التزام قول (صدق الله العظيم) بعد التلاوة بدعة !!!
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده اللهُ فلا مُضِل الله، ومَن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسولُه، (صلى الله عليه وآله وسلم) ...
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده اللهُ فلا مُضِل الله، ومَن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسولُه، (صلى الله عليه وآله وسلم) ...
أما بعدُ ...
فإنَّ أصدق الحديثِ كتابُ اللهِ تعالَى، وأحسنَ الهَدْي هَديُ مُحمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها وكُلَّ مُحدثَةٍ بِدْعَة، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضلالة، وكُلَّ ضلالةٍ في النار ...
فمن الأمور المُحدَثَة التي انتشرت انتشارًا هائلا في هذا العَصر؛ بحيثُ لا تكاد تَجِدُ قارِئًا للقُرآن مُعرِضًا عَنها؛ هي التزامُ قولِ (صدق اللهُ العَظيم) بعد الفراغ مِن تلاوة القرآن الكريم.
فاعْلَم –أخي- أنَّ التزامَ قولِ (صدق اللهُ العَظيم) بعد الفراغ مِن تلاوة القرآن الكريم بِدْعَة، وكل بِدْعَة ضلالة، وكل ضلالةٍ في النَّار؛ فهي لم تَرِد –فَضلا عَن أن تَثبت- قَطُّ عَن النَّبي (صلى الله عليه وسلم) "قولا أو تَقريرًا" ولا عَن أحَدٍ مِن أصحابِه ولا عَن أحد التَّابِعين، ولا أظُنُّ أنَّها كانت مَعروفةً قَبل مائتي عام، هذا على أقصَى تَقْدير؛ وإلا فغالِبُ ظَنِّي أنَّها لم تَكن مَعروفَةً قبل مائة عام، واللهْ أعْلَم. عمومًا تاريخ تَلَفُّظ النَّاس بها بعد التلاوة يحتاج إلى تَحرير؛ لتعرِفَ صِدق ما أقول!
وعليه؛
فهل غابَتَ هذه الجُملَة عَن العُصور الثلاثة المُفَضَّلة الأولى المَشهود لها بالخَيرية، وعَن العُصور التي تَلَتها بما فيهم عَصر الأئمة الأربعة، وعن القُرون التالية لها حتى عَهدٍ قَريب، حتى عَرَفها أهلُ زمانِنِا، فأتَوا بما لم تأتِ به الأوائِلُ!
وواللهِ لو كان التَّلفُّظ بهذه الجُملَة خيرًا لسبقونا إليه، عليهم رَحمَةُ اللهِ –تَبارَك وتعالى.
وقد أمرَنَا اللهُ –سُبحانَه وتعالى- باتباعِه واتباعِ نَبيِّه (صلى الله عليه وسلم) في غَير آية مِن آياتِ القُرآن الكَريم؛
فقال –تعالى- (مَن يُطِع الرَّسولَ فقد أطاعَ الله)
[النِّساء: 80]،
وقال (وما آتاكُم الرَّسولُ فَخُذوه وما نهاكُم عَنه فانتَهوا)
[الحَشر: 7]،
وقال (يا أيُّها الذين آمَنوا لا تُقَدِّموا بَينَ يَدَي اللهِ ورَسولِه)
[الحُجُرات: 1]،
وقال (وما تَنَازَعتُم في شَيء فَرُدُّوه إلى اللهِ والرَّسول)
[النِّساء: 59]،
وقال (فلا وَرَبِك لا يؤمِنون حتَّى يُحَكِّموك فيما شَجَرَ بَينَهم ثم لا يَجدِوا في أنفُسِهم حَرَجًا مِمَّا قَضَيتَ ويُسَلِّموا تَسليمًا)
[النِّساء: 65]،
وقال (قُل إن كُنتم تُحِبُّون اللهَ فاتَّبِعوني يُحْبِبْكُم اللهُ ويَغفِر لَكُم ذُنُوبَكم)
[آل عِمران: 31].
وبَيَّن الحَقُّ –عَزَّ وجَل- في كِتابِه أنَّ الدِّين كَمُل بوفاةِ النَّبي (صلى الله عليه وسلم)؛ فقال –تعالى- على لِسان نَبيِّه (صلى الله عليه وسلم): (اليومَ أكمَلتُ لَكمُ دينَكم وأتمَمتُ عَلَيكم نِعمَتي ورَضيتُ لكم الإسلامَ دينًا) [المائدة: 3].
وقال النَّبيُ (صلى الله عليه وسلم): "مَن أحدَثَ في أمرِنا هذا ما ليسَ مِنه فهو رَدٌ" [متفق عليه]، وفي رواية: "مَن عَمِلَ عَمَلا ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌ" [رواه مُسلِم]، وقال: "إيَّاكم ومُحدَثاتُ الأمور؛ فإنَّ كل مُحدَثَة بِدْعَة، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضلالة" [رواه أحمَد، وهو في صَحيح الجامِع]، وقال: "وكُل ضلالةٍ في النار" [رواه النَّسائي، وهو في صَحيح الجامِع].
فالأصل في العِبادات التَّحريم إلا إذا دَلَّ النَّصُ على خِلاف ذَلِك، بِعَكس العادات؛ فتنَبَّه!
ولو كانَ هذا القَولُ مَشروعًا لَبَيَّنه النَّبيُ (صلى الله عليه وسلم) لأمَّتِه؛ بل ثَبَت عَن النَّبي (صلى الله عليه وسلم) أنَّه قال لعَبد الله بن مَسعود (رَضي الله عَنه): "اقْرأ عَليَّ القُرآن"، فقال: يا رَسولَ الله أقرأ عَليَك وعَلَيك أنزِل؟! قال: "إنِّي أحِبُّ أن أسمَعَه مِن غَيري"، فقرأتُ عليه سُورَة النِّساء. حتَى جِئتُ إلى هذه الآية: (فكيف إذا جِئنا مِن كُلِّ أمَّة بِشَهيدٍ وجِئنَا بِكَ على هؤلاءِ شَهيدًا) [الآية: 41]. قال: "حَسبُك الآن"، فالتَفَتَ إليه فإذا عَيناه تَذرِفان. [مُتفق عَليه]، وفي رواية للبخاري [ح 5050، 4582 - «فتح»] قال رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم): "أمسِك".
ومِن القواعِد الأصولية أنَّه "لا يجوز تأخير البَيان عَن وَقت الحاجَة"؛ فلو كان قول (صَدق اللهُ العَظيم) مَشروعًا لَنَبَّه النَّبيُ (صلى الله عليه وسلم) عَبدَ الله بنَ مسعود –رَضي الله عَنه- عَلَيه ودَلَّه عليه وأمرَه بأن يقولَه؛ فلما لم يُبَيِّن النَّبيُ (صلى الله عليه وسلم) مَشروعية ذلك دَلَّ على أنَّه لا يُشرَع؛ و"تَرك البَيان في وَقت الحاجَة بَيانٌ" –كما تُقَرِّرُ القاعِدَة الأصولية.
بل قال (صلى الله عليه وسلم) بعد الفراغ مِن التلاوة: "حَسبُك الآن"؛ مِمَّا يَدُل دلالةً واضِحَةً أنَّها هذا القولَ لا يَشرُع، بل المَشروع بعد الفراغ مِن التلاوة هو السُّكوت أو الكلام المُباح أو مُباشرة العَمل أو خِلافُه مِمَّا هو مُباحٌ في أصلِه، ولا نَقولُ: كيف نَخلِط بين القُرآن وكلام البَشَر دون فاصِل! نقول: نحن أمِرنا بالاتباع لا الابتداع، ومَصدر الدِّين النَّقل لا العَقل، والدِّينُ لا يؤخَذ بالرأي، و"لو كان الدِّينُ بالرأي لكان أسفل الخُف أولى بالمَسح مِن أعلاه"؛ كما ثَبَتَ عَن (علىُّ بن أبي طالِب) –رَضي الله عَنه- [رواه أبو داود].
بل قد ثَبَت –والحمدُ لله- في السُّنَة القولية ما يَدُل على أنَّ النَّبيَ (صلى الله عليه وسلم) لم يَفصِل بين القرآن الكَريم وكلامِه العادي بفاصِل؛
ففي "خُطبة الحاجَة" كان النَّبيُ (صلى الله عليه وسلم) يقرأ –أحيانًا- ثلاث آيات بعد الشهادَتَين؛ هم على التَّرتيب: الآية 102 مِن سورة "آل عِمران"، الآية 1 مِن سورة "النِّساء"، الآيتَين 70، 71 مِن سورة "الأحزاب"، ثم يقول بَعدَها -دون فاصل-: "أما بعد؛ فإنَّ أصدق الحَديث كِتابُ الله تعالى ..." [رواه مُسلِم والنَّسائي].
ومِن تناقُض الذين يَستَنكِرونَ عَدمَ فصل القُرآن والكلام العادي بِفاصِل (كَقول: صدق الله العَظيم)؛ أنَنَّا نقولُ لهم: أليس قول (صدق الله العظيم) كلام البشر؟!!
فكيف تَفصِلون بين القُرآن وكلام البَشَر بكلامٍ البَشَر ؟!!
وأقولُ لهم أيضًا:
لماذا اقتصرتُم على قول (صدق اللهُ العَظيم) دون غَيرِها ؟!! يَعني: لماذا لا تقولون –مَثلا- (صدق الرَّحمَنُ الرَّحيم) أو (صَدَقَ المَلِكُ الوهَّاب) ؟!!
ولماذا تَقتَصِرون –أصلا- على لفظة "صَدَق" دون غَيرِها ؟!!
لِمَ لا تقولون –مَثلا- (الحَقُّ ما قال الله) ؟!!
وإلى مَن لا يَقتَنِعون بقولِ اللهِ (تَبارَك وتعالى) وقولِ رَسولِه (صلى الله عليه وسلم)، ولا يَقتَنِعون إلا بالعَقل –زَعُموا؛ مع أنَّ العَقل السَّليم لا يُنافي الشَّرع الصَّريح ألبَتَة؛
أقول:
مِن المُقَرَّر عِند عُلماء اللغة العَرَبية والبَيان أنَّ الجُملَ نوعان:
1- جُمل خبرية (تقريرية):
وهي الجُمَل التي تَحتَمِل التَّصديق والتَّكذيب. كقولك: أحمد مُلتَزِم بهَدي النَّبي (صلى الله عليه وسلم)، أو جاء أحمَد، أو لم يُسافِر أحمد اليوم، أو يَتلو أحمد القرآنَ كلَ يوم. فهذه الجُمَل تَحتَمِل أن يُصَدَّق قائِلُها أو يُكَذَّب، فلو قال لك قائِلٌ: أحمد مُجتَهِد، تَستطيعُ أن تقولَ له: صَدقتَ أو كَذَبت، وهكذا في كل الجُمَل الخَبَريَّة؛ وضابِطُها ما قُلناه وهي كل جملة ليست إنشائية.
2- جُمَل إنشائية:
وهي الجُمَل التي لا تَحتَمِل التَّصديق أو التَّكذيب، وقد تكون جملةً طَلَبيَّة (أمر، نَهي) أو جملةً تَدُّل على الطَّلَب؛ كأن تُسبَق باستفهام أو تَمَني أو تَرَجِّي. كقولِك لأخيك: صَلِّ صلاة موَدِّع! أو لا تُقَلِّد المُشركين! أو هل رأيتَ مُحمَّدًا؟! أو لَيتَ المُسلِمين يَعودون إلى دينِهم! أو لَعَل اللهَ يُخرِج مِن أمَّتِنَا مَن يُعيدُ إليها مَجدَها!
فهذه الجُمَل السابِقَة لا تَحتَمِل مِن سامِعها أن يُصَدِّقَ قائِلَها أو يُكَذِّبُه؛ فلو قال لك قائِلٌ: صَلِّ، فلا يجوزُ أن تقولَ له: صَدَقتَ أو كَذَبتَ، وهكذا في كل الجُمَل الإنشائية.
إذا تَبَيَّن هذا؛ فالقُرآن الكَريم يَجمَع في سُوَرِه بين الجَملَ الخَبَرية والإنشائية، بل قَد تَجمَع الآية الواحِدَة النَّوعَين مَعًا، وهاكَ أمثِلَةً مِن كل نوع:
فَمِن أمثِلَة الجُمَل الخَبَرية؛
قولُه –تعالى-: (إنَّ اللهَ على كُلِّ شَئ قَديرٌ)
[البقرة: 20]،
(أولئك على هدي مِن رَبهم وأولئك هم المُفلِحون)
[البقرة: 5]،
(قَد أفلَح المؤمِنون)
[المؤمِنون: 1].
ومِن أمثِلَة الجُمَل الإنشائية؛
قولُه –تعالى-: (واتَّقُوا يومًا لا تَجزي نَفسٌ عَن نَفسٍ شَيئًا)
[البقرة: 48]،
(ولا تكونوا كالذين نَسُوا اللهَ فأنساهُم أنفسَهم)
[الحشر: 19]،
(أليس اللهُ بأحكِم الحاكِمين)
[التين: 8].
ومِن أمثِلَة الآيات التي جَمَعت بين الجُملَتَين مَعًا؛
قولُه –تعالى- (ألم تَعلم أنَّ اللهَ له مُلكُ السَّموات والأرض، وما لكم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَليٍّ ولا نَصير)
[البقرة: 107].
وقارئ القُرآن لا يخَلو –عِند فَراغِه مِن التلاوة- أن يَقِف على إحدى نَوعَي الجُمَل:
إمَّا أن يَقِفَ على جمُلَة خَبَرية أو إنشائية.
فهل –باللهِ- إن وَقَف على جُملَةٍ إنشائية يَليقُ به أن يقولَ (صَدَق الله العَظيم)، وهي –كما بَيَّنَّا- لا تَحتَمِلُ التَّصديق أو التَّكذيب؟!!
أفيجوزُ هذا العَبَثُ بِكتابِ الله –تبارك وتعالى- ؟!! وإن قال: أقولُها عِند رأس الجُمَل الخَبَرية فَقَط! نقولُ له: كَذَبت ورَبي؛ واقِعُك يُخالِفُ قولَك
ثُم مِن أين لك الدَّليل على التَّفريقِ بين النَّوعَين ؟!!
أتَضَعُ ضوابِطًا لبِدْعَة ابتدعتَها ما أنزَلَ اللهُ بِها مِن سُلطان ؟!! (تاللهِ إنَّ هذا لَشئٌ عجاب) [ص: 5].