[center][b][color=blue]( نصيحة الإخوان فيما أثير حول مسائل الإيمان )[/color]
:*فاصل7*:
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله , نحمده , ونستعينه , ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا , ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله , صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد :
فهذه رسالة مختصرة في تعريف الإيمان , وبيان الفرق بين قول السلف وقول المخالفين لهم في هذا الباب ؛ كالخوارج , والمعتزلة , والمرجئة , وبعض المعاصرين المخالفين للسلف في بعض مسائل الإيمان .
ولْيُعْلَم أن القصد من هذه الكتابة هو بيان قول سلفنا الصالح وتمييزه عن باقي الأقوال المخالفة , وهذا لا يتم إلا بذكر هذه الأقوال حتى يتصورها القارىء ويميِّز بينها وبين قول السلف , كما قيل :
وبضدها تتميَّز الأشياء .
ولولا هذا لم يكن بنا حاجة لذكر أقوال المخالفين من القدامى أو المعاصرين ، فليس المقصود إذن الرد على أحد بعينه , فما يعنيني الأشخاص بقدر ما تعنيني الأقوال والمعتقدات .
ومن ظن أن هذه الكتابة موجهة لشخص بعينه فقد ظن بكاتبها ظن السوء ؛ والله عزَّ وجلَّ يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } الحجرات ( 12 ) , وليس المقصود - أيضاً - إثارة الفتن والقلاقل والخوض بالباطل بين أهل السنة , فما كتبت هذا إلا نصيحةً لعامة المسلمين , وعملاً بالميثاق الذي أخذه الله تعالى على مَنْ حَمَلَ أمانة العلم : { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } آل عمران (187) .
وقد رَغِبَ إلىَّ بعضُ الإخوة الأفاضل الكتابةََ في هذه المسألة , لكثرة ما أُثير حولها من ردود ومناقشات , التبس فيها الحق بالباطل ؛ فلم أر بداً من إجابة هذا الطلب الكريم .
فأقول مستعينا بالله عز وجل سائلا إياه التوفيق والسداد :
قول السلف
أجمع السلف على أن الإيمان قول وعمل , يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .
وقد تواترعن السلف قولهم ( الإيمان قول وعمل ) حتى أصبحتْ هذه الكلمةُ شعارا عند أهل السنة على السنة , كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (مجموع الفتاوى 7/308)
شرح قول السلف : الإيمان قول وعمل
بيان ذلك أن القول : يشمل قول القلب وقول اللسان .
والعمل : يشمل عمل القلب وعمل الجوارح .
فهذه أربعة أركان يقوم عليها الإيمان , وشرح ذلك على النحو التالي :
قول القلب : تصديقه .
وقول اللسان: النطق بالشهادتين .
وعمل القلب : كالحب , والبغض , والخوف , والرجاء , والتوكل , والخشية , والإنابة , والإخلاص ... إلى غير ذلك من أعمالِ القلوب , التى هي بحرٌ لا ساحلَ له .
وعمل الجوارح : هي الأعمال الظاهرة ؛ كالصلاة , والزكاة , والحج , والصوم , والجهاد في سبيل الله ...
فالسلف الصالح يدخلون هذه كلها في الإيمان ، ويقولون إن الإيمان لا يصح إلا بقول وعمل ، وعلى هذا إجماعهم , كما حكاه الإمام الشافعي حيث قال رحمه الله : " وكان الإجماع من الصحابة ، والتابعين من بعدهم , ومن أدركناهم يقولون : الإيمان : قول وعمل ونية ؛ لا يجزىء واحد من الثلاثة إلا بالآخر" .
نقله عنه الإمام اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد ( 5/886 ) , وشيخ الإسلام ابن تيمية , كما في مجموع الفتاوى ( 7/209 ) وكلاهما عزاه إلى كتاب ( الأم ) للشافعي .
تنبيه : هذا النص عن الشافعي لا يوجد في نسخة ( الأم ) المطبوعة , ففرح بهذا بعض المعاصرين المخالفين لقول السلف , وجعلوا يشككون في نسبة هذا القول إلى الشافعي !
والجواب عن هذا أن يقال :
أولاً : هذا الإجماع حكاه غير الشافعي , وممن حكاه تلميذه المزني , كما في رسالته ( شرح السنة ) .
ثانياً : هل نسخة ( الأم ) التى ينقل عنها اللالكائي وابن تيمية هي النسخة المطبوعة نفسها ؟ فإن أثبتم أنها هي - ودون ذلك خرط القتاد - جاز لكم التشكيك في نسبة هذا القول إلى الشافعي . أمَّا وقد عُلِمَ أن الكتب القديمة تتعدد رواتها , وتختلف نسخها ؛ فيوجد في نسخة ما ليس في الاخرى , فليس يليق بعاقل منصف - حينئذٍ - أن يورد هذا التشكيك من أصله .
ثالثاً : اللالكائي وابن تيمية كلاهما إمام ثبت حجة , فما ينقلانه عن الأئمة المتقدمين صحيح , وليس لأحد أن يُشكك في نقل أمثالهما من أئمة الدين حتى يقيم الدليل على صحة كلامه , وإلا كان راجماً بالغيب , متخرصاً على أهل العلم .
رابعاً : ليس عند من شكك في كلام الشافعي دليل علمي مقنع سوى أن هذا النص لا يوجد في نسخة ( الأم ) المطبوعة , فهل هذا يصلح أن يكون دليلا للطعن في نقل إمامين كبيرين كاللالكائي وابن تيمية . وقد عزا الإمامان ؛ اللالكائي , وابن تيمية - رحمهما الله تعالى - كلام الشافعي إلى كتاب ( الأم ) في باب : النية في الصلاة . فعزواه إلى الباب فضلاً عن الكتاب . ثم يأتي من يشكك في عزوهما ونقلهما من الكتب !
وهذه نقول عن أئمة آخرين في بيان قول السلف , وأنهم موافقون للشافعي رحمه الله فيما قال .
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : الإيمان لا يكون إلا بعمل . رواه عنه الإمام الخلال في ( السنة 3/566 )
وسُئل الإمام سهل بن عبدالله التُّسْتَري ( ت283هـ ) عن الإيمان ما هو ؟ فقال : هو قول ونية وعمل وسنة ؛ لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر ، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق ، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة . ( الإبانة للإمام ابن بطة 2/814 )
قلت : وليس تعريف سهل بن عبدالله التُّسْتَري - رحمه الله - للإيمان يخالف التعريف المتواتر عن السلف : أن الإيمان قول وعمل . بل هو شرح له . يبين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول :
قَوْلُ السَّلَفِ ( يعني أن الإيمان قول وعمل ) : يَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ الْبَاطِنَ وَالظَّاهِرَ ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ قَدْ لا يَفْهَمُ دُخُولَ النِّيَّةِ فِي ذَلِكَ ؛ قَالَ بَعْضُهُمْ : وَنِيَّةٌ . ثُمَّ بَيَّنَ آخَرُونَ : أَنَّ مُطْلَقَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالنِّيَّةِ لا يَكُونُ مَقْبُولاً إلا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ . وَهَذَا حَقٌّ أَيْضًا فَإِنَّ أُولَئِكَ قَالُوا : قَوْلٌ وَعَمَلٌ لِيُبَيِّنُوا اشْتِمَالَهُ عَلَى الْجِنْسِ وَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُمْ ذِكْرَ صِفَاتِ الأقْوَالِ وَالأعْمَالِ ؛ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ ؛ وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ . جَعَلَ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ اسْمًا لِمَا يَظْهَرُ ؛ فَاحْتَاجَ أَنْ يَضُمَّ إلَى ذَلِكَ اعْتِقَادَ الْقَلْبِ وَلابُدَّ أَنْ يُدْخِلَ فِي قَوْلِهِ : اعْتِقَادَ الْقَلْبِ أَعْمَالَ الْقَلْبِ الْمُقَارِنَةِ لِتَصْدِيقِهِ مِثْلُ حَبِّ اللَّهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ ؛ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ دُخُولَ أَعْمَالِ الْقَلْبِ فِي الإيمَانِ أَوْلَى مِنْ دُخُولِ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ باتفاق الطَّوَائِفِ كُلِّهَا . انتهى ( مجموع الفتاوى 7/506 )
وقال الإمام الآجُرِّي - رحمه الله - في " الشريعة 1/274 ":
باب : القول بأن الإيمان تصديق بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالجوارح لا يكون مؤمنا ، إلا أن تجتمع فيه هذه الخصال الثلاث .
ثم قال رحمه الله : اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق ، وهو تصديق بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالجوارح .
ثم اعلموا أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقا ، ولا تجزيء معرفة بالقلب ، ونطق باللسان ، حتى يكون عمل بالجوارح ، فإذا كملت فيه هذه الثلاث الخصال : كان مؤمنا دل على ذلك القرآن ، والسنة ، وقول علماء المسلمين .
( وقال أيضاً 1/275) :
الأعمال - رحمكم الله - بالجوارح : تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان ، فمن لم يصدق الإيمان بعمله وبجوارحه : مثل الطهارة ، والصلاة والزكاة ، والصيام والحج والجهاد ، وأشباه لهذه ورضي من نفسه بالمعرفة والقول لم يكن مؤمنا ، ولم ينفعه المعرفة والقول ، وكان تركه للعمل تكذيبا منه لإيمانه ، وكان العمل بما ذكرناه تصديقا منه لإيمانه ، وبالله التوفيق . ا.هـ
( وقال رحمه الله 1/311 ) :
بل نقول والحمد لله قولا يوافق الكتاب والسنة ، وعلماء المسلمين الذين لا يستوحش من ذكرهم ، وقد تقدم ذكرنا لهم : إن الإيمان معرفة بالقلب تصديقا يقينا ، وقول باللسان ، وعمل بالجوارح ، ولا يكون مؤمنا إلا بهذه الثلاثة ، لا يجزئ بعضها عن بعض ، والحمد لله على ذلك . ا.هـ
وقال الإمام أبو عبدالله بن بطة - رحمه الله - بعد أن ذكر الآيات الدالة على أن العمل من الإيمان - : فقد تلوت عليكم من كتاب الله عز وجل ما يدل العقلاء من المؤمنين أن الإيمان قول وعمل , وأن من صدَّق بالقول وترك العمل كان مكذِّباً وخارجاً من الإيمان وأن الله لا يقبل قولاً إلا بعمل ولا عملاً إلا بقول . ا.هـ ( الإبانة 2/795 )
وقال الإمام الزاهد القدوة شيخ قرطبة أبو عبدالله بن أبي زَمَنِين رحمه الله تعالى ( ت 399 هـ ) : والإيمان بالله هو باللسان والقلب , وتصديق ذلك العمل ؛ فالقول والعمل قرينان , لا يقوم أحدهما إلا بصاحبه . ا.هـ ( أصول السنة ص207 مكتبة الغرباء الأثرية )
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
حقيقة الدين هو الطاعة و الإنقياد , و ذلك إنما يتم بالفعل لا بالقول فقط ؛ فمن لم يفعل لله شيئا فما دان لله دينا , و من لا دين له فهو كافر . ا.هـ ( شرح العمدة - كتاب الصلاة ص86 )
وقال أيضاً - رحمه الله - : وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الدِّينَ لابُدَّ فِيهِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ , وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بِقَلْبِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَلَمْ يُؤَدِّ وَاجِبًا ظَاهِرًا وَلا صَلاةً وَلا زَكَاةً وَلا صِيَامًا وَلا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ , لا لأجْلِ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَهَا , مِثْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الأمَانَةَ أَوْ يُصَدِّقَ الْحَدِيثَ أَوْ يَعْدِلَ فِي قَسَمِهِ وَحُكْمِهِ مِنْ غَيْرِ إيمَانٍ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ مِنْ الْكُفْرِ ؛ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ يَرَوْنَ وُجُوبَ هَذِهِ الأمُورِ فَلا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مَعَ عَدَمِ شَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِإِيجَابِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمَنْ قَالَ : بِحُصُولِ الإيمَانِ الْوَاجِبِ بِدُونِ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ - سَوَاءٌ جَعَلَ فِعْلَ تِلْكَ الْوَاجِبَاتِ لازِمًا لَهُ أَوْ جُزْءًا مِنْهُ فَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ - كَانَ مُخْطِئًا خَطَأً بَيِّنًا , وَهَذِهِ بِدْعَةُ الإرْجَاءِ الَّتِي أَعْظَمَ السَّلَفُ وَالأئِمَّةُ الْكَلامَ فِي أَهْلِهَا وَقَالُوا فِيهَا مِنْ الْمَقَالاتِ الْغَلِيظَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ , وَالصَّلاةُ هِيَ أَعْظَمُهَا وَأَعَمُّهَا وَأَوَّلُهَا وَأَجَلُّهَا . انتهى ( مجموع الفتاوى 7/621 )
وقال الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله :
لا خلاف بين الأمة أن التوحيد : لا بد أن يكون بالقلب الذي هو العلم , واللسان الذي هو القول , والعمل الذي هو تنفيذ الأوامر والنواهي ؛ فإن أخلَّ بشيء من هذا, لم يكن الرجل مسلماً ؛ فإن أقرَّ بالتوحيد , ولم يعمل به فهو : كافر, معاند, كفرعون وإبليس ؛ وإن عَمِلَ بالتوحيد ظاهراً , وهو لا يعتقده باطناً , فهو : منافق خالصاً , أشر من الكافر . ا.هـ ( الدرر السَّنية 2/124 _125)
وقال أيضاً - رحمه الله - : اعلمْ رحِمَك الله : أنَّ دين الله يكون على القلب بالاعتقاد، وبالحبِّ والبُغض، ويكون على اللِّسان بالنُّطق وترك النُّطق بالكفر، ويكون على الجوارح بفعل أركان الإسلام، وترك الأفعال التي تكفِّر، فإذا اختلَّت واحدة من هذه الثلاث، كفر وارتدَّ. ا.هـ ( الدرر السَّنية 10/87 )
وقال سماحة الشيخ الإمام عبدالعزيز بن باز - رحمه الله تعالى - : الإيمان عندهم ( أي : السلف ) قول وعمل واعتقاد , لا يصح إلا بها مجتمعة . انتهى ( أقوال ذوي العرفان ص147 - تأليف عصام السناني - مراجعة الشيخ العلاَّمة صالح الفوزان )
قلت : فهذه أقوال أئمة الدين , المحتج بكلامهم في هذا الباب , وثمة أقوال أخرى , أضعاف ما ذكرته لأئمة آخرين , تركتها خشية الطول , وفيما ذكرته مقنع لطالب الحق , وكفاية للمسترشد ؛ أما المتعصب فلو أقمت له ألف دليل فلن يقبل إلا ما وافق هواه , فنعوذ بالله من الخذلان .[/b][/center]
:*فاصل7*:
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله , نحمده , ونستعينه , ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا , ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله , صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد :
فهذه رسالة مختصرة في تعريف الإيمان , وبيان الفرق بين قول السلف وقول المخالفين لهم في هذا الباب ؛ كالخوارج , والمعتزلة , والمرجئة , وبعض المعاصرين المخالفين للسلف في بعض مسائل الإيمان .
ولْيُعْلَم أن القصد من هذه الكتابة هو بيان قول سلفنا الصالح وتمييزه عن باقي الأقوال المخالفة , وهذا لا يتم إلا بذكر هذه الأقوال حتى يتصورها القارىء ويميِّز بينها وبين قول السلف , كما قيل :
وبضدها تتميَّز الأشياء .
ولولا هذا لم يكن بنا حاجة لذكر أقوال المخالفين من القدامى أو المعاصرين ، فليس المقصود إذن الرد على أحد بعينه , فما يعنيني الأشخاص بقدر ما تعنيني الأقوال والمعتقدات .
ومن ظن أن هذه الكتابة موجهة لشخص بعينه فقد ظن بكاتبها ظن السوء ؛ والله عزَّ وجلَّ يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } الحجرات ( 12 ) , وليس المقصود - أيضاً - إثارة الفتن والقلاقل والخوض بالباطل بين أهل السنة , فما كتبت هذا إلا نصيحةً لعامة المسلمين , وعملاً بالميثاق الذي أخذه الله تعالى على مَنْ حَمَلَ أمانة العلم : { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } آل عمران (187) .
وقد رَغِبَ إلىَّ بعضُ الإخوة الأفاضل الكتابةََ في هذه المسألة , لكثرة ما أُثير حولها من ردود ومناقشات , التبس فيها الحق بالباطل ؛ فلم أر بداً من إجابة هذا الطلب الكريم .
فأقول مستعينا بالله عز وجل سائلا إياه التوفيق والسداد :
قول السلف
أجمع السلف على أن الإيمان قول وعمل , يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .
وقد تواترعن السلف قولهم ( الإيمان قول وعمل ) حتى أصبحتْ هذه الكلمةُ شعارا عند أهل السنة على السنة , كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (مجموع الفتاوى 7/308)
شرح قول السلف : الإيمان قول وعمل
بيان ذلك أن القول : يشمل قول القلب وقول اللسان .
والعمل : يشمل عمل القلب وعمل الجوارح .
فهذه أربعة أركان يقوم عليها الإيمان , وشرح ذلك على النحو التالي :
قول القلب : تصديقه .
وقول اللسان: النطق بالشهادتين .
وعمل القلب : كالحب , والبغض , والخوف , والرجاء , والتوكل , والخشية , والإنابة , والإخلاص ... إلى غير ذلك من أعمالِ القلوب , التى هي بحرٌ لا ساحلَ له .
وعمل الجوارح : هي الأعمال الظاهرة ؛ كالصلاة , والزكاة , والحج , والصوم , والجهاد في سبيل الله ...
فالسلف الصالح يدخلون هذه كلها في الإيمان ، ويقولون إن الإيمان لا يصح إلا بقول وعمل ، وعلى هذا إجماعهم , كما حكاه الإمام الشافعي حيث قال رحمه الله : " وكان الإجماع من الصحابة ، والتابعين من بعدهم , ومن أدركناهم يقولون : الإيمان : قول وعمل ونية ؛ لا يجزىء واحد من الثلاثة إلا بالآخر" .
نقله عنه الإمام اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد ( 5/886 ) , وشيخ الإسلام ابن تيمية , كما في مجموع الفتاوى ( 7/209 ) وكلاهما عزاه إلى كتاب ( الأم ) للشافعي .
تنبيه : هذا النص عن الشافعي لا يوجد في نسخة ( الأم ) المطبوعة , ففرح بهذا بعض المعاصرين المخالفين لقول السلف , وجعلوا يشككون في نسبة هذا القول إلى الشافعي !
والجواب عن هذا أن يقال :
أولاً : هذا الإجماع حكاه غير الشافعي , وممن حكاه تلميذه المزني , كما في رسالته ( شرح السنة ) .
ثانياً : هل نسخة ( الأم ) التى ينقل عنها اللالكائي وابن تيمية هي النسخة المطبوعة نفسها ؟ فإن أثبتم أنها هي - ودون ذلك خرط القتاد - جاز لكم التشكيك في نسبة هذا القول إلى الشافعي . أمَّا وقد عُلِمَ أن الكتب القديمة تتعدد رواتها , وتختلف نسخها ؛ فيوجد في نسخة ما ليس في الاخرى , فليس يليق بعاقل منصف - حينئذٍ - أن يورد هذا التشكيك من أصله .
ثالثاً : اللالكائي وابن تيمية كلاهما إمام ثبت حجة , فما ينقلانه عن الأئمة المتقدمين صحيح , وليس لأحد أن يُشكك في نقل أمثالهما من أئمة الدين حتى يقيم الدليل على صحة كلامه , وإلا كان راجماً بالغيب , متخرصاً على أهل العلم .
رابعاً : ليس عند من شكك في كلام الشافعي دليل علمي مقنع سوى أن هذا النص لا يوجد في نسخة ( الأم ) المطبوعة , فهل هذا يصلح أن يكون دليلا للطعن في نقل إمامين كبيرين كاللالكائي وابن تيمية . وقد عزا الإمامان ؛ اللالكائي , وابن تيمية - رحمهما الله تعالى - كلام الشافعي إلى كتاب ( الأم ) في باب : النية في الصلاة . فعزواه إلى الباب فضلاً عن الكتاب . ثم يأتي من يشكك في عزوهما ونقلهما من الكتب !
وهذه نقول عن أئمة آخرين في بيان قول السلف , وأنهم موافقون للشافعي رحمه الله فيما قال .
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : الإيمان لا يكون إلا بعمل . رواه عنه الإمام الخلال في ( السنة 3/566 )
وسُئل الإمام سهل بن عبدالله التُّسْتَري ( ت283هـ ) عن الإيمان ما هو ؟ فقال : هو قول ونية وعمل وسنة ؛ لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر ، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق ، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة . ( الإبانة للإمام ابن بطة 2/814 )
قلت : وليس تعريف سهل بن عبدالله التُّسْتَري - رحمه الله - للإيمان يخالف التعريف المتواتر عن السلف : أن الإيمان قول وعمل . بل هو شرح له . يبين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول :
قَوْلُ السَّلَفِ ( يعني أن الإيمان قول وعمل ) : يَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ الْبَاطِنَ وَالظَّاهِرَ ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ قَدْ لا يَفْهَمُ دُخُولَ النِّيَّةِ فِي ذَلِكَ ؛ قَالَ بَعْضُهُمْ : وَنِيَّةٌ . ثُمَّ بَيَّنَ آخَرُونَ : أَنَّ مُطْلَقَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالنِّيَّةِ لا يَكُونُ مَقْبُولاً إلا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ . وَهَذَا حَقٌّ أَيْضًا فَإِنَّ أُولَئِكَ قَالُوا : قَوْلٌ وَعَمَلٌ لِيُبَيِّنُوا اشْتِمَالَهُ عَلَى الْجِنْسِ وَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُمْ ذِكْرَ صِفَاتِ الأقْوَالِ وَالأعْمَالِ ؛ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ ؛ وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ . جَعَلَ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ اسْمًا لِمَا يَظْهَرُ ؛ فَاحْتَاجَ أَنْ يَضُمَّ إلَى ذَلِكَ اعْتِقَادَ الْقَلْبِ وَلابُدَّ أَنْ يُدْخِلَ فِي قَوْلِهِ : اعْتِقَادَ الْقَلْبِ أَعْمَالَ الْقَلْبِ الْمُقَارِنَةِ لِتَصْدِيقِهِ مِثْلُ حَبِّ اللَّهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ ؛ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ دُخُولَ أَعْمَالِ الْقَلْبِ فِي الإيمَانِ أَوْلَى مِنْ دُخُولِ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ باتفاق الطَّوَائِفِ كُلِّهَا . انتهى ( مجموع الفتاوى 7/506 )
وقال الإمام الآجُرِّي - رحمه الله - في " الشريعة 1/274 ":
باب : القول بأن الإيمان تصديق بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالجوارح لا يكون مؤمنا ، إلا أن تجتمع فيه هذه الخصال الثلاث .
ثم قال رحمه الله : اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق ، وهو تصديق بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالجوارح .
ثم اعلموا أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقا ، ولا تجزيء معرفة بالقلب ، ونطق باللسان ، حتى يكون عمل بالجوارح ، فإذا كملت فيه هذه الثلاث الخصال : كان مؤمنا دل على ذلك القرآن ، والسنة ، وقول علماء المسلمين .
( وقال أيضاً 1/275) :
الأعمال - رحمكم الله - بالجوارح : تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان ، فمن لم يصدق الإيمان بعمله وبجوارحه : مثل الطهارة ، والصلاة والزكاة ، والصيام والحج والجهاد ، وأشباه لهذه ورضي من نفسه بالمعرفة والقول لم يكن مؤمنا ، ولم ينفعه المعرفة والقول ، وكان تركه للعمل تكذيبا منه لإيمانه ، وكان العمل بما ذكرناه تصديقا منه لإيمانه ، وبالله التوفيق . ا.هـ
( وقال رحمه الله 1/311 ) :
بل نقول والحمد لله قولا يوافق الكتاب والسنة ، وعلماء المسلمين الذين لا يستوحش من ذكرهم ، وقد تقدم ذكرنا لهم : إن الإيمان معرفة بالقلب تصديقا يقينا ، وقول باللسان ، وعمل بالجوارح ، ولا يكون مؤمنا إلا بهذه الثلاثة ، لا يجزئ بعضها عن بعض ، والحمد لله على ذلك . ا.هـ
وقال الإمام أبو عبدالله بن بطة - رحمه الله - بعد أن ذكر الآيات الدالة على أن العمل من الإيمان - : فقد تلوت عليكم من كتاب الله عز وجل ما يدل العقلاء من المؤمنين أن الإيمان قول وعمل , وأن من صدَّق بالقول وترك العمل كان مكذِّباً وخارجاً من الإيمان وأن الله لا يقبل قولاً إلا بعمل ولا عملاً إلا بقول . ا.هـ ( الإبانة 2/795 )
وقال الإمام الزاهد القدوة شيخ قرطبة أبو عبدالله بن أبي زَمَنِين رحمه الله تعالى ( ت 399 هـ ) : والإيمان بالله هو باللسان والقلب , وتصديق ذلك العمل ؛ فالقول والعمل قرينان , لا يقوم أحدهما إلا بصاحبه . ا.هـ ( أصول السنة ص207 مكتبة الغرباء الأثرية )
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
حقيقة الدين هو الطاعة و الإنقياد , و ذلك إنما يتم بالفعل لا بالقول فقط ؛ فمن لم يفعل لله شيئا فما دان لله دينا , و من لا دين له فهو كافر . ا.هـ ( شرح العمدة - كتاب الصلاة ص86 )
وقال أيضاً - رحمه الله - : وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الدِّينَ لابُدَّ فِيهِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ , وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بِقَلْبِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَلَمْ يُؤَدِّ وَاجِبًا ظَاهِرًا وَلا صَلاةً وَلا زَكَاةً وَلا صِيَامًا وَلا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ , لا لأجْلِ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَهَا , مِثْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الأمَانَةَ أَوْ يُصَدِّقَ الْحَدِيثَ أَوْ يَعْدِلَ فِي قَسَمِهِ وَحُكْمِهِ مِنْ غَيْرِ إيمَانٍ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ مِنْ الْكُفْرِ ؛ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ يَرَوْنَ وُجُوبَ هَذِهِ الأمُورِ فَلا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مَعَ عَدَمِ شَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِإِيجَابِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمَنْ قَالَ : بِحُصُولِ الإيمَانِ الْوَاجِبِ بِدُونِ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ - سَوَاءٌ جَعَلَ فِعْلَ تِلْكَ الْوَاجِبَاتِ لازِمًا لَهُ أَوْ جُزْءًا مِنْهُ فَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ - كَانَ مُخْطِئًا خَطَأً بَيِّنًا , وَهَذِهِ بِدْعَةُ الإرْجَاءِ الَّتِي أَعْظَمَ السَّلَفُ وَالأئِمَّةُ الْكَلامَ فِي أَهْلِهَا وَقَالُوا فِيهَا مِنْ الْمَقَالاتِ الْغَلِيظَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ , وَالصَّلاةُ هِيَ أَعْظَمُهَا وَأَعَمُّهَا وَأَوَّلُهَا وَأَجَلُّهَا . انتهى ( مجموع الفتاوى 7/621 )
وقال الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله :
لا خلاف بين الأمة أن التوحيد : لا بد أن يكون بالقلب الذي هو العلم , واللسان الذي هو القول , والعمل الذي هو تنفيذ الأوامر والنواهي ؛ فإن أخلَّ بشيء من هذا, لم يكن الرجل مسلماً ؛ فإن أقرَّ بالتوحيد , ولم يعمل به فهو : كافر, معاند, كفرعون وإبليس ؛ وإن عَمِلَ بالتوحيد ظاهراً , وهو لا يعتقده باطناً , فهو : منافق خالصاً , أشر من الكافر . ا.هـ ( الدرر السَّنية 2/124 _125)
وقال أيضاً - رحمه الله - : اعلمْ رحِمَك الله : أنَّ دين الله يكون على القلب بالاعتقاد، وبالحبِّ والبُغض، ويكون على اللِّسان بالنُّطق وترك النُّطق بالكفر، ويكون على الجوارح بفعل أركان الإسلام، وترك الأفعال التي تكفِّر، فإذا اختلَّت واحدة من هذه الثلاث، كفر وارتدَّ. ا.هـ ( الدرر السَّنية 10/87 )
وقال سماحة الشيخ الإمام عبدالعزيز بن باز - رحمه الله تعالى - : الإيمان عندهم ( أي : السلف ) قول وعمل واعتقاد , لا يصح إلا بها مجتمعة . انتهى ( أقوال ذوي العرفان ص147 - تأليف عصام السناني - مراجعة الشيخ العلاَّمة صالح الفوزان )
قلت : فهذه أقوال أئمة الدين , المحتج بكلامهم في هذا الباب , وثمة أقوال أخرى , أضعاف ما ذكرته لأئمة آخرين , تركتها خشية الطول , وفيما ذكرته مقنع لطالب الحق , وكفاية للمسترشد ؛ أما المتعصب فلو أقمت له ألف دليل فلن يقبل إلا ما وافق هواه , فنعوذ بالله من الخذلان .[/b][/center]