فوائد في باب الرؤية
1 - نفي رؤية الشيء يستلزم نفي وجوده؛ إذ المعدوم هو الذي لا يجوز رؤيته، وكل موجود يقدر الله أن يريناه، فمن قال: إن الله لا تجوز رؤيته فقد نفى وجوده.
2 - من قال: إن الله لا يرى في الآخرة فقد كفر؛ لأنه كذب بالقرآن والسنة المتواترة، يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرا، أفتى بذلك الإمام أحمد كما ذكره شيخ الإسلام وهو قول جمهور علماء أهل السنة.
3 - جمهور العلماء من أهل السنة على أن الكفار لا يرون الله يوم القيامة في عرصاتها، وإنما يراه المؤمنون خاصة، واستدلوا بقوله -تعالى-: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فالآية عامة، وذهب بعض العلماء إلى أن الكفار يرون الله في عرصات القيامة ثم يحتجب عنهم، واستدلوا بأحاديث في الصحيحين وغيرهما، وأجابوا عن الآية بأن الحجب بعد المحاسبة، والصواب ما ذهب إليه الجمهور، وقيل: يراه المنافقون خاصة من بين الكفار لظاهر الأحاديث.
4 - جمهور العلماء من أهل السنة على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ير ربه بعين رأسه ليلة المعراج، وإنما رآه بقلبه؛ واستدلوا بحديث أبي ذر عند مسلم رأيت نورا، نور أنى أراه وحديث أبي موسى عند مسلم حجابه النور وحديث عائشة من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب وذهب بعض العلماء إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى ربه بعين رأسه ليلة المعراج وإلى هذا ذهب ابن خزيمة في كتاب التوحيد، وأبو إسماعيل الهروي في كتاب الأربعين له، والنووي في شرح صحيح مسلم وأبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات والإبانة، والقرطبي والقاضي أبو يعلى في إبطال التأويلات.
واستدلوا بما ثبت عن ابن عباس -رضى الله عنهما- أنه قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى ربه ليلة المعراج وبما ثبت عن الإمام أحمد أنه سئل هل رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه ليلة المعراج؟ فقال: نعم رآه. والصواب ما عليه الجمهور من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ير ربه بعين رأسه وإنما رآه بقلبه، وجمع شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بين حديث عائشة وحديث ابن عباس ؛ بأن حديث عائشة في نفي الرؤية محمول على رؤية العين، وحديث ابن عباس في إثبات الرؤية محمول على رؤية القلب، وكذا ما روي عن الإمام أحمد يجمع بينهما بذلك، وبذلك تجتمع الأدلة، وهذا هو الحق.
5 - رؤية الرب في المنام حق، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى ونقض التأسيس وغيرها، لكن على وجه لا يكون فيه تشبيه؛ كأن يرى نورا أو يسمع كلاما؛ كأن يقول: أنا ربك، أنا الله، أو يرى ربه في المنام على صورة حسنة أو غير ذلك على حسب عمله، فإن كان عمله صالحا حسنا رأى ربه في صورة حسنة، وإن كان عمله غير ذلك رأى ربه كذلك، ولا يلزم من هذه الرؤية أن يكون الرب مثل ما رآه؛ لأن هذه الرؤية من ضرب الملك الأمثال، أما رؤية الأنبياء فهي حق وهى وحي، قال الله -تعالى- عن الخليل إبراهيم -عليه السلام-: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ الآية، ثم قال بعد ذلك: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا .
قال شيخ الإسلام في النقض: "فالإنسان قد يرى ربه في المنام ويخاطبه، فهذا حق في الرؤيا، ولا يجوز أن يعتقد في نفسه أن الله مثل ما رأى في المنام، فإن سائر ما يرى في المنام لا يجب أن يكون مماثلا، ولكن لا بد أن يكون الصورة التي رآها فيها مناسبة ومشابهة لاعتقاده في ربه؛ فإن كان إيمانه واعتقاده حقا أتي من الصور وسمع من الكلام ما يناسب ذلك، وإلا كان بالعكس..."، إلى قوله: وهذه مسألة معروفة وقد ذكرها العلماء من أصحابنا وغيرهم في أصول الدين، والنقل بذلك متواتر عمن رأى ربه في المنام، وحكوا عن طائفة من المعتزلة وغيرهم إنكار رؤية الله، فهذا مما يقوله المتجهمة وهو باطل، مخالف لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، بل ولما اتفق عليه عامة عقلاء بني آدم .
وليس في رؤية الله في المنام نقص ولا عيب يتعلق به -سبحانه وتعالى- وإنما ذلك بحسب حال الرائي وصحة إيمانه وفساده، واستقامة حاله وانحرافه، وقول من يقول: ما خطر في البال أو دار في الخيال فالله بخلافه ونحو ذلك، إذا حمل على مثل هذا كان محملا صحيحا، فلا نعتقد أن ما تخيله الإنسان في منامه أو يقظته من الصور أن الله في نفسه مثل ذلك، فإنه ليس هو في نفسه مثل ذلك، بل نفس الجن والملائكة لا يتصورها الإنسان ويتخيلها على حقيقتها، بل هي على خلاف ما يتخيله ويتصوره في منامه ويقظته، وإن كان ما رآه مناسبا مشابها لها، فالله -تعالى- أجل وأعظم.
حديث ابن عباس رأيت ربي في صورة حسنة، فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؛ هذه رؤيا منام وهى رؤيا حق، كما قال شيخ الإسلام والحديث له طريقان مختلفان ليس فيهما متهم بالكذب، فيكون حسنا لغيره على قاعدة الترمذي وأقل أحواله أن يكون بهذه المنزلة، وإلا فالحديث مما يوجب العلم بثبوته أي اليقين، وأما حديث: رأيت ربي في صورة شاب موقر، جعد قطط، عليه نعلان، رجلاه في خضرة فهو حديث ثابت، وهذه رؤيا منام وهى حق.
قال شيخ الإسلام قال -رحمه الله-: قلت: وهذا المعنى الذي ذكره الأشعري من أن الموجود يقدر الله على أن يريناه، وأن المعدوم هو الذي لا يجوز رؤيته، فنفي الرؤية يستلزم نفي الموجود؛ هو مأخوذ من كلام السلف والأئمة كما ذكر حنبل عن الإمام أحمد ورواه الخلال عنه في كتاب السنة: قال القوم يرجعون إلى التعطيل في كونهم ينكرون الرؤية؛ وذلك أن الله على كل شيء قدير، وهذا الفظ عام لا تخصيص فيه، فأما الممتنع لذاته فليس بشيء باتفاق العقلاء، وذلك أنه متناقض لا يعقل وجوده، فلا يدخل في مسمى الشيء حتى يكون داخلا في العموم، مثل أن يقول القائل: هل يقدر أن يعدم نفسه، أو يخلق مثله، فإن القدرة تستلزم وجود القادر، وعدمه ينافي وجوده، فكأنه قيل هل يكون موجودا معدوما، وهذا متناقض في نفسه لا حقيقة له، وليس بشيء أصلا، وكذلك وجود مثله يستلزم أن يكون الشيء موجودا معدوما؛ فإن مثل الشيء ما يسد مسده ويقوم مقامه، فيجب أن يكون الشيء موجودا معدوما، قبل وجوده مفتقرا مربوبا، فإذا قدر أنه مثل الخالق -تعالى- لزم أن يكون واجبا قديما لم يزل موجودا غنيا ربا، ويكون الخالق فقيرا ممكنا معدوما مفتقرا مربوبا، فيكون الشيء الواحد قديما محدثا، فقيرا مستغنيا، واجبا ممكنا، موجودا معدوما، ربا مربوبا، وهذا متناقض لا حقيقة له وليس شيئا أصلا، فلا يدخل في العموم، وأمثال ذلك. اهـ-
6 - الله -تعالى- لا يدركه أحد من خلقه قال -تعالى-: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ لكنه سبحانه يدرك نفسه.
هذه الفوائد من كتاب العلامة الشيخ عبد العزيز الراجحي حفظه الله تقييد الشوارد