التنصير مفهومه وأهدافه ووسائله وسبل مواجهته
المدخل
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين ، وبعد ؛
فالتنصير في مفهومه العام ظاهرة بدأت مع ظهور رسالة عيسى ابن مريم - عليهما الصلاة والسلام - . . وقد حصل لهذا المفهوم تطورات بحسب ما حصل للنصرانية الأولى من تحريف بدأ على يد شاؤول أو بولس في القرن الأول الميلادي . وأدخلت عليها ثقافات يونانية [ إغريقية ] وهندية وفارسية ، فأصبحت النصرانية خليطا من الوحي الإلهي الذي أنزله الله - تعالى - على نبيه ورسوله عيسى ابن مريم - عليهما السلام - وأفكار البشر الذين سبقوا في وجودهم ظهور النصرانية .
والمجتمع المسلم لم يسلم من ظاهرة التنصير ، بل ربما أضحى هذا المجتمع أكثر المجتمعات تعرُّضا لها ، نظرًا للمقاومة التي يلقاها المنصرون من المسلمين أفرادا قبل المؤسسات والجماعات . ذلك أن المسلم يتربى على الفطرة وعلى التوحيد ، ويصعب حينئذ أن يتقبل أي أفكار فيها تعارض مع الفطرة ، أو فيها خلل في الجوانب العقدية ، وفي مخاطبة العقل ، مادام المسلم يملك البديل الواضح .
ومع هذا تستمر حملات التنصير الموجهة للمجتمعات الإسلامية والأقليات والجاليات المسلمة ، آخذة وسائل عديدة ومفهومات متجددة تختلف عن المفهوم الأساس المتمثل في محاولة إدخال غير النصارى في النصرانية .
والتنصير ظاهرة متجددة ومتطورة في آن واحد . وتطورها يأتي في تعديل الأهداف ، وفي توسيع الوسائل ومراجعتها بين حين وآخر ، تبعا لتعديل الأهداف ، ومن ذلك اتخاذ الأساليب العصرية الحديثة في تحقيق الأهداف المعدلة ، حسب البيئات والانتماءات التي يتوجه إليها التنصير ، حتى وصلت هذه الظاهرة عند البعض ، إلى أنها أضحت علما له مؤسساته التعليمية ومناهجه ودراساته ونظرياته .
وقد تنبه المسلمون إلى هذه الحملات منذ القدم ، ووقف لها العلماء والولاة والمفكرون وعامة الناس ، بحسب قدراتهم العلمية والسلطانية ، فقامت ردود علمية على النصرانية المحرفة . وقامت كذلك تنبيهات ورصد للأنشطة التنصيرية في المجتمع المسلم بخاصة ، وفي العالم بعامة . ومن أجل ذلك ظهرت أعداد كثيرة من الرسائل والدراسات والمقالات والأبحاث تصدر في الكتب والمجلات والصحف السيارة والدوريات العلمية ، كما تصدر في الشريط ، هذا الوعاء الذي أخذ طابع القبول في الآونة الأخيرة مع بروز ظاهرة العودة إلى الإسلام "الصحوة" . وانتثرت المعلومات في هذا الإنتاج العلمي والفكري المتنوع ، من حيث أوعية المعلومات من كتب وغيرها ، ومن حيث التغطية . وبدا الإقبال على التعرف على الحملات التنصيرية واضحا مع تنامي الوعي والشعور بوجود تيارات تتحدى الإسلام والمسلمين ، وتعمل على منافسته في أذهان الناس وممارساتهم .
وبسبب تناثر المعلومات حول التنصير وتشتتها واختلاف البيانات الإحصائية وتغيرها مع الزمن ، ومن خلال التجربة الذاتية مع الحملات التنصيرية بالتعرض المحدود لها والاطلاع على أوجه نشاطها ، وحيث إن هذه الحملات متجددة ، وهي بحق تهدد المجتمع المسلم ، وجدت أنه من المفيد الوقوف مع الفكرة التنصيرية ، من حيث مفهومها ، وأهدافها ، ووسائلها المباشرة والمساندة وسبل مواجهتها ، فجاءت هذه الوقفة التي بين يدي القارئ . وهي لا تعدو كونها عرضا عاما لما كتب عن هذه الظاهرة باللغة العربية ، ومحاولة الخروج بوقفة علمية موضوعية تختصر المسافة على القارئ بوضعها في مرجع واحد .
ولا أدعي السبق في هذا ، ولا إيراد معلومات جديدة ، عدا محاولاتي التدخل بوقفات متناثرة في سياق هذا العرض . فإن يكن لهذه الوقفات فضل فإنه سينحصر في تقصير المسافة على المستفيد ( القارئ ) بالوصول السريع إلى المعلومات عن التنصير ، من حيث كونه ظاهرة قائمة لها آثارها على المجتمع المسلم . ولعل هذه الوقفة تفتح الآفاق لمزيد من التوسع لمن أراد ذلك .
وفي سبيل إتاحة المجال للتوسع والإسهام في هذا المجال عمدت إلي رصد ما كتب عن التنصير في الأدبيات "الكتابات" العربية ، وبخاصة ما كتب في الكتب والدوريات والمجلات الثقافية . وجعلت هذه الوقفة التي بين يدي القارئ مقدمة للرصد الوراقي "الببليوجرافي" . فإن ظهرت الوقفة مستقلة عن الرصد فإنما قصد بذلك ، أيضا ، اختصار المسافة على المستفيد ( القارئ ) ، فإن أراد الاستزادة رجع إلى الرصد ليدله على مبتغاه ، من خلال تقسيم مواد الرصد إلى مجموعة من رؤوس الموضوعات ، رأيت أنها هي أهم ما تحدثت عنه هذه المواد ، مع عدم إغفال التداخل بينها .
وقد تعمدت في هذه الوقفة الابتعاد عن البيانات والإحصائيات لأنني وجدتها - في الغالب - غير دقيقة . وعدم دقتها يرجع إلى أنها تُستَقَى عادة من مراجع أجنبية ، يكون تركيزها طائفيا أحيانا ، أو مؤسسيا أحيانا أخرى ، أو إقليميا من ناحية ثالثة ، فتقتصر إحصائيتها على إنجازات الطائفة [ كاثوليكية أو بروتستانتية أو أرثودوكسية ] ، أو تقتصر على إنجاز إرسالية أو مجموعة من الإرساليات تربطها رابطة تنظيمية ، أو إقليمية ، لكنها لا تغطي جميع الجهود .
وأقرب مثال على هذه المقولة أن ميزانية التنصير في العالم كانت عام 1411هـ - 1990 م حوالي مائة وأربعة وستين مليار دولار أمريكي [ 164000000000 ] سنويا ، وقد أفادني بهذا الدكتور عبد الرحمن السميط ، أحد العاملين في الساحة الإفريقية ، ونشر هذا الرقم في مجلة الدعوة السعودية . ثم وجدت أن الميزانية قد قفزت عام 1413 هـ - 1992 م إلى مائة وواحد وثمانين مليار دولار أمريكي [ 181000000000 ] . وقد أفاد بهذا أحد المحاضرين في أحد الدروس العامة التي تحدث فيها عن التنصير . والفارق الزمني بين الرقمين هو سنتان ، أما الفارق الرقمي بينهما فهو سبعة عشر مليار دولار [ 17000000000 ] ، وهو الزيادة في غضون سنتين فقط . ومثل هذا التفاوت في الأرقام ينطبق على أعداد المنصرين والمنصرات ، والمتنصرين والمتنصرات ، والمعاهد التنصيرية ، والجمعيات القديمة والحديثة ، واللقاءات والمؤتمرات وغيرها من وسائل "تنصيرية" .
وفي نشرة وزعتها الندوة العالمية للشباب الإسلامي جاء فيها أن عدد النصارى في العالم يبلغ مليارًا ، وسبع مائة وعشرين مليون ( 1721000000 ) نسمة ، ويبلغ عدد المنظمات التنصيرية في العالم أربعة وعشرين ألفا وخمس مائة وثمانين ( 24580 ) منظمة ، وعدد المنظمات العاملة في مجالات الخدمة يزيد عن عشرين ألفا وسبع مائة ( 20700 ) منظمة ، ويبلغ عدد المنظمات التي تبعث منصرين متخصصين في مجالات التنصير والإغاثة ثلاثة آلاف وثماني مائة وثمانين ( 3880 ) منظمة ، ويزيد عدد المعاهد التنصيرية على ثمانية وتسعين ألفا وسبع مائة وعشرين ( 98720 ) معهدا تنصيريا ، ويبلغ عدد المنصرين المتفرغين للعمل خارج إطار المجتمع النصراني أكثر من مئتين وثلاثة وسبعين ألفا وسبع مائة وسبعين ( 273770 ) منصرا ، والذي يظهر لي أن هذا الرقم الأخير متواضع جدا ، ويزيد عدد الكتب المؤلفة لأغراض التنصير عن اثنين وعشرين ألفا ومائة ( 22100 ) كتاب في لغات ولهجات متعددة ، وبلغ عدد النشرات والمجلات الدورية المنتظمة ألفين ومئتين وسبعين ( 2270 ) نشرة ومجلة ، توزع منها ملايين النسخ بلغات مختلفة ، ويزيد عدد محطات الإذاعات التنصيرية على ألف وتسع مائة ( 1900 ) إذاعة ، تبث إلى أكثر من مائة ( 100 ) دولة وبلغاتها . وذكرت النشرة أن مجموع التبرعات التي حصل عليها المنصرون لعام واحد حوالي مائة وواحد وخمسين مليار ( 151000000000 ) دولار أمريكي ، وهذا الرقم يقل عن الرقم المأخـوذ من المحـاضـرة المذكـورة أعـلاه بثـلاثين مليـار ( 30000000000 ) دولار ، ويقل عن الرقم الذي أفـاد بـه الدكـتـور عبد الرحمن السميط بثلاثة عشر مليار ( 13000000000 ) دولار .
ولا غرابة في هذه الفروقات في الأرقام ، فذلك راجع إلى نوعية المصادر التي يستأنس بها موردو هذه الإحصائيات . وعلى أي حال فالأرقام والإحصاءات عالية ومتغيرة بسرعة عجيبة ، نظرا لتطور ظاهرة التنصير وأساليبه في نشر التنصير بين الناس بعامة ، ولهذا آثرت تجنب ذكر الإحصائيات في هذه الوقفات .
ومن منهجي أيضا في هذه المناقشات للتنصير الإصرار على مصطلحي النصرانية والتنصير في مقابل المسيحية والتبشير ، إلا ما اضطررت إليه مما يأتي ضمن نص منقول اقتباسا ، فلا أملك ، علميا ، التصرف في الكلمات الواردة فيه . ولم أشأ التدخل في النص بوضع البديل المختار بين معقوفتين ، مع إمكان ذلك ، لأني لم أر داعيا لذلك ، ويكفي هنا تبيان المنهج ، وأني إنما أنقل نصا . ولا يعني نقلي له إقراري لاستخدام المصطلحات الواردة فيه .
وينبغي - في رأيي المستمد من المنهج الذي سرت عليه في هذه المناقشات - أن تعالج ظاهرة التنصير معالجة موضوعية ، بعيدة عن الإفراط في الحساسية تجاه النصارى بعامة . فليس بالضرورة أن جميع النصارى منصرون ، بل ليس بالضرورة أن جميع النصارى مقتنعون بنصرانيتهم ، ويطبقون تعاليمها في حياتهم الخاصة ، وإذا كانوا يطبقون تعاليمها في حياتهم الخاصة ، ليسوا بالضرورة متعاطفين مع مفهوم التنصير . وهكذا نجد أن هناك احتمالات كثيرة تمنعنا من إطلاق الأحكام معممة على الجميع .
والموضوعية تقتضي أيضا أن ندرك أن هناك نصارى في المجتمعات المسلمة ، وغير المسلمة ، لم يأتوا بثياب المنصرين . وينبغي ألا نأخذ الناس بالظنة ، لأننا في مواقفنا لا نعبر عن وجهات نظر شخصية ، بل نعبر عن منهج ندعو الناس إليه . وأحيل هنا إلى خبر وفد نجران إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما فعلوه بالمسجد النبوي ، وموقف الرسول - عليه الصلاة السلام - من هذا التصرف . كما أحيل إلى مـا فـعله أمـيـر المؤمنين خليـفـة خليـفـة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في بيت المقدس ، كما أحيل إلى موقفه - رضي الله عنه - من المحاسب النصراني عند أحد الولاة ، وذلك لتكتمل الصورة في مسألة النظر إلى الآخرين .
على أن النظر إلى الآخرين ، من غير المسلمين في المجتمع المسلم ، تحكمه أحكام الشرع الحنيف ، كما هي الحال مع جميع الأحكام الشرعية التي تحكم علاقة العبد مع الله تعالى مباشرة ، ومع الخلق عامة . ولم يترك المجال لسيطرة الشعور الذاتي الذي يخضع لمؤثرات الزمان والمكان الآنيين .
وربما أكون قد قصرت في عدم الرجوع إلى الإسهامات الأجنبية مع القدرة على ذلك ، من حيث الإمكانية اللغوية - ولله الحمد - فاقتصرت ، مع هذا ، على ما كتب بالعربية . عدا العرض السريع لبعض ما كتب عن الوسائل ، والنظرة إلى المستقبل والمكان . ولا أجد مبررًا لذلك سوى عدم توافر المصادر والمراجع الأجنبية عند إعداد هذه الوقفة . ولعل مدى قبولها والإفادة منها يوجب ، في طبعة تالية ، طرق هذه الوسيلة والإفادة منها في الحصول على المعلومات التي قد ينظر إليها على أنها حديثة ، إذ إنها تنهل من المنبع .
وقد كانت نواة هذه الوقفة مجموعة من المحاضرات حول التنصير ألقيت في بعض مساجد مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية ، وألقيت كذلك في فرع جمعية الإصلاح الاجتماعي في الفجيرة من الإمارات العربية المتحدة ، وفي الجامعة الإسلامية على مشارف نيامي عاصمة النايجر ، وفي المركز الإسلامي الأفريقي بالخرطوم عاصمة السودان . وقد لقيت خلال هذه المحاضرات دعوات من بعض الحضور لنشر مضمون هذه المحاضرات التي تعددت من حيث إلقاؤها ، وتكررت من حيث الموضوع نفسه .
والذي آمله أن تؤدي هذه الوقفة ما أريد منها ، وأن يكون فيها نفع لمن أراد الإفادة . ولعلها تفتح آفاقا جديدة في أذهان المستفيدين من "القراء" ، حول ما تعانيه الأمة من تحديات خارجية تأتي في مقدمتها - في نظري - حملات التنصير المستمرة ، ومع هذا فهي وقفات تظل ، على أي حال ، جهد المقل ، كما تظل من كلام البشر غير المعصومين الذي يؤخذ منه ويرد .
وأسأل الله تعالى التوفيق والسداد ، كما أسأله العون والمغفرة عن التقصير . وكان الله في عون الجميع .
علي بن إبراهيم الحمد النملة
الرياض : ربيع الآخر / 1419 هـ
.الرياض : ربيع الآخر / 1419 هـ