من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 10.01.09 17:10
إليكم هذا البحث فلعل فيه ما يغني الموضوع وهو منشور على موقع مجلة العصر :
عقوبة الردة بين 'الفكرية' و'العسكرية'..
مناقشة مع الأستاذ الشنقيطي
24-2-2007
محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي
أقتنع بمرافعة الأستاذ الشنقيطي ودونت عنها بعض الملاحظات، لكني لم أفكر حينها في نشرها بسبب ما أُكنُّ للأستاذ من التقدير، غير أني بعد فترة لاحظت في بعض أوساط الشباب من طلاب العلم تأثراً بتلك الأفكار، بحيث جعلهم ذلك يشكّون في كل ما كان من المسلمات بحجة " تراكم الجهل وطول العهد وانبتات الأمة عن تراثها الزاخر"، على حد تعبير الأستاذ الشنقيطي،
عندما أعلن الدكتور حسن الترابي قبل مدة عن بعض الآراء الشاذة، ومنها إنكار عقوبة الردة أو ـ بعبارة منتقديه ـ إباحةُ الردة، تابعت القضية باهتمام، ولكنه لم يقدر لي أن أطلع على نص المحاضرة، إلا أني اطلعت على الدراسة التي كتبها الأستاذ الفاضل محمد بن المختار الشنقيطي فدافع فيها عن الترابي شخصيا ودافع عن بعض آرائه الشاذة تلك، وللأستاذ الشنقيطي في كتاباته أسلوبٌ علمي رصين وأدب رفيع يفرضان على القارئ احترامه وإن لم يقتنع برأيه، وقد كنتُ ذلك القارئَ فيما يتعلق بتلك الدراسة خصوصا أو بأكثر ما فيها على الأقل.
لم أقتنع بمرافعة الأستاذ الشنقيطي ودونت عنها بعض الملاحظات، لكني لم أفكر حينها في نشرها بسبب ما أُكنُّ للأستاذ من التقدير، غير أني بعد فترة لاحظت في بعض أوساط الشباب من طلاب العلم تأثراً بتلك الأفكار، بحيث جعلهم ذلك يشكّون في كل ما كان من المسلمات، بحجة " تراكم الجهل وطول العهد وانبتات الأمة عن تراثها الزاخر"، على حد تعبير الأستاذ الشنقيطي، والشك مقبول مبدئياًّ لو أن صاحبه بحث المسألة علميا دون حكم مسبق.
لذلك قررت أن أقدم هذه الورقة حول إحدى أهم تلك القضايا وأخطرها؛ قضية الردة وعقوبة المرتد، هل هي دنيوية أم أخروية؟ عامة أم خاصة؟ قتل أم سواه؟؟ على أن أتناول القضايا الأخرى لاحقا إذا يسر الله، وبين يدي المناقشة أقدم ملاحظتين :
أما أولاهما، فهي أني لن أضيع وقتا في محاولة اتهام الترابي بإباحة الردة وتسوية الإسلام بالكفر، فالله حسيبه وهو أعلم به، إلا أني أيضا لا أبرّئه من تهمة التهوين من أمر الردة عن الإسلام ما دام هو الذي يقول: "ويخلِّي الشرعُ للإنسان أن يصرف رأيه تثبتا أو تعديلا أو تبديلا، ولو كان في أصل مذهبه مؤمنا، قد يؤاخَذ على ذلك غيباً في الآخرة، ولكن لا يؤذيه أحد في الدنيا بأمر السلطان" ([1])، وما من وجه — إطلاقا — لتشبيه هذا الكلام بقول الله تعالى " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر "([2]) كما جنح إلى ذلك الأستاذ الشنقيطي، ذلك أن الله تعالى يُتْبع هذا بالوعيد الشديد والتهديد لمن اختار الكفر: "إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا " ([3]).
أما الترابي، فلا يريد أن يؤذي مشاعر الكفرة المرتدين فلا يجزم بشيء، وإنما " قد يؤاخذ " وكفى، ثم " لا يؤذيه أحدٌ في الدنيا "، وسوف ترى في ما يستقبل من هذا البحث أنه لم يخالف أحدٌ من المسلمين في وجوب معاقبة المرتد وإيذائه، ثم إن الآية في الكفار بالأصالة كما لا يخفى من السياق قبلها، أما كلام الترابي فيـُدرج في كلامه الكافر بعد إيمان [ أي المرتد ] : "ولو كان في أصل مذهبه مؤمنا"، فالذي يدعي أن الترابي بهذا يبيح الردة ليس كالذي يدعي أن القرآن يبيح الردة ولا وجه للمقارنة. وعلى كلّ فإثبات التهمة في حق الترابي أو تبرئتُه منها لا يغير في نتيجة البحث وقد كثر القائلون بقوله في هذه الأيام.
الملاحظة الثانية: أن الاحتجاج بالعقوبة الأخروية وكونها "أغلظ من أي عقوبة دنيوية يتخيلها البشر" أمرٌ خارجٌ عن محل النزاع — رغم أن الترابي لا يجزم بالعقوبة كما أشرت سابقا — وإنما كل ما في الأمر هو هل أمر الشارع جل جلاله بمعاقبة من يبدل دينه في الدنيا؟ فإذا ثبت ذلك أو ثبت خلافه فهو لا يغير من حكم الآخرة شيئا، وإذا كان وجود العقوبة الأخروية يسقط العقوبات الدنيوية، فما أسعد المجرمين في الدنيا، وإذا كان لا بد من الحديث عن العقوبة الأخروية وحدها فذلك ممكنٌ في من أسرَّ كفره ولم نطلع عليه، تماماً كمن أسر شرب الخمر فلا نهتك ستره.
والآن ندخل في صلب الموضوع، فنقول:
لقد ثبت في الأحاديث الصحيحة الصريحة المرفوعة وجوبُ قتل المرتد، وأشهرُها حديثان : أحدهما عن ابن عباس رضي الله عنهما: "من بدل دينه فاقتلوه" رواه البخاري([4]) وأصحابُ السنن وغيرهم، والثاني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاثٍ ؛ النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة " متفق عليه([5]) ورواه أيضا أصحاب السنن.
والحديث الأول نص صريحٌ قطعي الدلالة لا يحتمل التأويل وليس من باب "الظاهر" فقط، وليس ظني الدلالة فقط وإن كان ظني الورود، والعلماءُ الذين تناولوه لم يعترضوا عليه ولم يلاحظوا فيه إشكالا ولا تعارضا مع الآية الكريمة " لا إكراه في الدين "([6])، ومن لاحظ منهم ذلك كابن حزم فإنه اعتبر الحديث مخصّصا للآية فقال في الإحكام : " وقوله تعالى: (لا إكراه في الدين) مخصوصٌ بالنصوص الثابتة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكره غيرَ أهل الكتاب على الإسلام أو السيف، وأيضا فإن الأمة كلها مجمعة على إكراه المرتد على الإسلام" ([7])، ولنا عود إلى الآية بعد قليل.
والحديث الثاني أيضا صريحٌ في المسألة وإن كان البعض قد حاول أن يتخذ من قوله " التارك للجماعة " دليلا على "الردة العسكرية" فهو أمر لم يقل به أحد من العلماء، بل إن ابن حجر أورد الحديث بروايات أُخَر تفسر هذه العبارة بما يزيح الإشكال فقال: " فهي صفة للتارك أو المفارق لا صفة مستقلّة وإلا لكانت الخصال أربعا، وهو كقوله قبل ذلك " مسلم يشهد أن لا إله إلا الله " فإنها صفة مفسّرة لقوله " مسلم"، وليست قيدا فيه إذ لا يكون مسلما إلا بذلك . ويؤيد ما قلته أنه وقع في حديث عثمان: "أو يكفر بعد إسلامه"، أخرجه النَّسائيّ بسندٍ صحيح، وفي لفظ له صحيح أيضا: "ارتد بعد إسلامه"، وله من طريق عمرو بن غالب عن عائشة: " أو كفر بعد ما أسلم "، وفي حديث ابن عباس عند النَّسائي " مرتد بعد إيمان "([8]).
إذن فمفارقة الجماعة لا مفهوم لها هنا، بل إن الخروج على الجماعة بالسلاح يحل دمُ مرتكبه ولو لم يرتد عن دينه فلا تلازم بين الأمرين قال الإمام النووي في شرحه للحديث : " وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم : ( والتارك لدينه المفارق للجماعة ) فهو عامٌّ في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت، فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام"([9])، وقال الإمام ابن دقيق العيد : الردة سببٌ لإباحة دم المسلم بالإجماع في الرجل، وأما المرأة ففيها خلاف " ([1])، ويقول الإمام ابن المنذر : "وأجمع أهل العلم بأن العبد إذا ارتد، فاستُتِيبَ، فلم يَتُب: قتل؛ ولا أحفظ فيه خلافًا.وأجمعوا على أن على من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم القتل (... ) وأجمع أهل العلم أن شهادة شاهدين يجب قبولهما على الارتداد، ويقتل المرء بشهادتِهما إن لم يرجع إلى الإسلام، وانفرد الحسن، فقال: لا يقبل في القتل إلا شهادة أربعة"([11]).
ولعل هذا القدر يكفي في تقرير معنى الحديثين وقول العلماء فيهما فليس ثمة من يخالف في ذلك بل إن الأستاذ الشنقيطي يعتبر القول بالحد هو "النظرة الفقهية السائدة" بين العلماء وإن غمز من قناتها. ولكن الذي ينبغي التركيز عليه هنا ما يستدل به المنكرون لعقوبة الردة من آي وآثار، نجملها في أربعة مسائل:
أولا : ظواهر الآيات الكريمة المحكمة
لقد وردت آيات كريمة يفهم منها النهي عن الإكراه في الدين، ومنها قوله تعالى: ( لا إكراه في الدين )، وقوله تعالى: ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) ([12])، فبالنسبة للآية الأولى أود التنبيه ابتداءً إلى أن إطلاق القول بإحكامها إطلاقٌ غير علمي، فبعض العلماء عدها من المنسوخ بآية السيف كما تجد في كثير من التفاسير، على أن القائلين بالإحكام — وهم الجمهور — جعلوها خاصةً في أهل الكتاب
قال الإمام ابن عطية : "وقال قتادة والضحاك بن مزاحم : هذه الآية محكمة خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية ويؤدونها عن يد صغرة، قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل العرب أهل الأوثان لا يقبل منهم إلا (لا إله إلا الله) أو السيف، ثم أمر فيمن سواهم أن يقبل الجزية، ونزلت فيهم : {لا إكراه في الدين}"([13])
قلت : ورجَّح هذا القولَ إمام المفسرين الطبريُّ قائلا : " وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآية في خاصّ من الناس وقال: عنى بقوله تعالى ذكره : "لا إكراه في الدين" أهلَ الكتابين والمجوس وكل من جاء إقرارُه على دينه المخالف دينَ الحق، وأخذُ الجزية منه "([14]) هذا رأي هؤلاء الأعلام أئمة التفسير الذين لا يجوز اتهامهم بالتكلف البارد .
فالآية بكل تأكيد لا تتناول إلا الإكراه على الدين ابتداءً، ولو قلنا إنها على إطلاقها فإننا بدون وعي نقدم أكبر هدية للمتفلتين من الدين بحجة عدم الإكراه فالحجاب لمن شاءت ولا إكراه فيه، والصلاة لمن شاء ولا إكراه فيها، والحبل على الغارب.
أما الآية الثانية فلا يخفى على من له تمرس بأساليب اللغة العربية أنها نوعٌ من التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن ما يلحقه من الحزن والأسى على إصرار الكفار على ما فيه هلاكهم، " قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على إيمان جميع الناس، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبقت له السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول"([15])
ويقول الإمام ابن عاشور : " فنـزّل [ الله تعالى ] النبيَّ صلى الله عليه وسلم - لحرصه على إيمان أهل مكة وحثيث سعيه لذلك بكل وسيلة صالحة - منزلةَ من يحاول إكراههم على الإيمان حتى ترتب على ذلك التنزيل إنكارُه عليه "([16]) .