شرح خطبة الحاجة ::
لفضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإننا في هذا اللقاء نتكلم عن معاني هذه الخطبة التي ابتدأنا بها حديثنا، التي تسمى: "خطبة الحاجة"، والتي علمها النبي صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، كي يبدءوا بها كلامهم وخطبهم.
• "إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره":
- الحمد: وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيماً وإجلالاً، فإذا وصفت ربك بالكمال، فهذا هو الحمد، لكن لابد أن يكون مصحوباً بالمحبة والتعظيم والإجلال، لأنه إن لم يكن مصحوباً بذلك سمي مدحاً لا حمداً، ومن ثم نجد بعض الشعراء يمدحون بعض الناس مدحاً عظيماً بالغاً، لكن لو فتشت عن قلبه لوجد أنه خال من محبة هذا الشخص، ولكنه يمدحه إما لرجاء منفعة، أو لدفع مضرة.
- أما حمدنا لله عز وجل فإنه حمد محبة وتعظيم وإجلال، إذ أن محبة الله تعالى فوق كل محبة، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق محبة كل مخلوق، ولهذا يجب علينا أن يكون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إلينا مما سواهما، يجب علينا أن تكون محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فوق محبة أنفسنا، وأهلنا، ووالدينا، وأولادنا، أما الله تعالى فلما له من الكمال والإفضال، فنعمه علينا لا تحصى، قال الله تعالى: {وما بكم من نعمةٍ فمن اللّه ثمّ إذا مسّكم الضّرّ فإليه تجئرون}، وقال عز وجل: {وإن تعدّوا نعمة اللّه لا تحصوهآ إنّ اللّه لغفورٌ رّحيمٌ}، وأما النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلأنه أعظم الناس حقاً علينا، به هدانا الله، وبه أرشدنا، وبه دلنا على كل خير، به بين لنا كل شر، به استدللنا على صراط ربنا عز وجل الموصل إلى دار كرامته ورضوانه.
فلهذا من لم يكن قلبه مملوءاً من محبة الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن لم يكن مقدماً لمحبة الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم على من سواهما، فليعلم أن في قلبه مرضاً، وليحرص على أن يعالج هذا المرض. قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما"، وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين".
إذاً الحمد: هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم والإجلال هذا هو الحمد، وإذا كررت هذا الوصف سمي ثناء، وعليه فالثناء تكرار وصف المحمود بالكمال، ويدل على هذا الفرق ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: {الحمد لله رب العالمين}، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم}، قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مالك يوم الدين}، قال: مجّدني عبدي".
تصور أن الله عز وجل يناجيك وأنت في صلاتك، يسمعك من فوق سبع سموات ويرد عليك، إذا قلت: {الحمد لله رب العالمين}، قال الله: "حمدني عبدي"، وإذا قلت: {الرحمن الرحيم}، قال: "أثنى علي عبدي"، وإذا قلت: {مالك يوم الدين}، قال: "مجدني عبدي". والتمجيد: التعظيم. ونقرأ الفاتحة على أنها ركن لا تصح الصلاة إلا بها، لكننا لا نشعر بهذه المعاني العظيمة، لا نشعر أننا نناجي الله سبحانه وتعالى.
من يشعر بهذا يجد لذة عظيمة للصلاة، ويجد أن قلبه استنار بها، وأنه خرج منها بقلب غير القلب الذي دخل فيها به.
• "الحمد لله نحمده" جملة نحمده: جملة فعلية، والحمد لله جملة اسمية، فجاءت الجملة الفعلية بعد الجملة الإسمية لتأكيد تكرار الحمد، كأننا مستمرون على حمد الله عز وجل.
• و"نستعينه" يعني نطلب منه العون على كل شيء من شؤوننا، وكل أمر من أمورنا، وأول ما يدخل في ذلك ما نحن فيه من الصلاة تقول: {إياك نعبد وإياك نستعين}، على كل شيء، ومنها أن نستعينك على أداء الصلاة على الوجه الذي يرضيك عنا، وعندما تبدأ بهذه الخطبة، بين يدي الحاجة فإنك تستعين الله تعالى على هذه الخطبة التي ستقولها، وتسأله العون على الحاجة التي افتتحها بهذه الخطبة.
وفي الحديث: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن". والاستخارة استعانة بالله عز وجل، استعن بالله في كل شيء، إذا أردت أن تقضي حاجتك فاستعن بالله في ذلك، لا تحقرن شيئاً حتى عند الوضوء، عند الخروج إلى المسجد، عند أي عمل، اجعل زادك الاستعانة بالله عز وجل.
• و"نستغفره" نسأله المغفرة، والمغفرة هي ستر الذنب مع التجاوز عنه، هذه المغفرة أن يستر الله عن العباد ذنبك، وأن يعفو عنك هذا الذنب.
ومعلوم أن الإنسان له ذنوب بينه وبين الله، ذنوب خفية في القلب، وذنوب خفية في الجوارح، لكن لا يعلم بها الناس، أرأيتم لو أن الله كشفها إذن لكانت محنة عظيمة، ولكن من رحمة الله عز وجل أن سترها عن العباد، فأنت تسأل الله أن يغفر لك، أي أن يستر عليك الذنوب، وأن يتجاوز عنها، فانتبه لهذا المعنى.
أنت عندما تقول: أستغفر الله، تسأل الله شيئين:
الأول: ستر الذنب.
والثاني: التجاوز عنه، بحيث لا يعاقبك الله عليه.
ويدل لهذا ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم".
تنبيه: نجد في بعض كتب العلماء الذين يبدأونها بهذه الخطبة: "نستغفره ونتوب إليه" ولكن بعد التحري لم نجد في الحديث "ونتوب إليه".
و"نعوذ بالله من شرور أنفسنا: "نعوذ"، بمعنى: نعتصم بالله من شرور أنفسنا، وهل في النفس شر؟ الجواب: نعم، في النفس شر، قال الله تعالى: {ومآ أبرىء نفسىۤ إنّ النّفس لأمّارةٌ بالسّوۤء إلاّ ما رحم ربى إنّ ربى غفورٌ رّحيمٌ}، والنفوس ثلاث:
- الأولى: نفس شريرة، وهي الأمارة بالسوء.
- الثانية: نفس خيّرة، وهي المطمئنة تأمر بالخير.
- الثالثة: نفس لوامة، وكلها مذكورة في القرآن.
فالنفس الشريرة التي تأمر بالسوء مذكورة في سورة يوسف: {ومآ أبرىء نفسىۤ إنّ النّفس لأمّارةٌ بالسّوۤء إلاّ ما رحم ربى إنّ ربى غفورٌ رّحيمٌ}، والنفس المطمئنة الخيرة التي تأمر بالخير مذكورة في سورة الفجر: {يٰأيّتها النّفس المطمئنّة * ارجعى إلىٰ ربك راضيةً مّرضيّةً * فادخلى في عبادى * وادخلى جنّتى}.
والنفس اللوامة مذكورة في سورة القيامة: {لا أقسم بيوم القيٰمة * ولا أقسم بالنّفس اللّوّامة}.
فهل النفس اللوامة غير النفسين الخيرة والسيئة؟ أو هي وصف للنفسين؟
من العلماء من يقول: إنها نفس ثالثة.
ومنهم من يقول: بل هي وصف للنفسين السابقتين، فمثلاً: النفس الخيرة تلومك إذا عملت سوءاً، أو فرطت في واجب، والنفس الشريرة تلومك إذا فعلت خيراً أو تجنبت محرماً تلومك في ذلك؛ كيف تحجر على نفسك؟ لماذا لا تتحرر؟ لماذا لا تنفذ كل ما تريد؟
وأيّاً كان الأمر سواء كانت نفساً ثالثة، أو هي وصف للنفسين الأمارة بالسوء والمطمئنة، فإن للنفس الشريرة علامة تعرف بها وهي أن تأمرك بالشر، تأمرك بالكذب، تأمرك بالغيبة، تأمرك بالغش، تأمرك بالسرقة، تأمرك بالزنا، تأمرك بشرب الخمر ونحو ذلك، هذه هي النفس الشريرة التي تأمر بالسوء. النفس الخيرة بالعكس تأمرك بالخير، بالصلاة، بالذكر، بقراءة القرآن، بالصدقة، بغير ذلك مما يقرب إلى الله.
ونحن كلنا نجد في نفوسنا مصارعة بين هاتين النفسين، والموفق من عصمه الله ووقاه شر نفسه، ولهذا نقول: "نعوذ بالله من شرور أنفسنا"، فأنفسنا فيها شر إذا لم يعصمك الله عز وجل من شر نفسك هلكت: {ومآ أبرىء نفسىۤ إنّ النّفس لأمّارةٌ بالسّوۤء إلاّ ما رحم ربى إنّ ربى غفورٌ رّحيمٌ}.
• "ومن سيئات أعمالنا" أيضاً الأعمال السيئة لها آثار سيئة، كما قال تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدى النّاس ليذيقهم بعض الّذى عملوا لعلّهم يرجعون}، والسيئة تجلب السيئة، وتقود الإنسان إلى السيئة الأخرى، قال الله تعالى: {فإن تولّوا فاعلم أنّما يريد اللّه أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإنّ كثيراً من النّاس لفٰسقون}، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إن المعاصي بريد الكفر، يعني إذا هانت المعاصي في نفسك، هانت الصغيرة، ثم هانت الكبيرة، ثم هان الكفر في نفسك فكفرت والعياذ بالله.
ولهذا يجب على الإنسان أول ما يشعر بالمعصية أن يستغفر الله منها، وأن يلجأ إلى الله عز وجل بالإنابة والتوبة، حتى تمحى آثار هذه المعصية وحتى لا يختم على القلب، وحتى لا يصل الإنسان إلى هذه الدرجة، التي أشار الله إليها في قوله: {كلاّ بل ران علىٰ قلوبهم مّا كانوا يكسبون علىٰ قلوبهم مّا كانوا يكسبون}.
نسأل الله تعالى أن يصلح لنا ولكم العلانية والسريرة، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
• سؤال من أحد الحاضرين:
ذكرتم في تفسير "الحمد" الوارد في الخطبة أنه وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيماً وإجلالاً، فهل يمكن أن نقول بأن تعريف الحمد هو الثناء على الجميل بالجميل؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا ليس بصحيح، فالثناء على الجميل بالجميل هو معنى الشكر، ثم إننا أيدنا ما ذكرناه بأن الحمد ليس هو الثناء، بل الثناء تكرار الحمد، أيدناه بالحديث الصحيح الذي ذكرناه أثناء كلامنا على هذا.
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد صالح العثيمين - المجلد السادس عشر - كتاب صلاة الجمعة.نقلا عن
http://www.sahab.net/forums/showthread.php?t=359640
لفضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإننا في هذا اللقاء نتكلم عن معاني هذه الخطبة التي ابتدأنا بها حديثنا، التي تسمى: "خطبة الحاجة"، والتي علمها النبي صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، كي يبدءوا بها كلامهم وخطبهم.
• "إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره":
- الحمد: وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيماً وإجلالاً، فإذا وصفت ربك بالكمال، فهذا هو الحمد، لكن لابد أن يكون مصحوباً بالمحبة والتعظيم والإجلال، لأنه إن لم يكن مصحوباً بذلك سمي مدحاً لا حمداً، ومن ثم نجد بعض الشعراء يمدحون بعض الناس مدحاً عظيماً بالغاً، لكن لو فتشت عن قلبه لوجد أنه خال من محبة هذا الشخص، ولكنه يمدحه إما لرجاء منفعة، أو لدفع مضرة.
- أما حمدنا لله عز وجل فإنه حمد محبة وتعظيم وإجلال، إذ أن محبة الله تعالى فوق كل محبة، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق محبة كل مخلوق، ولهذا يجب علينا أن يكون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إلينا مما سواهما، يجب علينا أن تكون محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فوق محبة أنفسنا، وأهلنا، ووالدينا، وأولادنا، أما الله تعالى فلما له من الكمال والإفضال، فنعمه علينا لا تحصى، قال الله تعالى: {وما بكم من نعمةٍ فمن اللّه ثمّ إذا مسّكم الضّرّ فإليه تجئرون}، وقال عز وجل: {وإن تعدّوا نعمة اللّه لا تحصوهآ إنّ اللّه لغفورٌ رّحيمٌ}، وأما النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلأنه أعظم الناس حقاً علينا، به هدانا الله، وبه أرشدنا، وبه دلنا على كل خير، به بين لنا كل شر، به استدللنا على صراط ربنا عز وجل الموصل إلى دار كرامته ورضوانه.
فلهذا من لم يكن قلبه مملوءاً من محبة الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن لم يكن مقدماً لمحبة الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم على من سواهما، فليعلم أن في قلبه مرضاً، وليحرص على أن يعالج هذا المرض. قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما"، وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين".
إذاً الحمد: هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم والإجلال هذا هو الحمد، وإذا كررت هذا الوصف سمي ثناء، وعليه فالثناء تكرار وصف المحمود بالكمال، ويدل على هذا الفرق ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: {الحمد لله رب العالمين}، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم}، قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مالك يوم الدين}، قال: مجّدني عبدي".
تصور أن الله عز وجل يناجيك وأنت في صلاتك، يسمعك من فوق سبع سموات ويرد عليك، إذا قلت: {الحمد لله رب العالمين}، قال الله: "حمدني عبدي"، وإذا قلت: {الرحمن الرحيم}، قال: "أثنى علي عبدي"، وإذا قلت: {مالك يوم الدين}، قال: "مجدني عبدي". والتمجيد: التعظيم. ونقرأ الفاتحة على أنها ركن لا تصح الصلاة إلا بها، لكننا لا نشعر بهذه المعاني العظيمة، لا نشعر أننا نناجي الله سبحانه وتعالى.
من يشعر بهذا يجد لذة عظيمة للصلاة، ويجد أن قلبه استنار بها، وأنه خرج منها بقلب غير القلب الذي دخل فيها به.
• "الحمد لله نحمده" جملة نحمده: جملة فعلية، والحمد لله جملة اسمية، فجاءت الجملة الفعلية بعد الجملة الإسمية لتأكيد تكرار الحمد، كأننا مستمرون على حمد الله عز وجل.
• و"نستعينه" يعني نطلب منه العون على كل شيء من شؤوننا، وكل أمر من أمورنا، وأول ما يدخل في ذلك ما نحن فيه من الصلاة تقول: {إياك نعبد وإياك نستعين}، على كل شيء، ومنها أن نستعينك على أداء الصلاة على الوجه الذي يرضيك عنا، وعندما تبدأ بهذه الخطبة، بين يدي الحاجة فإنك تستعين الله تعالى على هذه الخطبة التي ستقولها، وتسأله العون على الحاجة التي افتتحها بهذه الخطبة.
وفي الحديث: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن". والاستخارة استعانة بالله عز وجل، استعن بالله في كل شيء، إذا أردت أن تقضي حاجتك فاستعن بالله في ذلك، لا تحقرن شيئاً حتى عند الوضوء، عند الخروج إلى المسجد، عند أي عمل، اجعل زادك الاستعانة بالله عز وجل.
• و"نستغفره" نسأله المغفرة، والمغفرة هي ستر الذنب مع التجاوز عنه، هذه المغفرة أن يستر الله عن العباد ذنبك، وأن يعفو عنك هذا الذنب.
ومعلوم أن الإنسان له ذنوب بينه وبين الله، ذنوب خفية في القلب، وذنوب خفية في الجوارح، لكن لا يعلم بها الناس، أرأيتم لو أن الله كشفها إذن لكانت محنة عظيمة، ولكن من رحمة الله عز وجل أن سترها عن العباد، فأنت تسأل الله أن يغفر لك، أي أن يستر عليك الذنوب، وأن يتجاوز عنها، فانتبه لهذا المعنى.
أنت عندما تقول: أستغفر الله، تسأل الله شيئين:
الأول: ستر الذنب.
والثاني: التجاوز عنه، بحيث لا يعاقبك الله عليه.
ويدل لهذا ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم".
تنبيه: نجد في بعض كتب العلماء الذين يبدأونها بهذه الخطبة: "نستغفره ونتوب إليه" ولكن بعد التحري لم نجد في الحديث "ونتوب إليه".
و"نعوذ بالله من شرور أنفسنا: "نعوذ"، بمعنى: نعتصم بالله من شرور أنفسنا، وهل في النفس شر؟ الجواب: نعم، في النفس شر، قال الله تعالى: {ومآ أبرىء نفسىۤ إنّ النّفس لأمّارةٌ بالسّوۤء إلاّ ما رحم ربى إنّ ربى غفورٌ رّحيمٌ}، والنفوس ثلاث:
- الأولى: نفس شريرة، وهي الأمارة بالسوء.
- الثانية: نفس خيّرة، وهي المطمئنة تأمر بالخير.
- الثالثة: نفس لوامة، وكلها مذكورة في القرآن.
فالنفس الشريرة التي تأمر بالسوء مذكورة في سورة يوسف: {ومآ أبرىء نفسىۤ إنّ النّفس لأمّارةٌ بالسّوۤء إلاّ ما رحم ربى إنّ ربى غفورٌ رّحيمٌ}، والنفس المطمئنة الخيرة التي تأمر بالخير مذكورة في سورة الفجر: {يٰأيّتها النّفس المطمئنّة * ارجعى إلىٰ ربك راضيةً مّرضيّةً * فادخلى في عبادى * وادخلى جنّتى}.
والنفس اللوامة مذكورة في سورة القيامة: {لا أقسم بيوم القيٰمة * ولا أقسم بالنّفس اللّوّامة}.
فهل النفس اللوامة غير النفسين الخيرة والسيئة؟ أو هي وصف للنفسين؟
من العلماء من يقول: إنها نفس ثالثة.
ومنهم من يقول: بل هي وصف للنفسين السابقتين، فمثلاً: النفس الخيرة تلومك إذا عملت سوءاً، أو فرطت في واجب، والنفس الشريرة تلومك إذا فعلت خيراً أو تجنبت محرماً تلومك في ذلك؛ كيف تحجر على نفسك؟ لماذا لا تتحرر؟ لماذا لا تنفذ كل ما تريد؟
وأيّاً كان الأمر سواء كانت نفساً ثالثة، أو هي وصف للنفسين الأمارة بالسوء والمطمئنة، فإن للنفس الشريرة علامة تعرف بها وهي أن تأمرك بالشر، تأمرك بالكذب، تأمرك بالغيبة، تأمرك بالغش، تأمرك بالسرقة، تأمرك بالزنا، تأمرك بشرب الخمر ونحو ذلك، هذه هي النفس الشريرة التي تأمر بالسوء. النفس الخيرة بالعكس تأمرك بالخير، بالصلاة، بالذكر، بقراءة القرآن، بالصدقة، بغير ذلك مما يقرب إلى الله.
ونحن كلنا نجد في نفوسنا مصارعة بين هاتين النفسين، والموفق من عصمه الله ووقاه شر نفسه، ولهذا نقول: "نعوذ بالله من شرور أنفسنا"، فأنفسنا فيها شر إذا لم يعصمك الله عز وجل من شر نفسك هلكت: {ومآ أبرىء نفسىۤ إنّ النّفس لأمّارةٌ بالسّوۤء إلاّ ما رحم ربى إنّ ربى غفورٌ رّحيمٌ}.
• "ومن سيئات أعمالنا" أيضاً الأعمال السيئة لها آثار سيئة، كما قال تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدى النّاس ليذيقهم بعض الّذى عملوا لعلّهم يرجعون}، والسيئة تجلب السيئة، وتقود الإنسان إلى السيئة الأخرى، قال الله تعالى: {فإن تولّوا فاعلم أنّما يريد اللّه أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإنّ كثيراً من النّاس لفٰسقون}، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إن المعاصي بريد الكفر، يعني إذا هانت المعاصي في نفسك، هانت الصغيرة، ثم هانت الكبيرة، ثم هان الكفر في نفسك فكفرت والعياذ بالله.
ولهذا يجب على الإنسان أول ما يشعر بالمعصية أن يستغفر الله منها، وأن يلجأ إلى الله عز وجل بالإنابة والتوبة، حتى تمحى آثار هذه المعصية وحتى لا يختم على القلب، وحتى لا يصل الإنسان إلى هذه الدرجة، التي أشار الله إليها في قوله: {كلاّ بل ران علىٰ قلوبهم مّا كانوا يكسبون علىٰ قلوبهم مّا كانوا يكسبون}.
نسأل الله تعالى أن يصلح لنا ولكم العلانية والسريرة، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
• سؤال من أحد الحاضرين:
ذكرتم في تفسير "الحمد" الوارد في الخطبة أنه وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيماً وإجلالاً، فهل يمكن أن نقول بأن تعريف الحمد هو الثناء على الجميل بالجميل؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا ليس بصحيح، فالثناء على الجميل بالجميل هو معنى الشكر، ثم إننا أيدنا ما ذكرناه بأن الحمد ليس هو الثناء، بل الثناء تكرار الحمد، أيدناه بالحديث الصحيح الذي ذكرناه أثناء كلامنا على هذا.
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد صالح العثيمين - المجلد السادس عشر - كتاب صلاة الجمعة.نقلا عن
http://www.sahab.net/forums/showthread.php?t=359640