بيان أنواع التوحيد الثلاثة من القرآن
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله
----
الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله
----
بيان أنواع التوحيد الثلاثة من القرآن
أقسام التوحيد الثلاثة مستقرأة من القرآن الكريم.
والآيات التي تؤخذ منها أنواع التوحيد الثلاثة كثيرة، منها:
سورة الفاتحة – وهي أول سورة في المصحف – فيها أنواع التوحيد الثلاثة:
فقوله: ﴿ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ فيه توحيد الربوبية؛ لأن الآية أثبتت ربوبية الله لجميع العالمين- وهم كل ما سوى الله – والرب هو المالك المدبر.
وقوله: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ يَومِ الدِّينِ ﴾ فيه توحيد الأسماء والصفات؛ لإثبات وصف الله في الآيتين بالرحمة والملك، وإثبات أسمائه: الرحمن، الرحيم، المالك، وقوله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ فيه توحيد الألوهية؛ لدلالة الآية على وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة والاستعانة.
كذلك سورة الناس –وهي آخر سورة في المصحف- فيها أنواع التوحيد الثلاثة:
فقوله: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾ هذا توحيد الربوبية. ﴿ مَلِكِ النَّاسِ ﴾ هذا توحيد الأسماء والصفات. ﴿ إِلَهِ النَّاسِ ﴾ هذا توحيد الألوهية.
كذلك أول نداء في المصحف هو في نوعي التوحيد، وذلك في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ والَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً والسَّمَاءَ بِنَاءً وأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 21-22].
لما ذكر سبحانه وتعالى أقسام الناس الثلاثة (المؤمنين والكافرين والمنافقين) وجه عباده نحو الاهتداء بهداية القرآن، فعقب ذلك بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ﴾ وهو نداء عام لكافة الخلق لأمرهم جميعًا بإفراد الله بالعبادة وعدم إشراك أي أحد معه. وهذا هو توحيد الألوهية.
ثم جاء بتوحيد الربوبية دليلاً عليه، فقال: ﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ والَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً والسَّمَاءَ بِنَاءً وأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ ﴾
أليست هذه أفعال الله جل وعلا؟ هذا توحيد الربوبية، ذكره سبحانه وتعالى دليلاً على توحيد الألوهية وبرهانًا عليه. فكما أنه يفعل هذه الأشياء وحده فإنه لا يستحق العبادة أحد غيره؛ بل هي حق خالص له سبحانه.
ذكر في هذه الآية نوعي التوحيد: توحيد الألوهية؛ لأنه المقصود الأعظم، وذكر توحيد الربوبية دليلاً على الألوهية ومستلزمًا له، وأمر بذلك جميع الناس كما قال في آية أخرى: ﴿ ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56] فأخبر أن هذين العالمين العظيمين (عالم الجن وعالم الإنس) لم يخلقا إلا للقيام بعبادة الله وإفراده بها وتوحيده في ألوهيته.
ثم نهى عن الشرك في آخرها فقال: ﴿ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾: ﴿ أَندَاداً ﴾: أي: شركاء تصرفون لهم شيئًا من العبادة ﴿ وأَنتُمْ تَعْلَمُون ﴾ أنه لا شريك له في ربوبيته يشاركه في هذه الأمور: خلق السموات والأرض وإنزال المطر وإنبات النبات. أنتم تعلمون أنه لا أحد يشارك الله في هذه الأمور، فكيف تشركون معه غيره في العبادة؟ !
وقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ [البقرة: 163] هذا في توحيد الألوهية، والإله معناه: المعبود، والألوهية: العبادة والحب.
ومعنى الآية: ومعبودكم بحق معبود واحد، ﴿ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُو ﴾، أي: لا معبود بحق سواه.
وقوله: ﴿ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ هذا داخل في توحيد الأسماء والصفات؛ إذ فيه إثبات اسمين لله، وإثبات صفة الرحمة.
وقوله: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَواتِ والأَرْضِ واخْتِلافِ الَليْلِ والنَّهَارِ والْفُلْكِ الَتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ومَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوتِهَا وبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ والسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَومٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 164] هذا في توحيد الربوبية، ذكره الله دليلاً وبرهانًا على توحيد الألوهية؛ ولذا أخبر أن في ذلك آيات، أي دلالات وبراهين على استحقاق الله للعبادة دون غيره.
ففي هذه الآية أقسام التوحيد الثلاثة، وهكذا تجدها متجاورة في القرآن الكريم.
الحكمة من تقرير القرآن لتوحيد الربوبية
والقرآن إنما يذكر توحيد الربوبية –مع أن الكفار مقرون به – من أجل أن يبين دلالته ويقيمه برهانًا على توحيد الألوهية، فيحتج عليهم بما أقروا به من باب الإلزام لهم:
كيف تقرون لله بالربوبية، ولا تقرون له بالألوهية والعبودية؟!
كيف تصرفون العبادة لمن لا يشارك الله في شيء من مخلوقاته؟! هذا من التناقض.
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَواتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَو أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الأحقاف: 4]، ﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ﴾ [لقمان: 11]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً ولَو اجْتَمَعُوا لَهُ وإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ والْمَطْلُوبُ ﴾ [الحج: 73] لو سلط الله عليهم الذباب ما استطاعوا أن ينتصروا لأنفسهم منه، والذباب أضعف شيء، فلو سلط الله الذباب والبعوض على الناس ما استطاعوا أن يتخلصوا منه، يقتلون منه ما يقتلون ثم يكثر عليهم ويغمرهم.
وقيل: المعنى لو أن الذباب أخذ شيئًا مما على الصنم من الطيب والزينات التي يجعلونها عليه، فإن الصنم لا يستطيع أن يسترد ما أخذه الذباب منه.
﴿ ضَعُفَ الطَّالِبُ والْمَطْلُوبُ ﴾: ﴿ ضَعُفَ الطَّالِبُ ﴾: هو المشرك، ﴿ والْمَطْلُوبُ ﴾: هو الصنم، وقيل الذباب.
إذا كان كذلك فكيف تُجعل هذه شركاء الله الخالق الرازق المحي المميت القوي العزيز الذي لا يعجزه شيء، سبحانه وتعالى؟! أين العقول؟! وأين الأفهام؟! نسأل الله العافية.
- التوحيد في آية الكرسي:
آية الكرسي: ﴿ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو الحَيُّ القَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولاَ نَومٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَواتِ ومَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ومَا خَلْفَهُمْ ولاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَواتِ والأَرْضَ ولاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وهُو العَلِيُّ العَظِيمُ ﴾: [البقرة: 255]
هذه أعظم آية في كتاب الله عز وجل، تشتمل على ربوبية الله وعبادته وعلى أسماء الله وصفاته، جمع الله فيها بين النفي والإثبات: نفي النقائص والعيوب عنه، وإثبات الكمال له سبحانه وتعالى.
وفي أولها توحيد الألوهية: ﴿ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو ﴾ أي: لا معبود بحق إلا هو. ثم ذكر توحيد الربوبية بقوله: ﴿ الحَيُّ القَيُّومُ ﴾ وهذا فيه إثبات الحياة والقيومية لله.
وقوله: ﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولاَ نَومٌ ﴾: هذا نفي، نفى الله عن نفسه النقص والعيب، من صفات النقص المنفية (النوم والسِّنة).
قوله: ﴿ لَّهُ مَا فِي السَّمَواتِ ومَا فِي الأَرْضِ ﴾: هذا إثبات لربوبيته، فهو مالك السماوات والأرض ومن فيهن.
وقوله: ﴿ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾: هذا نفي، نفى أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه؛ وذلك لكمال عظمته سبحانه وتعالى. وأن أحدًا لا يجرؤ أن يشفع عنده إلا بعد إذنه.
قوله: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ومَا خَلْفَهُمْ ﴾: هذا إثبات، فيه إثبات كمال العلم لله عز وجل، يعلم كل شيء: الماضي والحاضر والمستقبل، لا يخفى عليه شيء، علمه شامل محيط.
قوله: ﴿ ولاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ ﴾: هذا نفي، نفى عن الخلق أن يعلموا شيئًا من علم الله، إلا بما أطلعهم الله عليه، وإلا فإنهم لا يعلمون الغيب، لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه.
وقوله: ﴿ وسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَواتِ والأَرْضَ ﴾: الكرسي مخلوق من مخلوقات الله، وهو مخلوق عظيم، السماوات والأرض بالنسبة إليه كسبعة دراهم ألقيت في فلاة – وهي الصحراء الواسعة- أو في ترس – وهو صحن كبير- ما تكون سبعة دراهم في فلاة أو في ترس؟!
فكرسي الله جل وعلا أكبر من السماوات والأرض، وهو غير العرش، والعرش أعظم من الكرسي.
وما الكرسي في العرش إلا كحلقة حديد ألقيت في أرض فلاة.
هذا الكرسي، فكيف بعرش الرحمن سبحانه وتعالى؟!
إذن فالمخلوقات بالنسبة لله صغيرة جدًا وليست بشيء.
وإذا كان مخلوق من مخلوقات الله -وهو الكرسي- وسع السماوات والأرض وهو دون العرش، فالله جل وعلا أعظم من كل شيء.
وقوله: ﴿ ولاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾ أي: لا يشق عليه سبحانه ولا يثقله، ولا يكرثه حفظ السماوات والأرض، وحمايتهما من الفساد والتغير، وإمساكهما ﴿ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ [الحج: 65]، ﴿ رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾ [الرعد: 2] ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَواتِ والأَرْضَ أَن تَزُولا.. ﴾ [فاطر: 41] والله سبحانه ليس محتاجًا إلى السماوات والأرض، ولا إلى العرش، ولا إلى الكرسي، وليس محتاجًا إلى المخلوقات، وإنما مخلوقاته هي المحتاجة إليه سبحانه وتعالى.
وقوله: ﴿ وهُو العَلِيُّ ﴾ بذاته وقدره وقهره فوق عباده ﴿ العَظِيمُ ﴾ الجامع لصفات العظمة والكبرياء.
فهذه الآية اشتملت على أنواع التوحيد الثلاثة.