولأن مضى ابن عربي غير رشيد فإن آثاره لم تزل تخفت عند قوم وتسطع عند آخرين من جديد.
وإن مما بعثني على التعريج على هذا المبحث نقلان استوقفني اختلافهما في الورود، واتفاقهما في الصدور، يقضيان بالبحث في موضوع التصوف أسردهما، ثم نفيض في دور العلماء للتصدي لفكر ابن عربي.
أحدهما: ما نقله البقاعي في كتاب (مصرع التصوف) المسمى (تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي) نقلا عن الفاسي في سياق حديثه عن مكفري ابن عربي قال: (ومنهم الإمامان رضي الدين أبو بكر بن محمد بن صالح الجبلي المعروف بابن الخياط الشافعي مدرس العينية بتعز ومفتي تلك النواحي، والقاضي شهاب الدين أحمد بن علي الناشري الشافعي مفتي زبيد، وفاضل اليمن شرف الدين إسماعيل بن أبي بكر المقري الشافعي، وبين من حال ابن عربي ما لم يبينه غيره).
وفي موضع آخر ذكر العلامة بدر الدين حسين بن عبد الرحمن الأهدل صاحب (كشف الغطاء) وما أشار إليه بأن في اليمن شخصاً من أكابر أتباع ابن عربي يقال له: الكرماني حصلت به في اليمن فتن كبيرة، وحصل بينه وبين ابن المقري خطوب([1]).
الثاني: ما ورد في رسالة السيوطي الموسومة (تنبئة الغبي بتبرئة ابن عربي) قال في سياق حديثه عن معتقدي ابن عربي، ومنهم إسماعيل بن إبراهيم الجبرتي قال ابن حجر: تعانى الاشتغال ثم التصوف وكان خيراً عابدا حسن السمت محباً في مقالة ابن عربي مات سنة 806 هـ، ومنهم مجد الدين الشيرازي صاحب القاموس قال ابن حجر: لما اشتهرت باليمن مقالة ابن عربي ودعا إليها الشيخ إسماعيل الجبرتي وغلبت على علماء تلك البلاد صار الشيخ مجد الدين يدخل في شرح البخاري من كلام ابن عربي........) ([2]) وفي كلام ابن حجر سقط سنعرض له في محله.
هذان هما الموقفان المختلفان في الغاية المتفقان في أهمية القضية، بحيث أصبح الفريقان ـ المؤيد والمعارض ـ يرتشفان من أقوال علماء اليمن، حيث صاروا أهلاً للأخذ عنهم في هذا الباب بسبب الفتنة التي هبت ريحها العاتية بأرضهم، وهاجت بها زروع العلم بعدما ازينت بها بلادهم، ونسلط الضوء على تفصيل ما ورد مجملاً في النقلين السابقين في الحديث عن فتنة ابن عربي باليمن، التي يرجع الافتتان بها إلى زمن يعقب ظهوره، وقد تصدى لأفكاره عدد من العلماء، غير أننا هنا نذكر الأسباب التي جعلت هذه الفتنة تغلب ويذكى نارها في الانتشار وعموم البلوى بها، وشيوع ولايته حتى عده بعضهم من أكابر العارفين، ومضى التعصب لمقالاته تعصباً شديداً، ويبدو لنا أربعة أسباب أشاعتها وطارت بها في تلك الآفاق هي:
أولاً: اعتقاد بعض الفقهاء ولاية ابن عربي:
ممن ورد ذكره في مصرع التصوف وكان يعتقد اعتقاداً يفضي إلى التعصب الشديد:
ـ إسماعيل بن إبراهيم الجبرتي ت 806 هـ، قال الأهدل في تحفة الزمن: (وقد عمت البلوى في اليمن باعتقاد ولاية ابن عربي، خصوصاً صوفية زبيد تبعاً لشيخهم إسماعيل الجبرتي وصاحبه أحمد الرداد) وسبق ما ذكره ابن حجر بأن الجبرتي هو الداعي إلى مقالة ابن عربي باليمن، وأنها غلبت على علماء تلك البلاد ومما غفل عن نقله السيوطي من تتمة كلام ابن حجر بعد ثنائه على عبادته وسمته، (وكنت أظن أنه لا يفهم الاتحاد حتى اجتمعت به فرأيته يفهمه ويقرره ويدعو إليه، حتى صار من لم يحصل كتاب الفصوص من أصحابه لا يلتفت إليه) ([3]).
ـ أحمد بن أبي بكر الرداد ت 821 هـ وقد قام بالمناضلة عن الصوفية واعتقاد ولاية ابن عربي بعد شيخه الجبرتي، وانتهى تعصبه لابن عربي إلى حد لم تبلغه أكبر الفتن المتقدمة، له مؤلفات منها (الخرقة الصوفية) كما أن له شعراً قال فيه ابن حجر (وشعر ابن الرداد ينعق بالاتحاد، وأنه أفسد عقائد كثير من الناس) ([4]).
ـ محمد بن محمد المزجاجي ت 829 هـ وقد قام بالدفاع عن معتقد ابن عربي وجماعته بعد ابن، الرداد وتصدى للمخالفين هو والكرماني واستعانا بالناصر، له تأليف بعنوان (هداية السالك إلى أسنى المسالك) وله مؤلفات أخرى في الباب([5]).
ثانياً: تحصيل كتب ابن عربي:
لا سيما الفصوص والفتوحات وراج سوقها رواجاً كبيراً حتى صارت تباع في الأسواق، وكان الجبرتي لا يلتفت إلى من لم يحصل كتاب الفصوص من أصحابه، وتم الاشتغال بها قراءة وإقراء حتى وضع السلطان الأشرف سؤالاً للفقهاء في حكم تحصيلها وقراءتها، وربما اقتنى الناصر من كتب ابن عربي ما يعود نسخها إلى خط المؤلف، قال المزجاجي: وكنت قد حصلت نسخة كاملة من كتاب الفتوحات وجدتها عند الفقيه الفاسي، كما أولعوا أيضا بتائية ابن الفارض([6]).
ثالثاً: ميل ملوك الدولة الرسولية إلى الصوفية:
قد آثر كثير من سلاطين الدولة الرسولية الوقوف في صف الصوفية؛ لما يرون لهم من كثرة أتباع وقد كانوا يكرمون مثواهم ويعتقدون فيهم، فالجبرتي يحظى بالكلمة عند الأشرف والأفضل، وابن الرداد كان مقرباً من الناصر الذي ولاه القضاء وأوذي الفقهاء بسببه، فكانوا يؤيدون ما هم عليه وينعمون عليهم بالعطايا([7]).
رابعاً: المروجون لبضاعة ابن عربي من الوافدين:
نقف عند اثنين هما:
ـ عبد الكريم الجيلي صاحب نظرية الإنسان الكامل في التصوف، وقد ورد اليمن وأذكى نار الفتنة، قال في كتابه الذي يحمل اسم نظريته: إنه اجتمع بالإنسان الكامل والقطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود في صورة شيخه شرف الدين إسماعيل الجبرتي، قال: وهذا من جملة مشاهد شاهدتها بزبيد سنة 796هـ.
وذكر في كتابه أيضاً عناية شيخه الجبرتي به وحفظه من تلبيس إبليس على الصديقين وقال فيه:
دار بها إسماعيل أسمى من سما أسماء أسمى راحة ونسيبه
ملك الصفات وكامل الذات الذي فاح الشمال بعطره وجنوبه
يا ابن إبراهيم يا بحر الندى يا ذا الجبرتي الجبور طبيبه
ألعبدك الجيلي منك عناية صباغة صبغ المحب حبيبه
أنت الكريم بغير شك وهو ذا عبد الكريم ومنك يرجى طيبه([8])
قلت: ولا شك أن الشيطان قد لعب بفكره مرات عديدة، وأجب عليه بتلبيساته ذكر أن شيخه خلصه من واحدة منها؟ فمن الضمين بغيرها يا ترى؟
قال الأهدل فيه: (هو أهلكهم في ذلك البحر ـ (وحدة الوجود) ـ وقد اجتمعت به قبل أن أعرف مذهبه بأبيات حسين حكى لي عنه فقيه صادق أنه صحبه في بعض أسفاره فسمع منه الثناء العظيم على ابن عربي وعلومه، وسمع منه التصريح بربوبية كل من يلقاه في الطريق من إنسان أو طائر أو شجر !!).
والنقل
لطفــــاً .. من هنـــــــــــا
وإن مما بعثني على التعريج على هذا المبحث نقلان استوقفني اختلافهما في الورود، واتفاقهما في الصدور، يقضيان بالبحث في موضوع التصوف أسردهما، ثم نفيض في دور العلماء للتصدي لفكر ابن عربي.
أحدهما: ما نقله البقاعي في كتاب (مصرع التصوف) المسمى (تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي) نقلا عن الفاسي في سياق حديثه عن مكفري ابن عربي قال: (ومنهم الإمامان رضي الدين أبو بكر بن محمد بن صالح الجبلي المعروف بابن الخياط الشافعي مدرس العينية بتعز ومفتي تلك النواحي، والقاضي شهاب الدين أحمد بن علي الناشري الشافعي مفتي زبيد، وفاضل اليمن شرف الدين إسماعيل بن أبي بكر المقري الشافعي، وبين من حال ابن عربي ما لم يبينه غيره).
وفي موضع آخر ذكر العلامة بدر الدين حسين بن عبد الرحمن الأهدل صاحب (كشف الغطاء) وما أشار إليه بأن في اليمن شخصاً من أكابر أتباع ابن عربي يقال له: الكرماني حصلت به في اليمن فتن كبيرة، وحصل بينه وبين ابن المقري خطوب([1]).
الثاني: ما ورد في رسالة السيوطي الموسومة (تنبئة الغبي بتبرئة ابن عربي) قال في سياق حديثه عن معتقدي ابن عربي، ومنهم إسماعيل بن إبراهيم الجبرتي قال ابن حجر: تعانى الاشتغال ثم التصوف وكان خيراً عابدا حسن السمت محباً في مقالة ابن عربي مات سنة 806 هـ، ومنهم مجد الدين الشيرازي صاحب القاموس قال ابن حجر: لما اشتهرت باليمن مقالة ابن عربي ودعا إليها الشيخ إسماعيل الجبرتي وغلبت على علماء تلك البلاد صار الشيخ مجد الدين يدخل في شرح البخاري من كلام ابن عربي........) ([2]) وفي كلام ابن حجر سقط سنعرض له في محله.
هذان هما الموقفان المختلفان في الغاية المتفقان في أهمية القضية، بحيث أصبح الفريقان ـ المؤيد والمعارض ـ يرتشفان من أقوال علماء اليمن، حيث صاروا أهلاً للأخذ عنهم في هذا الباب بسبب الفتنة التي هبت ريحها العاتية بأرضهم، وهاجت بها زروع العلم بعدما ازينت بها بلادهم، ونسلط الضوء على تفصيل ما ورد مجملاً في النقلين السابقين في الحديث عن فتنة ابن عربي باليمن، التي يرجع الافتتان بها إلى زمن يعقب ظهوره، وقد تصدى لأفكاره عدد من العلماء، غير أننا هنا نذكر الأسباب التي جعلت هذه الفتنة تغلب ويذكى نارها في الانتشار وعموم البلوى بها، وشيوع ولايته حتى عده بعضهم من أكابر العارفين، ومضى التعصب لمقالاته تعصباً شديداً، ويبدو لنا أربعة أسباب أشاعتها وطارت بها في تلك الآفاق هي:
أولاً: اعتقاد بعض الفقهاء ولاية ابن عربي:
ممن ورد ذكره في مصرع التصوف وكان يعتقد اعتقاداً يفضي إلى التعصب الشديد:
ـ إسماعيل بن إبراهيم الجبرتي ت 806 هـ، قال الأهدل في تحفة الزمن: (وقد عمت البلوى في اليمن باعتقاد ولاية ابن عربي، خصوصاً صوفية زبيد تبعاً لشيخهم إسماعيل الجبرتي وصاحبه أحمد الرداد) وسبق ما ذكره ابن حجر بأن الجبرتي هو الداعي إلى مقالة ابن عربي باليمن، وأنها غلبت على علماء تلك البلاد ومما غفل عن نقله السيوطي من تتمة كلام ابن حجر بعد ثنائه على عبادته وسمته، (وكنت أظن أنه لا يفهم الاتحاد حتى اجتمعت به فرأيته يفهمه ويقرره ويدعو إليه، حتى صار من لم يحصل كتاب الفصوص من أصحابه لا يلتفت إليه) ([3]).
ـ أحمد بن أبي بكر الرداد ت 821 هـ وقد قام بالمناضلة عن الصوفية واعتقاد ولاية ابن عربي بعد شيخه الجبرتي، وانتهى تعصبه لابن عربي إلى حد لم تبلغه أكبر الفتن المتقدمة، له مؤلفات منها (الخرقة الصوفية) كما أن له شعراً قال فيه ابن حجر (وشعر ابن الرداد ينعق بالاتحاد، وأنه أفسد عقائد كثير من الناس) ([4]).
ـ محمد بن محمد المزجاجي ت 829 هـ وقد قام بالدفاع عن معتقد ابن عربي وجماعته بعد ابن، الرداد وتصدى للمخالفين هو والكرماني واستعانا بالناصر، له تأليف بعنوان (هداية السالك إلى أسنى المسالك) وله مؤلفات أخرى في الباب([5]).
ثانياً: تحصيل كتب ابن عربي:
لا سيما الفصوص والفتوحات وراج سوقها رواجاً كبيراً حتى صارت تباع في الأسواق، وكان الجبرتي لا يلتفت إلى من لم يحصل كتاب الفصوص من أصحابه، وتم الاشتغال بها قراءة وإقراء حتى وضع السلطان الأشرف سؤالاً للفقهاء في حكم تحصيلها وقراءتها، وربما اقتنى الناصر من كتب ابن عربي ما يعود نسخها إلى خط المؤلف، قال المزجاجي: وكنت قد حصلت نسخة كاملة من كتاب الفتوحات وجدتها عند الفقيه الفاسي، كما أولعوا أيضا بتائية ابن الفارض([6]).
ثالثاً: ميل ملوك الدولة الرسولية إلى الصوفية:
قد آثر كثير من سلاطين الدولة الرسولية الوقوف في صف الصوفية؛ لما يرون لهم من كثرة أتباع وقد كانوا يكرمون مثواهم ويعتقدون فيهم، فالجبرتي يحظى بالكلمة عند الأشرف والأفضل، وابن الرداد كان مقرباً من الناصر الذي ولاه القضاء وأوذي الفقهاء بسببه، فكانوا يؤيدون ما هم عليه وينعمون عليهم بالعطايا([7]).
رابعاً: المروجون لبضاعة ابن عربي من الوافدين:
نقف عند اثنين هما:
ـ عبد الكريم الجيلي صاحب نظرية الإنسان الكامل في التصوف، وقد ورد اليمن وأذكى نار الفتنة، قال في كتابه الذي يحمل اسم نظريته: إنه اجتمع بالإنسان الكامل والقطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود في صورة شيخه شرف الدين إسماعيل الجبرتي، قال: وهذا من جملة مشاهد شاهدتها بزبيد سنة 796هـ.
وذكر في كتابه أيضاً عناية شيخه الجبرتي به وحفظه من تلبيس إبليس على الصديقين وقال فيه:
دار بها إسماعيل أسمى من سما أسماء أسمى راحة ونسيبه
ملك الصفات وكامل الذات الذي فاح الشمال بعطره وجنوبه
يا ابن إبراهيم يا بحر الندى يا ذا الجبرتي الجبور طبيبه
ألعبدك الجيلي منك عناية صباغة صبغ المحب حبيبه
أنت الكريم بغير شك وهو ذا عبد الكريم ومنك يرجى طيبه([8])
قلت: ولا شك أن الشيطان قد لعب بفكره مرات عديدة، وأجب عليه بتلبيساته ذكر أن شيخه خلصه من واحدة منها؟ فمن الضمين بغيرها يا ترى؟
قال الأهدل فيه: (هو أهلكهم في ذلك البحر ـ (وحدة الوجود) ـ وقد اجتمعت به قبل أن أعرف مذهبه بأبيات حسين حكى لي عنه فقيه صادق أنه صحبه في بعض أسفاره فسمع منه الثناء العظيم على ابن عربي وعلومه، وسمع منه التصريح بربوبية كل من يلقاه في الطريق من إنسان أو طائر أو شجر !!).
والنقل
لطفــــاً .. من هنـــــــــــا
عدل سابقا من قبل أبو محمد عبدالحميد الأثري في 07.05.09 7:46 عدل 1 مرات