[size=24][center][b][color=red]التحذير من فتنة القبور
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد :
فإن السعادة العظمى والكرامة الكبرى في الآخرة والأولى لا تحصل إلا بمتابعة النبي المصطفى والرسول المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما قال تعالى ((وإن تطيعوه تهتدوا))
وإن برهان الحب ودليل الصدق يكون بتمام الانقياد والإتباع لله ولرسوله كما قال تعالى ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)) بل إن برهان الإيمان وتصديق الإسلام والفوز والفلاح في الدارين بالتسليم لأمر الله ورسوله فيما جاء في شرع الله ودينه كما قال تعالى ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)) وقال تعالى ((إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون * ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون)) وقد حذرنا الله تعالى من الشيطان وأولياءه أن يكيدونا بمكائدهم عن هذا الفلاح والفوز الذي أراده الله تعالى للمؤمنين الصادقين فحذرنا جل وعلا من أن نترك أتباعه فنتبع هذا العدو المبين قال تعالى ((أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً)) وقال تعالى محذراً من فتنة الشيطان وكيده بما حكاه عنه سبحانه (( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ )) وإن من أعظم مكائده وأكبر فتنه فتنة القبور وعبادة الأصنام وقد تظافرت الأدلة الشرعية الكثيرة في التحذير من هاتين الفتنتين فكان أول دعوة الرسل في التحذير منهما قال تعالى عن نوح عليه السلام ((قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً * ومكروا مكراً كبارا * وقالوا لا تذرن آلهتكم و لا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً)) وروى البخاري في صحيحة عن عطاء عن ابن عباس [قال كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح عليه السلام فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم] "البخاري برقم 4920" فجمعوا بين الفتنتين فتنة عبادة الأصنام وفتنة عبادة القبور ونحوه ما روي عن مجاهد وغيره في قوله تعالى ((أفرأيتم اللات و العزى)) بأن اللات رجل كان يلت السويق فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه. وقال الله عز وجل ((ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)) والطاغوت ما تجاوز العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع , وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام التي تحذر من هذا الشرك كثيرة في القرآن.
وأما ما جاء في سنة نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم في التحذير من هاتين الفتنتين فكثيرة ومن ذلك :
1. نهي النبي صلى الله عليه وعلى وسلم من أن تتخذ القبور مساجداً ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال في مرضه الذي لم يقم منه {لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد} يحذر ما صنعوا قالت ولولا ذلك لأبرز قبره عليه السلام ولكن خشي أن يتخذ مسجداً " البخاري 1330 , مسلم531 واللفظ له " , وعن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبل أن يموت بخمس يقول {ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبياءهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك} "مسلم532" واللفظ له وعن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها "مارية" فذكرت ما رأته فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم {أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصورا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله تعالى} "البخاري1341 , مسلم 528"
ومعنى هذا النهي :
أ- النهي عن الصلاة على القبور بالسجود عليها .
ب- النهي عن السجود إليها أو استقبالها بالصلاة والدعاء .
ت- النهي عن بناء المساجد عليها وحولها وقصد الصلاة فيها .
ث- النهي عن وضعها وبناءها داخل المساجد وقصد الصلاة فيها . "ويراجع تحذير الساجد للألباني ص 29 وسبل السلام للصنعاني (1/214) وللهيتمي في الزواجر (1/120)" . فقد قال " الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون : اتخاذ القبور مساجد, وإيقاد السرج عليها, واتخاذها أوثاناً, والطواف بها, واستلامها, والصلاة إليها" ثم ساق الأحاديث.
2. نهي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الصلاة عندها أو إليها أو فيها فعن أبي مرثد الغنوي أنه قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم {لاتجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها } "مسلم972" وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال {الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام}صحيح رواه احمد و أبو داود والترمذي وغيرهم الإرواء (287) وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم {لا تصلوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر} رواه البخاري معلقاً والطبراني (3/145/2) وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة (1016) , وعن عمرو بن دينار أنه نهى عن الصلاة وسط القبور وروى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مرسلاً بسند صحيح {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد} "رواه عبد الرزاق (1591)" .
حكم هذه الصلاة
قال ابن القيم – رحمه الله – "وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بني على قبر كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد نصَّ على ذلك الإمام أحمد وغيره فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر بل أيهما طرأ على الآخر مُنع منه وكان الحكم للسابق فلو وضعا معاً لم يجز ولا يصح هذا الوقف ولا يجوز ولا تصح الصلاة في هذا المسجد لنهي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ذلك ولعنه من اتخذ القبر مسجداً أو أوقد عليه سراجاً فهذا دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله ونبيه وغربته بين الناس كما ترى" "زاد المعاد (3/501 )" ونحوه فتوى اللجنة الدائمة (6/256) , بل أفتى شيخنا الإمام ابن باز – رحمه الله – "أنه لا يصلى في المسجد الذي فيه قبر أبداً وأن الصلاة باطلة ولا تصح ولو كان هو المسجد الوحيد في البلد, ولو أدى الأمر أن يصلي في بيته إن لم يجد مسجداً آخر فليصلِ في بيته" "انتهى بمعناه من فتاويه (13/239)" ونحوه كلام شيخنا المحدث الوادعي – رحمه الله – كما في "إجابة السائل ص (424)" .
3. ومنها أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر بتسويتها وعدم ارتفاعها وعدم البناء عليها وعدم تزيينها حتى لا تحصل الفتنة بها , فعن أبي الهياج الأسدي أنه قال قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه "ألا أبعثك على ما بعثني به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ألا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشْرفاً إلا سويته" (مسلم (969)) .
وعن عثمان أنه أمر بتسوية القبور فقيل هذا قبر أم عمرو ابن عثمان فأمر به فسوي "رواه ابن أبي شيبة (4/138)" .
عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم {نهى عن تجصيص القبر وأن يبنى عليه } "مسلم (970)" وفسّر النهي عن البناء بأنه :
أ- النهي عن البناء بالحجارة و الجص ونحوها .
ب- أن يضرب عليها بخباء أو سقيفة , فكلا الأمرين منهيٌ عنه لما فيه من إضاعة المال ومشابهة أهل الجاهلية .
كلام أهل العلم في التحذير
من البناء على القبور
وقد روي نهي السلف عن ضرب الخباء أو البناء على القبور فقد روى صاحب المدونة(1/170) عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال "اكره تجصيص القبور والبناء عليها وهذه الحجارة" ثم نقل كلام سحنون "في ذكر بعض ماروي عن السلف في النهي عن ذلك ثم قال سحنون فهذه آثار في تسويتها فكيف بمن يريد أن يبني عليها" ونقل الحطَّاب في "شرح مختصر خليل (2/242)" "عن بعض أئمة المالكية المنع من بناء القبور على الموتى لأن ذلك مباهاه ولا يؤمن مما يكون فيها من الفساد" , وذكر ابن مفلح في "الفروع (1/682)" قال "حرم أبو حفص الحجرة وقال بل تهدم وحرم الفسطاط" وكره أحمد "الفسطاط والخيمة" وأمر ابن عمر "بإزالة الفسطاط وقال إنما يظله عمله" , وذكر عبد الرحمن المقدسي في "الشرح الكبير" كما في حاشية المغني (2/387) "تحريم البناء مستدلاً بحديث جابر في النهي عنه ثم قال وكره أحمد أن يضرب على القبر الفسطاط لأن أبا هريرة أوصى حين حضره الموت ألا تضربوا عليَّ فسطاطاً" وأثر أبي هريرة رواه ابن سعد في "الطبقات (4/338). وذكر القاضي أبو يعلى في :طبقات الحنابلة(2/251) في ترجمة أبي محمد رزق الله بن عبد الوهاب التميمي أنه قال "أنفذ الخليفة المطيع لله بمال عظيم ليبني على قبر أحمد بن حنبل قبة فقال له جدي وأبو بكر ابن عبد العزيز أليس تريد أن تتقرب إلى الله بذلك فقال :بلى, فقالا له: إن مذهبه ألا يبنى عليه شيء فقال تصدقوا بالمال على من ترونه فقالا له : بل تصدق به أنت على من تريد أنت فتصدق به" وذكر ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الكبرى (2/17)" في سؤال وجه إليه عن هذه المسألة , قال "القول المعتمد كما جزم به النووي كما في شرح المهذب حرمة البناء في المقبرة المسبّلة فإن بني فيها هدم ولا فرق في ذلك بين قبور العلماء والصالحين وغيرهم وما في الخادم مما يخالف ذلك ضعيف لا يلتفت إليه وكم أنكر العلماء على باني قبة الإمام الشافعي رضي الله عنه وغيرها وكفى بتصريحهم في كتبهم إنكاراً . والمراد بالمسبّلة كما قال الأسنوي وغيره : هي التي اعتاد أهل البلد الدفن فيها , أما الموقوفة والمملوكة بغير إذن مالكها فيحرم البناء فيها مطلقاً قطعاً ..."انتهي وهو رحمه الله يرد على قول بعض متأخري الشافعية الذين أجازوه .
وذكر الشوكاني رحمه الله في "نيل الأوطار (4/133)" في شرح حديث النهي عن البناء على القبر "أنه لا دليل على التفصيل بين ملك الباني وغيره واستدل بظاهر حديث أبي الهياج عن علي رضي الله عنه ..."
ونقل السيوطي رحمه الله ما سبق ونحوه في كتابه "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة (1/141)" ثم قال بعده "فهذا إجماعٌ من هؤلاء العلماء المتأخرين فكيف يجوز البناء فيها فعلى هذا فكل من فعل ذلك فقد خالفهم" وذكر الشوكاني رحمه الله في كتابه العظيم: "شرح الصدور بتحريم رفع القبور (ص7)" "أنه قد اتفق الناس سابقهم ولاحقهم وأولهم و آخرهم من لدن الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى هذا الوقت على أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها واشتد وعيد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لفاعلها..." ثم سرد الأدلة الكثيرة ...", وذكر صديق حسن خان كما في "الروضة الندية (1/178)" "...فما صدق عليه أنه قبر مرفوع أو مشرف لغةً فهو من منكرات الشريعة التي يجب على المسلمين إنكارها وتسويتها من غير فرق بين نبي وغير نبي وصالح وطالح فقد مات جماعة من أكابر الصحابة في عصره صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يرفع قبورهم بل أمر علياً بتسوية المشرف منها ومات ولم يرفع أصحابه قبره صلى الله عليه وعلى آله وسلم ... إلى أن ذكر أن الواجب على أهل الصلاح والعلم العمل بهذه الأدلة واجتناب ما ينافيها بما لا يناسب العلم والعقل فإن ذلك من شعارات أهل البدع لا أهل الدين فالفاضل لا يوصي بالبناء والزخرفة بل يجب أن يزجره فضله كما أن العالم يجب أن يزجره علمه" انتهى بعضه بمعناه .
ج- وقال الصنعاني كما في "العدة(3/258)" في كلامه على البناء على القبور "إنه ذريعة إلى تعظيم الميت والطواف بقبره والتماس أركانه والنداء باسمه وبالجملة إنه يصير صنماً يعبد وهذه بدعة عظيمة عمت الدنيا وعبد الناس القبور وعظموها بالمشاهد والقباب وزادوا على فعل الجاهلية فأسرجوا عليها السرج والشموع وجعلوا لها نصيباً من أموالهم كما قال تعالى في المشركين ((ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً مما رزقناهم)) وكما قالوا ((هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا)) ثم ذكر رحمه الله أن عبّاد القبور زادوا فجعلوا أموالهم للقبور المعبودة ولم يجعلوا لله منها شيئاً بل ويجبر ولاتهم الناس بأخذ المال منهم كرهاً باسم الزكاة " انتهى بعضه
*تنبيه: وليس البناء من التعظيم في شيء, لأنه أولاً جاء النهي عنه في الشرع كما سبق , وثانياً : فإن الأنبياء وأهل الصدق الصالحين يكرهونه ولا يحبونه فهو غلو منافي للتعظيم وثالثاً : أن التعظيم الحقيقي يكون بما يحبه المعظم ويرضاه , ورابعاً: ترك السلف الصالح هذا البناء وحذروا منه لتيقنهم بفساده شرعاً وعقلاً. انتهى بمعناه عن الصارم المنكي لأبن عبد الهادي (ص245) وقال الإمام مالك رحمه الله "مات بالمدينة من الصحابة نحو عشرة آلاف وغالبهم لا يعرف عين قبره ولا جهته" "حاشية الإيضاح للهيتمي (ص220)" .
*تنبيه: ولا حجة في كون قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حجرة عائشة فإنه قد قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم {ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه}رواه الترمذي في الشمائل عن أبي بكر رضي الله عنه وصححه الألباني في "صحيح الجامع(5649)" وأما القبة فهي محدثة وبدعة منكرة قال الصنعاني رحمه الله "في تطهير الاعتقاد (ص42) "إن هذه القبة ليس بناءها منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا من أصحابه ولا من تابعيهم وتابعِ التابعين ولا من علماء أمته وأئمة ملته بل هذه القبة المعمولة على قبره صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أبنية بعض ملوك مصر المتأخرين وهو قلاوون الصالحي المعروف بالملك المنصور في سنة (678) ذكره في "تحقيق النصرة بمعالم دار الهجرة" ويرجع تحقيق النصرة المذكور (ص81) وهو مطبوع بدار الكتب المصرية , ونحو كلام الصنعاني ذكِرَ في ترجمة الحسين بن علي في كتاب "نيل الوطر من تراجم رجال اليمن في القرن الثالث عشر(1/391)" .
وأما وجود القبة اليوم مع وجود علماء السنة ولم يحصل إزالتها ليس لأنهم راضون عنها بل أنكروا ذلك في عدد من الكتابات والفتاوى المشهورة ككتاب شيخنا مقبل رحمه الله وكلام الشيخ محمد بن إبراهيم وعدد من أعضاء هيئة كبار العلماء بل همت دولة التوحيد في أرض الحرمين – حرسها الله - وشرعت في تغيير لون القبة فحصل ما خشي أن يكون مفسدته أعظم فكان التوقف بما ورد من الأدلة الكثيرة في درء المفاسد العظمى كحديث عائشة {لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة وأعدتها على أساس إبراهيم...} رواه مسلم والترمذي والنسائي بألفاظ . يراجع الصحيحة (حديث 43)
وهذا النهي عن الصلاة والبناء على القبور سداً لذريعة الشرك والوقوع في تعظيم القبور والغلو فيها كما وقعت فيه الأمم السابقة .
4. ومنها نهي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن تجعل القبور عيداً, والعيد هو: ما كان باجتماع الناس على وجه معتاد إما بعود سنة أو شهر أو أسبوع كيوم الفطر يسمى عيداً ولكنه عيدٌ شرعي وهكذا عيد الأضحى وعيد الأسبوع الجمعة , وقد نهينا أن نجعل في الإسلام عيداً غير هذه الأعياد الثلاثة فعن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قدم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال ما هذان اليومان قالوا كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم {إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر } رواه أبو داود (1/675) وأحمد(3/103) والنسائي(3/179) والحاكم (1/294) وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم .
ولا يُجمع بين البدل والمبدل منه طاعة لله ورسوله .
وقد أبطل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كل الأعياد إلا هذين العيدين كما في الحديث المتقدم لما تشتمله هذه الأعياد من الشبهة والشهوة وما يتضمنهما من أبواب الشر الكثيرة وتعظيم ما لا يستحق التعظيم شرعاً بل ربما كان سبباً للخروج عن الصراط المستقيم والتعلق بصراط المغضوب عليهم والضالين , فلهذا لا يجوز أن يخصص زمان باجتماع يكون عيداً لحديث أنس المتقدم , وهكذا كذلك لا يجوز أن يخصص مكان بأن يكون عيداً يجتمع الناس فيه وأعظم فتنة أن يكون هذا العيد ذريعة مفضية إلى الشرك , فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال {لا تجعلوا بيوتكم مقابر ولا تجعلوا قبري عيداً فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم } "رواه أبو داود (2042)" ويراجع"صحيح الجامع (7226)" ؛ فنهى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يجتمعوا حول قبره فيكون عيداً وأمر بالصلاة عليه كلٌ في موضعه لما في الاجتماع من فتنة تعظيم القبر والغلو فيه ما قد يفضي إلى الشرك القبر
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ومن اتخاذ القبور عيدا النهي عن زيارتها بصورة جماعية ووقت معين كوقت الحج والاجتماع في عرفة ومنى) إنتهى بمعناه الفتاوى (27/417) (27/381).
وعن علي ابن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيدخل فيها يدعوا فنهاهُ فقال ألا أحدثكم حديثاً سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال {لا تتخذوا قبري عيداً و لا بيوتكم قبوراً فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم} "رواه أبو يعلى (465)" و"ابن أبي شيبة (7542) و"البخاري في التاريخ الكبير (1/2/186)" والحديث حسن بما قبله .
وروى مالك في الموطأ أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال {اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد, اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد} وبمعناه رواه القاضي إسماعيل في "فضل الصلاة ص 10"
]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد :
فإن السعادة العظمى والكرامة الكبرى في الآخرة والأولى لا تحصل إلا بمتابعة النبي المصطفى والرسول المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما قال تعالى ((وإن تطيعوه تهتدوا))
وإن برهان الحب ودليل الصدق يكون بتمام الانقياد والإتباع لله ولرسوله كما قال تعالى ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)) بل إن برهان الإيمان وتصديق الإسلام والفوز والفلاح في الدارين بالتسليم لأمر الله ورسوله فيما جاء في شرع الله ودينه كما قال تعالى ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)) وقال تعالى ((إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون * ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون)) وقد حذرنا الله تعالى من الشيطان وأولياءه أن يكيدونا بمكائدهم عن هذا الفلاح والفوز الذي أراده الله تعالى للمؤمنين الصادقين فحذرنا جل وعلا من أن نترك أتباعه فنتبع هذا العدو المبين قال تعالى ((أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً)) وقال تعالى محذراً من فتنة الشيطان وكيده بما حكاه عنه سبحانه (( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ )) وإن من أعظم مكائده وأكبر فتنه فتنة القبور وعبادة الأصنام وقد تظافرت الأدلة الشرعية الكثيرة في التحذير من هاتين الفتنتين فكان أول دعوة الرسل في التحذير منهما قال تعالى عن نوح عليه السلام ((قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً * ومكروا مكراً كبارا * وقالوا لا تذرن آلهتكم و لا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً)) وروى البخاري في صحيحة عن عطاء عن ابن عباس [قال كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح عليه السلام فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم] "البخاري برقم 4920" فجمعوا بين الفتنتين فتنة عبادة الأصنام وفتنة عبادة القبور ونحوه ما روي عن مجاهد وغيره في قوله تعالى ((أفرأيتم اللات و العزى)) بأن اللات رجل كان يلت السويق فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه. وقال الله عز وجل ((ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)) والطاغوت ما تجاوز العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع , وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام التي تحذر من هذا الشرك كثيرة في القرآن.
وأما ما جاء في سنة نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم في التحذير من هاتين الفتنتين فكثيرة ومن ذلك :
1. نهي النبي صلى الله عليه وعلى وسلم من أن تتخذ القبور مساجداً ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال في مرضه الذي لم يقم منه {لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد} يحذر ما صنعوا قالت ولولا ذلك لأبرز قبره عليه السلام ولكن خشي أن يتخذ مسجداً " البخاري 1330 , مسلم531 واللفظ له " , وعن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبل أن يموت بخمس يقول {ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبياءهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك} "مسلم532" واللفظ له وعن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها "مارية" فذكرت ما رأته فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم {أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصورا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله تعالى} "البخاري1341 , مسلم 528"
ومعنى هذا النهي :
أ- النهي عن الصلاة على القبور بالسجود عليها .
ب- النهي عن السجود إليها أو استقبالها بالصلاة والدعاء .
ت- النهي عن بناء المساجد عليها وحولها وقصد الصلاة فيها .
ث- النهي عن وضعها وبناءها داخل المساجد وقصد الصلاة فيها . "ويراجع تحذير الساجد للألباني ص 29 وسبل السلام للصنعاني (1/214) وللهيتمي في الزواجر (1/120)" . فقد قال " الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون : اتخاذ القبور مساجد, وإيقاد السرج عليها, واتخاذها أوثاناً, والطواف بها, واستلامها, والصلاة إليها" ثم ساق الأحاديث.
2. نهي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الصلاة عندها أو إليها أو فيها فعن أبي مرثد الغنوي أنه قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم {لاتجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها } "مسلم972" وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال {الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام}صحيح رواه احمد و أبو داود والترمذي وغيرهم الإرواء (287) وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم {لا تصلوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر} رواه البخاري معلقاً والطبراني (3/145/2) وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة (1016) , وعن عمرو بن دينار أنه نهى عن الصلاة وسط القبور وروى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مرسلاً بسند صحيح {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد} "رواه عبد الرزاق (1591)" .
حكم هذه الصلاة
قال ابن القيم – رحمه الله – "وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بني على قبر كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد نصَّ على ذلك الإمام أحمد وغيره فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر بل أيهما طرأ على الآخر مُنع منه وكان الحكم للسابق فلو وضعا معاً لم يجز ولا يصح هذا الوقف ولا يجوز ولا تصح الصلاة في هذا المسجد لنهي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ذلك ولعنه من اتخذ القبر مسجداً أو أوقد عليه سراجاً فهذا دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله ونبيه وغربته بين الناس كما ترى" "زاد المعاد (3/501 )" ونحوه فتوى اللجنة الدائمة (6/256) , بل أفتى شيخنا الإمام ابن باز – رحمه الله – "أنه لا يصلى في المسجد الذي فيه قبر أبداً وأن الصلاة باطلة ولا تصح ولو كان هو المسجد الوحيد في البلد, ولو أدى الأمر أن يصلي في بيته إن لم يجد مسجداً آخر فليصلِ في بيته" "انتهى بمعناه من فتاويه (13/239)" ونحوه كلام شيخنا المحدث الوادعي – رحمه الله – كما في "إجابة السائل ص (424)" .
3. ومنها أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر بتسويتها وعدم ارتفاعها وعدم البناء عليها وعدم تزيينها حتى لا تحصل الفتنة بها , فعن أبي الهياج الأسدي أنه قال قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه "ألا أبعثك على ما بعثني به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ألا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشْرفاً إلا سويته" (مسلم (969)) .
وعن عثمان أنه أمر بتسوية القبور فقيل هذا قبر أم عمرو ابن عثمان فأمر به فسوي "رواه ابن أبي شيبة (4/138)" .
عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم {نهى عن تجصيص القبر وأن يبنى عليه } "مسلم (970)" وفسّر النهي عن البناء بأنه :
أ- النهي عن البناء بالحجارة و الجص ونحوها .
ب- أن يضرب عليها بخباء أو سقيفة , فكلا الأمرين منهيٌ عنه لما فيه من إضاعة المال ومشابهة أهل الجاهلية .
كلام أهل العلم في التحذير
من البناء على القبور
وقد روي نهي السلف عن ضرب الخباء أو البناء على القبور فقد روى صاحب المدونة(1/170) عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال "اكره تجصيص القبور والبناء عليها وهذه الحجارة" ثم نقل كلام سحنون "في ذكر بعض ماروي عن السلف في النهي عن ذلك ثم قال سحنون فهذه آثار في تسويتها فكيف بمن يريد أن يبني عليها" ونقل الحطَّاب في "شرح مختصر خليل (2/242)" "عن بعض أئمة المالكية المنع من بناء القبور على الموتى لأن ذلك مباهاه ولا يؤمن مما يكون فيها من الفساد" , وذكر ابن مفلح في "الفروع (1/682)" قال "حرم أبو حفص الحجرة وقال بل تهدم وحرم الفسطاط" وكره أحمد "الفسطاط والخيمة" وأمر ابن عمر "بإزالة الفسطاط وقال إنما يظله عمله" , وذكر عبد الرحمن المقدسي في "الشرح الكبير" كما في حاشية المغني (2/387) "تحريم البناء مستدلاً بحديث جابر في النهي عنه ثم قال وكره أحمد أن يضرب على القبر الفسطاط لأن أبا هريرة أوصى حين حضره الموت ألا تضربوا عليَّ فسطاطاً" وأثر أبي هريرة رواه ابن سعد في "الطبقات (4/338). وذكر القاضي أبو يعلى في :طبقات الحنابلة(2/251) في ترجمة أبي محمد رزق الله بن عبد الوهاب التميمي أنه قال "أنفذ الخليفة المطيع لله بمال عظيم ليبني على قبر أحمد بن حنبل قبة فقال له جدي وأبو بكر ابن عبد العزيز أليس تريد أن تتقرب إلى الله بذلك فقال :بلى, فقالا له: إن مذهبه ألا يبنى عليه شيء فقال تصدقوا بالمال على من ترونه فقالا له : بل تصدق به أنت على من تريد أنت فتصدق به" وذكر ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الكبرى (2/17)" في سؤال وجه إليه عن هذه المسألة , قال "القول المعتمد كما جزم به النووي كما في شرح المهذب حرمة البناء في المقبرة المسبّلة فإن بني فيها هدم ولا فرق في ذلك بين قبور العلماء والصالحين وغيرهم وما في الخادم مما يخالف ذلك ضعيف لا يلتفت إليه وكم أنكر العلماء على باني قبة الإمام الشافعي رضي الله عنه وغيرها وكفى بتصريحهم في كتبهم إنكاراً . والمراد بالمسبّلة كما قال الأسنوي وغيره : هي التي اعتاد أهل البلد الدفن فيها , أما الموقوفة والمملوكة بغير إذن مالكها فيحرم البناء فيها مطلقاً قطعاً ..."انتهي وهو رحمه الله يرد على قول بعض متأخري الشافعية الذين أجازوه .
وذكر الشوكاني رحمه الله في "نيل الأوطار (4/133)" في شرح حديث النهي عن البناء على القبر "أنه لا دليل على التفصيل بين ملك الباني وغيره واستدل بظاهر حديث أبي الهياج عن علي رضي الله عنه ..."
ونقل السيوطي رحمه الله ما سبق ونحوه في كتابه "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة (1/141)" ثم قال بعده "فهذا إجماعٌ من هؤلاء العلماء المتأخرين فكيف يجوز البناء فيها فعلى هذا فكل من فعل ذلك فقد خالفهم" وذكر الشوكاني رحمه الله في كتابه العظيم: "شرح الصدور بتحريم رفع القبور (ص7)" "أنه قد اتفق الناس سابقهم ولاحقهم وأولهم و آخرهم من لدن الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى هذا الوقت على أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها واشتد وعيد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لفاعلها..." ثم سرد الأدلة الكثيرة ...", وذكر صديق حسن خان كما في "الروضة الندية (1/178)" "...فما صدق عليه أنه قبر مرفوع أو مشرف لغةً فهو من منكرات الشريعة التي يجب على المسلمين إنكارها وتسويتها من غير فرق بين نبي وغير نبي وصالح وطالح فقد مات جماعة من أكابر الصحابة في عصره صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يرفع قبورهم بل أمر علياً بتسوية المشرف منها ومات ولم يرفع أصحابه قبره صلى الله عليه وعلى آله وسلم ... إلى أن ذكر أن الواجب على أهل الصلاح والعلم العمل بهذه الأدلة واجتناب ما ينافيها بما لا يناسب العلم والعقل فإن ذلك من شعارات أهل البدع لا أهل الدين فالفاضل لا يوصي بالبناء والزخرفة بل يجب أن يزجره فضله كما أن العالم يجب أن يزجره علمه" انتهى بعضه بمعناه .
ج- وقال الصنعاني كما في "العدة(3/258)" في كلامه على البناء على القبور "إنه ذريعة إلى تعظيم الميت والطواف بقبره والتماس أركانه والنداء باسمه وبالجملة إنه يصير صنماً يعبد وهذه بدعة عظيمة عمت الدنيا وعبد الناس القبور وعظموها بالمشاهد والقباب وزادوا على فعل الجاهلية فأسرجوا عليها السرج والشموع وجعلوا لها نصيباً من أموالهم كما قال تعالى في المشركين ((ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً مما رزقناهم)) وكما قالوا ((هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا)) ثم ذكر رحمه الله أن عبّاد القبور زادوا فجعلوا أموالهم للقبور المعبودة ولم يجعلوا لله منها شيئاً بل ويجبر ولاتهم الناس بأخذ المال منهم كرهاً باسم الزكاة " انتهى بعضه
*تنبيه: وليس البناء من التعظيم في شيء, لأنه أولاً جاء النهي عنه في الشرع كما سبق , وثانياً : فإن الأنبياء وأهل الصدق الصالحين يكرهونه ولا يحبونه فهو غلو منافي للتعظيم وثالثاً : أن التعظيم الحقيقي يكون بما يحبه المعظم ويرضاه , ورابعاً: ترك السلف الصالح هذا البناء وحذروا منه لتيقنهم بفساده شرعاً وعقلاً. انتهى بمعناه عن الصارم المنكي لأبن عبد الهادي (ص245) وقال الإمام مالك رحمه الله "مات بالمدينة من الصحابة نحو عشرة آلاف وغالبهم لا يعرف عين قبره ولا جهته" "حاشية الإيضاح للهيتمي (ص220)" .
*تنبيه: ولا حجة في كون قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حجرة عائشة فإنه قد قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم {ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه}رواه الترمذي في الشمائل عن أبي بكر رضي الله عنه وصححه الألباني في "صحيح الجامع(5649)" وأما القبة فهي محدثة وبدعة منكرة قال الصنعاني رحمه الله "في تطهير الاعتقاد (ص42) "إن هذه القبة ليس بناءها منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا من أصحابه ولا من تابعيهم وتابعِ التابعين ولا من علماء أمته وأئمة ملته بل هذه القبة المعمولة على قبره صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أبنية بعض ملوك مصر المتأخرين وهو قلاوون الصالحي المعروف بالملك المنصور في سنة (678) ذكره في "تحقيق النصرة بمعالم دار الهجرة" ويرجع تحقيق النصرة المذكور (ص81) وهو مطبوع بدار الكتب المصرية , ونحو كلام الصنعاني ذكِرَ في ترجمة الحسين بن علي في كتاب "نيل الوطر من تراجم رجال اليمن في القرن الثالث عشر(1/391)" .
وأما وجود القبة اليوم مع وجود علماء السنة ولم يحصل إزالتها ليس لأنهم راضون عنها بل أنكروا ذلك في عدد من الكتابات والفتاوى المشهورة ككتاب شيخنا مقبل رحمه الله وكلام الشيخ محمد بن إبراهيم وعدد من أعضاء هيئة كبار العلماء بل همت دولة التوحيد في أرض الحرمين – حرسها الله - وشرعت في تغيير لون القبة فحصل ما خشي أن يكون مفسدته أعظم فكان التوقف بما ورد من الأدلة الكثيرة في درء المفاسد العظمى كحديث عائشة {لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة وأعدتها على أساس إبراهيم...} رواه مسلم والترمذي والنسائي بألفاظ . يراجع الصحيحة (حديث 43)
وهذا النهي عن الصلاة والبناء على القبور سداً لذريعة الشرك والوقوع في تعظيم القبور والغلو فيها كما وقعت فيه الأمم السابقة .
4. ومنها نهي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن تجعل القبور عيداً, والعيد هو: ما كان باجتماع الناس على وجه معتاد إما بعود سنة أو شهر أو أسبوع كيوم الفطر يسمى عيداً ولكنه عيدٌ شرعي وهكذا عيد الأضحى وعيد الأسبوع الجمعة , وقد نهينا أن نجعل في الإسلام عيداً غير هذه الأعياد الثلاثة فعن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قدم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال ما هذان اليومان قالوا كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم {إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر } رواه أبو داود (1/675) وأحمد(3/103) والنسائي(3/179) والحاكم (1/294) وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم .
ولا يُجمع بين البدل والمبدل منه طاعة لله ورسوله .
وقد أبطل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كل الأعياد إلا هذين العيدين كما في الحديث المتقدم لما تشتمله هذه الأعياد من الشبهة والشهوة وما يتضمنهما من أبواب الشر الكثيرة وتعظيم ما لا يستحق التعظيم شرعاً بل ربما كان سبباً للخروج عن الصراط المستقيم والتعلق بصراط المغضوب عليهم والضالين , فلهذا لا يجوز أن يخصص زمان باجتماع يكون عيداً لحديث أنس المتقدم , وهكذا كذلك لا يجوز أن يخصص مكان بأن يكون عيداً يجتمع الناس فيه وأعظم فتنة أن يكون هذا العيد ذريعة مفضية إلى الشرك , فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال {لا تجعلوا بيوتكم مقابر ولا تجعلوا قبري عيداً فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم } "رواه أبو داود (2042)" ويراجع"صحيح الجامع (7226)" ؛ فنهى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يجتمعوا حول قبره فيكون عيداً وأمر بالصلاة عليه كلٌ في موضعه لما في الاجتماع من فتنة تعظيم القبر والغلو فيه ما قد يفضي إلى الشرك القبر
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ومن اتخاذ القبور عيدا النهي عن زيارتها بصورة جماعية ووقت معين كوقت الحج والاجتماع في عرفة ومنى) إنتهى بمعناه الفتاوى (27/417) (27/381).
وعن علي ابن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيدخل فيها يدعوا فنهاهُ فقال ألا أحدثكم حديثاً سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال {لا تتخذوا قبري عيداً و لا بيوتكم قبوراً فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم} "رواه أبو يعلى (465)" و"ابن أبي شيبة (7542) و"البخاري في التاريخ الكبير (1/2/186)" والحديث حسن بما قبله .
وروى مالك في الموطأ أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال {اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد, اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد} وبمعناه رواه القاضي إسماعيل في "فضل الصلاة ص 10"
]