خزانة الربانيون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    قواعد وتنبيهات من أصول فهم المصطلحات وشرحها ووضعها

    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    قواعد وتنبيهات من أصول فهم المصطلحات وشرحها ووضعها Empty قواعد وتنبيهات من أصول فهم المصطلحات وشرحها ووضعها

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 15.10.08 8:32


    قواعد وتنبيهات من أصول فهم المصطلحات وشرحها ووضعها

    بسم الله والحمد لله.

    هذا بحث فيه جملة من القواعد والتنبيهات في باب فهم وشرح مصطلحات المحدثين؛ أسأل الله أن ينفع بها كاتبها وقارئها؛ وسأقوم إن شاء الله بوضعها على ملف (وورد) بعد نشر بقيتها قريباً، وبعد أن أقرأ – إن شاء الله – ما لعله أن يكون من تعليقات واستدراكات عليها لبعض الأفاضل رجاء انتفاعي بها.

    ودونك القواعد والتنبيهات:


    *******

    1- بيان معنى المصطلح:

    الاصطلاح اتفاق القوم قلوا أو كثروا على استعمال لفظ في معنى معين عندهم غير المعنى الذي وضع له في أصل اللغة، وذلك كلفظ الواجب فإنه في أصل اللغة بمعنى الثابت واللازم، وقد اصطلح الفقهاء على وضعه للأمر الذي وعد الشارع فاعله الثوابَ عليه، وأوعد تاركه العقوبة على تركه.


    وعرّف الشريف الجرجاني في (التعريفات) (ص16) الاصطلاح بقوله: (إخراج اللفظ من معنى لغوي إلى آخر لمناسبة بينهما. وقيل: الاصطلاح: اتّفاق طائفة على وضع اللفظ بأزاء معنى---).

    2- بيان معنى مصطلحات المحدثين:

    مصطلحات الحديث هي جميع الكلمات التي استعملها كثير أو قليل من المحدثين بمعنى يخالف معناها عند أهل اللغة مخالفة يسيرة أو كثيرة، قريبة أو بعيدة. ولكن الذي يشرح مصطلحات المحدثين يتطرق أيضاً إلى شرح المصطلحات الموافقة في معناها الاصطلاحي لمعناها اللغوي، لأن الواقف على هذه المصطلحات لا يدري ابتداء هل هي موافقة للغة أو لا؟


    وتنقسم مصطلحات المحدثين إلى ثلاثة أقسام:


    الأول: مصطلحات الرواية أو مصطلحات الرواة؛ وهي كل ما يرد على ألسنة الرواة من ألفاظ لها معاني مصطلح عليها عند المحدثين؛ وما يلتحق بها.


    ومثال مصطلحات الرواة: صيغ الأداء التي يتلفظ بها الراوي عند التحديث؛ وقول الراوي (ثبتني فيه فلان).


    الثاني: مصطلحات نقد الرجال، وبيان تواريخهم، وما يلتحق بها.


    ومثال هذا القسم قول الناقد (هو ثقة)؛ وقوله (زوَّر أسمعة).


    الثالث: مصطلحات التخريج؛ وما يلتحق بها.


    ومثال هذا القسم قول المخرج: (هذا حديث شاذ).


    وإنما أضفت إلى كل نوع ما يلتحق به، لأنه يحسن بمن أراد أن يجمع هذه الأقسام الثلاثة أن يضيف إليها ما يقاربها ويلتحق بها من المصطلحات والرموز؛ فإنها مما تشتد الحاجة إليها في هذا الفن في كثير من الأوقات.


    فيحسن بمن أراد أن يجمع هذه الأقسام الثلاثة أن يضم إليها ما يقاربها ويلتحق بها من المصطلحات والرموز.


    أما القسم الأول فيلتحق به كل ما قد يتعلق به من مصطلحات ورموز النساخ والمؤلفين والمحققين والطابعين والوراقين ونحوهم؛ كالجزء والكراس والطاقة والمجلد والطبعة والتحقيق والتعليق والهامش والحاشية واللحق والدارة والتحويق والتصحيح والتضبيب وونحو ذلك، فإنها – أي مصطلحات النسخ والتقييد قديماً، ومصطلحات الطبع والتحقيق والتعليق حديثاً – يظهر عند التأمل أنها أقرب في جنسها إلى مصطلحات الرواة.


    وأما القسم الثاني فيلتحق به كل ما قد يتعلق به – أو يدخل فيه – من مصطلحات المؤرخين والنسابين ونحوهم؛ فهي – أي مصطلحات التاريخ والوفَيات والأنساب ونحوها – أقرب في جنسها، عند التأمل، إلى مصطلحات علم الرجال.


    وأما القسم الثالث فيلتحق به أسماء أنواع كتب المحدثين كالصحيح والسنن والمصنف والمستدرك والمستخرج والمسلسلات والعوالي والجزء والفوائد والغرائب والأربعين والمشيخة والمعجم ومعجم الشيوخ، وكذلك كل ما قد يتعلق بالتخريج أو يتكرر وروده في كتب التخريج من مصطلحات الأصوليين والفقهاء ونحوهم، كالناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والعام والخاص وغير ذلك.


    فائدة: إن ما ذكرته هنا من طريقة التقسيم في حق مصطلحات المحدثين، فهو كذلك في حق قواعدهم؛ وعليه تكون الأقسام ستة، ثلاثة للمصطلحات وقد ذكرتها، ومثلها للقواعد، ومجموع هذه الأقسام الستة هو المراد بعلم المصطلح.


    وما أحسن أن يؤلف كتاب في علم المصطلح مرتباً على هذه الفصول الستة فإنها تأتي بمجموعها إن شاء الله على أهم ما في علم المصطلح. بل ويحسن لولا كثرة الخلاف وتشعبه وصعوبة ضبطه أن يجعل كل قسم بابين الباب الأول لما اتفقوا عليه أو اتفق عليه جمهورهم، والثاني لما شذ فيه بعضهم.

    3- بيان منزلة مصطلحات المحدثين من علم الحديث:

    علم مصطلح الحديث ـ كسائر العلوم ـ ينبني في أصله على مجموعة من القواعد ويُستعمل فيه جملة كبيرة من المصطلحات.


    وقواعد كل علم هي لبه وحقيقته وجوهره، وهي المعنى المطلوب لذاته والأصل الأول الذي تنشأ منه كل فروع ذلك العلم وثمراته.


    وأما مصطلحاته فإنما وضعت تيسيراً للتعبير، وتحرياً للدقة، واختصاراً للقول؛ وهي – كما هو واضح أصلاً أو مما تقدم – لا تُطلبُ معرفة معانيها لذاتها، وإنما يضطر طالب علم الحديث إلى معرفة معانيها، لأنها دخلت في لغة القوم فدارت على ألسنتهم وتكرر استعمالها في مؤلفاتهم، يدخلونها في تعبيرهم عن قواعدهم الكلية والجزئية وأحكامهم الفرعية ونحو ذلك؛ فمن لم يعرفها لن يعرف قواعدهم بل لن يتمكن من مشاركتهم في علمهم أصلاً؛ وكذلك من عرفها ولكنه لم يتقنها ولم يتمكن منها فإنه يظل فهمه لهذا العلم قاصراً مختلاً ونصيبه من التحقيق فيه ناقصاً معتلاً.


    فكما لا يمكن لأحد من الناس فهم مرادات المحدثين في هذه الكتب التي صنفوها بدون معرفة لغتهم الكبرى ـ أعني العربية ـ فكذلك يتعذر على العربي – ولو كان عارفاً باللغة – الفهم – أو الفهم الصحيح – لكثير من مراداتهم ما لم يكن عالماً بمعاني مصطلحاتهم؛ وهي جزء مهم، بل ركن ركين، من لغتهم.

    والحاصل أن من أراد أن يطلب علم أصول الحديث لن يستغني – سواء كان يروم التبحر والتخصص أم يريد مجرد الاطلاع وأصل المشاركة – عن معرفة معاني مصطلحات أهل هذا الفن وما تعارفوا عليه من ألفاظهم وعباراتهم.

    4- بيان سبب وضع المصطلحات الحديثية:

    إن الذي دعا المحدثين إلى وضع المصطلحات الحديثية هو حاجتهم إلى تسهيل بيانهم وتقريب مقاصدهم واختصار تعابيرهم كما فعل غيرهم من أرباب العلوم والفنون الدينية والدنيوية.

    5- بيان تاريخ نشأة المصطلحات الحديثية:

    بدأت المصطلحات بداية ظاهرة واضحة في عهد التابعين. وكانت في أول أمرها قليلة في عددها ثم لم تزل تلك المصطلحات في تكاثر وازدياد إلى عصر ابن الصلاح، ثم كأنها بعدئذ توقفت بتصنيفه لكتابه المشهور بمقدمة ابن الصلاح. ثم ظهرت منذ بدء عصر الطباعة والنشر والتحقيق مصطلحات جديدة تتعلق بنشر كتب الحديث وتصحيحها والتعليق عليها وخدمتها.

    6- بيان كيفية وضع المصطلحات الحديثية:

    إن المتقدمين من علماء الحديث عندما وضعوا أي مصطلح من مصطلحاتهم لم يجتمعوا كلهم أو الأئمة منهم في وقت وضع ذلك المصطلح ليتفقوا على معنى واحد محدد له؛ بل كان الامام منهم يضع لنفسه مصطلحاً فيشرحه في كتابه أو في كلامه أو يكرره بطريقة تجعله معلوم المعنى من قرائن السياق وشواهد المقام.


    ثم إنهم لم يكونوا في وضع المصطلحات يحرصون على مراعاة طريقة المناطقة - ومن تأثر بهم من المتأخرين - من شدة الالتزام بتقسيم المعاني تقسيماً لا لبس فيه ولا اشتراك ولا تداخل، ثم وضع اسمٍ اصطلاحيٍ خاص بكل قسم ويكون معبراً تعبيراً دقيقاً عن معنى ذلك القسم؛ بل اصطلاحات المتقدمين كانت جارية على السليقة موافقة للفطرة متناسبة مع الواقع، قريبة في معانيها الاصطلاحية من المعاني اللغوية؛ وانظر التنبيه التالي.

    7- بيان الفرق في وضع أو شرح الاصطلاحات بين طريقة المناطقة ومن تأثر بهم وبين طريقة أهل الحديث:

    أما المناطقة - ومن أثرت طريقته فيهم - فيحرصون في وضع المصطلحات، على أمور مهمة عندهم؛ ولقد تسرب أثر هذا الحرص إلى شرحهم لمصطلحات غيرهم؛ وأولى تلك الأمور بالذكر ما يلي:


    الأول: كمال تخصيص أو تقسيم المصطلحات؛ فيحرصون على أن يجعلوا لكل معنى في الفن الذي يتكلمون فيه اسماً يخصه، وأن يجعلوا لكل اسم معنى يخصه، بحيث تكون الألفاظ مفصلة على المعاني وموزعة عليها ومستوعبة لجميعها، بلا تداخل ولا اشتراك ولا إجمال ولا عموم؛ وهذا مطلب لا يوجد إلا في خيال المناطقة وتصوراتهم التي ليس لها في الواقع نظير ولا مثال.


    الثاني: توحيد معاني الاصطلاحات؛ أي هم يقولون بتساوي معاني اللفظة الاصطلاحية الواحدة عند جميع أهل ذلك الفن.


    الثالث: حمل كثير من الكلمات اللغوية على معاني اصطلاحية.


    الرابع: المبالغة في تكثير المصطلحات بلا حاجة، والحرص على تقسيمها تقسيماً منطقياً، ولو بتكلف، وتحديدها، كذلك.


    هذه طريقة المناطقة أو هذه غايتهم؛ ولكن مصطلحات المحدثين لم توضع وضعاً منطقياً، أعني لم توضع على طريقة المناطقة، وإنما وضع أكثرها – ولا سيما المصطلحات القديمة منها – وضعاً عفوياً فطرياً؛ استعملوا الألفاظ والتراكيب استعمالاً لغوياً أو استعمالاً قريباً جداً من المعنى اللغوي بحيث يفهم السامع الفطن من أهل ذلك الفن المقصود من ذلك التعبير إما بمجرد سماعه، أو بتكرر استعماله أو بقرائن تحفه؛ وهكذا نشأت مصطلحات المحدثين.

    إن تعابير القدماء الاصطلاحية كان فيها من السعة والمرونة ما يجب عند إرادة فهمها أو بيان معانيها: التنبه له وعدم إغفاله، وكان فيها - بسبب ذلك أو غيره - من التداخل الجزئي والاشتراك النسبي ما لا يستقيم إهماله.


    نعم، لقد وضعوا اصطلاحات هذا الفن وكان فيها من البساطة والوضوح والسعة وقلة التكلف والقرب من المعنى اللغوي ما لا يخفى؛ ولذلك وقع بين بعضها من التداخل والتقارب أحياناً أو التباين والتباعد أحياناً أخرى ما هو جار بمقتضى السجية وطبيعة اللغة وعرف التخاطب، والسياقات والقرائن تبين المراد وتحدده؛ ولم يكن في ذلك من إشكال قادح في فنهم أو مانع من فهم مقاصدهم لمن سار وراءهم واقتفى آثارهم.


    ولكن لما جاء المتأخرون وكان أكبر همهم استعمال اصطلاحات محددة تحديداً كاملاً غير متداخلة فيما بينها لا في قليل منها ولا في كثير غيروا معاني كثير من المصطلحات عند شرحهم إياها وبيانهم لها ووضعوا فيها من الزيادات والنقصان ما يحقق لهم تلك الغاية، وربما وجدوا من ظواهر كلمات بعض القدماء ما تشبثوا به وجعلوه مستنداً لبعض تلك التصرفات الضارة المردودة.


    وهؤلاء غفلوا أو تغافلوا عن مسألة خطيرة، وهي أنه ليس من الصحيح أن نحاكم صنيع القدماء واصطلاحاتهم إلى قواعد وضوابط المنطقيين، أو نحملها على حدود وتعريفات المتأخرين، إذا خالفت هذه تلك؛ ثم نقول إنهم – أي المتقدمين – تجوزا أو لم يراعوا الاصطلاح أو نحو ذلك؛ أو نقول: ليكن هذا المصطلح خاصاً بكذا وهذا المصطلح الآخر خاصاً بكذا لتتميز الأنواع وتنضبط القسمة.


    بل كان على المتأخرين فهم اصطلاحات أسلافهم والسير وراءهم فيها.


    ولكن لما لم يرتض كثير من المتأخرين ذلك أو لم يوفقوا إليه، وصارت لهم في بعض أبواب هذا الفن اصطلاحات تختلف قليلاً أو كثيراً عن اصطلاحات أهل الاصطلاح، أعني المتقدمين من المحدثين، فهنا يقول القائل: لا نشاحكم أيها المتأخرون فيما اصطلحتم عليه ولكن بينوا اصطلاحكم البيان الكامل الوافي وانسبوه لأنفسكم وحدكم لا للقدماء ولا لعامة المحدثين وصرحوا بتلك النسبة ليزول الإيهام الحاصل بإغفالها، وافهموا مصطلحات القدماء واعلموا ما بينها وبين مصطلحاتكم من فرق وتفاوت، وبينوا ذلك لطالبيه؛ وإن كان ذلك لا يكفي أيضاً لأن فيه توعيراً لطريق العلم وتعقيداً لمشكلات الطلب.


    وفي الجملة يجب الحذر من انحرافات المتأخرين في فهم اصطلاحات المتقدمين، فإن كثيراً من المتأخرين غلب عليهم التقليد والجمود والتأثر بالنظرة المنطقية الرياضية إلى اصطلاحات العلماء وعباراتهم، ومحاكمة المتقدمين إلى المتأخرين وقياس ألفاظ الأوائل على ألفاظ الأواخر، وتوحيد معاني المصطلحات، فوقع بسبب ذلك من الأوهام والتخليطات فوق ما يظنه غير المتبحر في هذا العلم العظيم. فإنه وإن كانت صناعة التعريفات المنطقية بذاتها ليست جرماً لا يقترب، إلا أن التنطع والتكلف الذي بنيت عليه لا يناسب كثيراً لغة ومقاصد مؤسسي علم النقد الحديثي الذي منَّ الله عليهم بعدم معرفة المنطق وعدم الاقتراب - فضلاً عن الخوض - في الفلسفة.


    إذن لا يلزم من تكلم على مصطلحات المحدثين أو ألف فيها أن يتكلف في كلامه وتعريفاته الدقة المعقدة والتعمق البعيد؛ ولا يقبل منه في شرحها كثرة الإيرادات والتدقيقات والمناقشات والمجادلات في الحدود والتعريفات والألفاظ والعبارات، فإن ذلك كان ولم يزل من أضر المسائل على أهل العلم وأقوى الأمور التي وعرت طريق المعرفة على الناس وكان الاشتغال الزائد بذلك كله سبباً في التقصير في تحقيق القواعد وفي استقراء ما يكون سبباً في التوصل إلى العلم النافع الصحيح.


    إذن فليس من الصحيح أن تفسر تلك المصطلحات بحسب طريقة المناطقة، ولا حتى بطريقة تراعي منهج المحدثين من جهة ومنهج المناطقة من جهة أخرى؛ كما هو صنيع كثير من المتأخرين.


    بل تفسر بحسب ما يظهر أنه يبين مقاصد أهلها؛ أهل المنطق يحرصون على أن تكون اصطلاحاتهم خالية من التداخل والاشتراك وأن يكون لها معنى واحد مستقر ولهم شروط أخرى غير هذه؛ كما تقدم؛ وليس كذلك شأن مصطلحات المحدثين.


    قال الدكتور حاتم العوني في (المنهج المقترح) (ص165): (وإذا كانت صناعة المعرِّفات المنطقية أجنبية عن مصطلح الحديث وتباينه في نَسبها (العربي) وسَحْنَتِها (اليسر والبعد عن التكلف) فلن يكون في تسليط معاييرها عليه – في الغالب – إلا جورٌ عليها: بتحجير واسعها، أو توسيع ضيقها. وفي أقل الأحوال: أن تطوِّل الطريق إلى معرفة الصواب، بما أشار إليه شيخ الاسلام من كثرة الاعتراضات على المعرِّفات وتسويد الصفحة والصفحات في ذلك؛ مع أنهم يزعمون أنهم يسعون للتعريف المختصر المحرَّر بالجمع والمنع، وينتقدون التعريف المطول بالشرح والمثل. فلو أنهم كتبوا تعريفاً في نصف صفحة، يقوم بالمقصود، ألم يكن خيراً من تلك الصفحة أو الصفحات من الاعتراضات، التي لا تخرج معها بطائل؟!!


    وهذا كله أمر خطير خاصة ما يقع خطأ دون قصد من بعض المصنفين في بعض العلوم كعلم الحديث، بسبب تأثرهم بصناعة المعرِّفات المنطقية: من تضييق الواسع من مدلولات المصطلحات، أو توسيع الضيق منها، كما قلناه آنفاً، لأن ذلك سوف ينعكس بتشويش ذلك العلم الذي يتكون من تلك المصطلحات، تشويشاً قد يؤدي إلى استغلاق فهْمه، أو فهْمه على غير فُهومه، أو ظهور تناقض فيه، أو بانقلاب قواعده وضوابطه، إلى غير ذلك، مما قد يصْعب حله وتجاوزه إلا بإعادة النظر في معاني تلك المصطلحات؛ لكن الأخطر من ذلك كله، والكارثة التي قد تدمر ذلك العلم: فيما لو أصبح ذلك الخطأ في تفسير المصطلحات عَمْداً، وفيما لو صار المصنفون في ذلك العلم يسْعَون إلى تغيير مدلولاتها قصداً، ثم إلى اختراع أسماء جديدة (تضاهي المصطلحات) لمدلولات كانوا قد أخرجوها - هم – من مصطلحات العلم الأصلية! ليُظن بعد ذلك أن تلك الأسماء من مصطلحات ذلك العلم، ولتبعد الشقة – بعدها – أكثر عن فهم تلك المصطلحات على وجهها، وليكون – أخيراً – ذلك العلم المركب من تلك المصطلحات لُغْزاً مستغلِقاً، دون حله خنادق وحصون!!

    وهذا ما قد بدأ بالوقوع فعلاً في مصطلحات الحديث!!! وقد بدأ من قرون لكنه لم يزل – بحمد الله – في البداية !!! وهذا هو ما سميته – اصطلاحاً مني – بـ(فكرة تطوير المصطلحات) 000 فأنا أعني بفكرة تطوير المصطلحات: (تغيير معاني المصطلحات عما كانت تعنيه عند أهل الاصطلاح عمداً، لأي عرض يظنه ذاك المغير حسناً).

    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    قواعد وتنبيهات من أصول فهم المصطلحات وشرحها ووضعها Empty رد: قواعد وتنبيهات من أصول فهم المصطلحات وشرحها ووضعها

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 15.10.08 8:34

    و(أهل الاصطلاح) : هم الذين أنشأوا ذلك العلم، ووضعوا قواعده وضوابطه وتواضعوا على أسماء لأفراده (وهي المصطلحات)، وتتموا بناء علمهم. فلم يبقَ لمن جاء بعدهم إلا تلقي هذا العلم عنهم، وأخْذ معاني مصطلحاته منهم، ليفهم علمهم ويَعِيَ قولهم. فإذا أقبل هذا الذي جاء بعدهم على علمهم بالتبديل، وتغيير مدلولات المصطلحات، لا مع إعلان أن تلك المعاني الجديدة من عند نفسه وأنها اصطلاح خاص به، بل على أنها اصطلاح أهل الاصطلاح = فهل سيكون لنا طريق إلى فهم ذلك العلم باعتماد كلام ذلك المبدِّل المغيرِّ ؟!

    فأعود مؤكداً: (فكرة تطوير المصطلحات) متعلقة بتغيير المعاني، مهما كان ذلك التغيير يسيراً، ومهما كان الغرض منه حسناً عند القائل به.


    هذا الذي أحذر منه! أما تطوير حدود المصطلحات ورسومه، تطويرَ ألفاظٍ لتلك التعاريف، لا يصل إلى تغيير مدلول المصطلح = فليس على هذا محظور، ولا هو من (فكرة تطوير المصطلحات) التي أحذر منها، بل هذا التطوير الذي يَقْصِد إلى تحرير التعريفات بالجمع والمنع، أمر حسن في حدود ما لم يبلغ بنا إلى درجة التنطع والتكلف الذي يعانيه المناطقة؛ ونحن عنه في غنى. وحتى إن بلغ درجة التنطع والتكلف، فليس من (فكرة تطوير المصطلحات) في شيء، ما دام أن الأمر لم يصل إلى محاولة تغيير معاني المصطلحات ». انتهى كلامه.

    8- بيان أفضلية منهج المتقدمين في وضع المصطلحات على منهج المتأخرين:

    منهج المتقدمين المشار إليه فيما تقدم هو الأسلم الأحكم، لأن طريقة المتأخرين المشار إليها أيضاً وإن كان المتبادر للناظر إليها غير العالم بحقائق هذا الفن أنها أحسن وأدق، فإن ذلك إنما هو بحسب ما يظهر من الأمر لا بحسب حقيقته، وهو واقع من الوجهة النظرية فقط لا من الوجهة العملية التطبيقية، لأنها طريقة توقع أصحابها في التنطع والتكلف وتفشل عند مصادمتها لواقع الأمور، وهي مع ذلك – وهذا أخطر شيء في هذه المسألة – مخالفة في منهجها وكثير من فروعها لطريقة السلف في اصطلاحاتهم، مع أن الواجب متابعتهم في تلك الاصطلاحات وتقليدهم فيها وشرحها كما أرادوها هم لا كما يتمنى المناطقة والمتأخرون، أعني لا كما تقتضيه قواعد هؤلاء.

    9- بيان أسباب وكيفيات انتشار المصطلحات الحديثية:

    مصطلحات المحدثين لم تنشرها مجامع علمية ولا عقد لترويجها ندوات جامعة ومحاضرات عامة؛ ورغم ذلك انتشرت هذه المصطلحات بسرعة بين أهلها لثلاثة أسباب:
    الأول: أن واضعيها في الغالب كبار الأئمة، والإمام يتبعه غالباً كثير من الناس في ألفاظه وقواعده وأحكامه.
    الثاني: شدة حاجة الناس إليها.


    الثالث: شدة قربها في معانيها الاصطلاحية الجديدة من معانيها اللغوية القديمة، وهذا مما يسهل فهم تلك المعاني الجديدة ولا سيما بمعونة السياق والقرائن والمعرفة بعلم الحديث.

    10- بيان شروط جمع وشرح مصطلحات المحدثين؛ وتأكيد ضرورة المعرفة الدقيقة بحقائقها والفرق بين دراستها ودراسة القواعد:

    إن الذي يريد شرح مصطلحات فن من فنون العلم أو يجمعها أو يصنف معجماً لها يجب عليه أن يعلم قبل كل شيء أنه مستقرئ وشارح وموضح ومفسر، وأنه ليس مؤسساً لاصطلاحات جديدة ولا قائماً بتحوير أو تطوير أو تغيير أو تبديل أو اقتراح، إذ المطلوب في اصطلاحات العلماء فهم مراداتهم بها أي فهم معانيها كما أرادوها هم، لا التصرف فيها وفي شرحها بما يوافق المشهور أو الجمهور أو الأشهر أو الأكثر أو المنطق أو الهوى.


    والاصطلاحات ليست متعلَّقاً للتصويب والتخطئة، ولكن قد يقال: أحسن زيد في اختيار هذا الاصطلاح، ولم يحسن عمرو في اختياره ذاك الاصطلاح، إما لما فيه من غموض أو إيهام أو بعد عن المعنى اللغوي للكلمة أو مخالفة لاصطلاح سائر العلماء قبله أو غير ذلك، وإن كانت مثل هذه العيوب في اصطلاحات القدماء نادرة جداً بل لعلها معدومة غير موجودة.


    وأما الخطأ والصواب فإنما يقعان في القواعد والأحكام.


    والحاصل أن المطلوب من الباحث في مصطلحات العلماء فهم مقاصدها، وفي قواعدهم تحرير أدلتها ومعرفة صوابها من خطئها.

    إن كثيراً من عبارات الجرح والتعديل يُعْوِزها التحقيق في معانيها؛ ثم إن كثيراً من تلك العبارات يختلف معناها من عالم إلى آخر، فمن المهم النافع جداً معرفة معنى اصطلاح كل عالم عنده، وليس من المهم نقد ذلك الاصطلاح بنحو بيان عدم مطابقته للاصطلاح المشهور أو لاصطلاح الجمهور أو لمقتضى اللغة أو قواعد المنطق، وإن كان بعض التنبيه على ذلك لا يخلو من فائدة.

    11- بيان أنواع دلالات المصطلحات الحديثية:

    اللفظة الاصطلاحية لها – حيث وجدت - أحد أربعة معاني، وكما يلي:


    الأول: المعنى اللغوي؛ فالكلمة إذا وجدتها في سياق لغوي فهي مستعملة بالمعنى اللغوي، أي الذي وضعها له واضع اللغة، وهو المعنى المذكور ذكراً أساسياً في المعاجم اللغوية القديمة.


    الثاني: المعنى الشرعي؛ فإذا وجدتها في سياق شرعي أي في العبارات الدينية في أي كلام ملفوظ أو مكتوب: فهي مستعملة بالمعنى الشرعي أي الذي وضعها له الشارع، مثل الصلاة والصوم والزكاة.


    الثالث: المعنى الاصطلاحي؛ فإذا وجدت الكلمة في سياق علمي فمعناها اصطلاحي وهو الذي وضعها له أهل ذلك العلم.


    الرابع: المعنى العرفي؛ فإذا تبين أن المعنى ليس اصطلاحياً ولا شرعياً ولا لغوياً كان معناها عرفياً، وهو المستعمل عند عامة الناس في ذلك البلد أو المكان.
    وينبغي أن يقدم المعنى الذي يدل عليه السياق كما تقدَّمَ، دون سائر المعاني الأخرى.


    مثال ذلك: كلمة (غير صحيح) معناها بمقتضى اعتبار المعنى اللغوي في كلمة (غير) والمعنى اللغوي في كلمة (صحيح) معلوم، وهو السقيم؛ وأيضاً معناها بمقتضى اعتبار المعنى اللغوي في كلمة (غير) والمعنى الاصطلاحي في كلمة (صحيح) معلوم وهو نفي الصحة الاصطلاحية فيصدق حينئذ بكل ما هو دون مرتبة الصحيح من مراتب الحديث فيعم عند الجمهور الحديث الحسن والضعيف والضعيف جداً والموضوع.


    ولكن هذين المعنيين المذكورين ليس الأصل في هذه العبارة في كتب الحديث واحداً منهما، وإنما الأصل فيها المعنى الاصطلاحي الصرف، وهو نفي ثبوت الحديث والحكم عليه بما يضاد ذلك من البطلان أو الكذب أو الضعف المنافي لثبوته، فإذا قيل في حديث: هذا حديث غير صحيح فمعناه أنه لا يثبت متنه، ففي هذه العبارة نفي للصحة والحسن عنه؛ ولكن إذا وجدت قرينة صارفة لهذه العبارة عن هذا المعنى إلى المعنى المذكور أولاً فسرناها به وما أقل مثل تلك القرائن؛ ومثال ذلك أن يقول الناقد في معرض رده على من حكم بصحة الحديث: هو غير صحيح وإنما هو حسن فقط.

    12- بيان وجوب التنبه إلى كيفية استعمال المحدث للكلمة الاصطلاحية؛ أو بيان وجوب التنبه إلى احتمال إرادة المعنى اللغوي أحياناً لا الاصطلاحي:

    ينبغي التنبه إلى أن بعض العلماء كانوا أحياناً يستعملون الكلمة الاصطلاحية - أعني الكلمة التي لها معنى اصطلاحي بالإضافة إلى معناها اللغوي - يريدون بها معناها اللغوي، لا الاصطلاحي؛ ومن هؤلاء الحافظ الذهبي، قال الدكتور قاسم علي سعد في (مباحث في علم الجرح والتعديل) (ص93) عقب ذكره ألفاظ التعديل عند الذهبي ضمن تراجم الميزان: (هذا، وقد يذكر الذهبي ألفاظاً عدة في الترجمة الواحدة وبين تلك الألفاظ بون واسع فيقصد بها أحياناً المعنى لا المصطلح الدقيق، وكذلك يفعل في التجريح، وقد اقتصرت على ما قصد به المصطلح).


    وهذا خروج عن الأصل، فينبغي مراعاة احتمال وقوعه، ولو كان نادراً؛ أعني أن الأصل في الكلمة الاصطلاحية إذا وردت في كتب المصطلح أن تفسر بالمعنى الاصطلاحي؛ ولكن الأصل قد يستحق أن يُخرج عنه بسبب القرائن المقتضية للخروج؛ وهذا معلوم لا خفاء به.

    13- لا بد في تفسير كلمات الناقد الاصطلاحية من مراعاة أمرين:

    الأول: المعنى اللغوي؛ وقد تقدم بعض ما يتعلق بذلك.


    والثاني: اصطلاح الجمهور، ولا سيما من كان منهم من شيوخه وشيوخهم وأقرانه وتلامذتهم؛ فيبعد أن يكون الناقد ولا سيما الجهبذ الشهير بعيداً في اصطلاحاته عن المعاني اللغوية والمعاني الشهيرة عند المحدثين، ولا سيما إذا لم ينص هو على ذلك ويبينه.

    فمن الخلل في صنيع المتأخرين سرعة الخروج بمصطلح العالم – استناداً إلى أضعف شبهة - عن معناه عند الجمهور إلى معنى آخر؛ وقد يكون هذا المعنى الجديد بعيداً عن اصطلاح الجمهور بل وعن عرف اللغة أيضاً.


    فلا يستقيم إعطاء مصطلحات بعض المحدثين معان خاصة إلا بعد استقراء وتتبع كافيين، وأدلة محكمة، لأن ذلك خروج عن أصل عام ثابت متين شهير، فلا يقبل إلا بدليل واضح قوي.

    14- بيان بعض أدوات معرفة معاني المصطلحات، وبعض العلوم التي يحتاجها شارح المصطلحات:

    إن معرفة اصطلاحات العلماء على سبيل التفصيل والتحقيق لا تتيسر إلا بعد معرفة مناهجهم وقواعدهم في هذا الفن، ومعرفة المعاني اللغوية للكلمات الاصطلاحية على سبيل التوسع والاستيعاب؛ ومن ظن أنه يمكن معرفة المصطلحات معرفة كافية شافية من غير خوض فيما عداها من مسائل علم المصطلح وأصول الحديث ومناهج العلماء وما يتعلق بذلك من تراجم الأئمة منهم ونحو ذلك فقد ظن عجزاً؛ ولذا فإن معرفة معاني مصطلحات كل إمام من أئمة الحديث على الوجه المذكور: أمرٌ فيه من الصعوبة والغموض ما يعجز – بسببه – عن القيام به عالم وحده أو طالب علم وحده؛ فلا بد لذلك من أن يشارك في هذا الباب كثير من العلماء وطلاب العلم والباحثين؛ بل لا بد من التخصص في البحث أحياناً، كأن يختص الدارس ببعض مصطلحات المحدثين أو بمصطلحات بعض المحدثين؛ ولا بأس من أن يتوارد على العمل الواحد أكثر من باحث، فإذا تكررت دراسة موضوع بعينه من قبل اثنين من الطلبة أو أكثر فعسى أن يكون مجموع ما صنعوه أقرب إلى الشمول والاستيعاب وأن يكون الواقف على دراساتهم أتم معرفة بحقائق المسائل وأقوى إحاطة بدلائلها، وأكثر تمكناً من اعتبار بعض ما قالوه ببعضه، وإما إن ناقش المتأخر منهم المتقدم فعسى أن يقع في مناقشته له ما لا يستغني عن معرفته كثير من طالبي هذا العلم.

    15- بيان صعوبة استقراء معاني كل أو معظم المصطلحات الحديثية:

    إن معرفة معاني مصطلحات كل إمام من أئمة الحديث على سبيل التحقيق والتفصيل، أمر فيه من الصعوبة والغموض ما يعجز – بسببه – عن بعضه أكثر العلماء، فلا بد من أن يشارك في هذا الباب كثير من العلماء وطلاب العلم والمدرسين والطلاب في الجامعات ونحوها.


    ولا بد، أيضاً، من التخصص في البحث أحياناً، كأن يختص الدارس ببعض مصطلحات المحدثين أو بمصطلحات بعض المحدثين.

    ولا بأس من أن يتوارد على العمل الواحد أكثر من باحث، فإذا تكررت دراسة موضوع بعينه من قبل اثنين من الطلبة أو أكثر، فعسى أن يكون مجموع ما صنعوه أقرب إلى الشمول والاستيعاب، وأن يكون الواقف على دراساتهم أكثر معرفة لحقائق المسائل وأكثر إحاطة بدلائلها، وأكثر تمكناً من اعتبار بعض ما قالوه ببعضه، وعسى أن يناقش المتأخر منهم المتقدم فيقع في مناقشته له ما لا يستغني عن معرفة كثير من طالبي هذا العلم.

    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    قواعد وتنبيهات من أصول فهم المصطلحات وشرحها ووضعها Empty رد: قواعد وتنبيهات من أصول فهم المصطلحات وشرحها ووضعها

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 15.10.08 8:36

    16- بيان أفضل طرق استقراء المصطلحات:
    أصح وأنفع وأسرع طرق الاستقراء أن يبدأ الباحث بجمع ما بينه الناقد نفسه من كلماته، فإنه عظيم الفائدة في هذا الباب ولا سيما الكلمات التي بينها بياناً شافياً.

    ثم يثني بالكلمات التي دل على معناها عنده أحكامه العملية مثل كثرة احتجاجه بالرواة الذين قال هو فيهم: (لا بأس بهم)، ومثل كثرة تصحيحه لأحاديث الرواة الذين وصفهم بلفظة (صدوق)، من غير أن يأتي عنه – أي في الحالتين المضروبتين مثلاً - ما يخالف ذلك، ولا عبرة بالمخالفة النادرة؛ فالقواعد والاستقراءات لا تبنى على النادر، فإنه لا حكم له، وإن كان لا يصح – عند الاستقراء – أن يهمل النظر والتدبر لمقتضيات تلك الأمور النادرة؛ ولكن المقصود أن الأصول والقواعد تبنى على الكثير ثم القليلِ المعتبر، دون الشاذ والنادر؛ فإنه لا دخل له في بناء الأصول، بل هو داخل في تكميلاتها وتفصيلاتها واستثناءاتها.

    ثم بعد ذلك يصير إلى استقراء معاني أقوال الناقد في الرواة المتفق عليهم، المشهورة أحوالهم.

    ثم بعد ذلك ينتقل إلى استقراء وتحقيق أحوال الرواة الذين أطلق ذلك الناقد فيهم كلمات معناها محدد أو قريب من التحديد، أي كلمات غير فضفاضة ولا تحتمل معان متعددة، مثل كلمة (حديثه صحيح)، وكلمة (لا يحتج به) وكلمة (متروك)، وكلمة (أحاديثه منكرة).

    ثم بعد ذلك يشرع بمقارنة اصطلاحاته باصطلاحات المعتدلين الذين علمت اصطلاحاتهم واشتهرت معانيهم عنها.

    فبهذه الأنواع من الاستقراء تتبين أصول مذهب ذلك الناقد في معاني مصطلحاته، ومقاصد عباراته، ويطلع حاجب شمسها؛ وتلوح معالم أُسِّها؛ ثم بعد ذلك التمهيد والتأسيس وفتح الباب الذي كان مغلقاً يسهل الطريق ويتسع على من يريد التوسع والتدقيق والتكميل والتفريع، فما عليه إلا التوسع في الاستقراء والتدقيق وإكمال بناء الفروع على أصولها وتشييد الأركان على أسسها؛ مبتدئاً باستقراء الأقرب إلى ما تم استقراؤه، وباستقراء الأوضح في معناه؛ لتكون هذه وتلك أصولاً لفروع جديدة، وتلك الفروع تكون – بدورها – أصولاً لفروع أخرى هي الأقرب إليها؛ وهكذا يستمر الاستقراء إلى أن يبلغ منتهاه، ويحصل المقصود منه.

    17- بيان الأصل في معاني المصطلحات:

    كل مصطلح لم يتبين فيه معنى خاص أو استثنائي في حق أي ناقد، فمعنى ذلك أنه على الأصل، أي أن معناه عنده هو معناه عند الجمهور.

    18- بيان حاجة كثير من المصطلحات إلى التحقيق في معانيها:

    إن كثيراً من عبارات الجرح والتعديل يُعْوِزها التحقيق في معانيها وإن كثيراً من تلك العبارات يختلف معناها من عالم إلى آخر؛ وقد تواتر التنبيه إلى هذا المعنى ونحوه، في كلام العلماء والدارسين، فلقد أبان غير واحد من الأئمة المتقدمين والعلماء المحققين وغير واحد من الباحثين المعاصرين البارعين عن شدة الحاجة إلى استقراء مصطلحات علماء الحديث وكشف دقائق الفروق بين معانيها عندهم وتخمين المواضع التي يخرجون بها عن المشهور من اصطلاحهم، واتباع أصح المسالك في معرفة معاني مصطلحات القدماء، وتصحيح ما وقع من المتأخرين من سوء فهم لمصطلحات السابقين أو إخلال في شرحها؛ كما بين غير واحد منهم قليلاً أو كثيراً من ضوابط معرفة معاني تلك المصطلحات على وجه التحقيق والتدقيق.


    ومن ذلك ما يلي من كلماتهم.


    قال الذهبي في (الموقظة) (ص82): (والكلام في الرواة محتاج إلى ورع تام وبراءة من الهوى والميل وخبرة كاملة بالحديث وعلله ورجاله؛ ثم نحن نفتقر إلى تحرير عبارات التعديل والجرح وما بين ذلك من عرف ذلك الإمام الجهبذ واصطلاحه ومقاصده بعباراته الكثيرة).


    وقال ابن كثير في (اختصار علوم الحديث) (ص105): (وبينهما [أي أرفع عبارات التعديل وأسوأ عبارات التجريح] أمور كثيرة يعسر ضبطها---- وثَمَّ اصطلاحات لأشخاص [أي مختصة بهم] ينبغي التوقيف عليها).


    وقال ابن حجر في (نزهة النظر) (ص111): (ومن المهم أيضاً معرفة أحوالهم تعديلاً وتجريحاً وجهالةً----؛ ومن أهم ذلك بعد الاطلاع معرفة مراتب الجرح والتعديل لأنهم قد يجرحون الشخص بما لا يستلزم رد حديثه كله).


    يريد أن التضعيف على درجات فبعضه يستلزم رد حديث الراوي كله، وبعضه لا يستلزم ذلك، بل يقبل من حديثه ما تابعه عليه من كان مثله أو قريباً منه في حاله في الرواية؛ وهو يشير بذلك إلى وجوب التفريق الدقيق بين معاني عباراتهم.


    وقال السخاوي في (فتح المغيث) (1/362): (فمن نظر في كتب الرجال ككتاب ابن أبي حاتم----والكامل لابن عدي والتهذيب وغيرها ظفر بألفاظ كثيرة؛ ولو اعتنى بارع بتتبعها ووضع كل لفظة بالمرتبة المشابهة لها مع شرح معانيها لغة واصطلاحاً لكان حسناً؛ وقد كان شيخنا [يعني ابن حجر] يلهج بذكر ذلك فما تيسر؛ والواقف على عبارات القوم يفهم مقاصدهم، لما عُرف من عباراتهم في غالب الأحوال، وبقرائن ترشد إلى ذلك).


    وقال العلامة المعلمي في (التنكيل) (ص257-258) في أثناء بيانه للأمور التي ينبغي أن يراعيها من أراد أن يعرف أحوال الرواة: (ليبحث عن رأي كل إمام من أئمة الجرح والتعديل واصطلاحه مستعيناً على ذلك بتتبع كلامه في الرواة واختلاف الرواية عنه في بعضهم مع مقارنة كلامه بكلام غيره----).


    وقال المعلمي أيضاً في مقدمته لكتاب ا(لفوائد المجموعة) (ص9): (صيغ الجرح والتعديل كثيراً ما تطلق على معانٍ مغايرةِ لمعانيها المقررة في كتب المصطلح . ومعرفة ذلك تتوقف على طول الممارسة واستقصاء النظر).


    وكما دعا المعلمي إلى إعادة النظر في معاني اصطلاحات المتقدمين عند المتأخرين، دعا إلى مثل ذلك في القواعد فقال في الموضع المذكور: (القواعد المقررة في مصطلح الحديث منها ما يذكر فيه خلاف ولا يحقق الحق فيها تحقيقاً واضحاً، وكثيراً ما يختلف الترجيح باختلاف العوارض التي تختلف في الجزئيات كثيراً؛ وإدراك الجق في ذلك يحتاج إلى ممارسة طويلة لكتب الحديث والرجال والعلل مع حسن الفهم وصلاح النية).


    وقال مؤلفا (تحرير التقريب) (1/43-44) عقب شئ ذكراه: (وهذا يدل من غير شك أن أهل العلم لم يتفقوا على تعابير بعينها في تلك الأعصر، مما يتعين [أي بسببه] دراسة ألفاظ كل عالم منهم على حدة وتحديد مراده من ألفاظه؛ وكثير من هذه الألفاظ هي ألفاظ وصفية لا اصطلاحية). قلت: هذه الجملة الأخيرة تنبيه جيد صحيح.

    19- التحذير من طريقة وأسلوب كثير من المتأخرين في شرح الاصطلاحات:

    من طريقة هؤلاء كثرة التدقيق والمناقشات في الحدود والتعريفات والألفاظ والعبارات؛ ولقد كانت هذه المسالك، ولم تزل، من أضر المسائل على أهل العلم، ومن أقوى الأمور التي وعرت طريق المعرفة على الناس؛ وكان الاشتغال الزائد بذلك كله سبباً في التقصير في تحقيق القواعد وفي استقراء ما يكون سبباً في التوصل إلى العلم النافع الصحيح.


    إن التدقيق في الإبانة وتعاني الإيضاح ودفع أسباب اللبس وعلل الوهم والإيهام أمور مطلوبة بلا هوادة؛ ولكن عندما تنسى المقاصد بسبب الوسائل وتترك العناية بالمعنى لأجل لفظ بعض شراحه فهذا هو الخلل.


    ولكن ليس من المهم أن يحرص من يريد شرح مصطلحات المحدثين على الجمع بين الدقة اللفظية المتناهية والاختصار الشديد، بل إن ذلك غالباً ما يوقع الكاتب في التنطع والتكلف وإضاعة الوقت والجهد، ويوقع القارئ في صعوبة الفهم بسبب شدة الاختصار؛ فذلك مسلك غير محمود ولا سيما إذا لم تدعُ إليه حاجة ولم يقتضه المقام؛ والاعتناء بذلك واشتراطه إنما أتيا من جهة مدرسة المنطق؛ هم يحرصون على أن يكون التعريف مانعاً جامعاً ويحرصون على أن لا يكون في الكلام شيء من حشو أو تطويل أو تكرار، وأما الأول فحرص محمود، وأما الثاني فإذا كان على حساب البيان المطلوب والتقريب المحتاج إليه فلا حاجة إليه بل هو – في كثير من الأحيان - ضار غير نافع.
    إن التزام مراعاة أصول المناطقة والمتأخرين المتأثرين بهم وفروعهم قيد ثقيل يؤدي إلى تحجير الواسع من معاني المصطلحات، أو توسيع الضيق من ذلك، وفي أحسن أحواله يكون سبباً في تطويل وتوعير الطريق إلى معرفة المراد، وذلك بسبب كثرة الاعتراضات والإيرادات والمناقشات والتدقيقات والتعقيدات في مسائل لفظية أو أسلوبية؛ وحجتهم في ذلك أن غايتهم التعريف المختصر المحرَّر الجامع المانع، وينتقدون التعريف المطول بالشرح والمثل. فلو أنهم كتبوا تعريفاً في نصف صفحة، أو أكثر، يقوم بالمقصود، ألا يكون أحسن وأنفع من ذلك السطر الذي تعقبه صفحة أو صفحات من الاعتراضات، التي لا يخرج معها قارئها بطائل؟!. ولقد أحسن الصنعاني إذ قال في (تنقيح الأنظار) (1/158): (وذكر الحدود المحققة أمر أجنبي عن هذا الفن، فلا حاجة إلى التطويل فيه).


    لهذا فغير سديد الالتزام بما ألزمنا به أهل المنطق إلا إذا كان في ذلك خير – لا ضرر فيه – كالاختصار والدقة والترتيب والتفصيل والتقسيم وتمام الوضوح ونحو هذه المقاصد. فإن التدقيق في التعبير في تعريف اصطلاحات المتقدمين وشرحها شرحاً مطابقاً قدر الإمكان لما قصدوه هم بتلك المصطلحات لا اعتراض على ذلك بل هو أمر مستحسن مطلوب، وهو يَقْصِد إلى تحرير التعريفات بالجمع والمنع، وتسهيل فهمها على الوجه الصحيح بصحة العبارة ودقتها وبلاغتها.


    قال الدكتور حاتم العوني في (المنهج المقترح) (ص164-165) بعد أن ذكر كلام علماء الاسلام في المنطق وفي صناعة المعرِّفات المنطقية وأثرها على العلوم الاسلامية: « فإنه وإن كانت صناعة المعرفات المنطقية بذاتها ليست جرماً لا يقترب، إلا أن التنطع والتكلف الذي بنيت عليه لا يناسب كثيراً اليسر والسليقة العربية التي أنتجت مصطلحات العلوم الاسلامية، مثل مصطلح الحديث؛ تلك المصطلحات ذات المدلولات الواسعة الفضفاضة، المرتكزة على المعنى اللغوي الأصلي للكلمة، القريبة منه كل القرب، غير المجتثة منه: كما قد يحصل في العلوم المترجمة إلى اللغة العربية من الألسن الأخرى).

    20- بيان خطأ بعض المتأخرين والمعاصرين في حمل معاني اصطلاحات المتقدمين على معاني اصطلاحات المتأخرين مع ما بينهما من المخالفة:

    ليس من الصحيح أن نحاكم صنيع القدماء واصطلاحاتهم إلى حدود وتعريفات المتأخرين، إذا خالفت هذه تلك؛ ثم نقول: إن المتقدم تجوز أو لم يراعِ الاصطلاح، أو نحو ذلك.
    كان على المتأخرين فهم اصطلاحات أسلافهم والسير وراءهم فيها، ولكن لم يرتض كثير من المتأخرين ذلك؛ أو لم يوفقوا إليه، فصارت لهم في بعض أبواب هذا الفن اصطلاحات تختلف قليلاً أو كثيراً عن اصطلاحات أهل الاصطلاح، أعني المتقدمين من المحدثين، فالذي ينبغي أن يقال هنا لهذه الطائفة من المتأخرين، إنما هو: (لا نشاححكم أيها المتأخرون فيما اصطلحتم عليه ولكن بينوا اصطلاحكم البيان الكامل الوافي وانسبوه لأنفسكم وحْدَكم، لا للقدماء، ولا لعامة المحدثين، وصرحوا بتلك النسبة ليزول الإيهام بإغفالها، وافهموا مصطلحات القدماء واعلموا ما بينها وبين مصطلحاتكم من فرق وتفاوت، واعتبروه في دراساتكم؛ وبينوا ذلك لطالبيه).

    هذا آخر القسم الأول من هذا المبحث.
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    قواعد وتنبيهات من أصول فهم المصطلحات وشرحها ووضعها Empty رد: قواعد وتنبيهات من أصول فهم المصطلحات وشرحها ووضعها

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 15.10.08 8:38

    القسم الثاني:

    21- التحذير من الإسراف - أو تجاوز الضوابط الصحيحة - في إخراج بعض كلمات الناقد عن معناها المشهور في علم المصطلح، من أجل توحيد أحكامه على الراوي إذا تعددت:

    إن النقاد كثيراً ما يقع منهم أن يتكرر كلام الواحد منهم في الراوي الواحد؛ وكثيراً ما يظهر بين تلك الكلمات – أو يتراءى بين تلك الأحكام – اختلاف ما، فليس من الصواب أن نبالغ في حمل جملة كبيرة من مصطلحاتهم على غير معانيها المشهور
    ة عندهم المقررة بينهم، من أجل أن ننفي الاختلاف بين معاني كلمات ذلك الناقد في عدد يسير من الرواة.

    وبعبارة أخرى: ليس كل اختلاف في كلمات الناقد في الراوي الواحد يصح أن يحمل على تساوي هاتين الكلمتين في المعنى؛ فيجعل الاختلاف لفظياً؛ بل الناقد الواحد يقع منه أحياناً، بل قد يكثر منه، أن تختلف أحكامه في الراوي الواحد؛ أعني تختلف عباراته اختلافاً معنوياً؛ ولذلك الاختلاف أسبابه وتوجيهاته؛ كما يأتي بعد قليل.


    نعم قد يشذ بعضهم أحياناً قليلة فيما يستعمل له بعض الكلمات من المعاني، فيكون الخلاف بين عباراته في الراوي الواحد لفظياً؛ ولكن ذلك قليل؛ فلا بد من التثبت والمبالغة في التفتيش والاستقراء، فإن علم أن الاختلاف معنوي حكمنا به ووجهناه التوجيه اللائق بحال ذلك الناقد وحال ذلك الراوي؛ وإن عُلم أنه اختلاف لفظي حملنا معنى إحدى الكلمتين على معنى الكلمة الأخرى، ووجهنا ذلك أيضاً؛ ولكن ليعلم أنه لا يلزم من هذا الحمل هنا المساواة بين تلك اللفظتين عند ذلك الناقد مطلقاً حيث وردتا؛ فهذا اللازم باطل.


    فليس اختلاف معنى الاصطلاحات عند الناقد هو السبب الوحيد في ما قد يظهر من اختلاف بين كلماته في راو بعينه؛ ولكن من علم أوجه وأسباب ما قد يقع من اختلاف أقوال الناقد في راو بعينه اتسع له ما كان ضيقاً من مجال توجيه ذلك الاختلاف وبان له ما كان خفياً من حقائقه، ولم يقتصر على ما يفعله كثير من المتأخرين من الاسترواح عند اختلاف كلمات الناقد في الراوي إلى الجمع بينها بحمل بعضها على خلاف معناها المصطلح عليه ويبالغ في ذلك ويكثر منه.


    إن هذه المسألة اقتضت مني هنا نوعاً من الاستطراد بذكر أسباب اختلاف أحكام أو كلمات الناقد في رواة معينين، فأقول - وبالله التوفيق:


    إن اختلاف الثقة المكثر المعتمد من النقاد في الحكم على الراوي الواحد، هو في الحقيقة أمر هين له أسبابه التي من علمها عذره وفهم مسلكه في هذه المسألة.

    ومن أهم تلك الأسباب:

    أن الناقد قد يتأثر حكمه أحياناً دون أحيانٍ أخرى بحديث لذلك الراوي يسمعه أو يقف عليه قبيل كلامه فيه، قال في (التنكيل) (ص225):


    (ومن ذلك أن المحدث قد يسأل عن رجل فيحكم عليه بحسب ما عرف من مجموع حاله، ثم قد يسمع له حديثاً فيحكم عليه حكماً يميل فيه إلى حاله في ذاك الحديث، ثم قد يسمع له حديثاً آخر فيحكم عليه حكماً يميل فيه إلى حاله في هذا الحديث الثاني، فيظهر بين كلامه في هذه المواضع بعض الاختلاف. وقع مثل هذا للدارقطني في سننه وغيرها؛ وترى بعض الأمثلة في ترجمة الدارقطني من قسم التراجم.


    وقد يُنقل الحكم الثاني أو الثالث وحده فيُتوهم أنه حكم مطلق).


    وقال في (التنكيل) ص588 في ترجمة الدارقطني:


    (ينبغي أن تعلم أن كلام المحدث في الراوي يكون على وجهين :


    الأول : أن يُسأل عنه فيجيل فكره في حاله في نفسه وروايته ثم يستخلص من مجموع ذلك معنى يحكم فيه((1)) .


    الثاني : أن يست
    قر في نفسه هذا المعنى ثم يتكلم في ذاك الراوي في صدد النظر في حديث خاص من روايته((2)) .

    فالأول هو الحكم المطلق الذي لا يخالفه حكم آخر مثله إلا لتغير الاجتهاد.


    وأما الثاني فإنه كثيراً ما ينحى به نحو حال الراوي في ذاك الحديث.


    فإذا كان المحدث يرى أن الحكم المطلق في الراوي أنه صدوق كثير الوهم ثم تكلم فيه في صدد حديث من روايته، ثم في صدد حديث آخر، وهكذا، فإنه كثيراً ما يتراءى اختلاف ما بين كلماته).
    ثم أتى المعلمي رحمه الله بأمثلة ذلك.

    أن يكون ذلك الرجل مختلفاً فيه غير واضح الأمر وضوحاً تاماً فيجتهد فيه الناقد فيختلف فيه اجتهاده إذا سئل عنه أو تكلم فيه ابتداءً في مقامين أو وقتين مختلفين؛ قال الذهبي في جزئه (ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل) ص172 بعد أن ذكر جملة من العلماء بالحديث ورجاله قبل ابن معين :


    (فمن أئمة الجرح والتعديل بعد من قدمنا: يحيى بن معين، وقد سأله عن الرجال عباس الدوري وعثمان الدارمي وأبو حاتم وطائفة، وأجاب كل واحد منهم بحسب اجتهاده. ومن ثَم اختلفت آراؤه وعباراته في بعض الرجال، كما اختلفت اجتهادات الفقهاء المجتهدين، وصارت لهم في المسألة أقوال).


    قلت: وأكثر النقاد اختلافاً في أحكامهم على رواة بأعيانهم هم أكثر النقاد اجتهاداً في الرواة وأكثرهم كلاماً فيهم وأكثرهم فيما يوجه إليهم من أسئلة عنهم؛ ومن هذا الصنف ابن معين ثم الدارقطني.

    أن يسأل الناقد مرة عن الراوي وحده ثم يسأل عنه في وقت آخر مقروناً بمن هو فوقه أو دونه في القوة، قال ابن حجر في بذل الماعون في فضل الطاعون وهو يذكر حال بعض الرواة((3)) :


    (وقد وثقه يحيى بن معين والنسائي ومحمد بن سعد والدارقطني ونقل ابن الجوزي عن ابن معين أنه ضعفه فإن ثبت ذلك فقد يكون سئل عنه وعمن فوقه فضعفه بالنسبة إليه، وهذه قاعدة جليلة فيمن اختلف النقل عن ابن معين فيه؛ نبه عليه أبو الوليد الباجي في كتابه (رجال البخاري)((4)) . وانظر التنكيل (ص260-262) ولسان الميزان (1/28) وفتح المغيث (1/374-375) وتراجم عبد ربه بن نافع وعبد الرحمن بن سليمان وعبد الرحمن بن عبد الله بن حنظلة وموسى بن عقبة في الفصل التاسع من (مقدمة فتح الباري).

    أن يكون أحد الحكمين المختلفين حكماً نسبياً والآخر حكماً كلياً ، والحكم النسبي قد يخالف الحكم الكلي، ومن أمثلة الحكم النسبي الحكم على الراوي بالنسبة إلى مروياته عن بعض شيوخه أو بالنسبة إلى ما رواه عنه بعض تلامذته أو بالنسبة إلى ما رواه من حفظه أو من كتابه أو قبل اختلاطه أو بعده، ويكون الناقد قد أطلق الحكم ولم يقيده. ولكن لا شك أن هذا نادر لا يكثر((5)) . قال المعلمي في (التنكيل) (ص254-255) بعد ان ذكر خلاصة المعنى الذي ذكره الباجي في أسباب اختلاف كلمات الناقد في الراوي:
    (ومما يدخل في هذا الباب انهم قد يضعفون الرجل بالنسبة إلى بعض شيوخه أو إلى بعض الرواة عنه أو بالنسبة إلى ما رواه من حفظه أو بالنسبة إلى ما رواه بعد اختلاطه وهو عندهم ثقة فيما عدا ذلك---- ).

    أن يكون أحد قولي الناقد في ذلك الراوي صادراً على غير سبيل الحكم، قال الشيخ المعلمي في (التنكيل) (ص241):


    (وقد يتسمح العالم فيما يحكيه على غير جهة الحكم فيستند إلى ما لو أراد الحكم لم يستند إليه كحكاية منقطعة وخبرِ من لا يعدّ خبره حجة وقرينةٍ لا تكفي لبناء الحكم ونحو ذلك----).

    أن يكون أحد حكمي الناقد غير متأثر بغير حال الراوي في الرواية ويكون الحكم الآخر متأثراً بحال السائل أو المجلس أو غير ذلك؛ مثل أن يكون السائل مشدداً في سؤاله فيظهر أثر ذلك على جواب من سأله ، أخرج الترمذي كما في (شرح علله) لابن رجب (1/395-396) عن علي ابن المديني قال:


    (سألت يحيى بن سعيد عن محمد بن عمرو بن علقمة؟ فقال: تريد العفو أو تشدد؟ فقلت: لا، بل أشدد، فقال: ليس هو ممن تريد، كان يقول: أشياخنا أبو سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب).


    وقال الخطيب في (الكفاية) (ص109):


    (ومذاهب النقاد للرجال غامضة دقيقة وربما سمع بعضهم في الراوي أدنى مغمز فتوقف عن الاحتجاج بخبره وان لم يكن الذي سمعه موجبا لرد الحديث ولا مسقطا للعدالة ويرى السامع أن ما فعله هو الأولى رجاء إن كان الراوي حياً أن يحمله ذلك على التحفظ وضبط نفسه عن الغميزة، وإن كان ميتاً أن ينزله من نقل عنه منزلته، فلا يلحقه بطبقة السالمين من ذلك المغمز؛ ومنهم من يرى أن من الاحتياط للدين إشاعة ما سمع من الأمر المكروه الذي لا يوجب إسقاط العدالة بانفراده حتى ينظر هل له من أخوات ونظائر فان أحوال الناس وطبائعهم جارية على إظهار الجميل وإخفاء ما خالفه فإذا ظهر أمر يكره مخالف للجميل لم يؤمن أن يكون وراء شبه له ولهذا قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه في الحديث الذي قدمناه في أول باب العدالة من أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال ان سريرتي حسنة).


    وقال الباجي في (التعديل والتجريح) (1/283-288) :


    (اعلم انه قد يقول المعدل : (فلان ثقة) ولا يريد به انه ممن يحتج بحديثه، ويقول: (فلان لا بأس به) ويريد انه يحتج بحديثه؛ وإنما ذلك على حسب ما هو [أي الناقد] فيه، ووجه السؤال له؛ فقد يسأل عن الرجل الفاضل في دينه المتوسط في حديثه فيقرن بالضعفاء فيقال: ما تقول في فلان وفلان؟ فيقول: فلان ثقة، يريد أنه ليس من نمط من قرن به، وأنه ثقة بالإضافة إلى غيره، وقد يسأل عنه على غير هذا الوجه فيقول: لا بأس به، فإذا قيل: أهو ثقة؟ قال: الثقة غير هذا)؛ ثم أطال الباجي في التمثيل لتلك المعاني والاستدلال لها، إلى أن قال:


    (فهذا كله يدل على أن ألفاظهم في ذلك تصدر على حسب السؤال، وتختلف بحسب ذلك، وتكون بحسب إضافة المسؤول عنهم بعضهم إلى بعض) إلى أن قال:


    (وقد يحكم بالجرحة على الرجل بمعنى لو وجد في غيره لم يجرح به لما شهر من فضله وعلمه وان حاله يحتمل مثل ذلك).


    وقال في ختام مبحثه هذا:


    (فعلى هذا يحمل ألفاظ الجرح والتعديل من فهم أقوالهم وأغراضهم، ولا يكون ذلك إلا لمن كان من أهل الصناعة والعلم بهذا الشأن؛ وأما من لم يعلم ذلك وليس عنده من أحوال المحدثين إلا ما يأخذه من ألفاظ أهل الجرح والتعديل، فإنه لا يمكنه تنـزيل الألفاظ هذا التنـزيل ولا اعتبارها بشيء مما ذكرنا، وإنما يتبع في ذلك ظاهر ألفاظهم فيما وقع الاتفاق عليه، ويقف عند اختلافهم واختلاف عباراتهم).


    ومما مثل به الباجي لكلامه الأول جواب ابن مهدي في أبي خلدة؛ وقد تكلم العلامة المعلمي في (التنكيل) (ص261-262) على هذا الجواب فأتى بفوائد منها قوله:


    (واصل القصة أن ابن مهدي كان يحدث فقال: حدثنا أبو خلدة، فقال له رجل: كان ثقة؟ فأجاب ابن مهدي بما مر، فيظهر لي أن السائل فخم كلمة ثقة ورفع يده وشدها بحيث فهم ابن مهدي أنه يريد أعلى الدرجات، فأجابه بحسب ذلك؛ فقوله (الثقة شعبة وسفيان) أراد به الثقة الكامل الذي هو أعلى الدرجات؛ وذلك لا ينفي أن يقال فيمن دون شعبة وسفيان: (ثقة)، على المعنى المعروف؛ وهذا بحمد الله ظاهر وإن لم أر من نبه عليه؛ وقريب منه أن المروذي قال: "قلت لأحمد بن حنبل: عبد الوهاب بن عطاء ثقة؟ قال: ما تقول؟ إنما الثقة يحيى القطان". وقد وثق أحمد مئات من الرواة يعلم انهم دون يحيى القطان بكثير).


    أقول: فإذن قد يستعمل الناقد لفظة صدوق بمعنى لفظة ثقة، وإنما يعدل عن (ثقة) إلى (صدوق) لأن قرينة في السؤال أو في تصرف السائل أو في المجلس تقتضي منه ذلك العدول لأن كلمة ثقة حينئذ – أي في ذلك المجلس - معناها الثقة الثبت الحجة الحافظ، وهو قد سئل عمن هو ثقة غير مؤكد التوثيق فلا بد له حينئذ من استعمال كلمة صدوق أو ما يقوم مقامها؛ وبهذا يتبين أن جعل هذا المعنى الطارئ لكلمة صدوق معنى لازماً لها عند ذلك الإمام الذي استعملها لا يصح إلا باستقراء كاف أو نص عليه من ذلك الإمام نفسه أو ممن نظن أنه عنه أخذه – أي تلميذه – أو نص من كبار النقاد القدماء الذين هم عارفون به معرفة كافية فائقة.

    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    قواعد وتنبيهات من أصول فهم المصطلحات وشرحها ووضعها Empty رد: قواعد وتنبيهات من أصول فهم المصطلحات وشرحها ووضعها

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 15.10.08 8:41

    هذا بعض ما يتعلق بالاختلاف في المعنى، ولكن لا نقول بأن كل اختلاف يظهر بين عبارات الناقد الواحد في الراوي الواحد يكون معنوياً؛ بل الواقع أنه قد يكون بعضه لفظياً؛ أي أن الناقد قد يستعمل في نقد راو واحد عبارتين متباينتين في معناهما بحسب ظاهرهما ولكنهما متطابقتان فيه بحسب ما عناه هو؛ مثل أن يستعمل إحدى العبارتين بمعناها عند الجمهور، ويستعمل الثانية بمعنى آخر غير معناها عند الجمهور ولكنه مقارب له ومساوٍ لمعنى العبارة الأولى.

    وهذا الاحتمال مما ينبغي التنبه له والتفطن إليه، وهو يقضي بوجوب دراسة مصطلحات ومناهج العلماء على وجه الاستقراء والتدقيق والتفصيل.

    وقد يكون في بعض الأحوال الاختلاف غير واقع من الناقد بل تكون كلماته في الرجل متحدة المعنى متطابقة ولكن أخطأ عليه من روى بعض تلك الكلمات عنه ، كأن يكون كلامه في راو معين فيظن السامع أنه أراد راوياً آخر يشاركه في اسمه فينقل كلامه على أنه في ذلك المتوهَّم مع أن ذلك الناقد له في هذا المتوهم حكم مغاير فيحصل بحسب النقل اختلاف في حكمه على راو واحد((6)) .


    قال المعلمي في (التنكيل) في أثناء بعض كلامه: (كان الرواة الذين هم أثبت من ابن وضاح يخطئون على ابن معين ، يتكلم ابن معين في رجل فيروون ذاك الكلام في رجل آخر كما قدمت أمثلة من ذلك في القاعدة السادسة من قسم القواعد----؛ وإذا اختلف النقل عن إمام أو اشتبه أو ارتيب فينظر في كلام غيره من الأئمة وقضى فيما روي عنه بما ثبت عنهم).

    وقد يكون ذلك الاختلاف اختلاف تنوع لا تضاد ، فيكون احد الحكمين مفسراً لما أجمله الاخر أو مبيناً لما أبهمه أو مقيداً لما أطلقه ، أو يكون الراوي عند ذلك الناقد واقعاً بين هذا الحكم وذاك؛ قال ابن معين في راو من الرواة (ثقة) وقال فيه مرة (ليس بذاك القوي) فقال المعلمي في (التنكيل) (ص411):
    (وهذا إنما يعطي أنه ليس غاية في الاتقان ، فكأن ابن حبان فسر ذلك إذ قال في (الثقات): كان متقناً ربما وهم).
    هذا كله بعد أن يتم التثبت من صحة نسبة الكلمات المتياينة إلى الناقد؛ فقد لا يكون الاختلاف منه بل يكون الاختلاف عليه من رواة كلامه بسبب وهم وقع فيه بعضهم.

    22- بيان أنه لا يصح ادعاء معان كثيرة متباعدة لكلمة واحدة من عالم واحد:

    لا يستقيم حمل اصطلاح العالم الواحد على معان كثيرة يبعد عرفاً أن يستعمله لجميعها؛ مثل أن تحمل لفظة (حسن) من الترمذي على عشرة معانٍ متباينة؛ إلا إذا لاحظنا رجوع تلك المعاني إلى أصل واحد أو أصلين متقاربين أو لاحظنا ارتباط تلك المعاني بهما، أو تقاربها فيما بينها.

    23- بيان عدم صحة الجمود الكلي على ما بينه العالم من معنى لبعض اصطلاحاته:

    ليس من الصحيح أن نفهم تعريفات القدماء لبعض اصطلاحاتهم على أن ذلك هو المعنى الوحيد لذلك المصطلح عندهم، وذلك مثل تعريفات الشافعي والحاكم والخليلي للحديث الشاذ؛ فالمتقدمون لا يلتزمون السير على طريقة التعريف الجامع المانع كما هي طريقة المتأخرين؛ ولا سيما إذا كان ذلك التعريف جواباً لسائل مستفهم، وهم كثيراً ما يقتصرون على بيان المشكل من المعاني والمصطلحات ويتركون الكلام على ما سواه مما يظهر للسامعين اندراجه تحته أو التحاقه به أو قياسه عليه.

    24- بيان أن خروج المحدث أو العالم عن اصطلاح الجمهور قد يكون خلاف الأصل عنده:

    إذا ثبت خروج الناقد عن اصطلاح الجمهور أحياناً في لفظة بعينها فليس معنى ذلك خروجه عن اصطلاحهم في جميع استعمالاته لتلك اللفظة؛ ولكنه يحتمل أنه يخرج أحياناً، مع أن الأصل عنده موافقته لهم في معنى تلك الكلمة.

    25- بيان شروط وضع اصطلاحات جديدة أو معاني جديدة لألفاظ اصطلاحية قديمة:

    ينبغي لمن تكلم في هذا الفن أن يورد الألفاظ المتعارفة فيه مستعملاً لها في معانيها المعروفة عند أربابه؛ ومخالف ذلك إما جاهل بمقتضى المقام أو قاصد للإبهام أو الإيهام؛


    مثال ذلك: أن يقول قائل في حديث ضعيف: إنه حديث حسن، فإذا اعترض عليه قال: وصفته بالحسن باعتبار المعنى اللغوي لاشتمال هذا الحديث على حكمة بالغة؛ فهذا القائل لا يخلو من أحد الاحتمالات الثلاثة المتقدمة. وأما قولهم (لا مشاحة في الاصطلاح) فليس هذا موضع الاعتذار بمثل هذا القول؛ وإنما موضعها ما لم تكن المصطلحات قد استقرت واشتهرت وتقادم العهد عليها وكانت الكتب حافلة بها.

    ثم إنه لا معنى لتعدد الاصطلاحات ومخالفة القدماء فيها، ولو لم ينشأ عن ذلك إبهام ولا إيهام؛ إلا إذا كان في ذلك مصلحة راجحة.

    فمن أراد أن يضع اصطلاحات جديدة مكملة لما وجد من الاصطلاحات أو يرى أن الحاجة مقتضية لذلك فعليه أن يحذر غب المبالغة في تكثير المصطلحات بلا حاجة وتقسيمها وتحديدها بلا مقتضي وليحذر ما ينبني على ذلك من أضرار على هذا العلم وإفساد لمقاصد أهله باصطلاحاتهم.

    26- بيان شدة حاجة طالب علم الحديث إلى التوسع والتعمق في دراسة مصطلحات المحدثين:

    إن المعرفة الإجمالية – أو التقريبية - للمهمات من تلك المصطلحات والشهيرات من تلك العبارات، قد يفي بها دراسة بعض كتب المصطلح بنوع من التدبر والتأني؛ ولكن لا شك أن ذلك مما لا يكفي طالب التحقيق ولا يؤهله للإجتهاد في مسائل العلم والتبحر فيه ، فقد وقع من الدقة والخفاء والإلباس في مذاهب النقاد واصطلاحاتهم ما وقع فيها ثم إن تلك الاصطلاحات – أو تفاصيل معانيها – لم يتفق على جميعها جميع أهل هذا الفن، بل خالف كثير منهم في كثير منها الجمهور مخالفة قريبة أو بعيدة واستعمل بعضهم بعضها في أكثر من معنى، وأهمل شرح أغلبها سائر المتقدمين، ولم يحسن شرح كثير منها كثير من المتأخرين والمعاصرين، لقد أبان غير واحد من الأئمة المتقدمين والعلماء المحققين والباحثين المعاصرين البارعين عن شدة الحاجة إلى استقراء مصطلحات علماء الحديث وكشف دقائق الفروق بين معانيها عندهم وتخمين المواضع التي يخرجون بها عن المشهور من اصطلاحهم، واتباع أصح المسالك في معرفة معاني مصطلحات القدماء، وتصحيح ما وقع من المتأخرين من سوء فهم لمصطلحات السابقين أو إخلال في شرحها، وذكرت في غير هذا الموضع شيئاً من ذلك؛ فكل ذلك مما زاد في صعوبة معرفتها على سبيل التفصيل والتحقيق، ومما جعل أكثر هذه الكتب المؤلفة في هذه الأبواب غير وافية بهذه المقاصد ولا كافية في هذه المطالب، ولا سيما في حق اهل هذا العصر الذي انحسرت فيه العلوم وسقمت فيه الفهوم وهجرت فيه العربية وبعدت فيه الشقة على من أراد الرجوع إلى جادة سلف هذه الأمة الأمية، والله المستعان.


    لذلك كله ينبغي أن يعلم أن شرح اصطلاحات أهل هذا الفن العظيم وتبيين حقائقها عندهم وإظهار فوارقها بينهم وكشف عباراتهم فيها وإشاراتهم بها واستنباط دقائقها وتفاصيلها والتنبيه على كل – أو معظم – ما وقع في ذلك من التفرد والشذوذ والمخالفة: مطلبٌ الوصول اليه ـ لا شك ـ غير يسير ودربٌ السائرون عليه قديماً وحديثاً غير كثير؛ وكيف يسهل أن يكون المرء شارحاً لمقاصد العلماء - على اختلاف أعصارهم وأمصارهم وتباين مناهجهم ومدارجهم - فيما اصطلحوا عليه من الكلمات أو استعملوه من غريب الأساليب وخفي العبارات! ولا سيما إذا كان عن دقيق علمهم منعزلاً وعن رفيع منزلهم نازلاً!


    ولكن هذا الموضوع لا بد – لشدة الحاجة إليه – من طرق بابه، ولا مندوحة - لعظم الانتفاع به - عن محاولة كشف حجابه ولا سيما في مثل الزمان الذي كثر فيه الكلام على الأحاديث تصحيحاً وتعليلاً وعلى رجالها تجريحاً وتعديلاً؛ وكثر في ذلك كله الجرأة والتعالم والتقليد، وغيرها من الآفات التي حذر منها العلماء وأحجم دون الخوض في مسائل العلم حذراً منها العقلاء الأتقياء، والله الموفق والمستعان.

    27- بيان كيفية تفسير الاصطلاح المحتمل لأكثر من معنى:

    الأصل في كلام الإمام إذا كان محتملاً لأكثر من وجه أن يحمل على الوجه الموافق أو المقارب لمذهب أهل عصره من شيوخه وأقرانه وتلامذته وأقرانهم؛ وذلك بشرط تساوي تلك الاحتمالات في قوتها؛ وإلا فأقواها هو المقدم.

    28- بيان ضرورة تقديم شروح المتقدمين على شروح المتأخرين، في الجملة:

    لا بد لمن أراد فهم أو شرح اصطلاحات المحدثين أن ينظر معانيها عند واضعيها وعند أهل الأزمنة القريبة من زمنهم فهم أهل الاصطلاح، وهم الذين أنشأوا ذلك العلم، ووضعوا قواعده وضوابطه واصطلاحاته، فلم يبقَ لمن جاء بعدهم إلا تلقي هذا العلم عنهم، وأخْذ معاني مصطلحاته منهم، ليفهم علمهم ويَعِيَ قولهم.

    29- بيان أهم أسباب الخلل في طريقة المتأخرين في فهم المصطلحات وشرحها:

    هذه المسألة في غاية الأهمية ولكني لم أستوف جميع قواعدها في هذا الموضع فإن بعضها مذكور تصريحاً أو تضميناً في مواضع أخرى من هذا المبحث.


    لقد وقع غير قليل من الخلل والانحراف في فهم وشرح مصطلحات القدماء من علماء الحديث، لأنه وقع بون كبير بين طريقة المتقدمين وطريقة المتأخرين في العلم؛ لقد كانت مصطلحات المحدثين معروفة عند أهلها وعند المعنيين بهذا الفن وظلت كذلك في العصور المتقدمة، ولذلك أسباب أهمها قوة هذا العلم حينئذ وكثرة انتشاره وتوافر أهله وقوة معرفتهم بمناهج أئمتهم والمتقدمين عليهم من علماء فنهم، وتمكنهم من لغة العرب وسعة اطلاعهم عليها، وقلة مصطلحات المحدثين حينئذ وبعدها عن التنطع والتدقيق المبالغ فيه؛ وقلة التأثر بالقواعد المنطقية والكلامية؛ فلما قل أصحاب الحديث وضعفت علومهم وصاروا بين الناس غرباء وابتعد الناس عن علم النبوة وكثر فيهم الاهتمام بعلوم الكلام والمنطق ونحوها ازدادت مصطلحات المحدثين عدداً وغرابة فانبرى لشرحها وتوضيحها غير واحد من العلماء، ولكن حصل بعدئذ أن كثرت تقسيمات الشراح لها وتنطع كثير منهم في شرحها وتوزيعها وبيان مراداتها وتحقيق مفاداتها؛ وتباينت المناهج في فهمها واختلفت الأقوال في تفسيرها؛ وتأثرت كتب علوم الحديث – كشأن سائر كتب المسلمين – بعقائد مؤلفيها ومذاهبهم، وبعلوم أجنبية عنها تشبع أو تأثر بها أولئك الشراح.

    30- بيان حكم نقل أقوال العلماء في التعريف بالمصطلحات:

    عند شرح المصطلحات في البحوث والمؤلفات فإنه لا معنى للمبالغة في نقل أقوال العلماء ولا سيما من تأخر منهم ومحاولة استيعابها وتوجيهها والجمع بينها والاعتذار عن المخالف فيها ونحو ذلك مما تقل منفعته للقارئ وتثقل مؤنته عليه؛ فينبغي أن يجتنب الإكثار من ذلك إلا عند الحاجة واقتضاء المقام، أو عند توخي الفائدة من ورائه؛ وهذا الأمر يختلف باختلاف المسائل والأحوال والمخاطَبين.


    وأما الباحث – أو المصنف - نفسه فإنه ينبغي له قبل الحكم والبت والتصريح بثمرة بحثه: أن ينظر كل ما قيل في شرح مصطلحات المحدث، ولا يهمل شيئاً من ذلك، ولا حتى الأقوال التي يكون الخطأ فيها ظاهراً، فلعله ما من شرح أو قول من تلك الأقوال إلا وهو صحيح، أو يكاد يصح، أو يدل على أصل نافع، أو يشير إلى مسألة بعيدة، أو ينم عن معنى خفي، أو ينبه إلى فائدة ما.


    وللشيخ طاهر الجزائري كلام في هذا الباب جيد ولكنْ في بعضه نظر؛ وأنقله هنا ليقف القارئ به على وجه الفائدة من نقل أقوال العلماء في المسألة واختلافاتهم فيها ولكن لا تسلِّم كل ما قاله فيه، وعلى كل حال ففي كلامه بيان لحجج القائلين بتكثير الأقوال واستيعابها فمن قدر على تمييز غثه من سمينه انتفع به واتضح عنده ما ذكرته أنا في الفقرة التي نحن بصدد التعليق عليها؛ قال رحمه الله في (توجيه النظر) (ص43-44):


    (وقد اعترض بعض الناس على المؤلفين الذين ينقلون في المسألة جميع الأقوال التي وقفوا عليها كما فعله بعض علماء التفسير وعلماء الأصول ومن نحا نحوهم وذلك لجهلهم باختلاف أغراض المصنفين ومقاصدهم ولتوهمهم أن طريق التأليف يجب أن لا يخالف ما تخيلوه في أذهانهم؛ وقد أحببنا أن نختم هذا الفصل بالجواب عن اعتراضهم فنقول:


    إن تلك الأقوال إن كانت مختلفة في المآل عرف الناظر الخلاف في المسألة، وفي معرفة الخلاف فائدة لا تنكر، وكثيراً ما يستنبط من أمعن النظر فيها قولاً آخر يوافق كل واحد من الأقوال المذكورة من بعض الوجوه، وكثيراً ما يكون أقوى من كل واحد منها وأقوم؛ وقد وقع ذلك في مسائل لا تحصى في علوم شتى.
    وإن كانت تلك الأقوال غير مختلفة في المآل كان من توارُد العبارات المختلفة على الشيء الواحد، وفي ذلك من رسوخ المسألة في النفس ووضوح أمرها ما لا يكون في العبارة الواحدة؛ على أن بعض العبارات ربما كان فيها شيء من الإبهام أو الإيهام فيزول ذلك بغيرها؛ وقد يكون بعضها أقرب إلى فهم بعض الناظرين، فكثيراً ما تعرض عبارتان متحدتا المعنى لإثنين تكون إحداهما أقرب إلى فهم أحدهما، والأخرى أقرب إلى فهم الآخر؛ وهذا مشاهد بالعيان لا يحتاج إلى برهان؛ ومن ثم ترى بعض المؤلفين قد يأتون بعبارة ثم إذا بدا لهم أن بعض المطالعين ربما لم يفهمها أتوا بعبارة أخرى وأشاروا إلى ذلك.


    وإذا عرفت هذا تبين لك أن مثل هؤلاء المعترضين مثل غر جال في الأسواق فصار كلما رأى شيئاً لم يشعر بفائدته أو لم تدع حاجته إليه عد وجوده عبثاً وسفه رأي عماله والراغبين فيه، وكان الأجدر به أن يقبل على ما يعنيه ويعرض عما لا يعنيه؛ وكأن كثيراً منهم يظن أن الاعتراض على أي وجه كان يدل على العلم والنباهة، مع أنه كثيراً ما يدل على الجهل والبلاهة.


    ولا نريد بما ذكرنا سد باب الاعتراض على المؤلفين والمؤلفات بل صد الذين يتعرضون لذلك ببادىء الرأي لا غير، وإلا فالاعتراض إذا كان معقولاً لا ينكر بل قد يحمد عليه صاحبه ويشكر).

    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    قواعد وتنبيهات من أصول فهم المصطلحات وشرحها ووضعها Empty رد: قواعد وتنبيهات من أصول فهم المصطلحات وشرحها ووضعها

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 15.10.08 8:43

    31- بيان ضرورة التثبت وعدم التسرع في تحديد معاني المصطلحات:

    إن السبيل إلى معرفة معاني الاصطلاحات عند المتقدمين هو الاستقراء التام المليء بالفطنة والنباهة وبقوة ملاحظة القرائن والاحتمالات والمستند إلى المقارنات والموازنات، مع استحضار المعنى اللغوي للكلمة في أثناء ذلك العمل كله، ومع الحذر مما خالف فيه المتأخرون المتقدمين في معاني اصطلاحاتهم.

    32- تنبيهات تتعلق بالمصطلحات المركبة أو المجموعة:

    إذا ورد في العبارة جمع بين لفظتين اصطلاحيتين مثل (حسن صحيح) أو (حسن غريب)، و (ثقة صدوق)، و (صدوق فيه لين) و (صالح فيه ضعف)، و (صحيح مرفوع) و (عدل ضابط) فإنه لا يلزم أن يكون معنى كل لفظة من هاتين اللفظتين ضمن هذا الجمع هو معناها عند انفرادها، بل قد يظهر أن مدلول أحدهما أو كليهما قد تأثر بهذا التركيب، وأن هذا المركب ليس جمعاً بين اصطلاحين، أي أن معناه غير المعنى الحاصل من الجمع بين المعنيين الاصطلاحيين لتلك اللفظتين وإنما هو مصطلح واحد مركب دخل في تركيبه كلمتان اصطلاحيتان، وأن كلاً منهما قد حافظت ضمن هذا التركيب على أصل – أو بعض - معناها الاصطلاحي دون جميعه، والفصل في هذه المسائل يحتاج إلى الدراسة الاستقرائية الوافية.

    33- التذكير باحتمال اختلاف كلمات العالم باختلاف السياق:

    لا بد، عند تفسير كلام العلماء، من ملاحظة ومراعاة دلالة السياق؛ فإن وجد للعالم كلام في بيان شروط قبول الرواية وتطرق فيه إلى معنى التدليس باختصار ووجد له كلام آخر في شرح معنى التدليس وحكم عنعنة المدلس على وجه التفصيل والتحرير، ووقع بين ظاهر العبارتين شيء من اختلاف فالصحيح حينئذ حمل ما في كلامه العام على ما في كلامه الخاص بالتدليس؛ فإن كلام العالم على المسألة في موضع تقريرها مقدم على ما ورد من كلامه فيها في أثناء تقرير مسألة أخرى غيرها.


    وكذلك قوله في الراوي قد يكون في موضع مجملاً وفي آخر مفصلاً؛ فينبغي مراعاة ذلك لئلا يقع الوهم في استقراء معاني مصطلحاته.

    34- بيان وجوب تقديم الجمع بين كلمات الناقد ما أمكن، ولكن من غير تعسف ولا تكلف:

    ينبغي حمل كلام الإمام في موطن على موافقة المواطن الأخرى ما أمكن؛ وذلك لندفع عنه التناقض والاختلاف ونحوهما؛ ولكن لا يصح المبالغة في ذلك؛ ولا بد في كل ذلك من مراعاة القرائن واعتبار الأحوال؛ فالناقد الذي يكثر كلامه ويتسرع في النقد قد يكون الأصل في حقه اختلاف أحكامه إلى أن يقوم دليل في حق بعض تلك الأحكام أن اختلاف عباراته كان لفظياً؛ والناقد الذي يكون كلامه في راو يعرفه جيداً قد يكون الأصل في حقه أن الاختلاف بين كلمات ذلك الناقد في حقه لفظياً، أو محمولاً على اختلاف المقام والمقصد ونحوهما مما يؤثر في طريقة النقد.

    35- بيان عدم صحة حمل كلام العالم على معنى يكون به مخالفاً للإجماع، إلا عند الاضطرار إلى ذلك؛ وضرورة الانتهاء إلى حكم تراعى فيه الموازنة وعدم التناقض بين مقتضى شرح الكلمة الاصطلاحية ومقتضى مرتبة الناقد ومنزلته في فنه:

    لا يصح حمل كلام العالم على خرق الإجماع ما دام له محمل لا يخالف الإجماع؛ ومقتضى هذا أن لا يفسر اصطلاح المحدث تفسيراً يؤدي إلى أن يكون معنى كلامه الذي ورد فيه ذلك المصطلح مخالفاً للإجماع؛ ولو كان ذلك التفسير هو المعروف من معنى ذلك المصطلح، إلا إذا كان لا بد من ذلك الحمل، فيصار إليه.
    ولا بد من التزام مراعاة الموازنة في أثناء البحث والاستقراء وفيما ينتهيان إليه؛ فلا يصح اعتبار ودراسة الألفاظ مجردة عن ملاحظة مرتبة الناقد ومنزلته بين أهل الفن، وقواعد فيه؛ ولا مجردة عن مراعاة أصل مرتبة الناقد ومنزلته بين العلماء.


    لا يستقيم أن يكون من مقتضيات تلك الدراسة وما ينبني عليها: تغيير ما قد علم واشتهر وتحقق من مرتبة ذلك الناقد ومنزلته بين أهل فنه ولو إجمالاً؛ فلا يجمح البحث بالباحث إلى أحكام وشروحات للألفاظ الاصطلاحية مقتضية أو مفهمة خلاف حال ذلك الناقد؛ مثل أن يكون مقتضاها أنه ضعيف في الفن أو مخالف لجمهور المحدثين ولأهل اللغة في أمر سهل واضح بين، مع أن الواقع خلاف ذلك.


    وكذلك لا يقصر به من البحث ويمنعه من نتائج جديدة كل ما اشتهر من حال الناقد.


    فمثلاً الترمذي اشتهر أنه متساهل في التحسين، فإذا أردت استقراء مصطلح التحسين عند الترمذي، فإنه لا يصح أن تمتنع من أن تسلم لنتيجة أخرى قد ينتهي إليه البحث مثل كون الترمذي معتدلاً وهو أحد أئمة العلل، ولكن التحسين عنده له معنى آخر، أو معاني أخرى، فليس هو في الجملة بالمعنى المشهور عند المتأخرين، وهو القسم الثاني من أقسام الأحاديث الصحيحة أو المحتج بها.


    ولكن لا يصح أن ينتهي بك البحث إلى أن الترمذي كان أعلم من البخاري وأحمد وأضرابهما ولا إلى أن الترمذي ليس من أهل النقد ولا يحسن منه إلا شيئاً يسيراً، وأنه كثير الأوهام جداً في أحكامه وأن تساهله فيها مفرط عجيب.


    والحاصل أنه لا يصح اصطلاحات العالم على معان غريبة بعيدة من أجل وصفه بالاعتدال ونحوه، ولا يصح أن يكون حمل اصطلاح العالم على معنى قريب أو مساو لمعنى الجمهور ذريعةً أو علة لوصفه بفحش التساهل أو قوة التشدد؛ مع أن المعروف عنه والثابت في حقه غير ذلك.

    36- بيان عدم صحة التكلف في إدعاء الترادف بين كلمتي الناقد:

    مما ينبغي التنبه له: ضرورة العلم بعدم صحة التزام تفسير كلمة الناقد في راو معين بكلمة أخرى له فيه، لغرض دفع الاختلاف بين كلمتيه (أي حكميه) فيه؛ أي عدم صحة التزام القول بترادفهما؛ فقد يكون للناقد الواحد أكثر من كلمة في راو معين، وتلك الكلمات لا يجب أن تكون مترادفة، بل قد تكون متباينة فيكون له في ذلك الراوي أكثر من حكم؛ أو يكون قال فيه مرة كلمة تفيد أقوى درجات القبول أي القبول المطلق، وقال فيه مرة أخرى كلمة تفيد مطلق القبول، وبهذا يعلم أنه ليس من الصحيح أن نوجب على أنفسنا تفسير تلك الكلمات ببعضها، أو أن نجمع بين تلك الكلمات بدفع الاختلاف الواقع بينها وادعاء تقاربها.

    37- بيان أقسام اصطلاحات المحدثين من حيث عدد المعاني الاصطلاحية التي تحتملها:

    إن الكلمات الاصطلاحية وما جرى مجراها نوعان:

    النوع الأول: ما احتمل أكثر من معنى مثل كلمة (ثقة) فمنهم من لا يطلقها إلا على العدل الضابط التام الضبط، ومنهم من يطلقها عليه وعلى من خف ضبطه من العدول، ومنهم من يطلقها على كل عدل ضابطاً كان أم غير ضابط.


    والنوع الثاني: ما لا يحتمل إلا معنى واحداً، وذلك بموجب تعين حقيقته اللغوية وكونه مما لا يسوغ استعماله بمعنى آخر مخالف لتلك الحقيقة اللغوية ولو صار اصطلاحاً أو جرى مجرى الاصطلاح عند بعض أصحاب الفنون، وذلك مثل كلمة (وضع حديثاً) أو (كذاب) أو (يخطئ كثيراً). فينبغي ملاحظة ذلك.

    38- بيان أهم أسباب إيثار القدماء الكلمة ذات المعنى الواسع على غيرها:

    ينبغي أن يعلم أن من تثبت العلماء قديماً إيثارهم في كثير من الأحيان الكلمة الواسعة إذا أدت المعنى المراد على الكلمة الضيقة المحددة، مثال ذلك: لفظة (لا يحتج به) من ألفاظ التجريح، وهي تطلق على كل من لا يحتج به سواء كان صالحاً للاستشهاد أم لا؛ ولكن من تحرى الدقة من النقاد فإنه يطلقها غالباً فيمن يستشهد به ولكن لا يحتج به.


    فهي إذن من الكلمات التي تتسع لأكثر من معنى، وكان من شأن كثير من النقاد في كثير من الأحيان أن يؤثروا في عباراتهم مثل هذه الكلمات المرنة العريضة المعنى على ما ليس كذلك من الكلمات؛ ولذلك أسباب:

    أولها: أن اللفظة كلما كانت أعم كان مجال الكلام أوسع، وكان المتكلم عن المعاني الحرجة والمسالك الضيقة أبعد؛ والسلف على مثل ذلك يحرصون ما كان فيه كفاية، فإن احتيج إلى البيان المحدد والتعيين الكامل صاروا إليه.


    وكان ذلك جرياً منهم على طريقتهم في عدم الهجوم على ما لا يعلمونه وعدم الجزم بما لا يتحققونه، ووقوفاً منهم عند حدود معرفتهم ونهايات اطلاعهم، وهذا من كمال علمهم ووفرة إنصافهم رحمهم الله.

    والثاني من أسباب استعمالهم المصطلحات والألفاظ التي تعم أكثر من معنى: أن يكون المقام مقام إجمال أو أنه لا يقتضي أكثر من التصريح بتلك الكلمة العامة.

    والثالث: أن يكون بين الناقد وذلك الراوي نوع من الصلة أو العلاقة المانعة له – بسبب الحياء ونحوه - من التصريح بحقيقة حاله وسيء أوصافه كالاتهام بالكذب ونحوه، فيقتصر على ما يحصل به المطلوب في ذلك المقام، وهو بيان بطلان الاحتجاج به.

    والرابع: أن تكون القرائن كافية في تعيين المعنى الدقيق لتلك الكلمة العامة.

    والخامس: أن يكون الناقد ممن لا يفرقون بين أفراد من لا يحتج بهم لأنه لا يقول بتقوية الطرق الضعيفة بتعددها.

    والسادس: أن يكون الناقد من أهل الورع الذين يجتنبون – إلا عند الحاجة – ذكر ما في الراوي من طعن شديد كالكذب ونحوه فيكتفي بالإشارة إلى إسقاطه بأخف الألفاظ وأبعدها عن احتمال الإثم.

    مثال ذلك الإمام ابن المبارك رحمه الله؛ فقد كان من أهل الورع في النقد والتوقي فيه، ولعله لم يكن ليتكلم في أحد من الرواة إلا عند وضوح الحاجة إلى ذلك، ولذلك كان من مزاياه في نقده أنه كان فيه عف اللسان خفيف اللفظة، يكاد يستغني بالإشارة إلى جرح الراوي عن التصريح به، فإذا اقتضى أمر الدين وواجب النصح أن يجرح ويحذر لم يقصر، ولكن مقتصراً على موضع الحاجة، مع التزام الأدب والورع والتقوى والإنصاف.


    قال عبد الله بن الإمام أحمد كما في ترجمة عبد السلام بن حرب من (ضعفاء العقيلي) و(تهذيب الكمال) (18/68) عن الحسن بن عيسى: سمعت عبد الله بن المبارك وسألته عن عبد السلام بن حرب الملائي، فقال: قد عرفته؛ وكان إذا قال: قد عرفته، فقد أهلكه).


    وقال عبد الله أيضاً: قال أبي: وقيل لابن المبارك في عبد السلام؟ فقال: ما تحملني رجلي إليه).

    وقال مسلم في مقدمة (الصحيح) (1/11): (وقال محمد [يعني ابن عببد الله بن قهزاذ]: سمعت علي بن شقيق يقول: سمعت عبد الله بن المبارك يقول على رؤوس الناس: دعوا حديث عمرو بن ثابت، فإنه كان يسب السلف).


    وقال مسلم (1/12): (وحدثني محمد بن عبد الله بن قهزاذ من أهل مرو قال: أخبرني علي بن حسين بن واقد قال: قال عبد الله بن المبارك: قلت لسفيان الثوري: إن عباد بن كثير من تعرف حاله، وإذا حدث جاء بأمر عظيم فترى أن أقول للناس: لا تأخذوا عنه؟ قال سفيان: بلى؛ قال عبد الله: فكنت إذا كنت في مجلس ذكر فيه عباد أثنيت عليه في دينه وأقول: لا تأخذوا عنه!.


    وقال محمد حدثنا عبد الله بن عثمان قال: قال أبي: قال عبد الله بن المبارك: انتهيت إلى شعبة فقال: هذا عباد بن كثير فاحذروه).


    وقال مسلم في مقدمة (صحيحه) (1/18): (حدثني أحمد بن يوسف الأزدي قال سمعت عبد الرزاق يقول: ما رأيت ابن المبارك يفصح بقوله (كذاب) إلا لعبد القدوس، فإني سمعته يقول له: كذاب).

    39- بيان أنه ليس كل ما يقع من العلماء من اختلاف في ظواهر عباراتهم عن المسألة الواحدة يكون اختلافاً في الحقيقة:

    من النافع بل الضروري: معرفة احتمال اتحاد المقاصد والمعاني مع اختلاف العبارات والألفاظ: قال العلامة طاهر الجزائري في (توجيه النظر) (1/38):


    وقد رأيت أن أذكر هنا فائدة تنفع المطالع في كثير من المواضع وهي أن مثل هذا يعد من قبيل اختلاف العبارات لا اختلاف الاعتبارات وهو ليس من قبيل الاختلاف في الحقيقة كما يتوهمه الذين لا يمعنون النظر؛ فإنهم كلما رأوا اختلافاً في العبارة عن شيء ما سواء كان في تعريف أو تقسيم أو غير ذلك حكموا بأن هناك اختلافاً في الحقيقة، وإن لم تكن تلك العبارات مختلفة في المآل، وقد نشأ عن ذلك أغلاط لا تحصى سرى كثير منها إلى أناس من العلماء الأعلام فذكروا الاختلاف في مواضع ليس فيها اختلاف اعتماداً على من سبقهم إلى نقله ولم يخطر في بالهم أن الذين عولوا عليهم قد نقلوا الخلاف بناء على فهمهم، ولم ينتبهوا إلى وهمهم؛ وكثيراً ما انتبهوا إلى ذلك بعد حين فنبهوا عليه وذلك عند وقوفهم على العبارات التي بنى الاختلاف عليها الناقل الأول؛ وقد حمل هذا الأمر كثيراً منهم إلى فرط الحذر حين النقل، وقد أشار إلى نحو ما ذكرنا الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية في رسالته في قواعد التفسير فقال: الخلاف بين السلف في التفسير قليل وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد وذلك صنفان:

    أحدهما: أن يعبر واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل عل معنى في المسمى غير المعنى الآخر، مع اتحاد المسمى، كتفسير بعضهم الصراط المستقيم بالقرآن، أي اتباعه، وتفسير بعضهم له بالإسلام؛ فالقولان متفقان، لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن، لكن كل منهما نبه على وصف غير وصف الآخر، كما أن لفظ الصراط المستقيم يشعر بوصف ثالث؛ وكذلك قول من قال: هو السنة والجماعة، وقول من قال: هو طريق العبودية، وقول من قال: هو طاعة الله ورسوله؛ وأمثال ذلك فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة ولكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها.

    الثاني: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه.

    مثاله ما نقل في قوله تعالى (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا) الآية، فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للحرمات، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات، والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات؛ فالمقتصدون أصحاب اليمين، والسابقون السابقون أولئك المقربون، ثم إن كلاً منهم يذكر في هذا نوعاً من أنواع الطاعات، كقول القائل: السابق: الذي يصلي في أول الوقت،


    والمقتصد: الذي يصلي في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الإصفرار؛ أو يقول: السابق:
    المحسن بالصدقة مع الزكاة، والمقتصد: الذي يؤدي الزكاة المفروضة فقط، والظالم: مانع الزكاة.

    ثم قال: ومن الأقوال المأخوذة عنهم ويجعلها بعض الناس اختلافاً أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة كما إذا فسر بعضهم (تبسل) بـ(تحبس) وبعضهم بـ(ترتهن) لأن كلاً منهما قريب من الآخر. ا ﻫـ.


    وقال بعض العلماء في كتاب ألفه في أصول التفسير: قد يحكى عن التابعين عبارات مختلفة الألفاظ فيظن من لا فهم عنده أن ذلك اختلاف محقق فيحكيه أقوالاً، وليس كذلك، بل يكون كل واحد منهم ذكر معنى من معاني الآية لكونه أظهر عنده أو أليق بحال السائل، وقد يكون بعضهم يخبر عن الشيء بلازمه ونظيره، والآخر بثمرته ومقصوده؛ والكل يؤول إلى معنى واحد غالباً. ا.هـ).


    انتهى كلام الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله.

    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    قواعد وتنبيهات من أصول فهم المصطلحات وشرحها ووضعها Empty رد: قواعد وتنبيهات من أصول فهم المصطلحات وشرحها ووضعها

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 15.10.08 8:45


    40- بيان أنه ينبغي التفريق بين اللقب والاصطلاح، وعدم صحة إدخال الألقاب في الاصطلاحات إلا على سبيل التجوز:

    يجب التفريق بين المصطلح واللقب ونحوه؛ فمثلاً قد عد بعض المتأخرين كلمة (مصحف) من ألفاظ التوثيق الاصطلاحية، وفي ذلك نظر، قال ابن حجر في ترجمة الأعمش من (تهذيب التهذيب) (4/196): (وقال يحيى بن معين: كان جرير إذا حدث عن الأعمش قال: هذا الديباج الخسرواني؛ وقال شعبة: ما شفاني أحد في الحديث ما شفاني الأعمش؛ وقال عبد الله بن داود الخريبي: كان شعبة إذا ذكر الأعمش قال: المصحف، المصحف؛ وقال عمرو بن علي: كان الأعمش يسمى المصحف لصدقه).

    وقال ابن حجر في ترجمة مسعر من (تهذيب التهذيب) (10/103): (وقال الحربي عن الثوري: كنا إذا اختلفنا في شيء سألنا عنه مسعراً؛ قال: وقال شعبة: كنا نسمي مسعراً المصحف. وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري: كان يسمى الميزان).

    قلت: في جعل هذه اللفظة – وهو صنيع بعض المعاصرين - من مصطلحات التوثيق: نظرٌ، بل الحقيقة أنها ليست كذلك وإنما هي وصف كاللقب كان يستعملها بعض النقاد في الثناء على بعض الحفاظ لشدة ضبطهم وكمال إتقانهم، ولذلك فإنه لم يرد – فيما أظن – في كلامهم في باب تعديل الرواة: فلان مصحف، أو: كان مصحفاً، بتنكير لفظة مصحف.

    بل كل هذه الألفاظ الثلاث: الديباج الخسرواني، والمصحف، والميزان، هي في الحقيقة ألقاب مدح دالة على التوثيق التام المؤكد، وليست مصطلحات، ويدل على ذلك قوله: كان يسمى، وكذلك عدم شيوع هذه المصطلحات بين المحدثين، فأستبعد أن نجد في كلامهم أنهم سألوا عن رجل ثقة فكان الجواب: هو مصحف؛ أو هو ميزان، أو هو ديباج خسرواني.

    وتأمل كلمة (كان يسمى) فإنها تدل على التلقيب؛ ثم هل رأيتهم قالوا في أحد الثقات، كان يسمى ثقة، أو كان يسمى الثقة؛ ويريدون بذلك الحكم الاصطلاحي، بحيث تكون هذه العبارة كقول القائل: (قالوا فيه ثقة)؟ مع أنه لو وقع ذلك [أعني قولهم في راو: (كان يسمى الثقة)] فإنه حينئذ يكون من باب التلقيب، فلا مانع أن يلقب رجل بلفظة (الثقة).


    ×××××××××××××××××× ××

    الهوامش :

    (1) (به) أجود .
    (2) أو قسمٍ خاصٍّ من أحاديثه، مثل أحاديثه عن بعض شيوخه أو في بعض البلاد أو الأزمنة أو بعض أحواله كحاله قبل اختلاطه أو بعده. انظر السبب الرابع من هذه الأسباب.
    (3) كما في (الرفع والتكميل) (ص172).
    (4) وراجع (لسان الميزان) (ج1ص17) و(التنكيل) (ص254).
    (5) راجع (التنكيل) (ص254) و(شرح علل الترمذي) (ص784).
    (6) قال المعلمي في (التنكيل) (ص250-253):
    (الرابع: ليستثبت أن تلك الكلمة قيلت في صاحب الترجمة فإن الأسماء تتشابه وقد يقول المحدث كلمة في راو فيظنها السامع في آخر ويحكيها كذلك، وقد يحكيها السامع فيمن قيلت فيه ويخطئ بعض من بعده فيحملها على راو آخر؛ ففي الرواة المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي والمغيرة بن عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن حزام الحزامي والمغيرة بن عبد الرحمن بن عوف الأسدي؛ حكى عباس الدوري عن يحيى بن معين توثيق الأول وتضعيف الثالث، فحكى ابن أبي حاتم عن الدوري عن ابن معين توثيق الثاني ووهمه المزي؛ ووثق أبو داود الثالث وضعف الأول فذكرت له حكاية الدوري عن ابن معين فقال: غلط عباس).
    ثم ذكر المعلمي تسعة أمثلة أخرى لهذا النوع من الغلط أو الاختلاف في نقل الجرح كلها من كلام ابن معين ومثالين آخرين من كلام غيره .
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    قواعد وتنبيهات من أصول فهم المصطلحات وشرحها ووضعها Empty رد: قواعد وتنبيهات من أصول فهم المصطلحات وشرحها ووضعها

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 15.10.08 8:46

    اقتباس:

    المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد خلف سلامة

    32- تنبيهات تتعلق بالمصطلحات المركبة أو المجموعة:

    إذا ورد في العبارة جمع بين لفظتين اصطلاحيتين مثل (حسن صحيح) أو (حسن غريب)، و (ثقة صدوق)، و (صدوق فيه لين) و (صالح فيه ضعف)، و (صحيح مرفوع) و (عدل ضابط) فإنه لا يلزم أن يكون معنى كل لفظة من هاتين اللفظتين ضمن هذا الجمع هو معناها عند انفرادها، بل قد يظهر أن مدلول أحدهما أو كليهما قد تأثر بهذا التركيب، وأن هذا المركب ليس جمعاً بين اصطلاحين، أي أن معناه غير المعنى الحاصل من الجمع بين المعنيين الاصطلاحيين لتلك اللفظتين وإنما هو مصطلح واحد مركب دخل في تركيبه كلمتان اصطلاحيتان، وأن كلاً منهما قد حافظت ضمن هذا التركيب على أصل – أو بعض - معناها الاصطلاحي دون جميعه، والفصل في هذه المسائل يحتاج إلى الدراسة الاستقرائية الوافية.



    وقفت بعد كتابة هذا التنبيه - وهو المتقدم تحت الرقم (32) - على تنبيهات أخرى مكتوبة عندي في موضع آخر، وهي تشبهه أو تشاركه في بابه؛ فرغبت في إلحاقها به؛ فدونك تلك التنبيهات:

    &&&- بيان كيفية استقراء الكلمات المركبة:


    عند استقراء المصطلح المركب لا نفصله فنجعل كل واحدة من كلماته مع نظرائها، فإذا أردنا مثلاً استقراء مصطلح (حسن صحيح) فإننا لا نفصل بين لفظتي (حسن) و(صحيح)، ونضع كل لفظة منهما مع نظرائها؛ بل ندرس المصطلح المركب وحده باعتباره مجموعة منفصلة.


    وقد تكلم على هذه القضية بالتفصيل الشيخ حاتم العوني وفقه الله في كتابه (المنهج المقترح لفهم المصطلح)، فارجع إليه إن أردت التوسع.


    وللدكتور أحمد معبد عبد الكريم مؤلف مفرد في هذه المسألة، لم أره، فارجع إليه إن شئت.

    &&&- بيان كيفية استقراء الكلمات المحتملة للتركيب:


    إذا اشتبه عندنا تعبير مؤلف من لفظتين اصطلاحيتين، بأن احتمل أن يكون مصطلحاً مركباً منهما، واحتمل أيضاً بأن يكون غير مركب، وإنما هو تعبير متألف من لفظتين اصطلاحيتين قد حافظت كل منهما ضمن ذلك التعبير على معناها المعروف لها، ثم احتمل هذا الاحتمال الثاني أن تكون العلاقة بين تلك اللفظتين هي العطف، أي بكون ثانيتهما معطوفة على أولاهما بحذف حرف العطف المفيد للجمع وهو (الواو) مثل (حسن غريب)، فيكون حرف العطف هذا مقدراً؛ أو احتمل أن تكون العلاقة بينهما العطف بحرف الشك والتردد (أو)؛ فعلينا حينئذ إذا أردنا استقراء ذلك التعبير؛ أن نقوم بثلاث مرات من الاستقراء مبنية على ثلاثة اعتبارات:


    فنقوم أولاً باستقراء كل واحدة من اللفظتين على حدة؛ وهذا في الحقيقة استقراءان، وليس واحداً.
    ثم نستقرئ التعبير الكلي باعتباره مؤلفاً من اللفظتين الاصطلاحيتين متعاطفتين بحرف العطف (الواو).
    ثم نكرر هذا الاستقراء الأخير، ولكن بناء على احتمال أن حرف العطف هو (أو).


    وبعد ذلك فإنه إذا ظهر لنا أن هذا التعبير يحتمل أن يكون مفيداً معنى مركباً آخر غير معنى العطف الجمعي والعطف الترددي، فحينئذ نكرر - ولا بد - استقراءً آخر من أجل هذا الاعتبار الجديد؛ أي من أجل التوصل إلى صحة هذا الاحتمال، أو عدمها؛ ومن أجل معرفة المعنى الدقيق لهذا الاحتمال أي الأخير نفسه، على افتراض انتهاء الاستقراء إلى ثبوت صحته أو رجحانه.


    وبعد ذلك كله سيتبين لنا - بعد ملاحظة كل القرائن القريبة والبعيدة وكل الاحتمالات الواردة - صحة بعض تلك الاعتبارات المفترضة دون غيرها.


    والله أعلم.

    &&&- المصطلحات المتعددة ألفاظها من غير تركيب:


    إذا أيقنت إيقاناً تاماً أن المصطلحين ليسا مركبين، فالصحيح من طرق الاستقراء حينئذ فك التركيب ووضع كل لفظة منه مع نظرائها؛ وذلك من أمثلة (صحيح مرفوع) و (حافظ عابد)----.

    راجع (المنهج المقترح) أيضاً.
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    قواعد وتنبيهات من أصول فهم المصطلحات وشرحها ووضعها Empty رد: قواعد وتنبيهات من أصول فهم المصطلحات وشرحها ووضعها

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 15.10.08 8:48

    41- بيان ضرورة كثرة الاهتمام بمصطلحات النقاد الأكثر أو الأهم كلاماً من غيرهم:

    كلما كان الناقد أعلى في منزلته بين النقاد، وأكثر كلاماً في الرجال والأحاديث من غيره فينبغي أن يكون الاهتمام بمصطلحاته أكثر، فاصطلاحات الأئمة النقاد المكثرين يجب أن يعتنى بها أشد الاعتناء وأكمله وأن يتوفر الدارسون والباحثون على استقراء كل ما يعين على فهمها واتضاحها؛ ولا سيما إذا لم نجد عند من جاء بعدهم أو عاصرهم من النقاد والعلماء بياناً شافياً لمعنى تلك الألفاظ عندهما.

    42- بيان أولى الكتب بالاستقراء:


    لا بد من أجل المعرفة الدقيقة باصطلاحات المحدثين من استقراء كتب الحديث على تنوع موضوعاتها وطرق تصنيفها، ولكن أولى الكتب بالاستقراء التام كتب أهل الاصطلاح - وهم محدثو القرن الثالث فما قبله، وأئمة المحدثين في القرن الرابع -، أو الكتب التي تعنى بنقل كلام أهل الاصطلاح هؤلاء.

    43- بيان مدى الانتفاع بأقوال العلماء في شرح المصطلحات ومدى الاعتماد عليها:


    المسلك الصحيح في هذا الباب التلقي التام والقبول المطلق لشرح أهل الاصطلاح لمصطلحهم، ولكن مع مراعاة أن الأوائل لم يكونوا يحرصون على التدقيق الزائد في التعريفات خلافاً للطريقة الشائعة عند المتأخرين؛ ومع مراعاة احتمال أنهم عرفوا نوعاً مشكلاً من أنواع المعنى الذي تكلموا عليه وعرفوا به، وتركوا الأنواع الأخرى منه لشهرة المقصود بها، أو لقوة دلالة القرائن والساقات عليها؛ ويراعى كذلك احتمال خروجهم عن اصطلاحهم أحياناً، بل ويراعى كل ما يدخل في هذه المسألة مما يفهم من مجموع التنبيهات المتقدمة أو الآتية في الفرق بين طريقة المتقدمين والمتأخرين في اصطلاحاتهم.


    وبعد ذلك لا بد من الإفادة من كلام غير المتقدمين من علماء الحديث في شرح اصطلاح المتقدمين، كما نبه على ذلك الشيخ حاتم العوني في (المنهج المقترح) بقوله في بيان بعض خطوات استقراء المصطلحات (الاستنارة بكلام المصنفين في علوم الحديث، من غير أهل الاصطلاح، بعامة؛ وخاصةً أصحاب الطور الأول لكتب علوم الحديث: طور ما قبل كتب ابن الصلاح؛ ولكتاب ابن الصلاح أيضاً ميزة وفضيلة على كتب الطور الثاني كلها ، لأسبابٍ وعوامل اختص بها).

    44- بيان وجوب ضبط شكل الكلمات الاصطلاحية:

    ينبغي البحث عن الضبط الصحيح للكلمة الاصطلاحية؛ قال السخاوي في (فتح المغيث) (1/348-349): (ينبغي تأمل الصيغ فرب صيغة يختلف الأمر فيها بالنظر إلى اختلاف ضبطها، كقولهم (فلان مودٍ) فإنها اختلف في ضبطها فمنهم من يخففها، أي هالك، قال في الصحاح: أودى فلان أي هلك فهو مودٍ، ومنها من يشددها مع الهمزة، أي حسن الأداء، أفاده شيخي في ترجمة سعد بن سعيد الأنصاري من مختصر التهذيب نقلاً عن أبي الحسن بن القطان الفاسي، وكذا أثبت الوجهين كذلك في ضبطها ابن دقيق العيد).


    وقال الذهبي في (الميزان) في ترجمة سعد بن سعيد المذكور (2/120): (قال أبو حاتم: سعد بن سعيد مُؤَدٍّ، قال شيخنا ابن دقيق العيد: اختلف في ضبط مودٍ، فمنهم من خففها أي هالك، ومنهم من شددها أي حسن الأداء).


    وقال ابن أبي حاتم في تفسير كلمة أبيه هذه عندما حكاها في الجرح والتعديل (1/2/84):
    (يعني أنه كان لا يحفظ يؤدي ما سمع).


    وقال ابن أبي حاتم في تقدمة (الجرح والتعديل) (ص81): (قال سفيان [الثوري]: كان ابن أبي ليلى مؤدياً، يعني أنه لم يكن بحافظ).

    45- بيان وجوب تدبر صيغة المصطلح:


    يجب تدبر الصيغة جيداً؛ فكثيراً ما يكون الفرق بين العبارتين دقيقاً خفياً لا يفطن له كثير من أهل هذا العلم فضلاً عن المشاركين فيه؛ فإليك مثالاً على هذه القضية الفرق بين (ليس بالقوي) و (ليس بقوي).
    قال الذهبي في (الموقظة) (ص83): (وبالاستقراء إذا قال أبو حاتم: (ليس بالقوي)، يريد بها أن هذا الشيخ لم يبلغ درجة القوي الثبت، والبخاري قد يطلق على الشيخ (ليس بالقوي) ويريد انه ضعيف).
    وفرق بعض العلماء كالمعلمي بين قول الناقد في الراوي (ليس بقوي) وقوله فيه (ليس بالقوي)؛


    قال الكوثري في بعضهم: (ليس بقوي عند النسائي) فاستدرك عليه المعلمي في (التنكيل) (ص442) بقوله: (أقول: عبارة النسائي (ليس بالقوي)، وبين العبارتين فرق لا أراه يخفى على الأستاذ ولا على عارف بالعربية، فكلمة (ليس بقوي) تنفي القوة مطلقاً وإن لم تُثبت الضعف مطلقاً؛ وكلمة (ليس بالقوي) إنما تنفي الدرجة الكاملة من القوة؛ والنسائي يراعي هذا الفرق فقد قال هذه الكلمة في جماعة أقوياء منهم عبد ربه بن نافع وعبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل، فبين ابن حجر في ترجمتيهما من (مقدمة الفتح) أن المقصود بذلك أنهما ليسا في درجة الأكابر من أقرانهما؛

    وقال في ترجمة الحسن بن الصباح: (وثقه أحمد وأبو حاتم، وقال النسائي: صالح، وقال في الكنى: ليس بالقوي؛ قلت: هذا تليين هين، وقد روى عنه البخاري وأصحاب السنن الا ابن ماجه ولم يكثر عنه البخاري). ). انتهى كلام المعلمي.

    46- بيان وجوب الحذر من التصحيف:


    يجب الحذر من التصحيف والتحريف الواقع في اصطلاحات العلماء وشرحها، وإليك هذين المثالين:
    المثال الأول: كلمة (على يدي عدل):


    هذه الكلمة معناها ساقط تالف مستحق للترك وذلك إما لسقوط عدالته كاتهامه بالكذب ونحوه أو لفحش خطئه وشدة غفلته وكثرة تخليطه؛ قال الميداني في (مجمع الأمثال) (2/8): (على يدي عدل: قال ابن السكيت هو العدل بن جزء بن سعد العشيرة وكان على شرط تبع وكان تبع إذا أراد قتل رجل دفعه إليه فجرى به المثل في ذلك الوقت فصار الناس يقولون لكل شيء قد يئس منه هو على يدي عدل).


    وقال ابن حجر في ترجمة محمد بن خالد بن عبد الله الواسطي من (تهذيب التهذيب) تعليقاً على قول ابن أبي حاتم فيه: (سئل أبي عنه فقال هو على يدي عدل): (وقوله على يدي عدل معناه قرب من الهلاك وهذا مثل للعرب كان لبعض الملوك شرطي اسمه عدل فإذا دفع إليه من جنى جناية جزموا بهلاكه غالبا ذكره ابن قتيبة وغيره وظن بعضهم أنه من ألفاظ التوثيق فلم يصب". والذي أشار إليه ابن حجر هو شيخه العراقي، فإنه كان يقول في عبارة أبي حاتم هذه إنها من ألفاظ التوثيق، وكان ينطق بها هكذا (عَلَىْ يَدِي عَدْلٌ)،

    وقال ابن حجر: كنت أظن ذلك كذلك إلى أن ظهر لي أنها عند أبي حاتم من ألفاظ التجريح، وذلك أن ابنه قال في ترجمة جبارة بن المغلس: سمعت أبي يقول: هو ضعيف الحديث، ثم قال: سألت أبي عنه فقال: هو على يدي عدل؛ ثم حكى أقوال الحفاظ فيه بالتضعيف؛ ولم ينقل عن أحد فيه توثيقاً؛ ومع ذلك ما فهمت معناها ولا اتجه لي ضبطها؛ ثم بان لي أنها كناية عن الهالك وهو تضعيف شديد؛ ففي كتاب (اصلاح المنطق) ليعقوب بن السكيت عن ابن الكلبي

    قال: جزء بن سعد العشيرة بن مالك، من ولده العدل، وكان ولِيَ شُرَط تبَّع فكان تبع إذا أراد قتل رجل دفعه إليه، فمن ذلك قال الناس: وضع على يدي عدل ومعناه هلك). انتهى.

    وقد سبق العراقي إلى هذا الوهم الذهبي في ترجمتي محمد بن خالد بن عبد الله الطحان ويعقوب بن محمد بن عيسى من الكاشف. وهذا الوهم إنما وقع بسبب قراءة العبارة على غير وجهها الصحيح أي هكذا (هو على يَدَيَّ عَدْلٌ) والصواب (هو على يدَيْ عَدْلٍ).

    المثال الثاني: يثبج الحديث:
    وقد شرحت ما يتعلق بها مفصلاً في مقالة لي نشرتها في الملتقى في وقت سابق، فلا حاجة إلى التطويل بشرحها.


    **********************

    47- الحذر من أوهام المعاصرين في شرح الاصطلاحات:


    هذا التنبيه في غاية الأهمية، فينبغي الحذر من أوهام المتأخرين والمعاصرين في شرح اصطلاحات المتقدمين؛ فإن كثيراً منهم يتسرع في الحكم الصعب من غير تريث ويهجم على الموضوع العلمي الدقيق من غير تروي؛ وليس عند المتأخرين ما عند المتقدمين من الاطلاع والتثبت وحسن البيان وحسن الفهم؛ ولذلك قصر كثير من المتأخرين في تفسير كلام علماء العلل والأئمة المتقدمين، قال الشيخ حمزة المليباري في (الحديث المعلول) (ص77): (وهناك مصطلحات أخرى تَباين فيها الآراء بين المتقدمين والمتأخرين، مثل كلمة (صدوق) و (حسن) ونحوهما؛ وقد وجدنا تخليطاً وتلفيقاً بين الآراء فيها في بحوث بعض المعاصرين عندما فسروا كلام المتقدمين باصطلاحات المتأخرين فوقعوا بذلك في تحير وتناقض؛ بل فيهم من يتسرع بتخطئة المتقدمين لأنه ليس لهم مخرج منه إلا التخطئة)؛ انتهى كلامه.


    ومن أمثلة أوهام المتأخرين رحمهم الله في هذا الباب ما فسر به المناوي ومنلا علي القاري وغيرهما كلمة (حاكم) إذ قالوا: هو الذي أحاط علمه بجميع الأحاديث المروية متناً وإسناداً وجرحاً وتعديلاً وتاريخاً؛ بل قال على القاري عقب هذا التعريف: كذا قاله جماعة من المحققين!


    قلت: هذا التعريف بعيد عن التحقيق، ويبعد أن يقوله واحد من المحققين، فكيف يقوله جماعة منهم؟!

    وهذه المسألة بينتها أيضاً في وقت سابق.

    وإلى إضافة لا حقة بإذن الله.

    والنقل
    لطفــــــــــاً .. من هنــــــــــــا

      الوقت/التاريخ الآن هو 15.11.24 5:31