من طرف أبو محمد عبدالحميد الأثري 20.08.08 17:35
الجهر بالنيّة
الشيخ مشهور حسن سلمان
الجهر بالنيّة لا يجب ولا يستحب باتّفاق علماء المسلمين ، بل الجاهر بالنيّة مبتدع مخالف للشريعة ، وإذا فعل ذلك معتقداً أنه من الشّرع فهو جاهل ضال يستحق التعزير ، وإلا فالعقوبة على ذلك إذا أصرَّ عليه بعد التعريف والبيان له ، لاسيّما إذا آذى مَنْ إلى جنبه برفع صوته ، أو كرّر ذلك مرّة بعد مرّة .
وقد أفتى غير واحد من علماء المسلمين بذلك ، فمنهم : القاضي أبو الربيع سليمان بن الشافعي ، قال : (( الجهر بالنّية وبالقراءة خلف الإمام ليس من السنّة ، بل مكروه، فإن حصل به تشويش على المصلّين فحرام ، ومن قال بإن الجهر بلفظ النيّة من السنّة فهو مخطئ ، ولا يحلّ له ولا لغيره أن يقول في دين الله تعالى بغير علم .
ومنهم : أبو عبد الله محمد بن القاسم التونسي المالكي ، قال : (( النيّة من أعمال القلوب، فالجهر بها بدعة ، مع ما في ذلك من التشويش على الناس .
ومنهم : الشيخ علاء الدّين بن العطّار قال : ورفع الصّوت بالنيّة مع التشويش على المصلّين حرام إجماعاً ، ومع عدمه بدعة قبيحة ، فإن قصد به الرّياء كان حراماً من وجهين ، كبيرة من الكبائر ، والمنْكِرُ على مَنْ قال بأن ذلك من السنّة مصيب ، ومصوّبة مخطئ ، ونسبته إلي دين الله اعتقاداً كفر ، وغير اعتقاد معصية . ويجب على كل مؤمن تمكَّن مِن زجره ، ومنعه وردعه ، ولم ينقل هذا النقل عن رسول اللهr ، ولاعن أحدٍ من أصحابه ، ولا عن أحد ممن يقتدى به من علماء الإسلام(1)
وكذلك التلفّظ بالنيّة سرّاً لا يجب عند الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين ، فلم يقل أحد بوجوب ذلك ، لا في الطهارة ولا في الصلاة ولا الصوم .
سأل أبو داود الإمام احمد ، فقال : بقول المصلّي قبل التكبير شيئاً؟ قال:(2)
قال السيوطي : ((ومن البدع أيضاً : الوسوسة في نيّة الصّلاة ، ولم يكن ذلك من فعل النبي r ولا أصحابة ، كانوا لا ينطقون بشيء من نية الصلاة بسوى التكبير . وقد قال تعالى :
لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة (3)
وقال الشافعي رضي الله عنه :الوسوسة في نية الصّلاة والطهارة من جهلٍ بالشرع ،أو خبلٍ بالعقل(4)
وللتلفظ بالنيّة آثار سيّئة كثيرة ، فترى المصلّي ينطق بنيّة الصلاة واضحة مفسّرة ، ثم يهمُّ بالتكبير ، فيظن أنه يستحضر النيّة .
قال ابن الجوزي :((ومن ذلك : تلبيسه عليهم في نية الصّلاة . فمنهم مَنْ يقول : أُصلّي صلاة كذا ، ثم يعيد ، هذا ظنّاً منه أنه قد نقض النية ، والنية لا تنقض ، وإن لم يرض اللفظ . ومنهم : مَنْ يكبّر ثم ينقض ثم يكبر ثم ينقض ، فإذا ركع الإمام كبر الموسوس وركع معه ، فليت شعري ! ما الذي أحضر النية حينئذ ؟! وما ذاك إلا لأن إبليس أراد أن يفوته الفضيلة . وفي الموسوسين مَنْ يحلف بالله لا كّبرتُ غير هذه المرّة . وفيهم مَنْ يحلف بالله بالخروج من ماله أو بالطلاق ، وهذه كلها تلبيسات إبليس . والشريعة سمحة سهلة سليمة من هذه الآفات ، وما جرى لرسول الله r ولا لأصحابه شيء من هذا(5)
وسبب هذا الوسواس : أن النيّة تكون حاضرةً في قلب هذا الموسوس ، ويعتقد أنها ليست في قلبه ، فيريد تحصيلها بلسانه ، وتحصل الحاصل محال !
وقد غلط أبو عبد الله الزّبيري من الشافعيّة على الإمام الشافعي – رحمه الله تعالى – إذ خرّج وجهاً من كلام الإمام زاعماً أنه يوجب التلفّظ بالنيّة في الصّلاة ! والسبب في غلطه : سوءُ فهمه لعبارة الشافعي .
فعبارة الشّافعي هذا نصّها : إذا نوى حجّاً وعمرة أجزأ ، وإنْ لم يتلفّظ وليس كالصّلاة لا تصح إلا بالنّطق(6)
قال النووي : ((قال أصحابنا : غلط هذا القائل ، وليس مراد الشافعي بالنّطق في الصّلاة هذا ، بل مراده التكبير(7)
وقال بن أبي العزّ الحنفي : (( لم يقل أحد من الأئمة الأربعة ، لا الشّافعيّ ولا غيره باشتراط التلفّظ بالنيّة ، وإنما النيّة محلّها القلب باتّفاقهم ، إلا أن بعض المتأخرين أوجب التلفّظ بها ، وخرج وجهاً في مذهب الشافعي ! قال النووي رحمه الله : وهو غلط ، انتهى . وهو مسبوق بالإجماع قبله(8)
وقال ابن القيم : (( كان r إذا قام إلى الصّلاة ، قال : (( الله أكبر ولم يقل شيئاً قبلها ، ولا تلفَّظ بالنيّة البتة . ولا قال : أصلي لله صلاة كذا مُستقبل القبلة أربع ركعات إماماً أو مأموماً ، ولا قال : أداءً ولا قضاءً ، ولا فرض الوقت ، وهذه عشرُ بدع ، لم يَنْقُل عنه أحد قط بإسنادٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ ولا مسندٍ ولا مرسلٍ لفظةً واحدةً منها البتة ، بل ولا عن أحدٍ من أصحابه ، ولا استحسنه أحدٌ من التّابعين ، ولا الأئمة الأربعة وإنما غَرَّ بعضَ المتأخرين قولُ الشافعي - رضي الله عنه - في الصّلاة : إنها ليست كالصّيام ولا يدخل فيها أحدُ إلا بذكر ، فظنّ أن الذّكر تلفُّظُ المصلّي بالنّية وإنما أراد الشافعيُّ - رحمه الله – بالذّكر : تكبيرة الإحرام ، ليس إلا ، وكيف يستحِبُّ الشافعيُّ أمراً لم يفعله النبي r في صلاة واحدة ، ولا أحدٌ من خلفائه وأصحابه ، وهذا هديُهم وسيرتُهم ، فإن أَوْجَدَنا أحدٌ حرفاً واحداً عنهم في ذلك ، قبلناه ، وقابلناه بالتّسليم والقبول ، ولا هديَ أكملُ من هديهم ، ولا سنة إلا ما تلقَّوه عن صاحب الشّرع(9) r .
نخلص مما تقدّم إلى : أن نصوص العلماء على اختلاف الأمصار والأعصار على أن الجهر بالنيّة بدعة (10)، ومن قال بسنّيته فقد غلط على الإمام الشافعي .
وعلى هذا الأدلة من السنة النّبويّة .
عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : كان رسول الله r يستفتح الصَّلاة بالتّكبير(11)
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته ، عندما قال له : علّمني يا رسول الله . قال له : إذا قمت إلى الصّلاة فأسبغ الوضوء ، ثم استقبل القبلة ، فكبّر ، ثم
اقرأ بما تيسر معك من القرآن(12)
وعن عبد اللّه بن عمر – رضي اللّه عنهما- قال : رأيت النَّبيَّ r افتتح التكبير في الصلاة ، فرفع يديه (13)
فهذه النصوص و مثلها كثير عن الرسول r تدلّ على افتتاح الصّلاة بالتكبير ، وأنه لم يقل قبلها شيئاً . ويؤكد ذلك : إجماع العلماء على أنه إذا خالف اللسان القلب ، فالعبرة بما في القلب(14) ، فما الفائدة من النطق بالنيّة إذا كان الإجماع قد انعقد على أنه لا عبرة به إذا خالف ما استقرَّ في القلب ؟ !
وتجدر الإشارة هنا إلى تناقض مَنْ يقول بوجوب مقارنة النية للتكبير مع استحباب أو وجوب التلفظ بها ، إذ كيف سينطق بالنيّة في الوقت الذي يكون لسانه مشغولاً بالتكبير ؟! هذا محال .
قال ابن أبي العزّ الحنفي : (( قال الشافعي رحمه الله : لايجوز ما لم يكن الذّكر اللساني مقارناً للقلبي . وأكثر النّاس عاجزون عن ذلك باعترافهم . والذي يدّعي المقارنة ، يدّعي ما يردّه صريح العقل . وذلك أن اللسان ترجمان ما يحضر بالقلب ، والمترجم عنه سابق قطعاً على أن الحروف الملفوظ بها في النيّة ، منطبقة إلى آخر الزّمان ، وهي منقضية منصرمة ، لا تتصور المقارنة بين أنفسها ، فكيف تتصور مقارنتها لما يكون قبلها ؟!(15)
--------------
1 انظر هذه النّقول في ((مجموعة الرسائل الكبرى : (1/254-257
2 مسائل الإمام احمد : ص 31 ومجموع الفتاوى 22/28.
3 سورة الأحزاب : آية رقم 21
4 الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع : لوحة 28/ب وقامت دار ابن القيم بالدمام بطبعة بتحقيقي .
5 تلبيس إبليس : ص : 138 .
6 المجموع : 3/243 .
7 المرجع نفسه ، وانظر : التعالم للشيخ بكر أبو زيد 100.
8 الاتباع : ص62.
9 زاد المعاد : 1/ 201. وانظر له في المسألة : إغاثة اللهفان : 1/136ـ139 وإعلام الموقعين : 2/371 وتحفة المودود: ص93.
10 انظر في ذلك _ على سبيل المثال _:الإفصاح : 1/56 و الإنصاف : 1/142 و فتح القدير : 1/186 و مجموع الفتاوى : 22/223 و مقاصد المكلّفين فيما يتعّبد به لربّ العالمين : ص 123 وما بعدها .
11 أخرجه مسلم في الصحيح : 1/357 رقم 498 .
12 سيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى .
13 أخرجه البخاري في الصحيح : 2/221 رقم 738 .
14 حكى هذا الإجماع النوويُّ في المجموع : 1/367 .
15 الاتباع : ص61-62 .
نقلاً عن
شبكة المنهاج الإسلامية
من هنـــــــــــــــا