الحَقُّ بدلائِلِه .... لا بقائِلِه
يقول الله – تبارك وتعالى - : (( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا )) ويقول – جلَّ في عُلاه - : ((
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ
يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ
يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ
كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ
أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ
شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ))
.. هاتان آيتان كريمتان عظيمتان – من آياتٍ كريمةٍ عظيمةٍ أخرى – تدلُّ – جميعها – على عَظَمَة الحق ,
ورفيع مكانته وكبيرِ منزلته وعُلُوِّ مَرتَبَتِه ..
وقد روى البخاري ( 2183 ) , ومسلم ( 1601 )
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ لِصاحِبِ الحقِّ مَقالاً " .
ورضي الله عن الصحابي الجليل معاذ بن جبل – القائل - : ( تَلَقَّ الحقَّ إذا سَمِعْتَهُ ؛ فإنَّ على الحقِّ نُوراً ) (1) .
ورحم الله من قال من أهل السنة السَّنِيَّة :
(( لا ترى أحَدَاً مالَ إلى هَوىً أو بدعة : إلا وجدتَهُ مُتَحَيِّراً , مَيِّتَ القل ممنوعاً من النطقِ بالحقِّ )) (2)
وهكذا
... فالحق سلسلةٌ ذَهَبية مترابطة الحلقات , منضبطة الأحكام , دقيقة
الإحكام , لا يعتريها زَيغُ ولا يَرِدُها تَرَدُّد ولا يقطعها انحراف بل
الثبات نورها والهدى سبيلها والصواب واسطة عِقدِها ..
فمن وَطَّنَ
نفسه على قَبول الحق , وارتياد أبوابه وسلوك أسبابه : سَهُلَ عليهِ –
بتوفيقِ ربِّهِ – معرفة المِعيار الصحيح الذي يُمَيِّزُ بِهِ بين الحسن
والقبيح ؛ ليكون به عِلميِّ النظرة شرعيِّ الحُكم من غير عاطفة تغلبه
فتغرقه ولا حماسةٍ عن الحق تَحرِفُه فَتُحرِقُه ....
فلا كبير إلا الحق ولا تقديم إلا للحق ولا تعظيم إلا لداعي الحق ...
ولقد كان
علماؤنا – من قبل ومن بعد – يَفسحون لصاحب الحق , ويأنسون بكلامه ,
ويفرحون بصوابه – حتى لو كان – هو – في سِنِّ أبنائهم . وكانوا – هم –
يَعرفون كلامه – قَبْلاً - , ويعلمونه – سابقاً - ؛ فلم نعلمهم يُعرضون أو
يترفعون , أو يرفضون ...
ورحم الله التابعي الجليل الإمام أبا محمد عطاء بن أبي رباح –
القائل - : (( إن الشاب ليتحدث بالحديث فأَستمعُ له , وأُنصِتُ – كأني لم أسمعه - , ولقد سمعته قبل أن يولد )) (3) ومما يجب
ذكره , وينبغي الإشارة إليه , والتعريف به : أن البعض من أهل الفضل –
سددهم الله – قد يكون عندهم رغبة صادقة في إقامة إصلاح بين متخاصِمَيْنِ ,
أو إنشاء توسط بين مختلِفَيْن : لكنهم يَنزعون في تطبيق ذلك – غفر الله
لهم – مَنزِعاً لا وجه للحق فيه – وإن لم يكونوا مُريديه - ؛ ذلكم أنهم
يسلكون مسلكاً ( يظنونه ) من ( الوسط ) ؛ يأخذون – فيه – من ها هنا
ويأخذون – به - من ها هنا !! فإذا بهم يخرجون بقولٍ رابع ليس هو من الحق
الخالص , ولا هو – في نفسه – إلى مقالة هؤلاء ولا إلى مقولة أولئك !!
فهذا – في الحقيقة – سَبَبٌ واصِلٌ لمزيدٍ من الفتنة والبلاء , وطريقٌ تتغير فيه النفوس الصافية وتتكدَّرُ به القلوبُ المطمئنة ...
ورضي الله عمن قال : (( وكم من مُريدٍ للخيرِ لن يُصيبه )) (4)
وقد قيل للإمام الأوزاعي :
إن رجلاً يقول : أنا أجالس أهلَ السنة , وأجالسُ أهل البدع !
فقال الأوزاعيُّ : هذا رجلٌ يُريدُ أن يُساوي بين الحق والباطل ))
روى ذلك عنه الإمام ابن بطة في كتاب (( الإبانة )) ( 2 / 456 ) ,
ثم عَلَّقَ بقوله : (( صَدَقَ الأوزاعي ؛ إنَّ هذا رجلٌ لا يعرف الحقَّ )) .
إذْ كيف يجتمع النقيضان ؟! وكيف يلتقي الضدان ؟! .
فالحقُّ أجَلُّ ما يُطلب , وأعزُّ ما يُحَبُّ , والباطلُ أعظمُ ما يُجتنب وأكبرُ ما عنهُ يُرغب ...
وهو ( الوسط ) الحقُّ الذي يجب أن يَؤولَ إليه كلُّ نِزاع , ويرجعَ له كلُّ ذي ابتداع ...
أمَّا (
وَسَطٌ ) – فضفاض تخترعهُ العُقولُ بالأمانيِّ – فقط – يُرادُ منه اجتماع
– أيُّ اجتماع ! – فَهذا عن الهُدى بَعيد , وصاحبه عن طريق الحقِّ شَريد
...
ونحن فيما نكتب ونُبَيِّنُ – بحمد الله – تعالى – على سَنَنِ سلفنا الصالح سائرون , ولنهجهم سالكون
كما قال الإمام سفيان الثوري – فيما رواه أبو نُعَيْم في ( الحلية ) ( 7 / 34 ) :
(( من سَمِعَ بِبِدعَةٍ فلا يَحكِها لِجُلَسائِه , لا يُلقِها في قلوبهم ))
وقد قال الإمام الذهبي – رحمه الله – في كتابه
(( سِيَر أعلام النبلاء )) ( 7 / 261 ) – بعد نقلِهِ هذه الكلمة :
(( أكثرُ أئمة السلف على هذا التحذير , يَرَون أن القلوب ضعيفة والشُّبَه خَطَّافة )) .
وقد قال الإمام قتادة بن دِعامة السَّدوسي :
(( إن الرجل إذا ابتدعَ بدعةً ينبغي لها أن تُذكر حتى تُحذر ))
وقال الإمام ابن القيم في (( مدارج السالكين )) ( 1 / 327 ) :
((
ولهذا اشتد نكير السلف والأئمة للبدعة , وصاحوا بأهلها من أقطار الأرض
وحذروا وبالغوا في ذلك ما لم يبالغوا في إنكار الفواحش والظلم والعدوان إذ
مضرة البدع وهَدمُها للدين ومنافاتُها له أشدّ ))
ونحن في ذلك – أيضاً – إن شاء الله – على سَمتِ الإمام الشافعي – رحمه الله –
وهديه – القائل : (( ما ناظرتُ أحداً ؛ فأحببتُ أن يُخطيء )) (5) ...
وروى الخطيب البغدادي في (( تاريخه )) ( 12 / 269 ) :
أن الإمام
الحافظ عفَّان ابن مسلم الصَّفَّار أُعطيَ عشرة آلاف دينار على أن يقفَ عن
تعديل رجل (!), فلا يقول : عدلٌ , ولا غير عدل ! فأبى , وقال : (( لا
أبطِلُ حقاً من الحقوق )) (6) .
وقال الحافظ محمد بن طاهر المقدسي :
سمعتُ الإمام أبا إسماعيلَ عبد الله ابن محمد الأنصاريَّ – بِهَراةَ –
يقول : (( عُرِضتُ على السيف خمسَ مرات , لا يقال لي : ارجع عن مذهبك !
لكن يُقال لي : اسكت عمَّن خالفك , فأقول : لا أسكت )) (7) .
فنحن –
والحالة هذه – نكون قد وافقنا الجمع بين الخيرين , وفارقنا الشرَّين ؛
حرصاً على إظهار الحقِّ , ورغبةً في اجتماع كلمة أهله ...
وهذا – هكذا
– جارٍ على أصل الملة والدين إذ (( مبنى الشريعة على قاعدة تحصيل خير
الخَيرين , وتفويت أدناهما , وتفويت شرِّ الشرَّين باحتمال أدناهما . بل مصالح الدنيا كلها قائمة على هذا الأصل (8) .
وما أجمل قول الصحابي الجليل معاذ بن جبل – رضي الله عنه - :
(( اتقوا زَيغةَ الحكيم ؛ فإن الشيطان يُلقي على فيّ الحكيم كلمة الضلالة )) (9)
ومنه كلمة عبيد الله بن الحسن العنبري :
(( لأن أكون ذَنَباً في الحق أحَبَّ إليَّ من أن أكون رأساً في الباطل )) (10)
وروى الإمام اللالكائي في (( شرح أصول اعتقاد أهل السنة )) ( 122 )
عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قوله :
(( يجيءُ قومٌ يَتركون من السنة مثل هذا – يعني : مِفصَل الإصبع – فإن تَركتموهم جاؤوا بالطامة الكُبرى ... ))
وقال : رضي الله عنه :
(( إنَّا نقتدي , ولا نَبْتَدي ! ونَتَّبِع ولا نبتدع , ولن نَضِلَّ ما تَمَسَّكنا بالأثر )) (11)
ومن نافلة
القول التذكير ها هنا بلزوم القراءة في كل شيء للمحتويات وللمضامين ,
والنظر الصادق الأمين دون الإكتفاء بالوقوف على مجرد العناوين , أو تقليب
الصفحات بغير تبين أو تبيين ؛ ثم تبني المواقف من بعد إلى الشمال أو إلى
اليمين !!! .
وأخيراً :
نقولُ لأنفُسِنا وأصحابِنا وإخواننا ومشايخنا ؛ مُذَكِّرين , وناصحين ومُنَبِّهينَ – فرداً فرداً : ((
إصبر نفسك على السنة , وقِف حيثُ وَقَفَ القوم , وقُلْ بما قالوا ,
وَكُفَّ عمَّا كَفُّوا , واسلُك سبيل سلفك الصالح ؛ فإنه يَسَعُكَ ما
وَسِعَهُم )) (12) (( ولن تخلو الأرض من قائمٍ لله بِحُجَّة )) (13) إطفاءاً لنار البدعة , وإعلاءاً لمنار المحجَّة .....
********
(1) رواه أبي داود في " سُنَنِه " ( 1/ 46 ) , والحاكم ( 8422 ) وعبد الرزاق ( 20750 ) بسند صحيح .
(2) (( الحجة في بيان المَحَجة )) ( 1/431 ) للإمام الأصبهاني .
(3) (( الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع )) ( 1 / 303 ) للخطيب .
(4) هو ابن مسعود – رضي الله عنه - ؛ كما في (( سنن الدارمي )) ( رقم 215 ) وانظر (( السلسلة الصحيحة )) ( 2005 )
لشيخنا الإمام الألباني – رحمه الله - .
(5) رواه ابن حبان في (( صحيحه )) ( 5 / 489 ) , وأبو نعيم في (( الحلية )) ( 9 / 118 ) , والبيهقي في (( المدخل )) ( 172 ) .
(6)
وهذا يدل على أهمية الجرح والتعديل , وعظيم مكانته في الدين , ولزوم
تطبيقه – في كل زمان ومكان – بقواعده الشرعية وشروطه المرعية و ومن أهله
وعارفيه وأصحابه وحامليه ... فلا يغرنكم – إخواننا طلبة العلم – تهويلُ
المُهَوِّنِ من شأنِه , وكلامُ المقلِّلِ من قَدرِه !! وفي رسالتي ((
الأسس الناصرة لضوابط الجرح والتعديل المعاصرة )) مزيد بيان .
(7) (( الآداب الشرعية )) ( 1 / 207 ) لابن مفلح المقدسي الحنبلي .
(8) الدرر السنية )) ( 11 / 5 ) .
(9) (( سنن أبي داود )) ( 4611 ) .
(10) (( الإبانة )) ( 2 / 882 ) .
(11) (( حلية الأولياء )) ( 1 / 80 ) .وقد تقدم – قريباً – طرف آخر منه - مع زيادة تخريج - .
(12) (( تاريخ بغداد )) ( 10 / 308 ) [/size]
(13) (( الحجة في بيان المحجة )) ( 449 ) للأصبهاني .
المصدر : كتاب (( السلفية لماذا ؟؟ مَعاذاً وملاذا ))
للشيخ علي بن حسن بن علي بن عبد الحميد الحلبي الأثري
( ص 15 – 21 ) . منقول من ملتقي السلفيين