الإبداع في كمال الشرع و خطر الإبتداع
للعلامة
محمد بن صالح العثيمين
-رحمه الله تعالى-
للعلامة
محمد بن صالح العثيمين
-رحمه الله تعالى-
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين وترك أمته على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، بين فيها ما تحتاجه الأمة في جميع شئونها حتى قال أبو ذر رضي الله عنه : ( ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم ، طائرا يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما ) وقال رجل من المشركين لسلمان الفارسي رضي الله عنه علمكم نبيكم حتى الخراة ـ آداب قضاء الحاجة ـ قال : ( نعم ، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار ، أو نستنجي باليمين أو نستنجي برجيع أو عظم).
وإنك لترى هذا القرآن قد بين الله تعالى فيه أصول الدين وفروع الدين فبين التوحيد بجميع أنواعه وبين حتى آداب المجالس والاستئذان قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم ) ـ المجادلة ، وقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلك خير لكم لعلكم تذكرون * فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم ، والله بما تعملون عليم ) ـ النور .
حتى آداب اللباس قال الله تعالى ( والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة ) النور(يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ، وكان الله غفورا رحيما ) ـ الأحزاب ( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) ـ النور ، ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى . وأتوا البيوت من أبوابها ) ـ البقرة ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي يتبين بها أن هذا الدين شامل كامل لا يحتاج إلى زيادة كما أنه لا يجوز فيه النقص ولهذا قال الله تعالى في وصف القرآن ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) ـ النحل . فما من شيء يحتاج الناس إليه في معادهم ومعاشهم إلا بينه الله تعالى في كتابه إما نصا أو وإيماء وإما منطوقا وإما مفهوما .
أيها الأخوة : إن بعض الناس يفسر قول الله تعالى ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ، ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ) ـ الأنعام ، يفسر قوله ( ما فرطنا في الكتاب ) على أن الكتاب القرآن والصواب بالكتاب هنا اللوح المحفوظ ، وأما القرآن فإن الله تعالى وصفه بأبلغ من النفي وهو قوله ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) فهذا أبلغ وأبين من قوله ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ولعل قائلا يقول أين نجد في القرآن أعداد الصلوات الخمس في القرآن ؟ وعدد كل صلاة في القرآن ؟ وكيف يستقيم أننا لا نجد في القرآن بيان أعداد ركعات كل صلاة والله يقول ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) .
والجواب على ذلك أن الله تعالى بين لنا في كتابه أنه من الواجب علينا أن نأخذ بما قاله الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، وبما دلنا عليه ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) ـ النساء ، ( وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )الحشر ، فما بينته السنة فإن القرآن قد دل عليه لأن السنة أحد قسمي الوحي الذي أنزله الله على رسوله وعلمه إياه كما قال الله تعالى ( وأنزل عليك الكتاب والحكمة ) ـ النساء.وعلى هذا فما جاء في السنة فقد جاء في كتاب الله عز وجل .
أيها الأخوة : إذ تقرر ذلك عندكم فهل النبي ،صلى الله عليه وسلم ، توفي وقد بقي شيء من الدين المقرب إلى الله تعالى لم يبينه ؟.
أبدا فالنبي عليه الصلاة والسلام بين كل الدين إما بقوله وإما بفعله وإما ابتداءا أو جوابا عن سؤال وأحيانا يبعث الله أعرابيا من أقصى البادية ليأتي إلى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يسأل عن شيء من أمور الدين لا يسأله عنه الصحابة الملازمون لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ولهذا كانوا يفرحون أن يأتي أعرابي يسأل عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، عن بعض المسائل ، ويدلك على أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ما ترك شيئا مما يحتاجه الناس في عبادتهم ومعاملتهم وعيشهم إلا بينه يدلك على ذلك قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) ـ المائدة .
إذا تقرر ذلك عندك أيها المسلم فاعلم أن كل من ابتدع شريعة في دين الله ولو بقصد حسن فإن بدعته هذه مع كونها ضلالة تعتبر طعنا في دين الله عز وجل ، وتعتبر تكذيبا لله تعالى في قوله ( اليوم أكملت لكم دينكم ) لأن هذا المبتدع الذي ابتدع شريعة في دين الله تعالى وليست في دين الله تعالى كأنه يقول بلسان الحال إن الدين لم يكمل لأنه قد بقي عليه هذه الشريعة التي ابتدعها يتقرب بها إلى الله عز وجل .
ومن عجب أن يبتدع الإنسان بدعة تتعلق بذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته ثم يقول إنه في ذلك معظم لربه ، إنه في ذلك منزه لربه ، إنه في ذلك ممتثل لقوله تعالى ( فلا تجعلوا لله أندادا ) ـ البقرة، إنك لتعجب من هذا أن يبتدع هذه البدعة في دين الله المتعلقة بذات الله التي ليس عليها سلف الأمة ولا أئمتها ثم يقول إنه هو المنزه لله وإنه هو المعظم لله وإنه هو الممتثل لقول الله تعالى ( فلا تجعلوا لله أندادا) وأن من خالف ذلك فهو ممثل مشبه أو نحو ذلك من ألقاب السوء .
كما أنك لتعجب من قوم يبتدعون في دين الله ما ليس منه فيما يتعلق برسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ويدعون بذلك أنهم هم المحبون لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وأنهم المعظمون لرسول الله ،صلى الله عليه وسلم ، وإن من لم يوافقهم في بدعتهم هذه فإنه مبغض لرسول الله ،صلى الله عليه وسلم ، إلى غير ذلك من ألقاب السوء التي يلقبون بها من لم يوافقهم على بدعتهم فيما يتعلق برسول الله ، صلى الله عليه وسلم .
ومن العجب أن مثل هؤلاء يقولون نحن المعظمون لله ولرسوله، وهم إذا ابتدعوا في دين الله وفي شريعته التي جاء بها رسول الله ما ليس منها فإنهم بلا شك متقدمون بين يدي الله ورسوله وقد قال الله عز وجل ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ، واتقوا الله ، إن الله سميع عليم ) الحجرات.
أيها الأخوة : إني سائلكم ومناشدكم بالله عز وجل وأريد منكم أن يكون الجواب من ضمائركم لا من عواطفكم ، من مقتضى دينكم لا من مقتضى تقليدكم .
ما تقولون فيمن يبتدعون في دين الله ما ليس منه سواء فيما يتعلق بذات الله وصفات الله وأسماء الله أو فيما يتعلق برسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ثم يقولون نحن المعظمون لله ولرسول الله أهؤلاء أحق بأن يكونوا معظمين لله ولرسول الله؟ أم أولئك القوم الذين لا يحيدون قيد أنمله عن شريعة الله ، يقولون فيما جاء من الشريعة آمنا وصدقنا فيما أخبرنا به وسمعنا وأطعنا ، فيما أمرنا به أو نهينا عنه ، ويقولون فيما لم تأت به الشريعة أحجمنا وانتهينا وليس لنا أن نتقدم بين يدي الله ورسوله ، وليس لنا أن نقول في دين الله ما ليس منه .
أيهما أحق أن يكون محبا لله ورسوله ومعظما لله ورسوله ؟ لا شك أن الذين قالوا آمنا وصدقنا فيما أخبرنا به وسمعنا وأطعنا فيما أمرنا به وقالوا كففنا وانتهينا عما لم نؤمر به ، وقالوا نحن أقل قدرا في نفوسنا من أن نجعل في شريعة الله ما ليس منها أو أن نبتدع في دين الله ما ليس منه ، لا شك أن هؤلاء هم الذين عرفوا قدر أنفسهم وعرفوا قدر خالقهم هم الذين عظموا الله ورسوله وهم الذين أظهروا صدق محبتهم لله ورسوله .
لا أولئك الذين يبتدعون في دين الله ما ليس منه في العقيدة أو القول أو العمل وإنك لتعجب من قوم يعرفون قول رسول الله ،صلى الله عليه وسلم ، ( إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار )، ويعلمون أن قوله ( كل بدعة) كلية عامة شاملة مسورة بأقوى أدوات الشمول والعموم ( كل ) والذي نطق بهذه الكلية صلوات الله وسلامه عليه يعلم مدلول هذا اللفظ وهو أفصح الخلق ، وأنصح الخلق . .