[size=28]لم هذا الجدال في معاني الصفات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله عدد خلقه و الصلاة و السلام على خاتم رسله وعلى آله وصحبه
أما بعد
فقد تألمت من أسلوب خوض بعض الأخوة الكاتبين في هذا المنتدى في صفات الباري تعالى على طريقة تقشعر منها الأبدان ويعلم من تأمل الكتاب و السنة و قرأ و فهم طريقة السلف من الأئمة أنها عن الصواب نائية و فيها ما قد كرهه الأئمة من الجدال وفيها ما ينزه الباري عنه من ضعيف المقال. فهذه نصيحة كتبتها على عجل و في قلبي مما قرأت هم و وجل . و الله يغفر لإخواننا و يوفقنا جميعا لمرضاته .
إخواني لا يرتاب من أنصف وعرف كلام الأئمة أن مسائل الصفات لا ينفع فيها إلا التسليم والإيمان وأن التوسع فيها بذكر الشبه أوالتأويلات ليس من طريقة الأئمة . روى الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى عن مصعب بن عبد الله الزبيري من تلاميذ الإمام مالك رحمه الله تعالى قوله :
( كان مالك بن أنس يقول : الكلام في الدين أكرهه ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه نحو الكلام في رأي جهم والقدر ، وكل ما أشبه ذلك ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل ، فأما الكلام في دين الله وفي الله عز وجل فالسكوت أحب إلي لأني رأيت أهل بلدنا ، ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل ) اهـ . جامع بيان العلم 2/116 وسنده صحيح قال أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله تعالى معقبا على ذلك :
(( قد بين مالك رحمه الله تعالى أن الكلام فيما تحته عمل هو المباح عنده وعند أهل بلده يعني العلماء منهم رضي الله عنهم، وأخبر أن الكلام في الدين نحو القول في صفات الله وأسمائه ونحو قول جهم والقدر . والذي قاله مالك رحمه الله تعالى عليه جماعة الفقهاء والعلماء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى ، وإنما خالف ذلك أهل البدع المعتزلة وسائر الفرق ، وأما الجماعة فعلى ما قال مالك رحمه الله تعالى إلا أن يضطر أحد فلا يسعه السكوت إذا طمع برد الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه أو خشي ضلال عامة أو نحو هذا ) ) اهـ .
فهذا مالك رحمه الله تعالى لا يرى الدخول في ذلك أصلا بل يرى الكلام في ذلك مما نهى عنه أهل المدينة، ومالك قد أدرك بعض البدع المشهورة ومع ذلك يقول مثل هذا. فالإمام مالك من أكثر الأئمة إن لم يكن أكثرهم تشددا في العلم والرواية ولما كان من أهل الانتقاء والتدقيق في الروايات اشتد حرص الأئمة المصنفين في الصحيح وعموم السنن على روايته وحديثه بحيث لم يُقدِّموا على حديثه حديث أحد من الأئمة المشهورين بالعلم من طبقته .
وقال أبوعمر بن عبد البر رحمه الله تعالى : ( ليس في الاعتقاد كله في صفات الله تعالى وأسمائه إلا ماجاء منصوصا في كتاب الله أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أجمعت الأمة عليه ، وما جاء من أخبارالآحاد في ذلك كله يُسَلَّمُ له ولا يناظر فيه ) اهـ . التمهيد 2 / 117 -118
وقال أيضا : ( تناظر القوم وتجادلوا في الفقه، ونهوا عن الجدال في الاعتقاد، لأنه يؤول إلى الانسلاخ من الدين ، ألا ترى مناظرة بشر في قوله جل وعز : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا وهو رابعهم ، ( المجادلة - 7 ) ، حين قال بذاته في كل مكان فقال له خصمه، هو في قلنسوتك وفي حشك وفي جوف حمار ، تعالى الله عما يقولون . حكى ذلك وكيع رحمه الله تعالى وأنا والله أ كره أن أحكي كلامهم ) اهـ . ( ) وكاتبها العبد الفقير إلى الله تعالى ، يسأل الله تعالى المغفرة من نقلها ، فقد كتبتها والله وأنا أستغفر الله تعالى وأسأله سبحانه الستر والغفران لي ولجميع المسلمين .
وفي كتاب السنة للخلال : (( واعلم أن ترك الخصومة والجدال هو طريق من مضى ، ولم يكونوا أصحاب خصومة ولا جدال )) اهـ . ( )
وقال الإمام الخطابي : ( واعلم أن الأئمة الماضين والسلف المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام ، وهذا النوع من النظر عجزا عنه ولا انقطاعا دونه، وقد كانوا ذوي عقول وافرة ، وأفهام ثاقبة وكان في زمانهم هذه الشبه والآراء وهذه النحل والأهواء وإنما تركوا هذه الطريقة ، وأضربوا عنها لما تخوفوه فتنتها وحذروه من سوء مغبتها ، وقد كانوا على بينة من أمرهم وعلى بصيرة من دينهم ) اهـ . ( )
قلت : عن مهدي بن ميمون قال سمعت محمدا – هو ابن سيرين -وماراه رجل في شيء فقال له محمد : ( إني قد أعلم ما تريد ، وأنا أعلم بالمراء منك ، ولكن
لا أماريك ) اهـ . ( )
وممن نقل عنه هذا المنهج واشتهر عنه العمل به الإمام أحمد رحمه الله تعالى ومن ذلك أنه قال في رسالته المشهورة الصحيحة إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل حين كتب إليه بأمر أمير المؤمنين المتوكل يسأله عن القرآن لا مسألة امتحان بل مسألة معرفة وبصيرة ، فكتب إليه الإمام أحمد رسالة منها : ( لستُ بصاحب كلام ، ولا أرى الكلام في شئ من هذا إلا ما كان في كتاب الله ، أو في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو عن أصحابه أو عن التابعين . فأما غير ذلك ، فإن الكلام فيه غير محمود ) اهـ . ( ) وروى الخلال عن شيخه أبي بكر المروذي تلميذ الإمام أحمد قال : ( أنكر أبو عبد الله على من رد بشيء من جنس الكلام إذا لم يكن له فيها إما مُقدَّم ) . ( )
وروى الإمام أبو بكر الخلال في السنة قال أخبرنا أبو بكر المروذي - من خواص أصحاب الإمام أحمد وتلاميذه - فذكر قصة تلخيصها :
أن رجلا قال : إن الله لم يجبر العباد على المعاصي فرد عليه آخر أن الله جبر العباد على المعاصي أراد بذلك إثبات القدر لما نفاه الآخر وألف في هذا كتابا فأدخله المروذي على الإمام أحمد قال المروذي : ( فأخبرته بالقصة فقال ويضع كتابا ؟ وأنكر عليهما جميعا وأمر بهجران الذي وضع الكتاب ) اهـ . ( )
قال الخلال وأخبرنا أبوبكر المروذي قال : قال : أبو عبدالله يعني الإمام أحمد : ( كلما ابتدع رجل بدعة اتسعوا في جوابها ) اهـ . ( )
ومذهب الإمام أحمد في هذا هو مذهب أئمة شيوخه من علماء الأمة المقدَّمين فمنهم شيخه الإمام الحافظ عبد الرحمن بن مهدي فقد قيل له : إن فلانا قد صنف كتابا في السنة ردا على فلان . فقال عبد الرحمن : رد بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم قيل : بكلام ، قال : رد باطلا بباطل ) اهـ .( )
ومن كلامه الثابت عنه في ذلك ( ولم يزل الناس يكرهون كل محدث من وضع كتاب وجلوس مع مبتدع ليورد عليه بعض ما يلبس في دينه ) اهـ . تاريخ الإسلام ص85
حكى القيرواني في رياض النفوس :عن سحنون قال : قال بعض أصحاب البهلول بن راشد :
كنت يوما جالسا عنده ومعه رجل عليه لباس حسن وهيئة فقال له البهلول :
( أحبُّ أن تذكر لي ما تحتج به القدرية ، فسكت الرجل حتى تفرق الناس ثم قال له : ياأبا عمرو إنك سألتني عما تحتج به القدرية ، وهو كلام تصحبه الشياطين ، لأنه سلاح من سلاحهم فتزينه في قلوب العامة وفي مجلسك من لا يفهم ما أتكلم به من ذلك ، فلا آمن أن يحلو بقلبه منه شئ فيقول : سمعت هذا الكلام في مجلس البهلول فقال له : والله لأقبِّلنَّ رأسك أحييتني أحياك الله ) اهـ . ( )
و من الحكايات عن السلف في هذا أيضا ، ما ذكره الإمام أبو عبد الله الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء في ترجمة أبي شريح عبد الرحمن بن شُريح المعافري الإسكندراني الذي وصفه الذهبي بقوله : ( الإمام ، القدوة الرباني ،العابد وقال : كان من العلماء العاملين ( )) اهـ . - وهو ثقة روى له الجماعة وقال فيه يحيى بن معين :ثقة وقال أبو حاتم : ( لا بأس به ) . و توفي : سنة 167هـ .
أقول ذكر في ترجته : قال : قال هانئ بن المتوكل : حدثني محمد بن عبادة المعافري قال: كنا عند أبي شريح – رحمه الله – فكثرت المسائل ، فقال : قد درنت قلوبكم ، فقوموا إلى خالد بن حميد المهري استقلوا قلوبكم ، وتعلموا هذه الرغائب، وتعلموا هذه الرغائب و الرقائق ، فإنها تجدد العبادة ، وتورث الزهادة ، وتجر الصداقة ، و أقلوا المسائل فإنها في غير ما نزل تقسي القلب ، وتورث العداوة .
قال الذهبي معلقا : ( قلت : صدق و الله ، فما الظن إذا كانت مسائل الأصول و لوازم الكلام في معارضة النص، فكيف إذا كانت من تشكيكات المنطق ، وقواعد الحكمة و دين الأوائل ؟! الخ . )اهـ .
قال الذهبي معلقا : ( قلت : صدق و الله ، فما الظن إذا كانت مسائل الأصول و لوازم الكلام في معارضة النص، فكيف إذا كانت من تشكيكات المنطق ، وقواعد الحكمة و دين الأوائل ؟! الخ . )اهـ .
والخوف على قلوب الناس من تعلق الشبه هي أحد الدواعي المانعة للسلف من التوغل مع المبتدعة، وهناك مانعان آخران يضافان إلى هذا :
الأول :
الاتباع لمن سلف وسيـأتي إن شاء الله تعالى مزيد تدليل على أن ذلك هو مذهبهم ومن مذهبهم التسليم لظواهر الشرع إذ لا تثبت قَدَمُ الإسلام إلا على التسليم .
والمانع الثاني :
هو الخوف من الوقوع في بِدَعٍ يسوق إليها الجدالُ والكلام وهي غير متناهية ... كما روى الإمام اللالكائي ، ( ت : 418هـ ) والإمام اسماعيل التيمي الأصبهاني ( ت : 535 ) عن الخليل بن أحمد قال : ( ما كان جدل قط إلا أتى بعده جدل يبطله ) اهـ ( )
والمانع الثاني :
هو الخوف من الوقوع في بِدَعٍ يسوق إليها الجدالُ والكلام وهي غير متناهية ... كما روى الإمام اللالكائي ، ( ت : 418هـ ) والإمام اسماعيل التيمي الأصبهاني ( ت : 535 ) عن الخليل بن أحمد قال : ( ما كان جدل قط إلا أتى بعده جدل يبطله ) اهـ ( )
ولذا قال الإمام ابن خزيمة في مقدمة كتابه التوحيد :
( قد أتى علينا برهةٌ من الدهر وأنا كاره الاشتغال بتصنيف ما يشوبه شئ من جنس الكلام من الكتب ، وكان أكثرُ شُغلنا بتصنيف كتب الفقه ، التي هي خلو من الكلام في الأقدار الماضية ، التي كفر بها كثير من منتحلي الإسلام ، وفي صفات الله - عز وجل - التي نفاها ولم يؤمِن بها المعطِّلون ) اهـ . ( ) فتأمل عبارات هذا الإمام رحمه الله.
ثم ذكر أن الحامل له على ذلك ، تخوفه من أن يميل بعض من كان يحضر مجلسه من طلاب العلم والحديث إلى قول المعطلة والقدرية المعتزلة ( ) .
( قد أتى علينا برهةٌ من الدهر وأنا كاره الاشتغال بتصنيف ما يشوبه شئ من جنس الكلام من الكتب ، وكان أكثرُ شُغلنا بتصنيف كتب الفقه ، التي هي خلو من الكلام في الأقدار الماضية ، التي كفر بها كثير من منتحلي الإسلام ، وفي صفات الله - عز وجل - التي نفاها ولم يؤمِن بها المعطِّلون ) اهـ . ( ) فتأمل عبارات هذا الإمام رحمه الله.
ثم ذكر أن الحامل له على ذلك ، تخوفه من أن يميل بعض من كان يحضر مجلسه من طلاب العلم والحديث إلى قول المعطلة والقدرية المعتزلة ( ) .