من طرف أبوعبدالملك النوبي الأثري 19.02.09 17:06
تقول نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان رضي الله عنه:"إن عثمان أغفى فلما استيقظ قال:"إن القوم يقتلوني!"، قلت: كلا يا أمير المؤمنين، قال:"إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر فقالوا: صُمْ يا عثمان فإنك تفطر عندنا"، فأصبح رضي الله عنه صائماً، وكان الماء لا يصل إليه إلا في الليل خفية من دار إلى دار، ثم دعى بسراويل فشدها، وإنما لبسها رضي الله عنه في هذا اليوم؛ لأن لا تبدو عورته إذا قُتل، فإنه كان شديد الحياء، ووضع بين يديه المصحف يتلو فيه، واستسلم لقضاء الله، وكفَّ يده عن القتال، ولم يغب عنه قوله صلى الله عليه وسلم: «بشِّره بالجنة على بلوى تصيبه» وأنه تقع فتنة يقتل فيها مظلوماً رضي الله عنه.
ولم يبق عنده أحد سوى أهله، وعند ذلك أظهر المفتونون ما يريدونه من الشر بأمير المؤمنين، فتسوروا عليه الجدار، وأحرقوا الباب، ودخلوا عليه وليس فيهم بحمد الله أحد من الصحابة، ولا أبنائهم إلا محمد بن أبي بكر؛ فإنه دخل معهم دار عثمان، لكنه استحى ورجع، وذلك أنه أخذ بلحية عثمان فقال له عثمان:"يا بُني لقد أخذت بلحية كان أبوك يكرمها" فرجع محمد ودافع عن عثمان فلم يقدر، (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً) (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً) فدخل عليه رجل فخنقه خنقاً شديداً وجعلت نفسه تترد في حلقه.
وكان رضي الله عنه شيخاً كبيراً قد جاوز عمره الثمانين، فلم يرحموا شيبته وضعفه، ولم يعظِّموا حُرمة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأيُّ إصلاح وإنكار للمنكر يرجى من ورائهم؟! ثم دخل عليه رجل آخر ومعه سيف فضربه به، فاتِّـقاه عثمان بيده فقطعها، فقال عثمان:"والله إنها لأول يد كتبت سور المفصَّل".
قال ابن كثير:"وثبت من غير وجه أن أول قطرة من دمه سقطت على قوله تعالى : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيْمُ)، وكان يروى أنه قد وصل إليها في التلاوة أيضاً حين دخلوا عليه، ثم أقبل عليه رومان بن سودان فقال: على أي ملة أنت يا نعثل ؟! فقال عثمان:"لستُ بنعثل! ولكني عثمان بن عفان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا على ملة ابراهيم حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين"، فقال الفاجر: كذبت، وضربه على رأسه، فخر رضي الله عنه، فوثب عليه عمرو بن الحمر فجلس على صدره وبه رمق، فطعنه تسع طعنات، وقال: أما ثلاثٌ منهن فالله! وستٌّ لما كان في صدري عليك يا عثمان!. ففاضت روحه رضي الله عنه وأرضاه.
وكانت زوجته نائلة بنت الفرافصة قد ألقت نفسها عليه؛ تقيه من ضرب السيوف، وألقت أم البنين زوجته الثانية على ما بقي من جسده، فأدخل أحدهم السيف بين قرط نائلة ومنكبها؛ ليضرب به عثمان، فقبضت نائلة على السيف، فقطع أصابعها! فإن لله وإنا إليه راجعون.
ثم مال هؤلاء الفجرة على مافي بيت عثمان فنهبوه، حتى أخذوا عبائة نائلة زوج عثمان، ولم يبقوا شيئاً حتى الأقداح!؛ وذلك أنه نادى مناديهم: أيحلُّ لنا دمه ولا يحل لنا ماله ؟! فانتهبوا الدار.
ثم تنادى هؤلاء الظلمة : هلمَّ إلى بيت المال، لا تسبقوا إليه! فسمع ذلك حراس بيت المال، فهربوا وهم يقولون: النجاة، النجاة، فإن هؤلاء لم يَصدقوا فيما قالوا من أن قصدهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحق؛ وإنما قصدهم الدنيا، قال الحافظ ابن كثير:"فجاء الخوارج؛ فأخذوا مال بيت المال، وكان فيه شيء كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون".
وفي سنن الترمذي عن أمامة بن حزم قال:"شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان، فقال:"ائتوني بصاحبكم الذي ألباكم عليّ "، قال فجيء بهما كأنهما جملان أو كأنهما حماران، قال: فأشرف عليهم عثمان فقال: (أنشدكم بالله والإسلام: هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يشتري بئر رومه ويجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة» فاشتريتها من صلب مالي، فأنتم اليوم تمنعوني حتى أشرب من ماء البحر) قالوا: اللهم نعم. قال: (أنشدكم بالله والإسلام: هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير منها في الجنة» فاشتريتها من صلب مالي فأنتم اليوم تمنعوني أن أصلي فيها ركعتين) قالوا: اللهم نعم، قال: (أنشدكم بالله والإسلام: هل تعلمون أني جهزت جيش العسرة من مالي؟) قالوا: اللهم نعم، ثم قال رضي الله عنه: (أنشدكم بالله والإسلام: هل تعلمون أن رسول الله كان على سبيل مكة ومعه أبو بكر وعمر وأنا، فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض، قال فركضه رسول الله صلى الله عليه وسلم برجله وقال: «اسكن ثبير، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان» قالوا: اللهم نعم، قال عثمان: (الله أكبر: شهدوا لي ورب الكعبة أني شهيد، شهدوا لي ورب الكعبة أني شهيد.).
عثمان رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بألف دينار في كُمِّه حين جهز جيش العُسرة؛ فنشرها في حجره فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم». خرجه الترمذي.
قتلوا عثمان الذي تخلف عن غزوة بدر؛ لأنه كان يُمرِّض بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت زوجته، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لك أجر رجل شهد بدر وسهمه».
عثمان الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول إلى قريش يوم الحديبية، فأُشيع أنه قتل فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبايع أصحابه بيعة الرضوان على قتال قريش، وقال بيده اليمنى: «هذه يد عثمان» وضرب بها على يده، وقال: «هذه لعثمان».
عثمان الذي بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة على بلوى تصيبه، قتلوا عثمان ولي أمرهم مع ماله من الفضائل والمناقب العظيمة، فمن يرضيهم بعد ذلك من ولاة الأمر ؟!
يقول الحافظ بن كثير:" لما وقع هذا الأمر العظيم الفظيع الشنيع أُسقط فى أيدي الناس، فاعظمه جداً، وندم أكثر هؤلاء الجهلة الخوارج على ما صنعوا، وشابه من تقدمهم ممن قص الله خبرهم في كتابه العزيز من الذين عبدوا العجل في قوله عز وجل ( فلمَّا سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لإن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ).
ولما بلغ الزبير مقتل عثمان قال:"إنا لله وإن إليه راجعون"، وبلغه أن الذين قتلوه ندموا فقال:" تبت لهم، ثم تلا قوله عز وجل: (مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ).
لما بلغ سعد بن أبي وقاص قتل عثمان : استغفر له وترحَّم عليه، وتلا في حق الذين قتلوه: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) ثم قال سعد رضي الله عنه:" اللهم أندمهم ثم خذهم، اللهم أندمهم ثم خذهم".
وقد أقسم بعض السلف بالله عز وجل: أنه ما مات أحد من قتلة عثمان إلا مقتولا. رواه ابن جرير.
قال الحافظ ابن كثير:"وهذا ينبغي أن يكون لوجوه، منها: دعوة سعد المستجابة، كما ثبت في الحديث الصحيح، وقال بعضهم: ما مات أحد منهم حتى جن، قال - رحمه الله-: لا يصح على أحد من الصحابة أنه رضي بقتل عثمان، بل كلهم كره ومقته، وسبَّ من فعله".
روى البخاري في تاريخه عن محمد بن سيرين أنه قال:" كنتُ أطوف بالكعبة، وإذ رجل يقول: اللهم
اغفر لي وما أظن أن تغفر لي! فقلت: يا عبد الله، ما سمعتُ بأحد يقول ما تقول.
قال: كنتُ أعطيتُ الله عهداً؛ إن قدرت أن ألطم وجه عثمان إلا لطمته! فلما قُتل وضِعَ على سريره في البيت، والناس يجيؤون فيصلُّون عليه، فدخلتُ كأني أُصلي عليه، فوجدتُ خَلوة، فرفعت الثوب عن وجهه فلطمته وسجيته (أي: غطيته) قال الرجل: والله ما هو إلا أن لطمته، فإذا بيميني قد شلَّها الجبار جلَّ جلاله، قال ابن سيرين رحمه الله: فرأيتها يابسة كأنها عود".
قال حذيفة رضي الله عنه :" أول الفتن: قتل عثمان، وآخر الفتن الدجال".
يقول الحافظ ابن كثير:" ثبت عن عليٍّ من غير وجه في عثمان كان من الذين (آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ).
وقال: كان عثمان خيرنا، وأوصلنا للرحم، وأشدنا حياء، وأحسننا طهوراً، وأتقانا للرب عز و جل".
لما بلغ عبد الله بن سلام قتل عثمان قال:" والله ليُـقتَلنَّ به أقوامٌ إنهم لفي أصلاب آبائهم ما وُلدوا بعد، وقال رضي الله عنه: يُحكَّم عثمان يوم القيامة فيمن قتله وفيمن خذله ".
قال الحسن البصري:" أدركت عثمان على ما نقموا عليه، قلَّ ما يأتي على الناس يوم إلا ويقتسمون فيه خيراً، يقال لهم: يا معشر المسلمين اغدوا على أُعطياتكم، فيأخذونها وافرة، ثم يقال: اغدوا على أرزاقكم، فيأخذونها وافرة، ثم يقال: اغدوا على السمن والعسل، الأعطيات جارية والأرزاق دارَّة، والعدو مُتـَّقى، وذات البين حسن، والخير كثير، وما مؤمن يخاف مؤمناً، من لقي أخوه فهو أخوه، من كان قد عهد إليهم أنها ستكون أثرة، فإذا كانت فاصبروا".
قال الحسن:" فلو أنهم صبروا حين رأوها لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والرزق والخير الكثير، ولكنهم قالوا: لا والله ما نصابرها، فوالله ما ردوا وما سلموا, والأخرى كان السيف مغمداً عن أهل الإسلام فسلوه على أنفسهم، فو الله مازال مسلولاً إلى يوم الناس هذا، ووالله إني لأُراه سيفاً مسلولاً إلى يوم القيمة".
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"فلما قُتل عثمان: تفرقت القلوب، وعظُمت الكروب، وظهر الأشرار وذلَّ الأخيار، وسعى في الفتنة من كان عاجزاً عنها، وعجز عن الخير والصلاح من كان يحب إقامته".