فائدة قيمة جدا في قاعدة " الدَّلِيْلَ إذا تَطرَّقَ إليْهِ الاحْتِمَالُ ..."
قال الشيخ عبدالعزيز الراجحي -حفظه الله تعالى-
في كتابه الماتع "مجانبة أهل الثبور":
وَأَمّا قوْلُ المعْتَرِض ِ:
(وَمِمّا هُوَ مَعْلوْمٌ لدَى طلبةِ العِلمِ : أَنَّ الدَّلِيْلَ إذا تَطرَّقَ إليْهِ الاحْتِمَالُ ، بطلَ الاسْتِدْلالُ به)اه .
فإطلاقهُ بَاطِلٌ ، وَإطلاقهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُوْل ِأَهْل ِ البدَعِ وَالضَّلال ِ، مِمَّنْ أَرَادُوْا إهْجَانَ السُّنَّةِ ، وَإبْطالَ الأَدِلةِ ، وَإفسَادَ الدِّين ِ، وَإغوَاءَ المهْتَدِيْن .
فإنهُ لا يَخْلوْ دَلِيْلٌ لا فِي الكِتابِ وَلا فِي السُّنَّةِ ، إلا َّ وقدْ أُوْرِدَ عَليْهِ احْتِمَالٌ
إمّا مِنْ مُهْتَدٍ أَوْ مِنْ مُبْطِل ٍ، سَوَاءٌ كانَ ذلِك َ الاحْتِمَالُ صَحِيْحًا أَمْ فاسِدًا .
وَلوْ سُلمَ إطلاقُ هَذِهِ القاعِدَةِ :
لمَا صَحَّ لنا وَلا لِغيْرِنا أَنْ يَسْتَدِلَّ بأَيِّ دَلِيْل ٍ، أَوْ يَحْتَجَّ بأَيِّ حُجَّةٍ ، لِتطرُّق ِ احْتِمَال ٍ مِنَ الاحْتِمَالاتِ عَليْهَا !
إمّا فِي أَصْلِهَا ، أَوْ فِي تأْوِيْلِهَا وَمَعْنَاهَا
وَحِيْنَذَاك َ يَبْطلُ الدِّينُ ، وَتسْقط ُ الشعَائِرُ ، وَيحْصُلُ لِلزَّنادِقةِ مَا أَملوْهُ وَرَجَوْه .
وَمُرَادُ مَنْ ذكرَ هَذِهِ القاعِدَة َ مِنَ العُلمَاءِ ،
وَمَعْنَاهَا الصَّحِيْحُ عِنْدَهُمْ : أَنَّ الاحْتِمَالاتِ الوَارِدَة َ عَلى الأَدِلةِ ثلاثة ُ أَنوَاعٍ :
• اِحْتِمَالٌ وَهْمِيٌّ مَرْجُوْحٌ ،
• وَاحْتِمَالٌ رَاجِحٌ ،
• وَاحْتِمَالٌ مُسَاوٍ .
فالاحْتِمَالُ الأَوَّلُ :
لا اعْتِبَارَ بهِ ، وَلا تأْثِيْرَ له .
وَالاحْتِمَالُ الثانِي:
يَجِبُ المصِيْرُ إليْهِ ، وَالتَّعْوِيْلُ عَليْه.
وَأَمّا الاحْتِمَالُ الثالِثُ :
فهُوَ الذِي يُسْقِط ُ الاسْتِدْلالَ بذَلِك َ الدَّلِيْل ِ عَلى ذلِك َ الاحْتِمَال ِ المسَاوِي لا غيرِهِ ، لاسْتِوَاءِ طرَفيْهِ
وَهُوَ مُرَادُ مَنْ أَطلقَ هَذِهِ القاعِدَة َ مِنَ الأَئِمَّةِ لا سِوَاه .
وَقدْ بيَّنَ أَبوْ العَبّاس ِ القرَافيُّ(ت684ه) في«الفرُوْق» (2/87) :
الفرْقَ بَيْنَ هَذِهِ القاعِدَةِ السّابقةِ «حِكاية ُ الحال ِ إذا تطرَّقَ إليْهَا الاحْتِمَالُ ، سَقط َ بهَا الاسْتِدْلال»
وَبيْنَ قاعِدَةِ «حِكاية ُ الحال ِ، إذا ترِك َ فِيْهَا الاسْتِفصَالُ ، تقوْمُ مَقامَ العُمُوْمِ في المقال ِ، وَيَحْسُنُ بهَا الاسْتِدْلال»،
بقوْلِهِ:
(وَتَحْرِيْرُ الفرْق ِ بَيْنَهُمَا ، ينبنِي عَلى قوَاعِدَ :
القاعِدَة ُ الأُوْلىَ:
أَنَّ الاحْتِمَالَ المرْجُوْحَ ، لا يَقدَحُ في دَلالةِ اللفظِ ، وَإلا َّ لسَقطتْ دَلالة ُ العُمُوْمَاتِ كلهَا ، لِتطرُّق ِ احْتِمَال ِ التَّخْصِيْص ِ إليْهَا .
بَلْ تَسْقط ُ دَلالة ُ جَمِيْعِ الأَدِلةِ السَّمْعِيَّةِ ، لِتَطرُّق ِ المجَازِ وَالاشْتِرَاكِ إلىَ جَمِيْعِ الأَلفاظ .
لكِنَّ ذلِك َ باطِلٌ ، فتعَينَ حِيْنَئِذٍ : أَنَّ الاحْتِمَالَ الذِي يُوْجِبُ الإجْمَالَ ، إنّمَا هُوَ الاحْتِمَالُ المسَاوِي ، أَوِ المقارِبُ ، أَمّا المرْجُوْحُ : فلا .
القاعِدَة ُ الثانِيَة ُ:
أَنَّ كلامَ صَاحِبِ الشَّرْعِ ، إذا كانَ مُحْتَمِلا ً احْتِمَاليْن ِ عَلى السَّوَاءِ : صَارَ مُجْمَلا ً، وَليْسَ حَمْلهُ عَلى أَحَدِهِمَا أَوْلىَ مِنَ الآخَر).
ثمَّ قالَ القرَافِيُّ (2/88):
(فحَيْثُ قالَ الشّافِعِيُّ رَضِيَ الله ُعَنْهُ:
«إنَّ حِكاية َ الحال ِ، إذا تَطرَّقَ إليْهَا الاحْتِمَالُ ، سَقط َ بهَا الاسْتِدْلال»: مُرَادُهُ إذا اسْتَوَتِ الاحْتِمَالاتُ في كلامِ صَاحِبِ الشَّرْع)اه.
وَقدْ تَعَقبَ أَبو القاسِمِ ابْنُ الشّاطِ (ت723ه) أَبا العَبّاس ِ القرَافِيَّ في قوْلِهِ السّابق ِ
«فتعيَّنَ حِيْنَئِذٍ أَنَّ الاحْتِمَالَ الذِي يُوْجِبُ الإجْمَالَ ، إنّمَا هُوَ الاحْتِمَالُ المسَاوِي ، أَوِ المقارِبُ ، أَمّا المرْجُوْحُ : فلا» فقال:( إيْجَابُ الاحْتِمَال ِ المسَاوِي الإجْمَالَ : مُسَلم .
وَأَمّا إيْجَابُ المقارِبِ : فلا ، فإنهُ :
• إنْ كانَ مُتَحَققَ المقارَبةِ: فهوَ مُتَحَققُ عَدَمِ المسَاوَاة .
• وَإنْ كانَ مُتَحَققَ عَدَمِ المسَاوَاةِ : فهُوَ مُتَحَققُ المرْجُوْحِيَّةِ : فلا إجْمَال)اه .
قلتُ :
الذِي يَظهَرُ لِي: أَنَّ مُرَادَ القرَافِيِّ مِنْ قوْلِهِ «الاحْتِمَالُ المقارِبُ»: مَا كانَ مُقارِبا لِلمُسَاوِي مُقارَبة ً شدِيدَة ً، بحيْثُ يَكوْنُ رُجْحَانهُ عَلى غيْرِهِ دَقِيْقا خفِيْفا ، لا يُصَارُ إليْهِ ، وَلا يُرَجَّحُ بهِ عَليْهِ، لِخِفةِ مُرَجِّحِهِ عَلى غيْرِهِ ، فيبْقى مُقارِبا
شبيْهًا باِلمسَاوِي ،
وَالله ُ أَعْلم .
وَقدْ سَأَلتُ شَيْخَنَا العَلامَة َ، عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَن ِ ابنَ غدَيان حَفِظهُ الله ُ، وَبارَك َ فِيْهِ وَفي عِلمِهِ :
عَنْ صِحَّةِ إطلاق ِ تِلك َ القاعِدَةِ السّابقةِ فقالَ:
(لا يَصِحُّ إطلاقهَا ، وَإنّمَا هِيَ صَحِيْحَة ٌ في صُوْرَةٍ وَاحِدَةٍ : إذا كانَ الاحْتِمَالُ مُسَاوِيا .
أَمّا إذا لمْ يَكنْ مُسَاوِيا : فكانَ رَاجِحًا : وَجَبَ المصِيْرُ إليْهِ .
أَوْ مَرْجُوْحًا وَهْمِيا : وَجَبَ اطرَاحُهُ وَترْكهُ ، وَلا تأْثِيْرَ له .
وَإطلاقهَا كإطلاق ِ النّاس ِ لِقاعِدَةِ «دَرْءُ المفاسِدِ ، مُقدَّمٌ عَلى جَلبِ المصَالِحِ» ،
مَعَ أَنَّ هَذِهِ القاعِدَة َ، لا تصِحُّ إلا َّ فِي صُوْرَةٍ وَاحِدَةٍ فقط ، وَهِيَ إذا تسَاوَتِ المفسَدَة ُ وَالمصْلحَة .
ثمَّ ذكرَ الشَّيْخُ حَفِظهُ الله ُ:
أَنَّ أَحْسَنَ مَنْ رَآهُ تَكلمَ عَلى تِلك َ القاعِدَةِ الأُوْلىَ السّابقةِ: القرَافِيُّ في«الفرُوْق» وَأَوْفاهَا شَرْحًا ، وَقدْ قدَّمْنَا شَيْئًا مِنْ كلامِهِ فِيْهَا رَحِمَهُ الله .
والنقل
لطفــــــــاً : من هنــــــــــــا
لطفــــــــاً : من هنــــــــــــا