قاعدة" مراعاة المآل والأحوال"
=======
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد:
فإنَّ من أهم ما يتعيّن على الفقيه المصلح ـ الداعية إلى منهج السلف ـ إدراكه وفهمه؛ قواعد الدين الكلية، ومقاصد التشريع العامة، التي يتوقف فهم الأحكام عليها
ويُحتاج في تنزيلها ـ الأحكام ـ على الوقائع إليها.
ومن ذلك
معرفة الفقيه بأحوال الناس وأعرافهم وعاداتهم وواقعهم.
وكم ممن تصدَّر للفتيا والتعليم أغفل هذا الباب، وأصدر أحكاماً مجرّدة، فوقع ـ وأوقع ـ بخلاف الحق في مسائل عديدة
وكان من أضرِّ الخلق على أديان الناس، وجنايته أعظم من جناية الطبيب الغافل على أبدانهم.
فليس من الفقه والبصيرة في الدين إجابة المستفتي بحكم شرعي ـ وإن كان حقاً ـ دون تقدير لمآل تلك الفتوى
وما يترتب عليها من المصالح والمفاسد.
وليس من الفقه والبصيرة في الدين إغفال ما يتعلق بمآلات الأفعال من قواعد؛ كقاعدة سد الذرائع، وإن كان الحكم متعلقاً ـ في أصله ـ بمباح بيّن الإباحة.
وليس من الفقه والبصيرة في الدين الجمود على ما كتبه الفقهاء ـ قديماً ـ في بعض المسائل ـ مراعاة لوقائع معينة، أو أعراف ـ صحيحة ـ متبدلة، أو عوائد متغيّرة
ومن ثم تنزيل تلك الأحكام على وقائع غيرِ تلك الوقائع، وأعرافٍ وعوائدَ تغيرت واختلفت.
وعليه ..
فواجب على المفتي والفقيه والمعلم وغيرهم ممن تصدر للدعوة والتربية على منهج السلف الصالح
"النظر إلى مآلات الأقوال والأفعال في عموم التصرفات
وعليه أن يقدر مآلات الأفعال التي هي محل حكمة وإفتائه
وأن يقدر عواقب حكمه وفتواه
ولا يعتقد أن مهمته تنحصر في إعطاء الحكم الشرعي
بل عليه أن يستحضر مآلات ما يفتي به وآثارَه وعواقبَه"
"الأصول العامة والقواعد الجامعة للفتاوى الشرعية"
د. حسين آل الشيخ .
هذا ما سأوضحه ـ إن شاء الله ـ من خلال عرض هذه القاعدة العظيمة، وأدلتها، وبعض تطبيقاتها؛ الفقهية والمنهجية.
قال الإمام الشاطبي
في "الموافقات" (5/177):
"النظر فى مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً؛ كانت الأفعال موافقة أو مخالفة
وذلك
أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل
مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ
ولكن
له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع؛ لمفسدة تنشأ عنه، أومصلحة تندفع به
ولكن له مآل على خلاف ذلك
فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوى المصلحة أو تزيد عليها؛ فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية
وكذلك
إذا أطلق القول فى الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد
فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجالٌ للمجتهد صعبُ المورد؛ إلا أنه عذبُ المذاق، محمودُ الغبِ، جارٍ على مقاصد الشريعة " ا.هـ
الأدلة على صحة هذه القاعدة:
أولاً: من الكتاب والسنة الصحيحة:
(1)
قوله ـ تعالى ـ
:" وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ"
الآية. [الأنعام: 108]
قال الإمام البغوي ـ رحمه الله ـ:
"فظاهر الآية، وإن كان نهيا عن سب الأصنام، فحقيقته النهي عن سب الله؛ لأنه سبب لذلك." ا.هـ
وقال الإمام القرطبي ـ رحمه الله ـ:
" نهى سبحانه المؤمنين أن يسبوا أوثانهم ـ أي: الكفار ـ؛ لأنه علم إذا سبوها نفر الكفار وازدادوا كفرا...
قال العلماء:
حكمها باق في هذه الأمة على كل حال
فمتى كان الكافر في منعة، وخيف أن يسب الإسلام أو النبي ـ عليه السلام ـ أو الله ـ عز وجل ـ، فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم، ولا دينهم، ولا كنائسهم
ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك؛ لأنه بمنزلة البعث على المعصية...
وفي الآية دليل على وجوب الحكم بسد الذرائع
وفيها دليل على أن المحق قد يكف عن حق له إذا أدى إلى ضرر يكون في الدين." ا.هـ
وقال الإمام ابن كثير ـ رحمه الله :
"يقول تعالى ناهيا لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمؤمنين عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة
إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين، وهو الله لا إله إلا هو." ا.هـ
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ـ رحمه الله ـ في "تفسيره":
" وفي هذه الآية الكريمة دليل للقاعدة الشرعية وهو: أن الوسائل تعتبر بالأمور التي توصل إليها
وأن وسائل المحرم - ولو كانت جائزة - تكون محرمة، إذا كانت تفضي إلى الشر." ا.هـ
(2)
عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ قَالَ:
كُنَّا فِي غَزَاةٍ ـ قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: فِي جَيْشٍ ـ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ يَا لَلْأَنْصَار،ِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ
فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ:
"مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ!" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: "دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ".
فَسَمِعَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ: فَعَلُوهَا! أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ
فَبَلَغَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ:
"دَعْهُ لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ"
أخرجه البخاري في "التفسير" برقم (4905)
ومسلم في "البر والصلة" برقم(63/2584)
والترمذي في" التفسير" برقم(3315).
فترَك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قتل المنافقين ـ مع استحقاقهم له ـ لما يترتب عليه من مفسدة أعظم من مفسدة وجودهم وإفسادهم
وتتمثل تلك المفسدة الأعظم بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
"لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ"
فخشية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أن يتحدث الناس بما يصدهم عن الدخول في دين الله ـ تعالى
وهو القتل بتهمة النفاق منعته من تطبيق حكم جائز ـ شرعاً ـ في أصله.
وتَرْكُهُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذاك ـ يندرج تحت قاعدة مراعاة مآلات الأفعال والأقوال.
قال النووي ـ رحمه الله ـ:
" وفيه ـ أي الحديث السابق ـ ترك بعض الأمور المختارة، والصبر على بعض المفاسد؛ خوفاً من أن تترتب على ذلك مفسدة أعظم".
"شرح صحيح مسلم" كتاب البر والصلة(45)، باب: نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً(16). (8/191).
(3)
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ:
"يَا عَائِشَةُ لَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ، فَأَلْزَقْتُهَا بِالْأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ؛ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، وَزِدْتُ فِيهَا سِتَّةَ أَذْرُعٍ مِنْ الْحِجْرِ؛ فَإِنَّ قُرَيْشًا اقْتَصَرَتْهَا حَيْثُ بَنَتْ الْكَعْبَةَ".
أخرجه البخاري برقم(126، 1583ـ1586) ومواضع أخرى
ومسلم في"الحج" برقم (1333) واللفظ له
ومالك في "الحج" (33) باب ما جاء في بناء الكعبة برقم(104)
والترمذي في"الحج" برقم (875)، والنسائي في "المناسك" برقم (2901ـ2902)، وابن حبان في "صحيحه" برقم (3817ـ3818)، وابن خزيمة في "صحيحه" برقم (3022)، وغيرهم.
وترجم الإمام البخاري في "صحيحه" كتاب (3)العلم، (48)باب:
"من ترك بعض الاختيار؛ مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، فيقعوا في أشد منه"
ثم أورد حديث رقم(126) مختصراً بلفظ
" يا عائشة! لولا قومك حديثٌ عهدُهم ـ
قال ابن الزبير ـ
بكفر، لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين؛ باب يدخل الناس، وباب يخرجون".
قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ:
"وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِقَوَاعِد مِنْ الأحْكَام
مِنْهَا :
إِذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِح، أَوْ تَعَارَضَتْ مَصْلَحَة وَمَفْسَدَة وَتَعَذَّرَ الْجَمْع بَيْن فِعْل الْمَصْلَحَة وَتَرْك الْمَفْسَدَة بُدِئَ بِالْأَهَمِّ؛
لِأَنَّ النَّبِيّ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَخْبَرَ أَنَّ نَقْضَ الْكَعْبَة وَرَدَّهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَوَاعِد إِبْرَاهِيم ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَصْلَحَة
وَلَكِنْ
تُعَارِضهُ مَفْسَدَة أَعْظَم مِنْهُ، وَهِيَ خَوْف فِتْنَة بَعْض مَنْ أَسْلَمَ قَرِيبًا
وَذَلِكَ لِمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ فَضْل الْكَعْبَة، فَيَرَوْنَ تَغْيِيرهَا عَظِيمًا، فَتَرَكَهَا ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.
وَمِنْهَا
فِكْر وَلِي الأمْر فِي مَصَالِح رَعِيَّته، وَاجْتِنَابه مَا يَخَاف مِنْهُ تَوَلُّد ضَرَر عَلَيْهِمْ فِي دِينَ أَوْ دُنْيَا، إِلاَّ الأمور الشَّرْعِيَّة؛ كَأَخْذِ الزَّكَاة، وَإِقَامَة الْحُدُود، وَنَحْو ذَلِكَ"
"شرح صحيح مسلم" (5/222) تحت حديث رقم(1333)
قال الإمام الألباني ـ رحمه الله ـ:
" يدل هذا الحديث:
أن القيام بالإصلاح إذا ترتب عليه مفسدة أكبر منه وجب تأجيله
و منه
أخذ الفقهاء قاعدتهم المشهورة " دفع المفسدة ، قبل جلب المصلحة ".
" سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1/106).
=======
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد:
فإنَّ من أهم ما يتعيّن على الفقيه المصلح ـ الداعية إلى منهج السلف ـ إدراكه وفهمه؛ قواعد الدين الكلية، ومقاصد التشريع العامة، التي يتوقف فهم الأحكام عليها
ويُحتاج في تنزيلها ـ الأحكام ـ على الوقائع إليها.
ومن ذلك
معرفة الفقيه بأحوال الناس وأعرافهم وعاداتهم وواقعهم.
وكم ممن تصدَّر للفتيا والتعليم أغفل هذا الباب، وأصدر أحكاماً مجرّدة، فوقع ـ وأوقع ـ بخلاف الحق في مسائل عديدة
وكان من أضرِّ الخلق على أديان الناس، وجنايته أعظم من جناية الطبيب الغافل على أبدانهم.
فليس من الفقه والبصيرة في الدين إجابة المستفتي بحكم شرعي ـ وإن كان حقاً ـ دون تقدير لمآل تلك الفتوى
وما يترتب عليها من المصالح والمفاسد.
وليس من الفقه والبصيرة في الدين إغفال ما يتعلق بمآلات الأفعال من قواعد؛ كقاعدة سد الذرائع، وإن كان الحكم متعلقاً ـ في أصله ـ بمباح بيّن الإباحة.
وليس من الفقه والبصيرة في الدين الجمود على ما كتبه الفقهاء ـ قديماً ـ في بعض المسائل ـ مراعاة لوقائع معينة، أو أعراف ـ صحيحة ـ متبدلة، أو عوائد متغيّرة
ومن ثم تنزيل تلك الأحكام على وقائع غيرِ تلك الوقائع، وأعرافٍ وعوائدَ تغيرت واختلفت.
وعليه ..
فواجب على المفتي والفقيه والمعلم وغيرهم ممن تصدر للدعوة والتربية على منهج السلف الصالح
"النظر إلى مآلات الأقوال والأفعال في عموم التصرفات
وعليه أن يقدر مآلات الأفعال التي هي محل حكمة وإفتائه
وأن يقدر عواقب حكمه وفتواه
ولا يعتقد أن مهمته تنحصر في إعطاء الحكم الشرعي
بل عليه أن يستحضر مآلات ما يفتي به وآثارَه وعواقبَه"
"الأصول العامة والقواعد الجامعة للفتاوى الشرعية"
د. حسين آل الشيخ .
هذا ما سأوضحه ـ إن شاء الله ـ من خلال عرض هذه القاعدة العظيمة، وأدلتها، وبعض تطبيقاتها؛ الفقهية والمنهجية.
قال الإمام الشاطبي
في "الموافقات" (5/177):
"النظر فى مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً؛ كانت الأفعال موافقة أو مخالفة
وذلك
أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل
مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ
ولكن
له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع؛ لمفسدة تنشأ عنه، أومصلحة تندفع به
ولكن له مآل على خلاف ذلك
فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوى المصلحة أو تزيد عليها؛ فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية
وكذلك
إذا أطلق القول فى الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد
فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجالٌ للمجتهد صعبُ المورد؛ إلا أنه عذبُ المذاق، محمودُ الغبِ، جارٍ على مقاصد الشريعة " ا.هـ
الأدلة على صحة هذه القاعدة:
أولاً: من الكتاب والسنة الصحيحة:
(1)
قوله ـ تعالى ـ
:" وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ"
الآية. [الأنعام: 108]
قال الإمام البغوي ـ رحمه الله ـ:
"فظاهر الآية، وإن كان نهيا عن سب الأصنام، فحقيقته النهي عن سب الله؛ لأنه سبب لذلك." ا.هـ
وقال الإمام القرطبي ـ رحمه الله ـ:
" نهى سبحانه المؤمنين أن يسبوا أوثانهم ـ أي: الكفار ـ؛ لأنه علم إذا سبوها نفر الكفار وازدادوا كفرا...
قال العلماء:
حكمها باق في هذه الأمة على كل حال
فمتى كان الكافر في منعة، وخيف أن يسب الإسلام أو النبي ـ عليه السلام ـ أو الله ـ عز وجل ـ، فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم، ولا دينهم، ولا كنائسهم
ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك؛ لأنه بمنزلة البعث على المعصية...
وفي الآية دليل على وجوب الحكم بسد الذرائع
وفيها دليل على أن المحق قد يكف عن حق له إذا أدى إلى ضرر يكون في الدين." ا.هـ
وقال الإمام ابن كثير ـ رحمه الله :
"يقول تعالى ناهيا لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمؤمنين عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة
إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين، وهو الله لا إله إلا هو." ا.هـ
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ـ رحمه الله ـ في "تفسيره":
" وفي هذه الآية الكريمة دليل للقاعدة الشرعية وهو: أن الوسائل تعتبر بالأمور التي توصل إليها
وأن وسائل المحرم - ولو كانت جائزة - تكون محرمة، إذا كانت تفضي إلى الشر." ا.هـ
(2)
عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ قَالَ:
كُنَّا فِي غَزَاةٍ ـ قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: فِي جَيْشٍ ـ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ يَا لَلْأَنْصَار،ِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ
فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ:
"مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ!" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: "دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ".
فَسَمِعَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ: فَعَلُوهَا! أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ
فَبَلَغَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ:
"دَعْهُ لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ"
أخرجه البخاري في "التفسير" برقم (4905)
ومسلم في "البر والصلة" برقم(63/2584)
والترمذي في" التفسير" برقم(3315).
فترَك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قتل المنافقين ـ مع استحقاقهم له ـ لما يترتب عليه من مفسدة أعظم من مفسدة وجودهم وإفسادهم
وتتمثل تلك المفسدة الأعظم بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
"لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ"
فخشية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أن يتحدث الناس بما يصدهم عن الدخول في دين الله ـ تعالى
وهو القتل بتهمة النفاق منعته من تطبيق حكم جائز ـ شرعاً ـ في أصله.
وتَرْكُهُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذاك ـ يندرج تحت قاعدة مراعاة مآلات الأفعال والأقوال.
قال النووي ـ رحمه الله ـ:
" وفيه ـ أي الحديث السابق ـ ترك بعض الأمور المختارة، والصبر على بعض المفاسد؛ خوفاً من أن تترتب على ذلك مفسدة أعظم".
"شرح صحيح مسلم" كتاب البر والصلة(45)، باب: نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً(16). (8/191).
(3)
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ:
"يَا عَائِشَةُ لَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ، فَأَلْزَقْتُهَا بِالْأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ؛ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، وَزِدْتُ فِيهَا سِتَّةَ أَذْرُعٍ مِنْ الْحِجْرِ؛ فَإِنَّ قُرَيْشًا اقْتَصَرَتْهَا حَيْثُ بَنَتْ الْكَعْبَةَ".
أخرجه البخاري برقم(126، 1583ـ1586) ومواضع أخرى
ومسلم في"الحج" برقم (1333) واللفظ له
ومالك في "الحج" (33) باب ما جاء في بناء الكعبة برقم(104)
والترمذي في"الحج" برقم (875)، والنسائي في "المناسك" برقم (2901ـ2902)، وابن حبان في "صحيحه" برقم (3817ـ3818)، وابن خزيمة في "صحيحه" برقم (3022)، وغيرهم.
وترجم الإمام البخاري في "صحيحه" كتاب (3)العلم، (48)باب:
"من ترك بعض الاختيار؛ مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، فيقعوا في أشد منه"
ثم أورد حديث رقم(126) مختصراً بلفظ
" يا عائشة! لولا قومك حديثٌ عهدُهم ـ
قال ابن الزبير ـ
بكفر، لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين؛ باب يدخل الناس، وباب يخرجون".
قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ:
"وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِقَوَاعِد مِنْ الأحْكَام
مِنْهَا :
إِذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِح، أَوْ تَعَارَضَتْ مَصْلَحَة وَمَفْسَدَة وَتَعَذَّرَ الْجَمْع بَيْن فِعْل الْمَصْلَحَة وَتَرْك الْمَفْسَدَة بُدِئَ بِالْأَهَمِّ؛
لِأَنَّ النَّبِيّ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَخْبَرَ أَنَّ نَقْضَ الْكَعْبَة وَرَدَّهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَوَاعِد إِبْرَاهِيم ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَصْلَحَة
وَلَكِنْ
تُعَارِضهُ مَفْسَدَة أَعْظَم مِنْهُ، وَهِيَ خَوْف فِتْنَة بَعْض مَنْ أَسْلَمَ قَرِيبًا
وَذَلِكَ لِمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ فَضْل الْكَعْبَة، فَيَرَوْنَ تَغْيِيرهَا عَظِيمًا، فَتَرَكَهَا ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.
وَمِنْهَا
فِكْر وَلِي الأمْر فِي مَصَالِح رَعِيَّته، وَاجْتِنَابه مَا يَخَاف مِنْهُ تَوَلُّد ضَرَر عَلَيْهِمْ فِي دِينَ أَوْ دُنْيَا، إِلاَّ الأمور الشَّرْعِيَّة؛ كَأَخْذِ الزَّكَاة، وَإِقَامَة الْحُدُود، وَنَحْو ذَلِكَ"
"شرح صحيح مسلم" (5/222) تحت حديث رقم(1333)
قال الإمام الألباني ـ رحمه الله ـ:
" يدل هذا الحديث:
أن القيام بالإصلاح إذا ترتب عليه مفسدة أكبر منه وجب تأجيله
و منه
أخذ الفقهاء قاعدتهم المشهورة " دفع المفسدة ، قبل جلب المصلحة ".
" سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1/106).