العبادات الواردة على وجوه متنوعة
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
إن من فضل الله عز وجل على هذه الأمة أن شرع لهم هذه الشريعة الكاملة العادلة والتي رفع عنها الحرج والمشقة وإن من خصائص هذه الشريعة شمولها للمكلفين وأحوالهم وشمولها للأزمنة والأمكنة بحيث يمكن للمسلم ان يعبد الله على كل حال وفي كل وقت فلا يُحرم بذلك الأجر
ومما ينبني على هذه قاعدة جليلة وهي ما ورد في الشريعة من سنن ومستحبات ومندوبات على وجوه متنوعة وصفات متعددة قولية وفعلية كصفات الاذان والإقامة وقيام الليل واستفتاحات الصلاة وأدعية الركوع والسجود والتورك والذكر بعد الصلاة وصلاة الخوف والقراءات وغير ذلك .
وقد اختلفت تسمية أهل العلم لهذا النوع من العبادات :
1 - فسماه ابن قتيبة اختلاف التغاير .
2 - وسماه الأكثر كالشافعي وأحمد وإسحاق وداود وابن المنذر وابن خزيمة وابن حبان والطبري والخطابي والزركشي والحازمي وابن قدامة وابن القيم الاختلاف المباح .
3 - وسماه ابن تيمية اختلاف التنوع .
4 - ويرى الشاطبي أن هذا مما يذكر ضمن الخلاف وهو ليس خلافاً حقيقياً .
والقاعدة السليمة في ذلك
هو القول بمشروعية ذلك كله وفعله هذا تارة وهذا تارة ما لم يرد دليل يدل على نسخ أو ضعف بعض الصور أو ترجيح بعضها على بعض
وقد قرر هذه القاعدة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من أهل العلم .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
( وقاعدتنا فى هذا الباب أصح القواعد أن جميع صفات العبادات من الأقوال والأفعال إذا كانت مأثورة أثرا يصح التمسك به لم يكره شيء من ذلك بل يشرع ذلك كله كما قلنا فى أنواع صلاة الخوف وفى نوعي الأذان الترجيع وتركه ، ونوعي الإقامة شفعها وإفرادها
وكما قلنا فى أنواع التشهدات وأنواع الاستفتاحات وأنواع الإستعاذات وأنواع القراءات وأنواع تكبيرات العيد الزوائد وأنواع صلاة الجنازة وسجود السهو والقنوت قبل الركوع وبعده والتحميد باثبات الواو وحذفها وغير ذلك لكن قد يستحب بعض هذه المأثورات ويفضل على بعض اذا قام دليل يوجب التفضيل ولا يكره الآخر ... )
مجموع الفتاوى ( 24 / 242 - 243 )
ثم إن شيخ الإسلام ابن تيمية ذكر سبعة أوجه تدل على صحة هذه القاعدة وهي :
( أحدها : أن هذا هو اتباع السنة والشريعة فإن النبى إذا كان قد فعل هذا تارة وهذا تارة ولم يداوم على احدهما كان موافقته فى ذلك هو التأسي والاتباع المشروع وهو أن يفعل ما فعل على الوجه الذى فعل ؛ لأنه فعله .
الثانى : أن ذلك يوجب إجتماع قلوب الأمة وائتلافها وزوال كثرة التفرق والاختلاف والاهواء بينها وهذه مصلحة عظيمة ودفع مفسدة عظيمة ندب الكتاب والسنة إلى جلب هذه ودرء هذه
قال الله تعالى :
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا
وقال تعالى :
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات
وقال تعالى :
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم فى شىء .
الثالث : أن ذلك يخرج الجائز المسنون عن ان يشبه بالواجب فان المداومة على المستحب أو الجائز مشبهة بالواجب ولهذا أكثر هؤلاء المداومين على بعض الأنواع الجائزة أو المستحبة لو انتقل عنه لنفر عنه قلبه وقلب غيره أكثر مما ينفر عن ترك كثير من الواجبات لأجل العادة التى جعلت الجائز كالواجب .
الرابع : إن فى ذلك تحصيل مصلحة كل واحد من تلك الأنواع فان كل نوع لابد له من خاصة وان كان مرجوحا فكيف إذا كان مساويا وقد قدمنا ان المرجوح يكون راجحا فى مواضع .
الخامس : أن فى ذلك وضعا لكثير من الآصار والأغلال التى وضعها الشيطان على الأمة بلا كتاب من الله ولا أثارة من علم فإن مداومة الإنسان على أمر جائز مرجحا له على غيره ترجيحا يحب من يوافقه عليه ولا يحب من لم يوافقه عليه
الثالث : أن ذلك يخرج الجائز المسنون عن ان يشبه بالواجب فان المداومة على المستحب أو الجائز مشبهة بالواجب ولهذا أكثر هؤلاء المداومين على بعض الأنواع الجائزة أو المستحبة لو انتقل عنه لنفر عنه قلبه وقلب غيره أكثر مما ينفر عن ترك كثير من الواجبات لأجل العادة التى جعلت الجائز كالواجب .
الرابع : إن فى ذلك تحصيل مصلحة كل واحد من تلك الأنواع فان كل نوع لابد له من خاصة وان كان مرجوحا فكيف إذا كان مساويا وقد قدمنا ان المرجوح يكون راجحا فى مواضع .
الخامس : أن فى ذلك وضعا لكثير من الآصار والأغلال التى وضعها الشيطان على الأمة بلا كتاب من الله ولا أثارة من علم فإن مداومة الإنسان على أمر جائز مرجحا له على غيره ترجيحا يحب من يوافقه عليه ولا يحب من لم يوافقه عليه
بل ربما ابغضه بحيث ينكر عليه تركه له ويكون ذلك سببا لترك حقوق له وعليه يوجب ان ذلك يصير إصرا عليه لا يمكنه تركه وغلا فى عنقه يمنعه أن يفعل بعض ما أمر به وقد يوقعه فى بعض ما نهى عنه
وهذا القدر الذى قد ذكرته واقع كثيرا فإن مبدأ المداومة على ذلك يورث اعتقادا ومحبة غير مشروعين ثم يخرج إلى المدح والذم والأمر والنهى بغير حق ثم يخرج ذلك إلى نوع من الموالاة والمعاداة غير المشروعين من جنس اخلاق الجاهلية كأخلاق الأوس والخزرج فى الجاهلية وأخلاق _ كذا في الأصل _
ثم يخرج من ذلك إلى العطاء والمنع فيبذل ماله على ذلك عطية ودفعا وغير ذلك من غير استحقاق شرعى ويمنع من أمر الشارع باعطائه إيجابا أو إستحبابا ثم يخرج من ذلك إلى الحرب والقتال
كما وقع فى بعض أرض المشرق ومبدأ ذلك تفضيل مالم تفضله الشريعة والمداومة عليه وان لم يعتقد فضله سبب لاتخاذه فاضلا اعتقادا وارادة فتكون المداومة على ذلك إما منهيا عنها وإما مفضولة والتنوع فى المشروع بحسب ما تنوع فيه الرسول أفضل وأكمل .
السادس : أن فى المداومة على نوع دون غيره هجران لبعض المشروع وذلك سبب لنسيانه والاعراض عنه حتى يعتقد أنه ليس من الدين بحيث يصير فى نفوس كثير من العامة انه ليس من الدين وفى نفوس خاصة هذه العامة عملهم مخالف علمهم فإن علماءهم يعلمون أنه من الدين ثم يتركون بيان ذلك إما خشية من الخلق وإما اشتراء بآيات الله ثمنا قليلا من الرئاسة والمال كما كان عليه أهل الكتاب كما قد رأينا من تعود أن لا يسمع اقامة الا موترة أو مشفوعة فإذا سمع الإقامة الأخرى نفر عنها وانكرها ويصير كأنه سمع أذانا ليس اذان المسلمين وكذلك من اعتاد القنوت قبل الركوع أو بعده .
وهجران بعض المشروع سبب لوقوع العداوة والبغضاء بين الأمة قال الله تعالى ومن الذين قالوا انا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فاغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة أخبر سبحانه ان نسيانهم حظا مما ذكروا به سبب لإغراء العداوة والبغضاء بينهم فإذا اتبع الرجل جميع المشروع المسنون واستعمل الأنواع المشروعة هذا تارة وهذا تارة كان قد حفظت السنة علما وعملا وزالت المفسدة المخوفة من ترك ذلك .
ونكته هذا الوجه انه وان جاز الاقتصار على فعل نوع لكن حفظ النوع الآخر من الدين ليعلم انه جائز مشروع وفى العمل به تارة حفظ للشريعة وترك ذلك قد يكون سببا لإضاعته ونسيانه .
السابع : أن الله يأمر بالعدل والإحسان والعدل التسوية بين المتماثلين وحرم الظلم على نفسه وجعله محرما بين عباده ومن أعظم العدل العدل فى الأمور الدينية فإن العدل فى أمر الدنيا من الدماء والأموال كالقصاص والمواريث وإن كان واجبا وتركه ظلم فالعدل فى أمر الدين أعظم منه وهو العدل بين شرائع الدين وبين أهله .
فإذا كان الشارع قد سوى بين عملين أو عاملين كان تفضيل احدهما من الظلم العظيم
وإذا فضل بينهما كانت التسوية كذلك والتفضيل أو التسوية بالظن وهوى النفوس من جنس دين الكفار
فإن جميع أهل الملل والنحل يفضل أحدهم دينه إما ظنا وإما هوى اما اعتقادا واما اقتصادا وهو سبب التمسك به وذم غيره
فإذا كان رسول الله قد شرع تلك الأنواع إما بقوله وإما بعمله وكثير منها لم يفضل بعضها على بعض كانت التسوية بينها من العدل والتفضيل من الظلم وكثير مما تتنازع الطوائف من الأمة فى تفاضل أنواعه لا يكون بينها تفاضل بل هي متساوية وقد يكون ما يختص به أحدهما مقاوما لما يختص به الآخر
ثم تجد أحدهم يسأل أيما أفضل هذا أو هذا وهى مسألة فاسدة فان السؤال عن التعيين فرع ثبوت الأصل فمن قال ان بينهما تفاضلا حتى نطلب عين الفاضل
والواجب أن يقال هذان متماثلان أو متفاضلان وإن كانا متفاضلين فهل التفاضل مطلقا أو فيه تفصيل بحيث يكون هذا أفضل فى وقت وهذاأفضل فى وقت ثم إذا كانت المسألة كما ترى فغالب الأجوبة صادرة عن هوى وظنون كاذبة خاطئة ومن أكبر أسباب ذلك المداومة على ما لم تشرع المداومة عليه ولله أعلم )
مجموع الفتاوى ( 24 / 248 - 252 )
وذكر الشيخ محمد العثيمين _ رحمه الله _ أمراً يضاف إليها فتكون ثمانية وهو :
حضور القلب ؛ فإن المرء إذا اعتاد على صفة معينة أصبحت عادة عنده فقل ان يستحضر معانيها ويتدبرها ويخشع عند أدائها لكن لو نوع في ذلك دعاه الاختلاف في الهيئة إلى الانتباعه وحضور القلب .
ومما يدخل في رفع الآصار والأغلال والتيسير على النمكلفين ان بعض العبادات تكون على صفات متفاوتة في الكم والكيفية فيفعل المسلم ما تيسر له من هذه الصفات والهيئات وربما فهم هيئة من الهيئات ولم يفهم غيرها .
وثمة فائدة تاسعة وهي :
زيادة العلم وتثبيت المعلوم ؛ فإن المرء إذا فعل السنة على وجوهها كان أكثر علماً بسنة النبي وأثبت لعلمه إذ ترسخ في قلبه اكثر فيستحضر صحتها ومن رواها ، وربما لو لم يعمل بها نسيها ونسي هيئتها فاحتاج إلى الرجوع لكتب أهل العلم للنظر فيها .
وأختم الفوائد بفائدة عاشرة وهي :
أن هذا المسلك هو الذي يوافق مراد الله ومراد رسوله ويدل على هذا :
1 - أن النبي شرعها وفعلها وامر بها على هذا الحال ولا شك أن هذا لم يشرع عبثاً وغنما لحكمة أرادها الله عز وجل منها ما سبق ذكره .
2 - أن الله خير بين الواجبات مع كونها أعظم من المندوبات وأفضل والأخذ بها ألزم كما هو الحال في خصال الكفارة عند الحنث باليمين وفي المخرج في زكاة الفطر والتخيير بين الاستنجاء والاستجمار والتخيير بين الإبل والبقر والغنم في الهدي ، فإذا كان التخيير بين الواجبات مشروعاً مع أن الصل في الواجب هو الإلزام بمعين فكونه مشروعاً في المندوبات من باب أولى .
والله أعلم
والنقل
لطفــــــــاً .. من هنـــــــــــا
لطفــــــــاً .. من هنـــــــــــا