الصبر
[الخطبة الأولى]
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(آل عمران:102).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)(النساء:1).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)(الأحزاب:70-71).
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا)(النساء:77)، ومع قلة هذا المتاع في هذه الحياة الدنيا فإنه محفوف بالتعب والنكد وبالمخاوف والكبد قال الله عز وجل: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ . وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ . وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ . لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ)(البلد:1-4)، نعم في مكابدة في هذه الحياة الدنيا حتى يلقى الله، وقال سبحانه وتعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ . وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ . وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ . وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ . وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ . يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)(الإنشقاق:1-6) مع ما في هذه الحياة الدنيا من العيش القليل والسعادة الضئيلة لا شك أنها من كل الأطراف محفوفة بما تقدم ذكره من المكابدات ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر، فواهاً) هذا الحديث عند أبي داود صحيح من حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه.
وكلمة (واها) لأهل العلم فيها قولان:
القول الأول: أن هذا تأوهٌ على من عرَّض نفسه للفتن أن هذا حُزْنٌ على من عرض نفسه للفتن.
المعنى الثاني: أنه تعجب ممن ابتلي في هذه الحياة الدنيا وصبر على البلاء وما له من المنقبة والفضل.
والمعنيان متلازمان أو المعنيان متقاربان وكلاهما حق ويصلح أن يُستدل بالحديث للمعنيين فلا شك أن هذه الحياة الدنيا لا يصلح معها إلا الصبر لا يصلح معها كثرة مال ولا كثرة جاه ولا كثرة [...] ولا كثرة أبناء وأولاد وعشيرة وقبيلة أبداً وليس هذا كله من أسباب البقاء فيها على سعادة ولو شيئاً ما وإنما لا يصلح معها إلا الصبر فقط.
ولهذا يقول بعض أهل العلم: إن الإيمان نصفان، إن الإيمان ينقسم إلى قسمين: نصفه صبر ونصفه شكر.
والصبر في هذه الحياة الدنيا: من صبر وفق لذلك، من صبر لله، (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ)(الرعد:22)، من صبر لله سبحانه وتعالى أفلح ومن لم يصبر لله سبحانه وتعالى فسيصبر لا شك سيصبر لغير الله سبحانه وتعالى.
وربنا سبحانه يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ . قُمْ فَأَنْذِرْ)(المدثر:1-2) بلغ رسالة ربك (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ . وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ . وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ . وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ . وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)(المدثر:3-6)، اصبر لله سبحانه وتعالى في هذا الطريق، اصبر.
ويقول عز وجل عن لقمان: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(لقمان:17)، الصبر قوة وعزم.
ويقول سبحانه وتعالى: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)(مريم:65) اجعل صبرك لعبادة الله سبحانه، فما من نبي إلا وأمره الله بالصبر، ولم تنجح دعوته إلا بذلك (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ)(الأنعام:34)، أتاك أخبار الذين مضوا أنهم صبروا وأنهم كُذِّبوا وأوذوا وصبروا على ذلك كله لهذا كان يأمره بل ويأمر جميع الأنبياء بذلك (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)(إبراهيم:12) هكذا الأنبياء يقابلون أممهم بالصبر يقابلون الجاهلين يقابلون الماكرين الحاسدين يقابلون كذلك الأمراض والفقر وسائر مهام الدنيا بذلك فإن الله عز وجل قد فتن الناس بعضهم ببعض فقال في كتابه الكريم: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا)(الفرقان:20) هذه هي الحياة ذاتها، الحياة قائمة على هذه (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)(الملك:1-2) ما خلق الله الموت والحياة ولا قامت السموات والأرض ولا وُجِدَت البرية جنها وإنسها إلا لقصد الابتلاء ولقصد من يصبر أم لم يصبر هذه هي حكمة الحياة.
قال الله سبحانه وتعالى مبيناً مسلياً لنبيه عليه الصلاة والسلام: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)(البقرة:155) بشر الصابرين.
الصابرون هم الذين يُوَفَّون أجورهم بغير حساب (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)(الزمر:10) وبشر الصابرين.
استعن أخي في الله استعن على طاعة الله عز وجل بالصبر، بالصبر على عبادته (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ)(مريم:65) اصطبر فإنه فلاح (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)(البقرة:45) إذا أردت أن تفلح في هذه الحياة الدنيا فكن ملازماً للصبر، للصبر في الحق وللصبر على الحق وللصبر في الدعوة إلى الله والتعليم ولتحمل مشاق هذه الحياة فمن لا يعرف مشاق هذه الحياة فليس له نصيب إلا [...] الحيوانات بل والله إن الحيوانات ربما تصبر والجمال تصبر على [...] وإلا فالأحرار وإلا فالأتقياء الأبرار هم الذين يصبرون على مهام الدنيا ومشاق الدنيا فإن الصبر يعتبر برًّا لله سبحانه وتعالى وليس نقيصة ولا ذلاً ولا حطاطة في حقه يقول الله سبحانه: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)(البقرة:177).
لا يمكن أن تتحصل على خيري الدنيا والآخرة إلا بالصبر وقد كان شيخ الإسلام رحمة الله عليه يقول: (لن تنال الإمامة في الدين إلا بالصبر واليقين) حتى على العلم من أهم ذلك أن يصبر على العلم والتلقي والتحمل و[...] وما إلى ذلك مما يحصل في هذه الحياة الدنيا (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ)(السجدة:24).
اعرف أين أنت يا أيها الإنسان؟
أنت في دار ابتلاء، أنت في دار الفتن
اعرف أين أنت؟
أنت في دار يجب أن تجابهها بالصبر بالله ومن أجل الله سبحانه وتعالى فإن الصبر قوة (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) كما يقول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والحديث في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الصبر ثبات على هذه الحياة، ثبات، لما قال فرعون للسحرة: (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى . قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)(طه:71-72) لن نؤثرك، والله لن نؤثرك، والذي فطرنا، يحلفون بالذي فطرهم، أنهم لا يقدمون مطلوبات فرعون الفاجر الكافر على أوامر الله عز وجل (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)(طه:72-73).
وفي حديث صهيب لما تقاعست تلك المرأة عن الوقوع في النار لما خد ذلك الكافر الأخاديد للمؤمنين قال الصبي لأمه: (اتقي الله واصبري).
الصبر ثبات، (قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ)(البقرة:250-251).
الصبر ثبات، الصبر عزة وعفة وغنى فقد روى الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أتاه بعض الناس يسألونه فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم وكان لا يرد سائلاً ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده فقال: (ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم ومن يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله ومن يتصبر يصبره الله وما أُعْطِيَ أحدٌ عطاء خيراً وأوسع من الصبر).
عزة عفة غنى، وهل يقع كثير من الناس في المَذَلَّات وفيما أهانهم الله بذلك إلا بعدم الصبر، عدم الصبر على الفقر، عدم الصبر على العلم، عدم الصبر على التلقي تلقي أوامر الله سبحانه وتعالى والامتثال لنبي الله والصبر على ذلك والالتزام بطاعته، عدم الصبر على الاستفادة، عدم الصبر على عموم الخيرات، ما يصبر على ما ينفعه، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله)، اصبر لا يمكن أن تحصل على ما ينفعك إلا بذلك.
نعم عباد الله:
إن هذا الصبر عليه مدار الحياة من جميع جوانبها على هذا الصبر فلا يمكن أن تقوم له عبادة ولا يمكن أن تكون له سعادة ولا سيادة إلا أن يكون صابراً على طاعة الله وعارفاً بهذا الواجب العظيم عليه من الله سبحانه وتعالى.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لما شكى إليه بعض أصحابه أذية الكفار قام عليه الصلاة والسلام وكان مضطجعاً بجانب الكعبة ثم قال: (لقد كان الرجل يؤتى به فيحفر له حفرة في الأرض ويمشط بأمشاط الحديد ويشق نصفان ما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الرجل من صنعاء إلى حضرموت لا يخش إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون).
فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُثَبِّتُ أصحابه، وربه عز وجل يُثَبِّتُه فيقول: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ . قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا . نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا . إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا . إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا . إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا . وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا . رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا . وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا)(المزمل:1-10).
إن الله قد ذكر الصابرين في أصناف المؤمنين في سورة الأحزاب فقال: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ) الآية وآخرها قال: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)(الأحزاب:35).
نعم أمر مهم في هذه الحياة الدنيا وإلا لا يمكن أن تقوم لإنسان قائمة إلا أن يصبر لله سبحانه وتعالى والله المستعان.
[الخطبة الثانية]
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره.
أما بعد:
فقد روى الإمام مسلم رحمة الله عليه من حديث الحارث بن عاصم عن النبي صلى الله عليه وسلم أبان حول الصبر فقال عليه الصلاة والسلام: (الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض والصلاة نور والصبر ضياء) وهذا الشاهد من الحديث: (الصبر ضياء)، الصبر تستضيء به في دينك، الصبر تستضيء به في حياتك، الصبر تستضيء به حتى في قبرك وعلى الصراط، [...] الصبر، الصبر على طاعة الله عز وجل، والصبر على أقدار الله عز وجل، والصبر على معاصي الله عز وجل، بهذا كله الصبر ضياء.
وأخبر عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث صهيب بن سنان أن الصبر هو شأن المؤمنين: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) ضراء مطلقاً من مرض أو غير الأمراض أو ما ينوب الإنسان في هذه الدنيا.
وأنت تتأمل أن الشكر لا يحصل إلا بصبر، الشكر بذاته، الطاعة بذاتها كما يقول أهل العلم لا يحصل إلا بصبر فمدار ذلك على الصبر مدار ذلك كله على الصبر والصبر تقوى لله سبحانه.
ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر على تلك المرأة وهي تبكي على صبي عند القبر: (قال لها اتقي الله واصبري) فحثها على أمر تسعد به بدلاً من أن تكون نائحة صارخة باكية حزينة كئيبة، حثها على الصبر، فإن الإنسان يؤجر على صبره إذا احتسبه لله.
(ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حَزَن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة) هكذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما يرويه عن ربه عز وجل ويعني بحبيبتيه يعني عينيه إذا ابتلاه بعينيه بعمىً فيها أو بسوء نظر فيها وصبر على ذلك عوضه الجنة.
وهكذا يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً) النصر مع الصبر قال الله: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا)(آل عمران:120) فانظر الآن المخارج من كيد الأعداء والحلول من تلك الفتن ومن تلك – أيضاً - المحيطات بالإنسان (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) ما يريدون أن يحصل خير، يا محمد أنت وأصحابك وهكذا سائر المؤمنين (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) لكن دلهم الله سبحانه وتعالى على الصبر وأنهم ما داموا ملازمين للصبر لا يضرهم مكرهم ولا حسدهم ولا كبرهم ولا اجتهادهم ولا أي شيء (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ . وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(آل عمران:120-122).
فنعم إنه نصر على الأعداء وإنه حرز من مكرهم لا يحصل ذلك إلا بالصبر.
عباد الله:
ينبغي أن يتحلى الإنسان بذلك في جميع حياته من ليل ونهار مع القريب والبعيد وقبل ذلك لله سبحانه وتعالى (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)(مريم:65).
الحمد لله رب العالمين.
سجلت هذه الخطبة في 17 ذي الحجة 1422 هـ
لفضيلة الشيخ
يحيى بن علي الحجوري حفظه الله
نقلا عن
موقع علماء السنة باليمن
http://www.olamayemen.com/html/makalat/articles.php?id=30
[الخطبة الأولى]
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(آل عمران:102).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)(النساء:1).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)(الأحزاب:70-71).
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا)(النساء:77)، ومع قلة هذا المتاع في هذه الحياة الدنيا فإنه محفوف بالتعب والنكد وبالمخاوف والكبد قال الله عز وجل: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ . وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ . وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ . لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ)(البلد:1-4)، نعم في مكابدة في هذه الحياة الدنيا حتى يلقى الله، وقال سبحانه وتعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ . وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ . وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ . وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ . وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ . يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)(الإنشقاق:1-6) مع ما في هذه الحياة الدنيا من العيش القليل والسعادة الضئيلة لا شك أنها من كل الأطراف محفوفة بما تقدم ذكره من المكابدات ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر، فواهاً) هذا الحديث عند أبي داود صحيح من حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه.
وكلمة (واها) لأهل العلم فيها قولان:
القول الأول: أن هذا تأوهٌ على من عرَّض نفسه للفتن أن هذا حُزْنٌ على من عرض نفسه للفتن.
المعنى الثاني: أنه تعجب ممن ابتلي في هذه الحياة الدنيا وصبر على البلاء وما له من المنقبة والفضل.
والمعنيان متلازمان أو المعنيان متقاربان وكلاهما حق ويصلح أن يُستدل بالحديث للمعنيين فلا شك أن هذه الحياة الدنيا لا يصلح معها إلا الصبر لا يصلح معها كثرة مال ولا كثرة جاه ولا كثرة [...] ولا كثرة أبناء وأولاد وعشيرة وقبيلة أبداً وليس هذا كله من أسباب البقاء فيها على سعادة ولو شيئاً ما وإنما لا يصلح معها إلا الصبر فقط.
ولهذا يقول بعض أهل العلم: إن الإيمان نصفان، إن الإيمان ينقسم إلى قسمين: نصفه صبر ونصفه شكر.
والصبر في هذه الحياة الدنيا: من صبر وفق لذلك، من صبر لله، (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ)(الرعد:22)، من صبر لله سبحانه وتعالى أفلح ومن لم يصبر لله سبحانه وتعالى فسيصبر لا شك سيصبر لغير الله سبحانه وتعالى.
وربنا سبحانه يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ . قُمْ فَأَنْذِرْ)(المدثر:1-2) بلغ رسالة ربك (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ . وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ . وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ . وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ . وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)(المدثر:3-6)، اصبر لله سبحانه وتعالى في هذا الطريق، اصبر.
ويقول عز وجل عن لقمان: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(لقمان:17)، الصبر قوة وعزم.
ويقول سبحانه وتعالى: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)(مريم:65) اجعل صبرك لعبادة الله سبحانه، فما من نبي إلا وأمره الله بالصبر، ولم تنجح دعوته إلا بذلك (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ)(الأنعام:34)، أتاك أخبار الذين مضوا أنهم صبروا وأنهم كُذِّبوا وأوذوا وصبروا على ذلك كله لهذا كان يأمره بل ويأمر جميع الأنبياء بذلك (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)(إبراهيم:12) هكذا الأنبياء يقابلون أممهم بالصبر يقابلون الجاهلين يقابلون الماكرين الحاسدين يقابلون كذلك الأمراض والفقر وسائر مهام الدنيا بذلك فإن الله عز وجل قد فتن الناس بعضهم ببعض فقال في كتابه الكريم: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا)(الفرقان:20) هذه هي الحياة ذاتها، الحياة قائمة على هذه (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)(الملك:1-2) ما خلق الله الموت والحياة ولا قامت السموات والأرض ولا وُجِدَت البرية جنها وإنسها إلا لقصد الابتلاء ولقصد من يصبر أم لم يصبر هذه هي حكمة الحياة.
قال الله سبحانه وتعالى مبيناً مسلياً لنبيه عليه الصلاة والسلام: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)(البقرة:155) بشر الصابرين.
الصابرون هم الذين يُوَفَّون أجورهم بغير حساب (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)(الزمر:10) وبشر الصابرين.
استعن أخي في الله استعن على طاعة الله عز وجل بالصبر، بالصبر على عبادته (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ)(مريم:65) اصطبر فإنه فلاح (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)(البقرة:45) إذا أردت أن تفلح في هذه الحياة الدنيا فكن ملازماً للصبر، للصبر في الحق وللصبر على الحق وللصبر في الدعوة إلى الله والتعليم ولتحمل مشاق هذه الحياة فمن لا يعرف مشاق هذه الحياة فليس له نصيب إلا [...] الحيوانات بل والله إن الحيوانات ربما تصبر والجمال تصبر على [...] وإلا فالأحرار وإلا فالأتقياء الأبرار هم الذين يصبرون على مهام الدنيا ومشاق الدنيا فإن الصبر يعتبر برًّا لله سبحانه وتعالى وليس نقيصة ولا ذلاً ولا حطاطة في حقه يقول الله سبحانه: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)(البقرة:177).
لا يمكن أن تتحصل على خيري الدنيا والآخرة إلا بالصبر وقد كان شيخ الإسلام رحمة الله عليه يقول: (لن تنال الإمامة في الدين إلا بالصبر واليقين) حتى على العلم من أهم ذلك أن يصبر على العلم والتلقي والتحمل و[...] وما إلى ذلك مما يحصل في هذه الحياة الدنيا (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ)(السجدة:24).
اعرف أين أنت يا أيها الإنسان؟
أنت في دار ابتلاء، أنت في دار الفتن
اعرف أين أنت؟
أنت في دار يجب أن تجابهها بالصبر بالله ومن أجل الله سبحانه وتعالى فإن الصبر قوة (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) كما يقول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والحديث في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الصبر ثبات على هذه الحياة، ثبات، لما قال فرعون للسحرة: (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى . قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)(طه:71-72) لن نؤثرك، والله لن نؤثرك، والذي فطرنا، يحلفون بالذي فطرهم، أنهم لا يقدمون مطلوبات فرعون الفاجر الكافر على أوامر الله عز وجل (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)(طه:72-73).
وفي حديث صهيب لما تقاعست تلك المرأة عن الوقوع في النار لما خد ذلك الكافر الأخاديد للمؤمنين قال الصبي لأمه: (اتقي الله واصبري).
الصبر ثبات، (قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ)(البقرة:250-251).
الصبر ثبات، الصبر عزة وعفة وغنى فقد روى الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أتاه بعض الناس يسألونه فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم وكان لا يرد سائلاً ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده فقال: (ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم ومن يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله ومن يتصبر يصبره الله وما أُعْطِيَ أحدٌ عطاء خيراً وأوسع من الصبر).
عزة عفة غنى، وهل يقع كثير من الناس في المَذَلَّات وفيما أهانهم الله بذلك إلا بعدم الصبر، عدم الصبر على الفقر، عدم الصبر على العلم، عدم الصبر على التلقي تلقي أوامر الله سبحانه وتعالى والامتثال لنبي الله والصبر على ذلك والالتزام بطاعته، عدم الصبر على الاستفادة، عدم الصبر على عموم الخيرات، ما يصبر على ما ينفعه، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله)، اصبر لا يمكن أن تحصل على ما ينفعك إلا بذلك.
نعم عباد الله:
إن هذا الصبر عليه مدار الحياة من جميع جوانبها على هذا الصبر فلا يمكن أن تقوم له عبادة ولا يمكن أن تكون له سعادة ولا سيادة إلا أن يكون صابراً على طاعة الله وعارفاً بهذا الواجب العظيم عليه من الله سبحانه وتعالى.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لما شكى إليه بعض أصحابه أذية الكفار قام عليه الصلاة والسلام وكان مضطجعاً بجانب الكعبة ثم قال: (لقد كان الرجل يؤتى به فيحفر له حفرة في الأرض ويمشط بأمشاط الحديد ويشق نصفان ما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الرجل من صنعاء إلى حضرموت لا يخش إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون).
فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُثَبِّتُ أصحابه، وربه عز وجل يُثَبِّتُه فيقول: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ . قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا . نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا . إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا . إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا . إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا . وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا . رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا . وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا)(المزمل:1-10).
إن الله قد ذكر الصابرين في أصناف المؤمنين في سورة الأحزاب فقال: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ) الآية وآخرها قال: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)(الأحزاب:35).
نعم أمر مهم في هذه الحياة الدنيا وإلا لا يمكن أن تقوم لإنسان قائمة إلا أن يصبر لله سبحانه وتعالى والله المستعان.
[الخطبة الثانية]
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره.
أما بعد:
فقد روى الإمام مسلم رحمة الله عليه من حديث الحارث بن عاصم عن النبي صلى الله عليه وسلم أبان حول الصبر فقال عليه الصلاة والسلام: (الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض والصلاة نور والصبر ضياء) وهذا الشاهد من الحديث: (الصبر ضياء)، الصبر تستضيء به في دينك، الصبر تستضيء به في حياتك، الصبر تستضيء به حتى في قبرك وعلى الصراط، [...] الصبر، الصبر على طاعة الله عز وجل، والصبر على أقدار الله عز وجل، والصبر على معاصي الله عز وجل، بهذا كله الصبر ضياء.
وأخبر عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث صهيب بن سنان أن الصبر هو شأن المؤمنين: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) ضراء مطلقاً من مرض أو غير الأمراض أو ما ينوب الإنسان في هذه الدنيا.
وأنت تتأمل أن الشكر لا يحصل إلا بصبر، الشكر بذاته، الطاعة بذاتها كما يقول أهل العلم لا يحصل إلا بصبر فمدار ذلك على الصبر مدار ذلك كله على الصبر والصبر تقوى لله سبحانه.
ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر على تلك المرأة وهي تبكي على صبي عند القبر: (قال لها اتقي الله واصبري) فحثها على أمر تسعد به بدلاً من أن تكون نائحة صارخة باكية حزينة كئيبة، حثها على الصبر، فإن الإنسان يؤجر على صبره إذا احتسبه لله.
(ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حَزَن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة) هكذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما يرويه عن ربه عز وجل ويعني بحبيبتيه يعني عينيه إذا ابتلاه بعينيه بعمىً فيها أو بسوء نظر فيها وصبر على ذلك عوضه الجنة.
وهكذا يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً) النصر مع الصبر قال الله: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا)(آل عمران:120) فانظر الآن المخارج من كيد الأعداء والحلول من تلك الفتن ومن تلك – أيضاً - المحيطات بالإنسان (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) ما يريدون أن يحصل خير، يا محمد أنت وأصحابك وهكذا سائر المؤمنين (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) لكن دلهم الله سبحانه وتعالى على الصبر وأنهم ما داموا ملازمين للصبر لا يضرهم مكرهم ولا حسدهم ولا كبرهم ولا اجتهادهم ولا أي شيء (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ . وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(آل عمران:120-122).
فنعم إنه نصر على الأعداء وإنه حرز من مكرهم لا يحصل ذلك إلا بالصبر.
عباد الله:
ينبغي أن يتحلى الإنسان بذلك في جميع حياته من ليل ونهار مع القريب والبعيد وقبل ذلك لله سبحانه وتعالى (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)(مريم:65).
الحمد لله رب العالمين.
سجلت هذه الخطبة في 17 ذي الحجة 1422 هـ
لفضيلة الشيخ
يحيى بن علي الحجوري حفظه الله
نقلا عن
موقع علماء السنة باليمن
http://www.olamayemen.com/html/makalat/articles.php?id=30