فقه حديث: "إنما الأعمال بالنيات"
للأستاذة: ليلى حداد
للأستاذة: ليلى حداد
إروى الحميدي عبد الله بن الزبير، قال: حدثنا سفيان، قال:حدثنا يحي بن سعيد الأنصاري، قال: أخبريني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب على المنبر قال: سمعت رسول الله يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كان هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)).
سند الحديث:
تفرد بروية هذا الحديث يحي بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب.
أهمية هذا الحديث:
يعد هذا الحديث أصلا عظيما من أصول الدين، وقاعدة عظيمة من قواعده، إذ هو جليل القدر، كثير الفائدة، لأنه من الأحاديث الجامعة التي عليها مدار الإسلام. روي عن الشافعي رحمه الله أنه قال: "حديث النية يدخل في سبعين بابا من الفقه، وما ترك لمبطل ولا مضار، ولا محتال حجة إلى لقاء الله تعالى". قال الإمام أحمد والشافعي رحمهما الله: "يدخل في حديث الأعمال بالنيات ثلث العلم". ومعنى ذلك أن كسب العبد يكون بقلبه ولسانه وجوارحه.
ومن تعظيم العلماء لهذا الحديث فقد رأوا استفتاح المصنفات به، وذلك تنبيها لطالب العلم إلى تصحيح نيته.
قال عبد الرحمن بن مهدي: "من أراد أن يصنف كتابا فليبدأ بهذا الحديث"
وممن ابتدأ به في أول كتابه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، وكذلك تقي الدين المقدسي في كتابه:"عمدة الأحكام" والسيوطي في جامعه الصغير، والنووي في "المجموع".
قال أبو عبيد:"ليس في الأحاديث أجمع وأغني وأكثر فائدة منه"
سبب ورود الحديث:
قيل هذا الحديث بسبب رجل أراد الزواج من امرأة يقال لها "أم قيس" فهاجر من أجل ذلك، ولم يبتغ بهجرته فضيلة الهجرة.
قال ابن دقيق العيد: "نقلوا أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة، وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس، فلهذا خص في الحديث ذكر المرأة دون سائر ما ينوي به".
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال:(من هاجر يبتغي شيئا فإنما له ذلك، هاجر رجل ليتزوج امرأة يقال لها أم قيس فكان يقال له مهاجر أم قيس)).ورواه الطبراني من طريق أخرى عن الأعمش بلفظ: ((كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها فكنا نسميه مهاجر أم قيس)).قال الحافظ: "وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، لكن ليس فيه حديث الأعمال سبـق بسبب ذلك، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك". قال ابن رجب: "وذكر ذلك، أي قصة مهاجر أم قيس، كثير من المتأخرين في كتبهم، ولم نر لذلك أصلا يصح والله أعلم".
شرح مفردات الحديث:
1-قوله:((إنما الأعمال بالنيات))، هذا الترتيب يفيد الحصر على الصحيح.قال ابن دقيق العيد: "وفي ذلك اتفاق، أي أنها للحصر".ومعنى الحصر إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه.
2-الأعمال: المقصود بها الأقوال والأفعال التي تفتقر إلى نية.
3-النيات: جمع نية وهي بمعنى القصد، وفي الشرع: عزم القلب على الشيء مقترنا بفعله.
4-قال النووي: »النية هي القصد إلى الشيء والعزيمة على فعله ومنه قول الجاهلية نواه الله بحفظه أي قصده به«.وفي قوله: ((إنما الأعمال بالنيات)) محذوف اختلف العلماء في تقديره فالذين اشترطوا النية، قالوا إن تقدير المحذوف ((صحة الأعمال بالنيات، والذين لم يشترطوها قالوا: "إن التقدير المحذوف كمال الأعمال بالبيانات". ومنهم القرافي إذ قال: ((من قصد الإنسان بقلبه ما يريده بفعله)). ومنهم من عرفها بالإخلاص فقال بعضهم: "وإخلاص الدين هو النية". لأن النية تطلق ويراد بها قصد العبادة ويراد بها قصد المعبود، وهذا يوافق المعنى اللغوي للنية.
5-ما نوى: ما قصد من خير أو شــر.
6-الهجرة: لغة: القول، وشرعا: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام أو من بلد المعاصـي إلى بلد الاستقامة، والهجرة تختلف باختلاف المقاصد والنيات.
ما يستفاد من الحديث:
1- الإخلاص في العمل لله تعالى، لأن الإخلاص قوة إيمانية وجهاد نفس يخلصها من جميع المصالح والأهواء الشخصية، فما من قول أو عمل إلا وكان ابتغاء مرضاة الله تعالى، ولا ينتظر المؤمن مقابـل ذلـك شكورا ولا جزاء من سواه.
2- أول الأعمال التي تبنى على الإخلاص هو عبادة الله ، قال الله تعالى:( فمن كان يرجوا لقاء ربّه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربّه أحدا)[الكهف/110].
فقد بين لنا رسول الله من خلال هذا الحديث أن الإخلاص في جميع الإعمال هو معيار القبول عند الله تعالى، ومهما كانت هذه الأعمال كبيرة وعظيمة فلن تقبل ما دامت لم تكن خالصة لوجه الله.
وحتى يقبل الله أعمالنا لا بد وأن يتوفر فيها أمران:
الأول: أن تكون موافقة لروح الشريعة الإسلامية.
الثانية: أن تكون خالصة لوجه الله تعالى.
فغياب أحد الأمرين يجعل العمل أو القول غير مقبول، وبمعنى آخر إنه إذا كان موافقا للشريعة الإسلامية ولم يكن خالصا لله تعالى، لم يكن مقبولا، وإذا كان خالصا لله ولم يكـن موافقا للشريعة الإسلامية لم يكن مقبولا عند الله تعالى كذلك.
سئل الفضيل بن عياض عن أحسن العمل في قوله تعالى:( ليبلوكم أيـــّكم أحسن عملا )[الملك/2]:"إن العمل إذا كان خالصـا ولم يكـن صوابـا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل... لن يقبل العمل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على الشريعة ثم قرأ قوله تعالى:( فمن كان يرجوا لقاء ربّه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربّه أحدا) "[الكهف/110].
3- أن النية محلها القلب والتلفظ بها بدعة.
4- أن النية من الإيمان، لأنها عمل القلب، والإيمان عند أهل السنة والجماعة تصديق بالجنان، ونطق بالسان وعمل بالأركان، لذلك ساق الإمام البخاري هذا الحديث في كتاب الإيمان.
5- عدم جواز النيابة في العبادات إلا ما أخصه دليل.
6- تندرج تحت هذا الأصل قاعدة: "الأمور بمقاصدها".
ذلك أن العقود التي يقصد بها في الباطن التوصل إلى ما هو محرم غير صحيحة، كعقود البيوع التي يقصد بها معنى الربا ونحوها.
7- لا يجوز التوكيل في نفس النية.
8- إن الغافل عن النية لا يصح منه العمل، ذلك أن جميع الأعمال الشرعية لا تقبل إلا بالنية.
9- يدل الحديث على اشتراط النية في أعمال الطاعات وأن ما وقع من الأعمال بدون نية يعتد به.
الهوامش
أخرجه البخاري واللفظ له: كتاب بدء الوحي/ باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله رقم 1؛ ومسلم في كتاب الإمارة/ باب قوله: ((إنما الأعمال بالنيات))، رقم 1907.
وليس له طر يق يصح غير هذا الطريق، كما قال في جامع العلوم والحكم: 1/11.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (1/15): »وأطلق الخطابي نفي الخلاف بين أهل الحديث في أنه لا يعرف إلا بهذا السند«. وقال ابن حجر في الفتح أيضا: »نعم قد تواتر عن يحي بن سعيد، فحكى محمد بن علي ابن سعيد النقاش الحافظ، أنه رواه عن يحي مائتان وخمسون نفسا وروى الحافظ أو إسماعيل الأنصاري الهروي قال: »كتبته من حديث سبعمائة من أصحاب يحي، قلت: وأنا أستبعد صحة هذا الحديث، قد تتبعت طرقه... فما قدرت على تكميل المائة«. وقال ابن الصلاح في "التقييد والإيضاح على مقدمة ابن الصلاح": (ص.226): »حديث ((إنما الأعمال بالنيات)) ليس من ذلك بسبل وإن نقله عدد التواتر وزيادة، لأن ذلك طرأ عليه في وسط إسناده ولم يوجد في أوائله«.
انظر: فيض القدير (1/32).
انظر: العدد (1/62).
انظر: جامع العلوم والحكم (1/12، 13).
انظر: إحكام الأحكام: 1/64 .