ضوابط الاقتباس من القرآن الكريم فى الأعمال الأدبية
الدكتور أحمد الخطيب
بينما كنت أتجول فى مواقع الإنترنيت متصفحا الأخبار الخفيفة والمقالات السريعة جذبت نظري رسالة فى موقع منها يسأل فيها أحد الغيورين على القرآن عن حكم الشرع فى قضية الاقتباس من القرآن الكريم فى الأعمال الأدبية ، والسائل يقصد الأعمال الأدبية الماجنة الخارجة عن حد الأدب لأنه –حفظه الله - قد استشهد بهذا الأنموذج القذر الذي يقول: "أنت الآن قاب شفتين، أو أدنى ، من الحب، فهزي إليك بجذع اللحظة وصلى لنا صلى وتناسلي وتساقطي عشقًا شهيًا".
ويشرفني أن أعلن جهلي بقائل هذا السخف ، وقد يكون الجهل أحيانا شرفا، لكن وسائل الإعلام كانت قد طالعتنا أيضا بأنموذج آخر من بلاد المغرب قصيدة أخرى لشاعرة تتهكم فيها من الحديث النبوي القائل: " إن المرأة خلقت من ضلع أعوج " وترمى باللعنة قائل هذا الكلام فتقول – عاملها الله بعدله -: "ملعون يا سيدتي من قال عنك من ضلع أعوج خرجت"..
ثم تقول :
"ملعون منذ الخليقة من قال عنك : عورة من صوتك إلي أخمص قدميك"
هل ترون إلى أي مدى وصلت بنا الحرية المشبوهة ...
إن الحكم بتطبيق مبادئ الحرية أو عدم تطبيقها أصبح يقاس بمدى تقبل الطعن فى أعز ما يملكه الإنسان – وهو الهوية الدينية – أو عدم تقبله، وبالطبع فإن ما صدر عن هذه المغربية لا يعد من الاقتباس فى شيء ، بل هو تعد ومحادَّة لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، والسبب فى ذكره هو الكشف عن وجه آخر خبيث يحارب باسم الحرية والإبداع كل مظهر ديني بلا تورع ولو كان المحارَب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان من الممكن أن نغض الطرف عن هؤلاء وأمثالهم بحجة أن أمرهم أهون من أن يعول عليه ، وأن كلامهم أحقر من أن يناقش ، لولا حسالة من خفافيش الظلام ، يعلو صوتها فى الليل البهيم الأليل مدافعة عن هؤلاء ، بدعوى حرية الفكر ، وأن من يعارض هذا العمل البديع فى أعينهم التى لا تبصر، إنما يقف فى وجه المبدعين الذين يريدون أن ينهضوا بالمجتمع ، ويضعوه على عتبة التقدم.
ألا فليطمئن السائل الكريم الغيور على قرآن ربه ودينه ، وليقرأ تاريخ التعدي على القرآن جيدا وكيف بارت محاولات كل من حاولوا التعدي عليه بأي شكل من الأشكال وباءت بالفشل الذريع ، وبقى القرآن حجة على الظالمين فى كل عصر وحين وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فيا عزيزي ما أشبه الليلة بالبارحة ، فليست هذه أول مرة يتعرض فيها القرآن لمثل هذه الحملات المغرضة التى تهدف إلى الحط من قدسيته ، فكل عصر له شياطينه ، فقد قام قديما أحد الشعراء الذين يهيمون فى كل واد بعمل كهذا قال فيه:
أوحى إلى عشاقه طرفه هيهات هيهات لما توعدون
وردفه ينطق من خلفه لمثل ذا فليعمل العاملون
وقال آخر:
قسما بشمس جبينه وضحاها ونهار مبسمه إذا جلاها
وبنار خديه المشعشع نورها وبليل صدغيه إذا يغشاها
لقد ادعيت دعاويا في حبه صدقت وأفلح من بذا زكاها
فنفوس عذالي عليه وعذري قد ألهمت بفجورها تقواها
فالعذر أسعدها مقيم دليله والعذل منبعث له أشقاها
وماذا خسر القرآن بذلك؟ لا شئ ، إلا كما تخسر الصخرة من ناطحها!!
وقد ينقلنا ذلك إلى التنويه باتجاه آخر من الاقتباس من القرآن الكريم والسنة النبوية فى الأعمال الأدبية العفة ثم تلحين هذه الأعمال والترنم بها على آلات الموسيقى ويتنامى إلى ذهني الآن عملان قد أثارا ضجة إعلامية وسخطا لدى الغيورين على القرآن
العمل الأول: تلك القصيدة التى نظمها شاعر فلسطيني وهي جزء من ديوانه " ورد أقل " عام 1986م. ولحنها أحد المطربين([2]) ليتغنى بها ومن فقراتها التى جاءت فيها كما قرأت ذلك فى مقال للمفكر العظيم د. محمد سليم العوا:
"ماذا صنعت لهم يا أبي؟
الفراشات حطت على كتفيَّ،
ومالت عليّ السنابل،
والطير حطت على راحتي،
فماذا فعلت أنا يا أبي؟".
يقول د. العوا: يضع الشاعر هذا المقطع بين مقطعين يذكر في أولهما عدوان إخوة يوسف عليه وفي الثاني يقول :
"همو أوقعوني في الجب،
واتهموا الذئب،
والذئب أرحم من إخوتي ..
أبتِ هل جنيت على أحد
عندما قلت إني: رأيت أحد عشر كوكبًا،
والشمس والقمر
رأيتهم لي ساجدين؟".
وهذا الجزء الأخير " إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين " هو جزء من الآية (4) من سورة يوسف.
العمل الثاني : تلك القصيدة التى لحنها مطرب كويتى وتغنى بها وقد أثارت بلبلة عما قريب حيث جاء فيها:
الحمد لله رب العالمين
وإياك نعبد وإياك نستعين إياك
وحينما أثيرت هاتان القضيتان وكان ذلك فى وقتين مختلفين برز نفس السؤال عن حكم الاقتباس من القرآن الكريم فى الشعر.
وها نحن نحاول إلقاء الضوء على قضية الاقتباس هذه:
ما المقصود من الاقتباس؟
الاقتباس هو تضمين الشعر أو النثر بعض القرآن ، لا على أنه منه ، فلا يدخل فى الاقتباس إذن ما إذا قيل قبل الكلام المقتبس: قال الله تعالى ونحوه لأنه ليس باقتباس ، بل هي إحالة ، وفى الاقتباس قد يقع شئ من تغيير فى النص المقتبس منه ، وهو بذلك يختلف عن التضمين الذى يشترط فيه تمام المطابقة وعدم التغيير.
ويتنوع الاقتباس إلى نوعين : أحدهما : ما لم ينقل فيه المقتبس ( بفتح الباء ) عن معناه الأصلي، ومنه قول الشاعر :
قد كان ما خفت أن يكونا إنا إلى الله راجعونا
وهذا من الاقتباس الذي فيه تغيير يسير، لأن الآية " إنا إليه راجعون " ( البقرة: 156) ومنه قول الحريري:
"فلم يكن إلا كلمح البصر أو أقرب حتى أنشد فأغرب" فإن الحريري كنى به عن شدة القرب وكذلك هو في الآية الشريفة.
والثاني : ما نقل فيه المقتبس عن معناه الأصلي كقول ابن الرومي :
لئن أخطأت في مدحك ما أخطأت في منعي
لقد أنزلت حاجاتي ( بواد غير ذي زرع )
فقوله { بواد غير ذي زرع } اقتباس من القرآن الكريم ( من سورة إبراهيم:37) وهي في القرآن الكريم بمعنى " مكة المكرمة، إذ لا ماء فيها ولا نبات، فنقله الشاعر عن هذا المعنى الحقيقي إلى معنى مجازي هو : " لا نفع فيه ولا خير " .
حكم الاقتباس فى ضوء ما يراه علماء الشرع :
إذا أردنا أن نقف على الحكم الشرعى فى قضية الاقتباس فإنه يجب علينا أولا أن نفرق بين حالتين للاقتباس الأولى أن يكون فى الشعر ، والأخرى أن يكون فى النثر وإليك البيان:
أولا- الاقتباس فى الشعر
يرى بعض الفقهاء أن الاقتباس فى الشعر غير جائز أصلا لأنه يجب أن ينزه القرآن عن الشعر مطلقا وإن حسن الغرض وشرف المقصد إذ كيف يجوز ذلك فى ضوء نفى وصف الشعر عن القرآن الكريم بمقتضى آيات القرآن الكريم والتى منها قوله تعالى: " وما هو بقول شاعر " وقوله تعالى: " وما علمناه الشعر وما ينبغى له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين " وإذا كان بعض الفقهاء قد تحفظوا على الاقتباس من القرآن الكريم فى الشعر وإن كان فى مقامات شريفة ، فإنهم قد أجمعوا على منع ذلك إذا كان الكلام غير لائق بالقرآن الكريم ، ومن ذلك أبيات الشعر التى حوت آيات من القرآن فى مقامات هزلية ، ويدخل فى هذا الحكم ذلك العمل المأفون الذى سأل عنه السائل المشار إليه فى مستهل المقال.
وأما فى الأغراض اللائقة ، فمنعه بعض المالكية وأجازه غيرهم ، وخص بعض المجيزين أن يكون ذلك فى مقام الوعظ والثناء وفى النثر دون الشعر، وفى ضوء ذلك يلحظ أنه من الظلم أن نوازى بين كل من قصيدتى الشاعر الفلسطيني والأخرى التى لحنها المطرب الكويتي وبين ما أشير إليه فى بداية المقال من أعمال ماجنة لأن كلا من قصيدة الشاعر الفلسطيني والقصيدة الأخرى المتعلقة بقضية المطرب الكويتى هما من جهة كونهما شعرا تضمن اقتباسا من القرآن الكريم لا شئ فيه ، لأنهما قصيدتان هادفتان بعيدتان كل البعد من المقاصد والأغراض المخلة - وقد وقع مثل ذلك كثيرا من الشعراء الذين لا يشك فى حميتهم الدينية فلم ينكر عليهم ، إلا من بعض المالكية ، ومن الرموز فى عصرنا الحديث الذين اقتبسوا من القرآن الكريم فى أشعارهم فضيلة الشيخ الشعراوى رحمه الله تعالى – لكن هذا لا ينفى أنهما تناقشان من جهة كونهما لحنا غنائيا حيث إن ذلك محظور شرعا فيما يتعلق بالقرآن الكريم.
ثانيا- الاقتباس فى النثر
الاقتباس فى النثر لاشئ فيه إذا حسن الغرض وشرف المقصد وقد وقع فى كلام النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم من ذلك الكثير، وقد برز ذلك فى رسائله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى الفرس وهرقل الروم وغيرهما ، ففى رسالته إلى كسرى التى أرسلها مع عبد الله بن حذافة جاء فيها : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وأدعوك بدعاية الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة " لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين " وهو اقتباس من قوله تعالى: " لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَياًّ وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ " (يس:70)وفى رسالته إلى هرقل الروم جاء: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسين أي الفلاحين ويأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون وهو اقتباس من قوله تعالى: " قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران: 64)
وختاما وبعد هذا العرض يتضح لنا أن الاقتباس هو مباح بضوابط ، أقلها ألا يكون فى الأعمال الماجنة التى لا ترعى لله حقا ، فلعنة الله والملائكة والناس أجمعين على قوم لا يقيمون للدين شأنا "وسيعلم الذين ظلموا أىّ منقلب ينقلبون "
فاللهم هيء لنا الخير واعزم لنا على الرشد وآتنا من لدنك رحمة ، واكتب لنا السلامة فى الرأى وجنبنا فتنة الشيطان أن يقوى بها فنضعف , أو نضعف لها فيقوى , واعصمنا يا ربنا أن تكون آراؤنا فى الحق البين مكان الليل من نهاره , أو تنزل ظنوننا من اليقين النير منزلة الدخان من ناره , نسألك بوجهك ونتوسل إليك بحمدك وندعوك بأفئدة عرفتك حين كذب غيرها فأقرت , وأمنت بك فزلزل غيرها واستقرت ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور أحمد الخطيب
بينما كنت أتجول فى مواقع الإنترنيت متصفحا الأخبار الخفيفة والمقالات السريعة جذبت نظري رسالة فى موقع منها يسأل فيها أحد الغيورين على القرآن عن حكم الشرع فى قضية الاقتباس من القرآن الكريم فى الأعمال الأدبية ، والسائل يقصد الأعمال الأدبية الماجنة الخارجة عن حد الأدب لأنه –حفظه الله - قد استشهد بهذا الأنموذج القذر الذي يقول: "أنت الآن قاب شفتين، أو أدنى ، من الحب، فهزي إليك بجذع اللحظة وصلى لنا صلى وتناسلي وتساقطي عشقًا شهيًا".
ويشرفني أن أعلن جهلي بقائل هذا السخف ، وقد يكون الجهل أحيانا شرفا، لكن وسائل الإعلام كانت قد طالعتنا أيضا بأنموذج آخر من بلاد المغرب قصيدة أخرى لشاعرة تتهكم فيها من الحديث النبوي القائل: " إن المرأة خلقت من ضلع أعوج " وترمى باللعنة قائل هذا الكلام فتقول – عاملها الله بعدله -: "ملعون يا سيدتي من قال عنك من ضلع أعوج خرجت"..
ثم تقول :
"ملعون منذ الخليقة من قال عنك : عورة من صوتك إلي أخمص قدميك"
هل ترون إلى أي مدى وصلت بنا الحرية المشبوهة ...
إن الحكم بتطبيق مبادئ الحرية أو عدم تطبيقها أصبح يقاس بمدى تقبل الطعن فى أعز ما يملكه الإنسان – وهو الهوية الدينية – أو عدم تقبله، وبالطبع فإن ما صدر عن هذه المغربية لا يعد من الاقتباس فى شيء ، بل هو تعد ومحادَّة لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، والسبب فى ذكره هو الكشف عن وجه آخر خبيث يحارب باسم الحرية والإبداع كل مظهر ديني بلا تورع ولو كان المحارَب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان من الممكن أن نغض الطرف عن هؤلاء وأمثالهم بحجة أن أمرهم أهون من أن يعول عليه ، وأن كلامهم أحقر من أن يناقش ، لولا حسالة من خفافيش الظلام ، يعلو صوتها فى الليل البهيم الأليل مدافعة عن هؤلاء ، بدعوى حرية الفكر ، وأن من يعارض هذا العمل البديع فى أعينهم التى لا تبصر، إنما يقف فى وجه المبدعين الذين يريدون أن ينهضوا بالمجتمع ، ويضعوه على عتبة التقدم.
ألا فليطمئن السائل الكريم الغيور على قرآن ربه ودينه ، وليقرأ تاريخ التعدي على القرآن جيدا وكيف بارت محاولات كل من حاولوا التعدي عليه بأي شكل من الأشكال وباءت بالفشل الذريع ، وبقى القرآن حجة على الظالمين فى كل عصر وحين وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فيا عزيزي ما أشبه الليلة بالبارحة ، فليست هذه أول مرة يتعرض فيها القرآن لمثل هذه الحملات المغرضة التى تهدف إلى الحط من قدسيته ، فكل عصر له شياطينه ، فقد قام قديما أحد الشعراء الذين يهيمون فى كل واد بعمل كهذا قال فيه:
أوحى إلى عشاقه طرفه هيهات هيهات لما توعدون
وردفه ينطق من خلفه لمثل ذا فليعمل العاملون
وقال آخر:
قسما بشمس جبينه وضحاها ونهار مبسمه إذا جلاها
وبنار خديه المشعشع نورها وبليل صدغيه إذا يغشاها
لقد ادعيت دعاويا في حبه صدقت وأفلح من بذا زكاها
فنفوس عذالي عليه وعذري قد ألهمت بفجورها تقواها
فالعذر أسعدها مقيم دليله والعذل منبعث له أشقاها
وماذا خسر القرآن بذلك؟ لا شئ ، إلا كما تخسر الصخرة من ناطحها!!
وقد ينقلنا ذلك إلى التنويه باتجاه آخر من الاقتباس من القرآن الكريم والسنة النبوية فى الأعمال الأدبية العفة ثم تلحين هذه الأعمال والترنم بها على آلات الموسيقى ويتنامى إلى ذهني الآن عملان قد أثارا ضجة إعلامية وسخطا لدى الغيورين على القرآن
العمل الأول: تلك القصيدة التى نظمها شاعر فلسطيني وهي جزء من ديوانه " ورد أقل " عام 1986م. ولحنها أحد المطربين([2]) ليتغنى بها ومن فقراتها التى جاءت فيها كما قرأت ذلك فى مقال للمفكر العظيم د. محمد سليم العوا:
"ماذا صنعت لهم يا أبي؟
الفراشات حطت على كتفيَّ،
ومالت عليّ السنابل،
والطير حطت على راحتي،
فماذا فعلت أنا يا أبي؟".
يقول د. العوا: يضع الشاعر هذا المقطع بين مقطعين يذكر في أولهما عدوان إخوة يوسف عليه وفي الثاني يقول :
"همو أوقعوني في الجب،
واتهموا الذئب،
والذئب أرحم من إخوتي ..
أبتِ هل جنيت على أحد
عندما قلت إني: رأيت أحد عشر كوكبًا،
والشمس والقمر
رأيتهم لي ساجدين؟".
وهذا الجزء الأخير " إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين " هو جزء من الآية (4) من سورة يوسف.
العمل الثاني : تلك القصيدة التى لحنها مطرب كويتى وتغنى بها وقد أثارت بلبلة عما قريب حيث جاء فيها:
الحمد لله رب العالمين
وإياك نعبد وإياك نستعين إياك
وحينما أثيرت هاتان القضيتان وكان ذلك فى وقتين مختلفين برز نفس السؤال عن حكم الاقتباس من القرآن الكريم فى الشعر.
وها نحن نحاول إلقاء الضوء على قضية الاقتباس هذه:
ما المقصود من الاقتباس؟
الاقتباس هو تضمين الشعر أو النثر بعض القرآن ، لا على أنه منه ، فلا يدخل فى الاقتباس إذن ما إذا قيل قبل الكلام المقتبس: قال الله تعالى ونحوه لأنه ليس باقتباس ، بل هي إحالة ، وفى الاقتباس قد يقع شئ من تغيير فى النص المقتبس منه ، وهو بذلك يختلف عن التضمين الذى يشترط فيه تمام المطابقة وعدم التغيير.
ويتنوع الاقتباس إلى نوعين : أحدهما : ما لم ينقل فيه المقتبس ( بفتح الباء ) عن معناه الأصلي، ومنه قول الشاعر :
قد كان ما خفت أن يكونا إنا إلى الله راجعونا
وهذا من الاقتباس الذي فيه تغيير يسير، لأن الآية " إنا إليه راجعون " ( البقرة: 156) ومنه قول الحريري:
"فلم يكن إلا كلمح البصر أو أقرب حتى أنشد فأغرب" فإن الحريري كنى به عن شدة القرب وكذلك هو في الآية الشريفة.
والثاني : ما نقل فيه المقتبس عن معناه الأصلي كقول ابن الرومي :
لئن أخطأت في مدحك ما أخطأت في منعي
لقد أنزلت حاجاتي ( بواد غير ذي زرع )
فقوله { بواد غير ذي زرع } اقتباس من القرآن الكريم ( من سورة إبراهيم:37) وهي في القرآن الكريم بمعنى " مكة المكرمة، إذ لا ماء فيها ولا نبات، فنقله الشاعر عن هذا المعنى الحقيقي إلى معنى مجازي هو : " لا نفع فيه ولا خير " .
حكم الاقتباس فى ضوء ما يراه علماء الشرع :
إذا أردنا أن نقف على الحكم الشرعى فى قضية الاقتباس فإنه يجب علينا أولا أن نفرق بين حالتين للاقتباس الأولى أن يكون فى الشعر ، والأخرى أن يكون فى النثر وإليك البيان:
أولا- الاقتباس فى الشعر
يرى بعض الفقهاء أن الاقتباس فى الشعر غير جائز أصلا لأنه يجب أن ينزه القرآن عن الشعر مطلقا وإن حسن الغرض وشرف المقصد إذ كيف يجوز ذلك فى ضوء نفى وصف الشعر عن القرآن الكريم بمقتضى آيات القرآن الكريم والتى منها قوله تعالى: " وما هو بقول شاعر " وقوله تعالى: " وما علمناه الشعر وما ينبغى له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين " وإذا كان بعض الفقهاء قد تحفظوا على الاقتباس من القرآن الكريم فى الشعر وإن كان فى مقامات شريفة ، فإنهم قد أجمعوا على منع ذلك إذا كان الكلام غير لائق بالقرآن الكريم ، ومن ذلك أبيات الشعر التى حوت آيات من القرآن فى مقامات هزلية ، ويدخل فى هذا الحكم ذلك العمل المأفون الذى سأل عنه السائل المشار إليه فى مستهل المقال.
وأما فى الأغراض اللائقة ، فمنعه بعض المالكية وأجازه غيرهم ، وخص بعض المجيزين أن يكون ذلك فى مقام الوعظ والثناء وفى النثر دون الشعر، وفى ضوء ذلك يلحظ أنه من الظلم أن نوازى بين كل من قصيدتى الشاعر الفلسطيني والأخرى التى لحنها المطرب الكويتي وبين ما أشير إليه فى بداية المقال من أعمال ماجنة لأن كلا من قصيدة الشاعر الفلسطيني والقصيدة الأخرى المتعلقة بقضية المطرب الكويتى هما من جهة كونهما شعرا تضمن اقتباسا من القرآن الكريم لا شئ فيه ، لأنهما قصيدتان هادفتان بعيدتان كل البعد من المقاصد والأغراض المخلة - وقد وقع مثل ذلك كثيرا من الشعراء الذين لا يشك فى حميتهم الدينية فلم ينكر عليهم ، إلا من بعض المالكية ، ومن الرموز فى عصرنا الحديث الذين اقتبسوا من القرآن الكريم فى أشعارهم فضيلة الشيخ الشعراوى رحمه الله تعالى – لكن هذا لا ينفى أنهما تناقشان من جهة كونهما لحنا غنائيا حيث إن ذلك محظور شرعا فيما يتعلق بالقرآن الكريم.
ثانيا- الاقتباس فى النثر
الاقتباس فى النثر لاشئ فيه إذا حسن الغرض وشرف المقصد وقد وقع فى كلام النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم من ذلك الكثير، وقد برز ذلك فى رسائله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى الفرس وهرقل الروم وغيرهما ، ففى رسالته إلى كسرى التى أرسلها مع عبد الله بن حذافة جاء فيها : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وأدعوك بدعاية الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة " لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين " وهو اقتباس من قوله تعالى: " لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَياًّ وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ " (يس:70)وفى رسالته إلى هرقل الروم جاء: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسين أي الفلاحين ويأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون وهو اقتباس من قوله تعالى: " قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران: 64)
وختاما وبعد هذا العرض يتضح لنا أن الاقتباس هو مباح بضوابط ، أقلها ألا يكون فى الأعمال الماجنة التى لا ترعى لله حقا ، فلعنة الله والملائكة والناس أجمعين على قوم لا يقيمون للدين شأنا "وسيعلم الذين ظلموا أىّ منقلب ينقلبون "
فاللهم هيء لنا الخير واعزم لنا على الرشد وآتنا من لدنك رحمة ، واكتب لنا السلامة فى الرأى وجنبنا فتنة الشيطان أن يقوى بها فنضعف , أو نضعف لها فيقوى , واعصمنا يا ربنا أن تكون آراؤنا فى الحق البين مكان الليل من نهاره , أو تنزل ظنوننا من اليقين النير منزلة الدخان من ناره , نسألك بوجهك ونتوسل إليك بحمدك وندعوك بأفئدة عرفتك حين كذب غيرها فأقرت , وأمنت بك فزلزل غيرها واستقرت ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
------------------------
([1]) أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر