قول الإمام أحمد :
" ثلاثة لا أصل لها : التفسير والمغازي والملاحم "
=========
بسم الله الرحمن الرحيم
" ثلاثة لا أصل لها : التفسير والمغازي والملاحم "
=========
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , الرحمن الرحيم , مالك يوم الدين
اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحاب أجمعين
اشتهر عند العلماء قول الإمام أحمد هذا، فتناقلوه في كتبهم، واحتجوا به، إلا أن بعضهم لم ينقله بصورته الصحيحة، وإنما نقلوه من ذاكرتهم
فنقله الإمام ابن تيميّة في ((مقدمة أصول التفسير)) (ص28)، فقال :
"ومعلوم أن المنقول في التفسير أكثرُهُ كالمنقول في المغازي والملاحم؛ ولهذا قال الإمام أحمد : ثلاثةُ أمورٍ ليس لها إسناد : التفسيرُ، والملاحمُ، والمغازي
ويروى: ليس له أصلٌ، أي: إسنادٌ؛ لأن الغالبَ عليها المراسيل
مثل ما يذكره عروة بن الزبير، والشعبي، والزهري، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق، ومَنْ بعدهم، كيحيى بن سعيد الأموي، والوليد بن مسلم، والواقدي ونحوهم في المغازي."
ونقلها الشيخ محمد الذهبي في كتابه ((التفسير والمفسرون))، فقال : "وقد نقل عن الإمام أحمد أنه قال : ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم والمغازي."
ثمّ بيّن مراد الإمام أحمد من ذلك، فقال: "ومراده من قوله هذا ـ كما نقل المحققين من أتباعه ـ أن الغالب أنه ليس لها أسانيد صحاح متصلة لا كما استظهره الأستاذ أحمد أمين حيث يقول: "وظاهر هذه الجملة أن الأحاديث التي وردت في التفسير لا أصل لها وليست بصحيحة، والظاهر ـ كما قال بعضهم ـ أنه يريد الأحاديث المرفوعة إلى النبيّ e في التفسير.
أما الأحاديث المنقولة عن الصحابة والتابعين فلا وجه لإنكارها، وقد اعترف هو نفسه ببعضها." وحيث يقول: "إنّ بعض العلماء أنكر هذا الباب بتاتاً، أعني أنه أنكر صحة ورود ما يروونه من هذا الباب
فقد روي عن الإمام أحمد أنه قال: ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم والمغازي." (ضحى الإسلام: 2/141، فجر الإسلام: ص245).
وقد ردّ عليه الشيخ الذهبي (1/47)، فقال: "نعم، ليس الأمر كما استظهره صاحب ضحى الإسلام وفجر الإسلام؛ لأنه مما لا شك فيه أن النبيّ e صحت عنه أحاديث في التفسير، والإمام أحمد نفسه معترف بها، فكيف يعقل أن الإمام أحمد يريد من عبارته السابقة نفي الصحة عن جميع الأحاديث المرفوعة على النبيّ e في التفسير؟
وظني أن الأستاذ أراد بالبعض المذكور المحققين من أصحاب الإمام أحمد، غاية الأمر أنه حمل كلامهم على غير ما أرادوا فوقع في هذا الخطأ، والعجب أنه نقل عن الإتقان في هامش فجر الإسلام (ص245) ما استظهرناه من كلام المحققين من اتباع الإمام أحمد."
قلت :
لو أن الشيخ الذهبي والإمام ابن تيمية وغيرهما نقلوا كلام الإمام أحمد على صورته الصحيحة لما احتجنا أن ندافع عن قوله، ولما احتج أعداء الإسلام ومن لف لفهم من المنتسبين للإسلام كأحمد أمين وغيره بهذه المقولة للإمام أحمد.
والمقولة الصحيحة للإمام أحمد رواها الإمام الخطيب في ((الجامع)) (2/162)، قال:
أخبرنا أبو سعد الماليني، قال: أخبرنا عبد الله بن عدي الحافظ، قال: سمعت محمد بن سعيد الحرّاني، يقول: سمعت عبد الملك الميموني، يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ((ثلاثة كُتب ليس لها أصول: المغازي، والملاحم، والتفسير)).
وهذا إسنادٌ صحيحٌ رواته أئمة ثقات.
وقد فسّر الإمام الخطيب مقصود الإمام أحمد من ذلك، فقال: "وهذا الكلام محمولٌ على وجه، وهو أنّ المراد به كُتُبٌ مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير معتمد عليها، ولا موثوق بصحتها، لسوء أحوال مُصنّفيها، وعدم عدالة ناقليها، وزيادات القصّاص فيها.
فأما كتب الملاحم، فجميعها بهذه الصفة، وليس يصح في ذكر الملاحم المرتقبة، والفتن المنتظرة غير أحاديث يسيرة اتصلت أسانيدها إلى الرسول e من وجوه مَرضية، وطرق واضحة جلية.
وأما الكتب المصنفة في تفسير القرآن، فمن أشهرها كتابا: الكلبي ومقاتل ابن سليمان."
ثمّ نقل بإسناده إلى عبد الصمد بن الفضل، قال: سئل أحمد بن حنبل عن تفسير الكلبي؟ فقال أحمد: "مِن أوله إلى آخره كذب.
" فقيل له: فَيحلُّ النظرُ فيه؟ قال: "لا."
وروى الخطيب بإسناده إلى أبي إسماعيل الترمذي، عن الأويسي، عن مالك أنه بلغه أن مقاتل بن سليمان جاءه إنسان، فقال له: إنّ إنساناً سألني: ما لون كلب أصحاب الكهف؟ فلم أدر ما أقول له، قال: فقال له مقاتل: ألا قلت: هو أبْقعُ، فلو قلتَ لم تجد أحداً يردُّ عليك.
قال أبو إسماعيل: "وسمعت نُعيم بن حماد يقول: أول ما ظهر من مقاتل الكذب هذا، قال للرجل: أما لو قلت أصفر، أو كذا، أو كذا، مَنْ كان يردّ عليك!"
قال الخطيب: "ولا أعلم في التفسير كتاباً مصنفاً سلم من علة فيه، أو عريَ من مطعن عليه."
ثم تابع الخطيب قوله:
"وأما المغازي فمن المشتهرين بتصنيفها وصرف العناية إليها: محمد بن إسحاق المطَّلبي، ومحمد بن عمر الواقدي. فأما ابن إسحاق فقد تقدمت منّا الحكاية عنه، أنه كان يأخذ عن أهل الكتاب أخبارهم ويُضمنها كتبه، وروي عنه أيضاً أنه كان يدفع على شعراء وقته أخبار المغازي ويسألهم أن يقولوا فيها الأشعار ليُلْحِقها بها."
وساق بسنده إلى ابن أبي عمرو الشيباني، قال: سمعت أبي يقول: "رأيت محمد بن إسحاق يعطي الشعراء الأحاديث يقولون عليها الشِعر."
قال الخطيب: "وأما الواقدي فسوء ثناء المحدثين عليه مستفيض، وكلام أئمتهم فيه طويل عريض." ونقل عن الشافعي قوله: "كتب الواقدي كذب."
قال الخطيب: "وليس في المغازي أصح من كتاب موسى بن عقبة مع صغره، وخلوه من أكثر ما يذكر في كتب غيره. فما روي من هذه الأشياء عمن اشتهر تصنيفه وعرف بجمعه وتأليفه هذا حكمه، فكيف بما يورده القصّاص في مجالسهم، ويستميلون به قلوب العوام من زخارفهم؟
إنّ النقل لمثل تلك العجائب من المنكرات، وذهاب الوقت في الشغل بأمثالها من أخسر التجارات."
وقال الخطيب إن أحاديث الملاحم وما يكون من الحوادث فأكثرها موضوع، وجلّها مصنوع، كالكتاب المنسوب إلى دانيال، والخُطب المروية عن عليّ بن أبي طالب.
وقال يحيى بن معين: "وهذه الأحاديث كلها التي يحدثون بها في الفتن، وفي الخلفاء، تكون كلها كذب وريح، لا يعلم هذا أحد إلا بوحي من السماء."
وهذا لا يعني رفض كلّ ما جاء من أحاديث في هذه الأمور الثلاثة: التفسير والملاحم والمغازي، فاشترط العلماء لمن ينقل الحديث في هذه شروطاً غير التي اشترطوها في الأحاديث التي تتعلق بالأحكام.
قال الخطيب: "إن التفسير يتضمن أحكاماً، طريقها النقل، فيلزم كَتبه، ويجب حفظه، إلا أن العلماء قد احتجوا في التفسير بقوم لم يحتجوا بهم في مسند الأحاديث المتعلقة بالأحكام، وذلك لسوء حفظهم الحديث وشغلهم بالتفسير، فهم بمثابة عاصم بن أبي النجود، حيث أحتج به في القراءات دون الأحاديث المسندات، لغلبة علم القرآن عليه، فصرف عنايته إليه."
قال يحيى بن سعيد: "تساهلوا في أخذ التفسير عن قوم لا يوثقونهم في الحديث." ثم ذكر ليث بن أبي سُليم وجويبر بن سعيد والضحاك ومحمد بن السائب، وقال: "هؤلاء لا يُحمد أمرهم، ويكتب التفسير عنهم."
وقد حثّ العلماء على كَتب أحاديث المغازي لما فيها من العلم الكثير، قال الزهري: "في علم المغازي علم الآخرة والدنيا."
وقال إسماعيل بن محمد بن سعد: "كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله e ويعدّها علينا، وسراياه، ويقول: يا بنيّ، هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها."
وقال عليّ بن الحسين: "كنّا نُعَلَّمُ مغازي النبيّ e وسراياه كما نُعلَّم السورة من القرآن."
وكان مالك إذا سئل عن المغازي، قال: "عليك بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة، فإنه أصحّ المغازي."
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة –رحمه الله- في ((مقدمة أصول التفسير)) (ص28): "أعلم الناس بالمغازي أهل المدينة، ثم أهل الشام، ثم أهل العراق، فأهل المدينة أعلم بها لأنها كانت عندهم، وأهل الشام كانوا أهل غزوٍ وجهاد فكان لهم من العلم والجهاد والسِّير ما ليس لغيرهم، ولهذا عظَّمَ الناسُ كتابَ أبي إسحاقَ الفَزاري الذي صنّفه في ذلك، وجعلوا الأوزاعي أعلمَ بهذا الباب من غيره من علماء الأمصار.
وأما التفسير فإنّ أعلم الناس به أهل مكة؛ لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم من أصحاب ابن عباس كطاوس وأبي الشعثاء وسعيد بن جبير وأمثالهم، وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود، ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم، وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل: زيد بن أسلم الذي أخذ عنه مالكٌ التفسيرَ، وأخذه عنه أيضاً ابنه عبد الرحمن، وأخذه عن عبد الرحمن عبد الله ابن وهب."
وقد نقل ابن حجر مقولة أحمد –رحمه الله - في مقدمة اللسان (1/13) ثم قال : "ينبغي أن يُضاف إليها الفضائل، فهذه أودية الأحاديث الضعيفة والموضوعة، إذ كانت العمدة في المغازي على مثل الواقدي، وفي التفسير على مثل مقاتل والكلبي، وفي الملاحم على الإسرائيليات
وأما الفضائل فلا تُحصى كم وضع الرافضة في فضل أهل البيت، وعارضهم جهلة أهل السنة بفضائل معاوية بدأ، وبفضائل الشيخين، وقد أغناهما الله وأعلى مرتبتهما عنها."
وكذلك نقل مقولة الإمام أحمد العجلوني في خاتمة كتابه ((كشف الخفاء)) (2/544) فقال : " قد اشتهر لقاء الأئمة بعضهم لبعض، وكذا اشتهر تصانيف تضاف لأناس، وقبور لأقوام ذوي جلالة مع بطلان ذلك كلّه، وأناس يُذكرون بين كثير من العوام بالعلم، إما مطلقاً أو في خصوص علم معين، وربما تساهل في ذلك من لا معرفة له بذلك العلم تقليداً أو استصحب ما كان متصفاً به ثم زال بالترك، أو تشاغل بما انسلخ به عن الوصف الأول، وجميع هذا كثير
فمن الأول :
ما اشتهر من أن الشافعي وأحمد اجتمعا بشيبان الراعي ...
ومن الثاني :
قول الميموني : سمعت أحمد بن حنبل يقول : ثلاثة كتب ليس لها أصل : المغازي، والملاحم، والتفاسير، قال الخطيب في جامعه: وهذا محمول ..."
قلت:
وبهذا يتبيّن أن الأحاديث الواردة في التفسير والمغازي والملاحم ليست كما يظن الكثير أنها كلها لا أصل لها، وأنها لا تصح
نعم
الكثير منها موقوف على الصحابة أو التابعين، وهذا لا يعني عدم صحتها
فالصحابة إنما تعلموا من النبيّ e، والتابعون تعلموا من الصحابة، والكثير من أحاديث المغازي مرسلة؛ لأن الإرسال كان شائعاً في عصر التابعين، وبخاصة عند الشاميين وهم من أعلم الناس بالمغازي، فلو صحت هذه المراسيل لكفى مع قرائن أخرى يعلمها أهل الشأن كأن يكون ما ينقل ليس بمنكر ولا يخالف أصول الدين وغير ذلك.
وقصد من قال بأن الكثير من التفسير لم يصح، أي مرفوعاً إلى النبي e، أما صحته موقوفاً فلا نزاع في كثير منه
وكما قلنا فإن هذه التفسيرات إن لم يكن الصحابة أخذها عن رسول الله e، فهم أدرى الناس بالتفسير؛ لأنهم عاشوا مع النبيّ e وعايشوا التنـزيل والوحي، فما صحّ عنهم فلا يعدل عنه إلا إذا اختلف بعضهم في تفسير شيء، وصح عنهما، فعندها نلجأ إلى الترجيح بالقرائن.
ومن أمثلة ما صح أنه موقوف على التابعي ولم يصح رفعه إلى النبيّ e، ما أخرجه ابن حبّان في ((المجروحين)) (2/160) عن عبد الرزاق بن عمر البَزِيعي عن ابن المبارك عن شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبيّ e في قوله تعالى }ولهم فيها أزواج مطهرة{ قال: ((من الحيضة والمخاط والنّخامة)).
قال ابن حبان: "وهذا قول قتادة رفعه ـ أي عبد الرزاق هذا رفعه ـ لا أصل له من كلام النبيّ e".
ونقلها الشيخ محمد الذهبي في كتابه ((التفسير والمفسرون))، فقال : "وقد نقل عن الإمام أحمد أنه قال : ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم والمغازي."
ثمّ بيّن مراد الإمام أحمد من ذلك، فقال: "ومراده من قوله هذا ـ كما نقل المحققين من أتباعه ـ أن الغالب أنه ليس لها أسانيد صحاح متصلة لا كما استظهره الأستاذ أحمد أمين حيث يقول: "وظاهر هذه الجملة أن الأحاديث التي وردت في التفسير لا أصل لها وليست بصحيحة، والظاهر ـ كما قال بعضهم ـ أنه يريد الأحاديث المرفوعة إلى النبيّ e في التفسير.
أما الأحاديث المنقولة عن الصحابة والتابعين فلا وجه لإنكارها، وقد اعترف هو نفسه ببعضها." وحيث يقول: "إنّ بعض العلماء أنكر هذا الباب بتاتاً، أعني أنه أنكر صحة ورود ما يروونه من هذا الباب
فقد روي عن الإمام أحمد أنه قال: ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم والمغازي." (ضحى الإسلام: 2/141، فجر الإسلام: ص245).
وقد ردّ عليه الشيخ الذهبي (1/47)، فقال: "نعم، ليس الأمر كما استظهره صاحب ضحى الإسلام وفجر الإسلام؛ لأنه مما لا شك فيه أن النبيّ e صحت عنه أحاديث في التفسير، والإمام أحمد نفسه معترف بها، فكيف يعقل أن الإمام أحمد يريد من عبارته السابقة نفي الصحة عن جميع الأحاديث المرفوعة على النبيّ e في التفسير؟
وظني أن الأستاذ أراد بالبعض المذكور المحققين من أصحاب الإمام أحمد، غاية الأمر أنه حمل كلامهم على غير ما أرادوا فوقع في هذا الخطأ، والعجب أنه نقل عن الإتقان في هامش فجر الإسلام (ص245) ما استظهرناه من كلام المحققين من اتباع الإمام أحمد."
قلت :
لو أن الشيخ الذهبي والإمام ابن تيمية وغيرهما نقلوا كلام الإمام أحمد على صورته الصحيحة لما احتجنا أن ندافع عن قوله، ولما احتج أعداء الإسلام ومن لف لفهم من المنتسبين للإسلام كأحمد أمين وغيره بهذه المقولة للإمام أحمد.
والمقولة الصحيحة للإمام أحمد رواها الإمام الخطيب في ((الجامع)) (2/162)، قال:
أخبرنا أبو سعد الماليني، قال: أخبرنا عبد الله بن عدي الحافظ، قال: سمعت محمد بن سعيد الحرّاني، يقول: سمعت عبد الملك الميموني، يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ((ثلاثة كُتب ليس لها أصول: المغازي، والملاحم، والتفسير)).
وهذا إسنادٌ صحيحٌ رواته أئمة ثقات.
وقد فسّر الإمام الخطيب مقصود الإمام أحمد من ذلك، فقال: "وهذا الكلام محمولٌ على وجه، وهو أنّ المراد به كُتُبٌ مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير معتمد عليها، ولا موثوق بصحتها، لسوء أحوال مُصنّفيها، وعدم عدالة ناقليها، وزيادات القصّاص فيها.
فأما كتب الملاحم، فجميعها بهذه الصفة، وليس يصح في ذكر الملاحم المرتقبة، والفتن المنتظرة غير أحاديث يسيرة اتصلت أسانيدها إلى الرسول e من وجوه مَرضية، وطرق واضحة جلية.
وأما الكتب المصنفة في تفسير القرآن، فمن أشهرها كتابا: الكلبي ومقاتل ابن سليمان."
ثمّ نقل بإسناده إلى عبد الصمد بن الفضل، قال: سئل أحمد بن حنبل عن تفسير الكلبي؟ فقال أحمد: "مِن أوله إلى آخره كذب.
" فقيل له: فَيحلُّ النظرُ فيه؟ قال: "لا."
وروى الخطيب بإسناده إلى أبي إسماعيل الترمذي، عن الأويسي، عن مالك أنه بلغه أن مقاتل بن سليمان جاءه إنسان، فقال له: إنّ إنساناً سألني: ما لون كلب أصحاب الكهف؟ فلم أدر ما أقول له، قال: فقال له مقاتل: ألا قلت: هو أبْقعُ، فلو قلتَ لم تجد أحداً يردُّ عليك.
قال أبو إسماعيل: "وسمعت نُعيم بن حماد يقول: أول ما ظهر من مقاتل الكذب هذا، قال للرجل: أما لو قلت أصفر، أو كذا، أو كذا، مَنْ كان يردّ عليك!"
قال الخطيب: "ولا أعلم في التفسير كتاباً مصنفاً سلم من علة فيه، أو عريَ من مطعن عليه."
ثم تابع الخطيب قوله:
"وأما المغازي فمن المشتهرين بتصنيفها وصرف العناية إليها: محمد بن إسحاق المطَّلبي، ومحمد بن عمر الواقدي. فأما ابن إسحاق فقد تقدمت منّا الحكاية عنه، أنه كان يأخذ عن أهل الكتاب أخبارهم ويُضمنها كتبه، وروي عنه أيضاً أنه كان يدفع على شعراء وقته أخبار المغازي ويسألهم أن يقولوا فيها الأشعار ليُلْحِقها بها."
وساق بسنده إلى ابن أبي عمرو الشيباني، قال: سمعت أبي يقول: "رأيت محمد بن إسحاق يعطي الشعراء الأحاديث يقولون عليها الشِعر."
قال الخطيب: "وأما الواقدي فسوء ثناء المحدثين عليه مستفيض، وكلام أئمتهم فيه طويل عريض." ونقل عن الشافعي قوله: "كتب الواقدي كذب."
قال الخطيب: "وليس في المغازي أصح من كتاب موسى بن عقبة مع صغره، وخلوه من أكثر ما يذكر في كتب غيره. فما روي من هذه الأشياء عمن اشتهر تصنيفه وعرف بجمعه وتأليفه هذا حكمه، فكيف بما يورده القصّاص في مجالسهم، ويستميلون به قلوب العوام من زخارفهم؟
إنّ النقل لمثل تلك العجائب من المنكرات، وذهاب الوقت في الشغل بأمثالها من أخسر التجارات."
وقال الخطيب إن أحاديث الملاحم وما يكون من الحوادث فأكثرها موضوع، وجلّها مصنوع، كالكتاب المنسوب إلى دانيال، والخُطب المروية عن عليّ بن أبي طالب.
وقال يحيى بن معين: "وهذه الأحاديث كلها التي يحدثون بها في الفتن، وفي الخلفاء، تكون كلها كذب وريح، لا يعلم هذا أحد إلا بوحي من السماء."
وهذا لا يعني رفض كلّ ما جاء من أحاديث في هذه الأمور الثلاثة: التفسير والملاحم والمغازي، فاشترط العلماء لمن ينقل الحديث في هذه شروطاً غير التي اشترطوها في الأحاديث التي تتعلق بالأحكام.
قال الخطيب: "إن التفسير يتضمن أحكاماً، طريقها النقل، فيلزم كَتبه، ويجب حفظه، إلا أن العلماء قد احتجوا في التفسير بقوم لم يحتجوا بهم في مسند الأحاديث المتعلقة بالأحكام، وذلك لسوء حفظهم الحديث وشغلهم بالتفسير، فهم بمثابة عاصم بن أبي النجود، حيث أحتج به في القراءات دون الأحاديث المسندات، لغلبة علم القرآن عليه، فصرف عنايته إليه."
قال يحيى بن سعيد: "تساهلوا في أخذ التفسير عن قوم لا يوثقونهم في الحديث." ثم ذكر ليث بن أبي سُليم وجويبر بن سعيد والضحاك ومحمد بن السائب، وقال: "هؤلاء لا يُحمد أمرهم، ويكتب التفسير عنهم."
وقد حثّ العلماء على كَتب أحاديث المغازي لما فيها من العلم الكثير، قال الزهري: "في علم المغازي علم الآخرة والدنيا."
وقال إسماعيل بن محمد بن سعد: "كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله e ويعدّها علينا، وسراياه، ويقول: يا بنيّ، هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها."
وقال عليّ بن الحسين: "كنّا نُعَلَّمُ مغازي النبيّ e وسراياه كما نُعلَّم السورة من القرآن."
وكان مالك إذا سئل عن المغازي، قال: "عليك بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة، فإنه أصحّ المغازي."
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة –رحمه الله- في ((مقدمة أصول التفسير)) (ص28): "أعلم الناس بالمغازي أهل المدينة، ثم أهل الشام، ثم أهل العراق، فأهل المدينة أعلم بها لأنها كانت عندهم، وأهل الشام كانوا أهل غزوٍ وجهاد فكان لهم من العلم والجهاد والسِّير ما ليس لغيرهم، ولهذا عظَّمَ الناسُ كتابَ أبي إسحاقَ الفَزاري الذي صنّفه في ذلك، وجعلوا الأوزاعي أعلمَ بهذا الباب من غيره من علماء الأمصار.
وأما التفسير فإنّ أعلم الناس به أهل مكة؛ لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم من أصحاب ابن عباس كطاوس وأبي الشعثاء وسعيد بن جبير وأمثالهم، وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود، ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم، وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل: زيد بن أسلم الذي أخذ عنه مالكٌ التفسيرَ، وأخذه عنه أيضاً ابنه عبد الرحمن، وأخذه عن عبد الرحمن عبد الله ابن وهب."
وقد نقل ابن حجر مقولة أحمد –رحمه الله - في مقدمة اللسان (1/13) ثم قال : "ينبغي أن يُضاف إليها الفضائل، فهذه أودية الأحاديث الضعيفة والموضوعة، إذ كانت العمدة في المغازي على مثل الواقدي، وفي التفسير على مثل مقاتل والكلبي، وفي الملاحم على الإسرائيليات
وأما الفضائل فلا تُحصى كم وضع الرافضة في فضل أهل البيت، وعارضهم جهلة أهل السنة بفضائل معاوية بدأ، وبفضائل الشيخين، وقد أغناهما الله وأعلى مرتبتهما عنها."
وكذلك نقل مقولة الإمام أحمد العجلوني في خاتمة كتابه ((كشف الخفاء)) (2/544) فقال : " قد اشتهر لقاء الأئمة بعضهم لبعض، وكذا اشتهر تصانيف تضاف لأناس، وقبور لأقوام ذوي جلالة مع بطلان ذلك كلّه، وأناس يُذكرون بين كثير من العوام بالعلم، إما مطلقاً أو في خصوص علم معين، وربما تساهل في ذلك من لا معرفة له بذلك العلم تقليداً أو استصحب ما كان متصفاً به ثم زال بالترك، أو تشاغل بما انسلخ به عن الوصف الأول، وجميع هذا كثير
فمن الأول :
ما اشتهر من أن الشافعي وأحمد اجتمعا بشيبان الراعي ...
ومن الثاني :
قول الميموني : سمعت أحمد بن حنبل يقول : ثلاثة كتب ليس لها أصل : المغازي، والملاحم، والتفاسير، قال الخطيب في جامعه: وهذا محمول ..."
قلت:
وبهذا يتبيّن أن الأحاديث الواردة في التفسير والمغازي والملاحم ليست كما يظن الكثير أنها كلها لا أصل لها، وأنها لا تصح
نعم
الكثير منها موقوف على الصحابة أو التابعين، وهذا لا يعني عدم صحتها
فالصحابة إنما تعلموا من النبيّ e، والتابعون تعلموا من الصحابة، والكثير من أحاديث المغازي مرسلة؛ لأن الإرسال كان شائعاً في عصر التابعين، وبخاصة عند الشاميين وهم من أعلم الناس بالمغازي، فلو صحت هذه المراسيل لكفى مع قرائن أخرى يعلمها أهل الشأن كأن يكون ما ينقل ليس بمنكر ولا يخالف أصول الدين وغير ذلك.
وقصد من قال بأن الكثير من التفسير لم يصح، أي مرفوعاً إلى النبي e، أما صحته موقوفاً فلا نزاع في كثير منه
وكما قلنا فإن هذه التفسيرات إن لم يكن الصحابة أخذها عن رسول الله e، فهم أدرى الناس بالتفسير؛ لأنهم عاشوا مع النبيّ e وعايشوا التنـزيل والوحي، فما صحّ عنهم فلا يعدل عنه إلا إذا اختلف بعضهم في تفسير شيء، وصح عنهما، فعندها نلجأ إلى الترجيح بالقرائن.
ومن أمثلة ما صح أنه موقوف على التابعي ولم يصح رفعه إلى النبيّ e، ما أخرجه ابن حبّان في ((المجروحين)) (2/160) عن عبد الرزاق بن عمر البَزِيعي عن ابن المبارك عن شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبيّ e في قوله تعالى }ولهم فيها أزواج مطهرة{ قال: ((من الحيضة والمخاط والنّخامة)).
قال ابن حبان: "وهذا قول قتادة رفعه ـ أي عبد الرزاق هذا رفعه ـ لا أصل له من كلام النبيّ e".
الرابط