منهج الطبري في تاريخه
د . محمد آمحزون
د . محمد آمحزون
بدأ الإمام الطبري حياته العلمية بدراسة الحديث ، فكان حرياً أن يتأثر بمنهج المحدثين في جمع الرواية التاريخية والاهتمام بسندها ، فكان يجمع مأثور الروايات ويدونها مع إسنادها إلى مصدرها مثل : شيخ تتلمذ عليه ، أو عدل شارك في الحادثة أو كان له علم بها ، أو كتاب تدارسه بالسند المتصل قراءة وسماعاً وإجازة .
فكان في الغالب يلتزم وجهة المحدثين في الاهتمام الذي ينصب على الإسناد حيث يثبته في معظم الأحيان في الروايات .
يقول في هذا الشأن في مقدمة تاريخه : ( وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه ، إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها فيه دون ما أدرك بحجج العقول واستنبط بفكر النفوس .. إلا القليل اليسير منه ) [1] .
وهكذا أكد الإمام الطبري حرصه على إسناد كل خبر إلى قائله وأنه سوف لن يسمح لحجج العقول وفكر النفوس أن تتدخل في التفسير والاستنباط ، في الكتابة والتدوين أثناء جمع المادة ، وما ذاك إلا حرصاً منه على جمع ما قيل كله أو جله من وجهات نظر متعددة إن كانت ، وبعد ذلك محصل الموازنة والمقارنة ، والاستنباط والقبول والرد لمن يريد .
ولما كان تاريخ صدر الإسلام - خصوصاً فترة الفتنة - أكثر حساسية من غيره ، إذ فيه روايات أملتها عاطفة الرواة أو الاتجاهات السياسية أو اختلاف وجهات النظر والفهم ، ونظراً لأن الروايات تتأثر بعوامل مختلفة كالنسيان والميول والنزعات فيصعب الجزم بدقتها وسلامتها ، فإن هذا مما يجعل إبداء الرأي فيها أو إصدار حكم بشأنها يبدو معقداً للغاية .
ولهذا قام الإمام الطبري -رحمه الله - وهو يعرض وجهات النظر المختلفة لرواته ومصادره باتباع طريقة جمع الأصول وتدوينها على صورة روايات ، المسؤول عنها رجال السند أي الرواة الإخباريون . وقد برهن على ذلك في قوله : ( فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما ينكره قارئه أو يستشنعه سامعه ، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة ولا معنى في الحقيقة ، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا ، وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا ، وأنا إنما أدينا ذلك عن نحو ما أدي إلينا ) (1/8) .
ومن منهجه أيضاً الحياد ، فهو يعرض مختلف وجهات النظر دون تحزب أو تعصب ، وإن كان له رأي خاص فيظهر أحياناً في اختياره للروايات وإيراد بعضها
وترك البعض الآخر ، متجنباً إعطاء حكم قاطع في القضايا التي يتعرض لها ، حتى أنه لا يفضل رواية على أخرى إلا نادراً .
وقد أدى به التزام هذا المنهج إلى الحرص على إيراد الروايات المختلفة للحادث أو الخبر الواحد ، وعند المقابلة بين الروايات يستعمل تعبير : ( واختلف في كذا ) ثم يعقبه باستعراض الروايات المختلفة لرواته كقوله : فقال بعضهم .. وقال بعضهم .. وقال هشام بن الكلبي .. ، وكقوله : وذكر عن فلان أنه قال .. وحدثنا فلان .. وقال خرون .. وقال بعضهم .. (4/174)
إلا أن النقد والمقابلة يظهر جلياً في عدد من الأخبار التي ترد في نهاية الحوليات كالوفيات والصوائف وتعيين ولاة الأقاليم وأمراء الحج ، ومثال ذلك في قوله : ( وفي سنة كذا توفي أبو العباس يوم .. بالجدري . وقال هشام بن محمد الكلبي - توفي يوم .. واختلف في مبلغ سنه يوم وفاته .
قال بعضهم .. وقال بعضهم .. وقال الواقدي .. (4/470) ، وقوله : ) وغزا الصائفة في سنة كذا فلان ، وقال الواقدي أن الذي غزا الصائفة في هذه السنة فلان (8/241) .
وهكذا إذا كان للحادث روايات مختلفة اعتقد الإمام الطبري بوجوب ذكرها لتكتمل الرؤية عنه . لكن مع اجتهاده في تدوين كل ما يمكن تدوينه من الروايات والأقوال من الخبر الواحد ، فإذا وصل إلى موضوع مطول مختلف فيه قطعه ليذكر مواضع الاختلاف مشيراً إليها (4/ 466 ، 468 ، 469) .
فإذا ما انتهى منها عاد إلى المتن - أي إلى الموضع الذي وقف عنه - فيمهد للكلام بإشارة تدل على استئنافه كأن يقول : ( رجع الحديث إلى حديث فلان ..) (4/470) .
وما يلاحظ أن هذه الطريقة تربك القارئ ، فتنسيه الحادث الأصلي ، إذ تشكل عقبة أمامية أمام الوحدة الموضوعية للحادثة التاريخية ، وربما كان الأفضل
عرض كل رواية عرضاً متكاملاً من أولها إلى آخرها ، الواحدة تلو الأخرى ، وبهذا العرض الكامل تتكون لدى القارئ فكرة واضحة عن الموضوع وعن
الأوجه المختلفة فيه ، فيستطيع أن يوازن بين جميع الآراء ، ويرجع بعضها على بعض ، فتتكون بذلك لديه نظرة إيجابية عن الموضوع .
وقد راعى الإمام الطبري في ترتيب تاريخه تسلسل الحوادث ، فرتبها على حسب وقوعها عاماً بعد عام منذ الهجرة إلى نهاية عام 202 هـ (914 م) . فذكر
في كل سنة ما وقع فيها من الأحداث التي رأى أنها تستحق الذكر .
ويختلف حجم الحوليات لديه حسب كثرة وقوع الحوادث فيها أو قلتها وأهميتها وبلوغ أخبارها إليه ، فيطيل ويقصر وفق ذلك ، فبعض الحوليات لا تعدو أسطراً
(سنة25) ، وبعضها صفحة أو صفحتان (سنة 29 ، 48 ، 0 7) ، والبعض الآخر يزيد طوله على مائة صفحة (سنة35 ، 36) وإذا كانت - الحادثة طويلة فيجزئها حسب السنين التي تستغرقها .
أما طريقته في سرد أحداث كل حولية فليست على نسق واحد ، فتارة يذكر الحادث التاريخي ثم يبدأ في ذكر تفصيله والروايات فيه (4/442)
وتارة يذكر جملة الأحداث التي كانت هذه الحولية ثم يعود إلى تفصيل بعضها (4/317)
وتارة ثالثة تقتصر الحولية على جملة من الأحداث في بضعة أسطر (4/250)
وفي ختام الحولية يذكر بعض من توفي في تلك السنة من المشهورين ، لكن هذا ليس مضطرداً ، أما الذي لا يكاد يتركه غالباً في ختام كل حولية فذكر أسماء عمال
الأقاليم أو أمراء الحج أو هما معاً في تلك السنة ، وفي الحوليات التي أعقبت حركة الفتوح يحرص على ذكر أخبار المرابطين على الثغور للجهاد ، كما يسمي
الصوائف والشواتي ، والحصون والمدن التي استولى عليها المسلمون .
وبالنسبة للأخبار التي لا ترتبط بزمن معين كالسير مثلاً ، فقد كان يختم بها الحديث عن كل خليفة عند وفاته ، فبعد أن يذكر الأحداث في عهده مرتبة على السنين يختمها باستعراض سيرته دون التقيد بعامل الزمن .
وما يذكر أن الإمام الطبري لم يتقيد بطريقة الحوليات في كل كتابه ، وإنما اتبعها في الحوادث الخاصة بتاريخ الإسلام .
أما في القسم الرابع - أي منذ الخليقة إلى الهجرة - فقد اتبع منهجاً آخراً في عرض الحوادث فلم يرتبها على حسب وقوعها عاماً بعد عام ، إذ كان ذلك متعذراً ، ولكن سار على النهج الذي سلكه أكثر المؤرخين القدماء بالبدء بالخليقة ثم بالأنبياء ثم التعرض للحوادث التي وقعت في أيامهم ، وذكر الملوك الذين كانوا يعاصرونهم وأخبارهم ، وكذلك الأمم المعاصرة لهم والتي جاءت بعدهم إلى ظهور الإسلام وبعثه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .
ويكثر الإمام الطبري في تاريخه من تسجيل النصوص التاريخية من رسائل وخطب ومحاورات ولا سيما الشعر رغبة في توثيق الحوادث أو التشويق إليها .
كما أنه حاول ضبط النصوص التي يرويها دون تبديل أو تغيير إلى درجة أنه كثيراً ما تبقى الكلمات والألفاظ غير العربية كما هي (2/51 ، 54 ، 62) .
أما منهجه في إثبات المصادر ، فإنه إذا ما نقل من كتاب ما فإنه قلما يذكر عنوانيهن ، وإنما يذكر اسم مؤلفه كقوله مثلاً : ( قال الواقدي ) أو ( قال أبو مخنف..
( وإذا سمع من أحد مشافهة قال : ( حدثني فلان .. ) فإذا اشترك مع راوي محدثه في السماع آخر أو آخرون قال : ( حدثني فلان قال .. حدثنا فلان وفلان .. ثم
سلسل السند إلى مصدره الأصلي ) .
وكان يعتمد أحياناً على المراسلات فيقول : كتب إلى السري عن شعيب عن سيف (4/262) وقد حرص في الغالب على السند المتصل إلا في بعض المواقع
كقوله : ( وقد قيل ) أو ( ذكر عن فلان ) (5/172) .
وكان يضع العناوين لأحداثه وخاصة المهمة منها في بداية كلامه عن بدء كل سنة تحت عنوان عام مثل قوله : ( ثم دخلت خمس وثلاثين ، ذكر الخبر عما كان
فيها من الأحداث المشهورة ) أو ( ذكر الأحداث المشهورة التي كانت فيها )
أما الأحداث الصغيرة التي لا تتجاوز بضعة أسطر ، فإنه يذكرها متعاقبة تحت عنوان : ثم دخلت سنة كذا ، وذكر الأحداث التي كانت فيها .
أما فيما يتعلق بعدالة الرواة ، فإذا كان الإمام الطبري لا يتقد بالقيود التي تمسك بها أهل الحديث بالنسبة إلى الرواة الضعفاء ، فأدخل في تاريخه أقوال الكلبي وابنه هشام والواقدي وسيف بن عمر وأبي مخنف وغيرهم من الضعفاء المتهمين بالكذب والوضع في الحديث ، فإن ذلك يرجع إلى اتباعه منهجاً معلوماً عند علماء الحديث وغيرهم حيث يذكرون ما يبلغهم ويسوقون سنده ، فالصحيح يؤخذ وغير الصحيح يعرف ويرد وفق ضوابط الشرع وقواعد الرواية ..
وهكذا لم يكن الإمام الطبري بذلك العمل مغفلاً أو جاهلاً عندما يورد مئات الروايات عن الضعفاء والمتروكين ، لكنه يتبع منهجاً مرسوماً عند علماء الجرح والتعديل لا يلزم من إيراد أخبار المتروكين والضعفاء وتدوينها في كتاب من الكتب للاحتجاج بها كقولهم : ( يروي حديثه ولا يحتج به ) و ( يذكر حديثه للاعتبار ) ، (يكتب حديثه للمعرفة ) ، ( ولا يجوز الرواية عنه إلا للخواص عند الاعتبار ) [2] .
وفي هذا الصدد قال الحافظ ابن حجر في ترجمة الطبراني بأن الحفاظ الأقدمين يعتمدون في روايتهم الأحاديث الموضوعة مع سكوتهم عنها على ذكرهم الأسانيد ، لاعتقادهم أنهم متى أوردوا الحديث بإسناده فقد برئوا من عهدته ، وأسندوا أمره إلى النظر في إسناده . [3]
ولكون الإمام الطبري من علماء الحديث فقد سار على هذا النهج في تاريخه ، فهو ليس صاحب الأخبار التي يوردها بل لها أصحاب آخرون أبرأ هو ذمته بتسميتهم ، هؤلاء متفاوتون في الأقدار ، وأخبارهم ليست سواء في قيمتها العلمية ، ففيها الصحيح والضعيف الموضوع ، تبعاً لصدق الرواة أو كذبهم ومنزلتهم من الأمانة والعدالة والتثيبت ، ولذلك ينبغي دراسة أسانيد ومتون الروايات وفق المقاييس المعتبرة عند العلماء للوقوف على مدى صحتها من عدمه .
وبناء على ذلك لا يكفي في المنهج العلمي السليم الإحالة على تاريخ الإمام الطبري أو غيره من الكتب المسندة دون دراسة سند الرواية ومتنها ، لأن من أسند
فقد برىء من العهدة .
ومما يلاحظ أيضاً أن الطبري لم يرد الاقتصار على المصادر الموثوقة ، بل أراد أن يطلع قارئه على مختلف وجهات النظر ، فأخذ من مصادر أخرى قد لا يثق
هو بأكثرها إلا أنها تفيد عند معارضتها بالأخبار القوية ؛ فقد تكمل بعض ما فيها من نقص ، أو تقوى الخبر باشتراكها مع المصادر الصحيحة في أصل الحادثة .
إن مثل الإمام الطبري ومن على شاكلته من العلماء الثقات الأثبات في إيرادهم الأخبار الضعيفة كمثل رجال القضاء إذا أرادوا أن يبحثوا في قضية ، فإنهم يجمعون
كل ما تصل إليه أيديهم من الأدلة والشواهد المتصلة بها مع علمهم بتفاهة بعضها أو ضعفه اعتماداً منهم على أن كل شيء سيقدر بقدره .
ولهذا فقد كان لا يفرط في خبر مهما علم من ضعف ناقله خشية أن يفوته بإهماله شيء من العلم أو الفائدة ولو من بعض النواحي ، إلا أنه يسند كل خبر إلى رواية ليقف القارئ على قوة الخبر أو ضعفه من كون رواته ثقاة أو مجروحين ، وبذلك يرى أنه أدى ما عليه ، خصوصاً وقد وضع بين أيدي القارئ كل ما وصل إلى يده من نصوص وطرق مختلفة للخبر . ومن فوائد إيراد الخبر الواحد من طرق شتى وإن كانت ضعيفة ما قاله ابن تيمية :
( إن تعدد الطرق مع عدم الاتفاق في العادة يوجب العلم بمضمون المنقول - أي بالقدر المشترك في أصل الخبر - لكن هذا لا ينتفع به كثيراً في علم
أحوال الناقلين - أي نزعاتهم والجهة التي يحتمل أن يتعصب لها بعضهم - و في مثل هذا ينتفع برواية المجهول والسيء الحفظ .. ونحو ذلك ولهذا كان أهل العلم
يكتبون مثل هذا ويقولون أنه يصلح للشواهد والاعتبار ، وما لا يصلح لغيره ، وقال أحمد : قد أكتب حديث الرجل لأعتبره ) [4] .
وتحسن الإشارة إلى أن اتساع صدور أئمة السنة من أمثال الإمام الطبري لإيراد أخبار المخالفين من الشيعة وغيرهم دليل على فهمهم وأمانتهم ورغبتهم في تمكين قرائهم من أن يطلعوا
والنقل
لطفــــــــاً .. من هنــــــــــا
لطفــــــــاً .. من هنــــــــــا