سَبْعٌ وسبعُون فائدة شرعية وتربوية من حديث واحد
أ. توفيق عمر سِيَّدي
بسم الله الرحمن الرحيم
أ. توفيق عمر سِيَّدي
بسم الله الرحمن الرحيم
دعونا نتفيؤ معاً ظلال حديث شريف من معين النبوة الصادقة ؛ يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثمانيةٌ من أصحابه الكرام رضي الله عنهم ، وهم : عمر بن الخطاب ، وولده عبدالله ، وأبو هريرة ، وأبو ذر الغِفاري ، وعبدُالله بن عباس ، وأنس بن مالك ، وأبو عامر الأشعري ، وجرير بن عبد الله البجلي ، وعنهم خلق كثير ، حتى عدّه صاحب " نظم المتناثر "(1) من المتواتر .
هذا الحديث ، هو حديث سؤال جبريل عليه السلام النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان .
وهو حديث عظيم القدر ، غزير الفائدة ، ويعتبر من جوامع كَلِمِه عليه الصلاة والسلام . وجوامع الكلم : هي الكلمات اليسيرة التي تنطوي على المعاني الكثيرة العظيمة . مثل هذا الحديث الذي نحن بصدده ، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة "(2) ، وقوله " احفظ الله يحفظك "(3)، وقوله " اتق الله حيثما كنت "(4)، وقوله " الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات "(5)، وقوله " إذا لم تستح فاصنع ما شئت"(6)، وقوله " إن الله كتب الإحسان على كل شيء"(7)، وقوله " إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبا "(8)، وقوله " حفت الجنّة بالمكاره والنار بالشهوات"(9)، وقوله " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده "(10)، وقوله " إنما الأعمال بالنيّات "(11)، وقوله " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ "(12)، وقوله " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه "(13)، وقوله " لا ضرر ولا ضرار "(14)، وقوله " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "(15) ، وقوله " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "(16) ...وغيرها .
ومثل هذه الأحاديث جاءت الإشارة إليها في الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :" فضلت على الأنبياء بست ؛ أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون "(17).
وقد جمع الإمام النووي منها اثنين وأربعين حديثا في جزء سمّي باسمه " الأربعون النووية " وله شرح عليه ، وزاد الحافظ ابن رجب الحنبلي عليها ثمانية أحاديث ، ثم شرحها في كتاب رائع أسماه " جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلِم ".
ولنصخي أولا ـ بأسماع قلوبنا ـ إلى الخليفة العادل أمير المؤمنين الفاروقِ عمرَ وهو يروي لنا هذا الحديث العظيم الذي يعتبر من أصول الإسلام :
أخرج الإمام مسلمٌ في صحيحه(17أ) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه وقال : يا محمد ! أخبرني عن الإسلام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا "، قال : صدقت ، قال : فعجبنا له يسأله ويصدقه ، قال : فأخبرني عن الإيمان ؟ قال :" أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره " قال : صدقت ، قال : فأخبرني عن الإحسان ؟ قال :" أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " قال : فأخبرني عن الساعة ؟ قال :" ما المسئول عنها بأعلم من السائل " قال : فأخبرني عن أمارتها ؟ قال :" أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء ؛ يتطاولون في البنيان "، قال : ثم انطلق ، فلبثت مليا ، ثم قال لي :" يا عمر أتدري من السائل ؟" قلت : الله ورسوله أعلم ، قال :" فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ".
ولنستمع الآن إلى حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ـ وهو ما رواه الإمام البخاري في الإيمان رقم (50) وفي التفسير رقم (4777) ، ومسلم في الإيمان رقم (9) عَنْهُ ـ قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوما للناس ، فأتاه جبريل ، فقال : ما الإيمان ؟ قال :" الإيمان أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، وبلقائه ، ورسله ، وتؤمن بالبعث "، قال : ما الإسلام ؟ قال :" الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان "، قال : ما الإحسان ؟ قال :" أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك "، قال : متى الساعة ؟ قال :" ما المسئول عنها بأعلم من السائل ، وسأخبرك عن أشراطها إذا ولدت الأمة ربها ، وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان ، في خمس لا يعلمهن إلا الله "،ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم { إن الله عنده علم الساعة } الآية ، ثم أدبر ، فقال :" ردوه " فلم يروا شيئا ، فقال :" هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم ".
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ ـ يعني البخاري ـ : جَعَلَ ذَلِك كُلَّهُ مِنْ الإِيمَانِ .
أهمية الحديث:
وسيأتي لهذا مزيدُ بيان في ختام مسرد الفوائد إن شاء الله تعالى .
مفردات الحديث:
"فعجبنا له يسأله ويصدقه": أي أصابنا العجب من حاله، وهو يسأل سؤال العارف المحقق المصدق. أو عجبنا لأن سؤاله يدل على جهله بالمسؤول عنه، وتصديقه يدل على علمه به.
"أماراتها": بفتح الهمزة جمع أمارة: وهي العلامة. والمراد علاماتها التي تسبق قيامها.
"أن تلد الأمة ربتها": أي سيدتها. وسيأتي بيانه (انظر الفائدة رقم 35).
"العالة": جمع عائل، وهو الفقير.
"فلبثتُ ملياً": انتظرتُ وقتاً طويلاً (18أ).
فوائد الحديث :
(1) الإيمان قول وعمل ونيّة . فهو قول باللسان ، وتصديق بالجَنَان (اعتقاد جازم بالقلب) ، وعمل بالأركان (يعني الجوارح ) ، وهذه كلها اشتمل عليها هذا الحديث .
(2) وجاء في بعض روايات هذا الحديث(18ب) في أوله :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو , فطلبنا إليه أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه , قال : فبنينا له دكانا من طين كان يجلس عليه ".
استنبط منه الإمام القرطبي استحباب جلوس العالم بمكان يختص به ويكون مرتفعا إذا احتاج لذلك لضرورة تعليم ونحوه .
(3) وفيه إجابة السائل بأكثر مما سأل .
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجاب السائل عن الساعة ؟ بجواب جامع " ما المسؤول عنها بأعلم من السائل " لم يكتف بذلك وإنما زاده أن بين له بعض أماراتها ، فقال " وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا إِذَا وَلَدَتْ الأَمَةُ رَبَّتهَا ، وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإِبِلِ الْبُهْمُ فِي الْبُنْيَانِ ، فِي خَمْسٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ "، ثُمَّ تَلا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ }الآيَةَ .
وحديث عمر هذا يرويه عنه ولدُهُ عبدُ الله : فعن يحيى بن يعمر قال كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي فقلت أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف قال فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم قال حدثني أبي عمر بن الخطاب قال بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل .... فذكر الحديث (17أ) .
ولقد تضمن الجواب زيادة على السؤال للاهتمام بذلك إرشادا للأمة لما يترتب على معرفة ذلك من المصلحة .
أنت ترى أنهم سألوه عن علم الله ، وعن القَدَرِ ؟ فكان يكفيه أن يبيّن لهم معنى الإيمان ، وأن القَدَرَ من الإيمان . لكنه أخبره عن معنى الإيمان والإسلام والإحسان وغير ذلك . وليس في هذا خروج عن النهج السَّويِّ لعلم ابن عمر مدى ترابط هذه الأصول الثلاثة ، والواجب معرفتها جميعا .
ودليل فعل ابن عمر من السنة : ما جاء عن أبي هريرة قال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ من ماء البحر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" هو الطهور ماؤه الحل ميتته"(19).
(4) السؤال عن العلم النافع في الدنيا والآخرة ، وترك السؤال عما لا فائدة فيه .
(5) قال القاضي عياض (20):" وفي جملة حديث السائل من الفقه ... أمر العالم الناس سؤاله عما يحتاجون إليه ليُبيّنه لهم ، وأنهم إن لم يحسنوا السؤال ابتدأ التعليم من قبل نفسه ؛ كما فعل جبريل ، أو يجعل من يسأل فيجيب بما يلزمهم علمه ".
(6) التعليم عن طريق السؤال : طريقة السؤال والجواب، من الأساليب التربوية الناجحة قديماً وحديثاً، وقد تكررت في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في كثير من الأحاديث النبوية؛ لما فيها من لفت انتباه السامعين وإعداد أذهانهم لتلقي الجواب الصحيح.
كما ينبغي لمن حضر مجلس علم، ورأى أن الحاضرين بحاجة إلى معرفة مسألة ما، ولم يسأل عنها أحد، أن يسأل هو عنها ـ وإن كان هو يعلمها ـ لينتفع أهل المجلس بالجواب.
فقد كان غرض جبريلَ عليه السلام من أسئلته هذه أن يتعلم المسلمون ، وهذا ما بينه النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله : فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أتاكم يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ .
وفي رواية أبي هريرة عند البخاري ومسلم: هَذَا جِبْرِيلُ أَرَادَ أَنْ تَعَلَّمُوا إِذْ لَمْ تَسْأَلُوا.
وهذا الأسلوب يعتبر من أبرز الأساليب التي اتبعها سيدُنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تعليم الصحابة الكرام رضي الله عنهم .
ونضرب مثالا : عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتدرون ما المفلس قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار "(21).
مثالٌ آخر : وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" تدرون من المسلم ؟" قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال :" من سلم المسلمون من لسانه ويده"، قال :" تدرون من المؤمن ؟" قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال :" من أمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم ، والمهاجر من هجر السوء ؛ فاجتنبه "(22).
مثالٌ آخر : وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها ، وهي مثل المسلم حدثوني ما هي ؟ فوقع الناس في شجر البادية ، ووقع في نفسي أنها النخلة ، قال عبد الله فاستحييت ، فقالوا : يا رسول الله أخبرنا بها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هي النخلة . قال عبد الله : فحدثت أبي بما وقع في نفسي ، فقال : لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا "(23).
(7) وفي قوله " حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه " دليل على لزوم تأدب المتعلم بين يدي من يتعلم منه .
(8) وفيه إشارة لما ينبغي للمسئول من التواضع والصفح عما يبدو من جفاء السائل ؛ لصنيعه المتقدم في جلوسه ، ولتخطيه الرقاب حتى جلس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولكونه ناداه باسمه مادا صوته .
(9) وفيه أنه ينبغى للعالم أن يرفق بالسائل ويُدْنِيه منه ليتمكن من سؤاله غير هائب ولا منقبض ، قاله النووي (28). قال الحافظ ابن حجر في الفتح (24): ثبت في رواية أبي فروة(25) ففيها بعد قوله كأن ثيابه لم يمسها دنس حتى سلم من طرف البساط فقال : السلام عليك يا محمد , فرد عليه السلام . قال : أدنو يا محمد ؟ قال : أدن . فما زال يقول أدنو مرارا ويقول له أدن . ونحوه في رواية عطاء بن السائب عن يحيى بن يعمر (26) لكن قال : السلام عليك يا رسول الله . وفي رواية مطر الوراق (27) فقال : يا رسول الله أدنو منك ؟ قال : أدنو ..
(10) وقال النووي أيضا (28):" وينبغى للسائل حسن الأدب بين يدي معلمه ، وأن يرفق في سؤاله .
قلت : يشهد لهذا ما في رواية عطاء بن السائب عن يحيى بن يعمر عند المروزي (29), فقال أدنو يا رسول الله قال نعم فدنا ثم قام فتعجبنا لتوقيره رسول الله ثم قال أدنو يا رسول الله قال نعم فدنا حتى وضع فخذه على فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي رواية علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن ابن عمر عند أحمد (30): " ما رأينا رجلا أشد توقيرا لرسول الله من هذا ".