قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ :
علم غزير ________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه .
أما بعد
عجبت ممن يطعنون في علم الشيخ العلامة الشينقيطي ولقد رأيتني ما سمعت له محاضرة إلا ويعلوني شعور بأن الناس عيال عليه في علم التفسير كيف لا وهو يقول ما من آية إلا و أنا أعلم ما قاله فيها الأقدمون و هذه أية فسرها وسوف تعجبون من علمه ولكن لعلها تلقم من يتكلم فيه حجرا {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ * سُبْحَـٰنَ رَبِّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِى يُوعَدُونَ * وَهُوَ ٱلَّذِى فِى ٱلسَّمآءِ إِلَـٰهٌ وَفِى ٱلاٌّرْضِ إِلَـٰهٌ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ * وَتَبَارَكَ ٱلَّذِى لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَلاَ يَمْلِكُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلشَّفَـٰعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ * وَقِيلِهِ يٰرَبِّ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ * فَٱصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَـٰمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ}. اختلف العلماء في معنى {إِن} في هذه الآية. فقالت جماعة من أهل العلم إنها شرطية، واختاره غير واحد، وممن اختاره ابن جرير الطبري، والذين قالوا إنها شرطية، اختلفوا في المراد بقوله: فأنا أول العابدين. فقال بعضهم: فأنا أول العابدين لذلك الولد. وقال بعضهم: فأنا أول العابدين لله على فرض أن له ولداً. وقال بعضهم: فأنا أول العابدين لله جازمين بأنه لا يمكن أن يكون له ولد وقالت جماعة آخرون: إن لفظة {إِن} في الآية نافية. والمعنى ما كان لله ولد، وعلى القول بأنها نافية ففي معنى قوله: {فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ} ثلاثة أوجه الأول وهو أقربها: أن المعنى ما كان لله ولد فأنا أول العابدين لله، المنزهين له عن الولد، وعن كل ما لا يليق بكماله، وجلاله. والثاني أن معنى قوله {فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ}: أي الآنفين المستنكفين من ذلك يعني القول الباطل المفتري على ربنا الذي هو ادعاء الولد له. والعرب تقول: عبد بكسر الباء يعبد بفتحها فهو عبد بفتح فكسر على القياس، وعابد أيضاً سماعاً، إذا اشتدت أنفته واستنكافه وغضبه، ومنه قول الفرزدق: أولئك قومي إن هجوني هجوتهم وأعقد أن أهجو كليباً بدارم فقوله: وأعبد يعني آنف وأستنكف. ومنه أيضاً قول الآخر: متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله ويعبد عليه لا محالة ظالما وفي قصة عثمان بن عفان رضي الله عنه المشهورة: أنه جيء بامرأة من جهينة تزوجت، فولدت لستة أشهر، فبعث بها عثمان لترجم، اعتقاداً منه أنها كانت حاملاً قبل العقد لولادتها قبل تسعة أشهر، فقال له علي رضي الله عنهما: إن الله يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَـٰلُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً}، ويقول جل وعلا: {وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ} فلم يبق عن الفصال من المدة إلا ستة أشهر. فما عبد عثمان رضي الله عنه، أن بعث إليها، لترد ولا ترجم. ومحل الشاهد من القصة، فوالله: (ما عبد عثمان) أي ما أنف ولا استنكف من الرجوع إلى الحق. الوجه الثالث: أن المعنى {فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ} أي الجاحدين النافين أن يكون لله ولد سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي في معنى هذه الآية الكريمة: أنه يتعين المصير إلى القول بأن إن نافية، وأن القول بكونها شرطية لا يمكن أن يصح له معنى بحسب وضع اللغة العربية التي نزل بها القرآن، وإن قال به جماعة من أجلاء العلماء. وإنما اخترنا أن {ءانٍ} هي النافية لا الشرطية، وقلنا إن المصير إلى ذلك متعين في نظرنا لأربعة أمور: الأول: إن هذا القول جار على الأسلوب العربي، جرياناً واضحاً، لا إشكال فيه، فكون إن كان بمعنى ما كان كثير في القرآن، وفي كلام العرب كقوله تعالى: {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَٰحِدَةً} أي ما كانت إلا صيحة واحدة. فقولك مثلاً معنى الآية الكريمة: ما كان لله ولد فأنا أول العابدين، الخاضعين للعظيم الأعظم، المنزه عن الولد أو الآنفين المستنكفين، من أن يوصف ربنا بما لا يليق بكماله وجلاله، من نسبة الولد إليه، أو الجاحدين النافين، أن يكون لربنا ولد، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً لا إشكال فيه، لأنه جار على اللغة العربية، التي نزل بها القرآن، دال على تنزيه الله، تنزيهاً تاماً عن الولد، من غير إيهام ألبتة لخلاف ذلك. الأمر الثاني: أن تنزيه الله عن الولد، بالعبارات التي لا إيهام فيها، هو الذي جاءت به الآيات الكثيرة، في القرآن كما قدمنا إيضاحه، في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: {وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدًا}. وفي سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: {وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداًلَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} والآيات الكثيرة التي ذكرناها في ذلك تبين أن (إن) نافية. فالنفي الصريح الذي لا نزاع فيه يبين أن المراد في محل النزاع النفي الصريح. وخير ما يفسر به القرآن القرآن فكون المعبر في الآية: وما كان للرحمن ولد بصيغة النفي الصريح مطابق لقوله تعالى في سورة بني إسرائيل {وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا}. وقوله تعالى في أول الفرقان {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى المُلْكِ}. وقوله تعالى: {مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ}. وقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} وقوله تعالى {أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَوَلَدَ ٱللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ} إلى غير ذلك من الآيات. وأما على القول بأن إن شرطية وأن قوله تعالى: {فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ} جزاء لذلك الشرط فإن ذلك لا نظير له ألبتة في كتاب الله، ولا توجد فيه آية تدل على مثل هذا المعنى. الأمر الثالث: هو أن القول بأن (إن) شرطية لا يمكن أن يصح له معنى في اللغة العربية، إلا معنى محذور، لا يجوز القول به بحال، وكتاب الله جل وعلا، يجب تنزيهه عن حمله على معان محذورة لا يجوز القول بها. وإيضاح هذا أنه على القول بأن (إن) شرطية، وقوله: {فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ} جزاء الشرط لا معنى لصدقه ألبتة إلا بصحة الربط بين الشرط والجزاء. والتحقيق الذي لا شك فيه أن مدار الصدق والكذب في الشرطية المتصلة، منصب على صحة الربط بين مقدمها الذي هو الشرط وتاليها الذي هو الجزاء، والبرهان القاطع على صحة هذا، هو كون الشرطية المتصلة، تكون في غاية الصدق مع كذب طرفيها معاً، أو أحدهما لو أزيلت أداة الربط بين طرفيها، فمثال كذبهما معاً مع صدقها قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا} فهذه قضية في غاية الصدق كما ترى، مع أنها لو أزيلت أداة الربط بين طرفيها كان كل واحد من طرفيها، قضية كاذبة بلا شك، ونعني بأداة الربط لفظة لو من الطرف الأول، واللام من الطرف الثاني، فإنهما لو أزيلا وحذفا صار الطرف الأول كان فيهما آلهة إلا الله، وهذه قضية في منتهى الكذب، وصار الطرف الثاني فسدتا أي السماوات والأرض، وهذه قضية في غاية الكذب كما ترى. فاتضح بهذا أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات على صحة الربط بين الطرفين وعدم صحته. فإن كان الربط صحيحاً فهي صادقة، ولو كذب طرفاها أو أحدهما عند إزالة الربط. وإن كان الربط بينهما كاذباً كانت كاذبة كما لو قلت: لو كان هذا إنساناً لكان حجراً، فكذب الربط بينهما وكذب القضية بسببه كلاهما واضح. وأمثلة صدق الشرطية مع كذب طرفيها كثيرة جداً كالآية التي ذكرنا، وكقولك لو كان الإنسان حجراً لكان جماداً، ولو كان الفرس ياقوتاً لكان حجراً، فكل هذه القضايا ونحوها صادقة مع كذب طرفيها لو أزيلت أداة الربط. ومثال صدقها مع كذب أحدهما، قولك لو كان زيد في السماء ما نجا من الموت فإنها شرطية صادقة لصدق الربط بين طرفيها، مع أنها كاذبة أحد الطرفين دون الآخر، لأن عدم النجاة من الموت صدق، وكون زيد في السماء كذب، هكذا مثل بهذا المثال البناني، وفيه عندي أن هذه الشرطية التي مثل بها اتفاقية لا لزومية، ولا دخل للاتفاقيات في هذا المبحث. والمثال الصحيح: لو كان الإنسان حجراً لكان جسماً. واعلم أن قوماً زعموا أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات منصب على خصوص التالي الذي هو الجزاء، وأن المقدم الذي هو الشرط قيد في ذلك. وزعموا أن هذا المعنى هو المراد عند أهل اللسان العربي. والتحقيق الأول. ولم يقل أحد ألبتة بقول ثالث في مدار الصدق والكذب في الشرطيات. فإذا حققت هذا، فاعلم أن الآية الكريمة، على القول بأنها جملة شرط وجزاء لا يصح الربط بين طرفيها ألبتة بحال على واحد من القولين اللذين لا ثالث لهما إلا على وجه محذور لا يصح القول به بحال. وإيضاح ذلك أنه على القول الأخير، أن مصب الصدق والكذب، في الشرطيات إنما هو التالي الذي هو الجزاء، وأن المقدم الذي هو الشرط قيد في ذلك. فمعنى الآية عليه باطل بل هو كفر. لأن معناه أن كونه أول العابدين يشترط فيه أن يكون للرحمن ولد، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً. لأن مفهوم الشرط أنه إن لم يكن له ولد، لم يكن أول العابدين، وفساد هذا المعنى كما ترى. وأما على القول الأول الذي هو الصحيح أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات على صحة الربط بين طرفي الشرطية. فإنه على القول بأن الآية الكريمة جملة شرط وجزاء لا يصح الربط بين طرفيها ألبتة أيضاً، إلا على وجه محذور لا يجوز المصير إليه بحال، لأن كون المعبود ذا ولد، واستحقاقه هو، أو ولده العبادة، لا يصح الربط بينهما ألبتة إلا على معنى هو كفر بالله، لأن المستحق للعبادة لا يعقل بحال أن يكون ولداً أو والداً. وبه تعلم أن الشرط المزعوم في قوله {إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ} إنما يعلق به محال لاستحالة كون الرحمن ذا ولد. ومعلوم أن المحال لا يعلق عليه إلا المحال. فتعليق عبادة الله التي هي أصل الدين على كونه ذا ولد ظهور فساده كما ترى، وإنما تصدق الشرطية في مثل هذا لو كان المعلق عليه مستحيلاً، فادعاء أن (إن) في الآية شرطية مثل ما لو قيل: لو كان معه آلهة لكنت أول العابدين له، وهذا لا يصدق بحال، لأن واحداً من آلهة متعددة، لا يمكن أن يعبد، فالربط بين طرفيها مثل هذه القضية لا يصح بحال. ويتضح لك ذلك بمعنى قوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ}. فإن قوله إذاً: أي لو كان معه غيره من الآلهة، لذهب كل واحد منهم بما خلق واستقل به، وغالب بعضهم بعضاً ولم ينتظم للسماوات والأرض نظام ولفسد كل شيء. كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا}، وقوله تعالى: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِى ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً} على الصحيح الذي هو الحق من التفسيرين. ومعنى ابتغائهم إليه تعالى سبيلاً هو طلبهم طريقاً إلى مغالبته كما يفعله بعض الملوك مع بعضهم. والحاصل: أن الشرط إن علق به مستحيل فلا يمكن أن يصح الربط بينه وبين الجزاء، إلا إذا كان الجزاء مستحيلاً أيضاً لأن الشرط المستحيل لا يمكن أن يوجد به إلا الجزاء المستحيل. أما كون الشرط مستحيلاً والجزاء هو أساس الدين وعماد الأمر. فهذا مما لا يصح بحال. ومن ذهب إليه من أهل العلم والدين لا شك في غلطه. ولا شك في أن كل شرطية صدقت مع بطلان مقدمها الذي هو الشرط وصحة تاليها الذي هو الجزاء لا يصح التمثيل بها لهذه الآية بوجه من الوجوه، وأن ما ظنه الفخر الرازي من صحة التمثيل لها بذلك غلط فاحش منه بلا شك، وإيضاح ذلك أن كل شرطية كاذبة الشرط صادقة الجزاء عند إزالة الربط لا بد أن يكون موجب ذلك فيها أحد أمرين لا ثالث لهما ألبتة. وكلاهما يكون الصدق به من أجل أمر خاص لا يمكن وجود مثله في الآية الكريمة التي نحن بصددها، بل هو مناقض لمعنى الآية. والاستدلال بوجود أحد المتناقضين على وجود الآخر ضروري البطلان. ونعني بأول الأمرين المذكورين كون الشرطية اتفاقية لا لزومية أصلاً. وبالثاني منهما كون الصدق المذكور، من أجل خصوص المادة. ومعلوم أن الصدق من أجل خصوص المادة لا عبرة به في العقليات، وأنه في حكم الكذب لعدم اضطراده، لأنه يصدق في مادة ويكذب في أخرى. والمعتبر إنما هو الصدق اللازم المضطرد، الذي لا يختلف باختلاف المادة بحال. ولا شك أن كل قضية شرطها محال لا يضطرد صدقها إلا إذا كان جزاؤها محالاً خاصة. فإن وجدت قضية باطلة الشرط صحيحة الجزاء، فلا بد أن يكون ذلك، لكونها اتفاقية أو لأجل خصوص المادة فقط. فمثال وقوع ذلك لكونها اتفاقية قولك: إن كان زيد في السماء لم ينج من الموت. فالشرط الذي هو كونه في السماء باطل والجزاء الذي هو كونه لم ينج من الموت صحيح. وإنما صح هذا لكون هذه الشرطية اتفاقية. ومعلوم أن الاتفاقية لا علاقة بين طرفيها أصلاً. فلا يقتضي ثبوت أحدهما ولا نفيه ثبوت الآخر ولا نفيه، فلا ارتباط بين طرفيها في المعنى أصلاً وإنما هو في اللفظ فقط. فكون زيد في السماء لا علاقة له بعدم نجاته من الموت أصلاً، ولا ارتباط بينهما إلا في اللفظ. فهو كقولك: إن كان الإنسان ناطقاً فالفرس صاهل. وقد قدمنا إيضاح الفرق بين الشرطية اللزومية والشرطية الاتفاقية في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: {وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً} فراجعه. ومعلوم أن قوله {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ} لم يقل أحد إنها شرطية اتفاقية ولم يدع أحد، أنها لا علاقة بين طرفيها أصلاً. ومثال وقوع ذلك لأجل خصوص المادة فقط، ما مثل به الفخر الرازي لهذه الآية الكريمة، مع عدم انتباهه لشدة المنافاة بين الآية الكريمة وبين ما مثل لها به، فإنه لما قال: إن الشرط الذي هو {إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ} باطل، والجزاء الذي هو: {فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ} صحيح. مثل لذلك بقوله: إن كان الإنسان حجراً فهو جسم، يعني أن قوله: إن كان الإنسان حجراً شرط باطل فهو كقوله تعالى {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ} فكون الإنسان حجراً وكون الرحمن ذا ولد كلاهما شرط باطل. فلما صح الجزاء المرتب على الشرط الباطل في قوله: إن كان الإنسان حجراً فهو جسم دل ذلك على أن الجزاء الصحيح في قوله: {فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ} يصح ترتيبه على الشرط الباطل الذي هو {إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ}. وهذا غلط فاحش جداً، وتسوية بين المتنافيين غاية المنافاة، لأن الجزاء المرتب على الشرط الباطل في قوله: إن كان الإنسان حجراً فهو جسم إنما صدق لأجل خصوص المادة لا لمعنى اقتضاه الربط ألبتة. وإيضاح ذلك أن النسبة بين الجسم والحجر، والنسبة بين الإنسان والجسم هي العموم والخصوص المطلق في كليهما. فالجسم أعم مطلقاً من الحجر، والحجر أخص مطلقاً من الجسم، كما أن الجسم أعم من الإنسان أيضاً عموماً مطلقاً، والإنسان أخص من الجسم أيضاً خصوصاً مطلقاً: فالجسم جنس قريب للحجر، وجنس بعيد للإنسان، وإن شئت قلت: جنس متوسط له. وإيضاح ذلك أن تقول في التقسيم الأول: الجسم إما نام أي يكبر تدريجاً أو غير نام، فغير النامي كالحجر مثلاً، ثم تقسم النامي تقسيماً ثانياً؟ فتقول: النامي إما حساس أو غير حساس، فغير الحساس منه كالنبات. ثم تقسم الحساس تقسيماً ثالثاً فتقول: الحساس إما ناطق أو غير ناطق، والناطق منه هو الإنسان.
علم غزير ________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه .
أما بعد
عجبت ممن يطعنون في علم الشيخ العلامة الشينقيطي ولقد رأيتني ما سمعت له محاضرة إلا ويعلوني شعور بأن الناس عيال عليه في علم التفسير كيف لا وهو يقول ما من آية إلا و أنا أعلم ما قاله فيها الأقدمون و هذه أية فسرها وسوف تعجبون من علمه ولكن لعلها تلقم من يتكلم فيه حجرا {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ * سُبْحَـٰنَ رَبِّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِى يُوعَدُونَ * وَهُوَ ٱلَّذِى فِى ٱلسَّمآءِ إِلَـٰهٌ وَفِى ٱلاٌّرْضِ إِلَـٰهٌ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ * وَتَبَارَكَ ٱلَّذِى لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَلاَ يَمْلِكُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلشَّفَـٰعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ * وَقِيلِهِ يٰرَبِّ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ * فَٱصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَـٰمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ}. اختلف العلماء في معنى {إِن} في هذه الآية. فقالت جماعة من أهل العلم إنها شرطية، واختاره غير واحد، وممن اختاره ابن جرير الطبري، والذين قالوا إنها شرطية، اختلفوا في المراد بقوله: فأنا أول العابدين. فقال بعضهم: فأنا أول العابدين لذلك الولد. وقال بعضهم: فأنا أول العابدين لله على فرض أن له ولداً. وقال بعضهم: فأنا أول العابدين لله جازمين بأنه لا يمكن أن يكون له ولد وقالت جماعة آخرون: إن لفظة {إِن} في الآية نافية. والمعنى ما كان لله ولد، وعلى القول بأنها نافية ففي معنى قوله: {فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ} ثلاثة أوجه الأول وهو أقربها: أن المعنى ما كان لله ولد فأنا أول العابدين لله، المنزهين له عن الولد، وعن كل ما لا يليق بكماله، وجلاله. والثاني أن معنى قوله {فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ}: أي الآنفين المستنكفين من ذلك يعني القول الباطل المفتري على ربنا الذي هو ادعاء الولد له. والعرب تقول: عبد بكسر الباء يعبد بفتحها فهو عبد بفتح فكسر على القياس، وعابد أيضاً سماعاً، إذا اشتدت أنفته واستنكافه وغضبه، ومنه قول الفرزدق: أولئك قومي إن هجوني هجوتهم وأعقد أن أهجو كليباً بدارم فقوله: وأعبد يعني آنف وأستنكف. ومنه أيضاً قول الآخر: متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله ويعبد عليه لا محالة ظالما وفي قصة عثمان بن عفان رضي الله عنه المشهورة: أنه جيء بامرأة من جهينة تزوجت، فولدت لستة أشهر، فبعث بها عثمان لترجم، اعتقاداً منه أنها كانت حاملاً قبل العقد لولادتها قبل تسعة أشهر، فقال له علي رضي الله عنهما: إن الله يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَـٰلُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً}، ويقول جل وعلا: {وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ} فلم يبق عن الفصال من المدة إلا ستة أشهر. فما عبد عثمان رضي الله عنه، أن بعث إليها، لترد ولا ترجم. ومحل الشاهد من القصة، فوالله: (ما عبد عثمان) أي ما أنف ولا استنكف من الرجوع إلى الحق. الوجه الثالث: أن المعنى {فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ} أي الجاحدين النافين أن يكون لله ولد سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي في معنى هذه الآية الكريمة: أنه يتعين المصير إلى القول بأن إن نافية، وأن القول بكونها شرطية لا يمكن أن يصح له معنى بحسب وضع اللغة العربية التي نزل بها القرآن، وإن قال به جماعة من أجلاء العلماء. وإنما اخترنا أن {ءانٍ} هي النافية لا الشرطية، وقلنا إن المصير إلى ذلك متعين في نظرنا لأربعة أمور: الأول: إن هذا القول جار على الأسلوب العربي، جرياناً واضحاً، لا إشكال فيه، فكون إن كان بمعنى ما كان كثير في القرآن، وفي كلام العرب كقوله تعالى: {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَٰحِدَةً} أي ما كانت إلا صيحة واحدة. فقولك مثلاً معنى الآية الكريمة: ما كان لله ولد فأنا أول العابدين، الخاضعين للعظيم الأعظم، المنزه عن الولد أو الآنفين المستنكفين، من أن يوصف ربنا بما لا يليق بكماله وجلاله، من نسبة الولد إليه، أو الجاحدين النافين، أن يكون لربنا ولد، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً لا إشكال فيه، لأنه جار على اللغة العربية، التي نزل بها القرآن، دال على تنزيه الله، تنزيهاً تاماً عن الولد، من غير إيهام ألبتة لخلاف ذلك. الأمر الثاني: أن تنزيه الله عن الولد، بالعبارات التي لا إيهام فيها، هو الذي جاءت به الآيات الكثيرة، في القرآن كما قدمنا إيضاحه، في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: {وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدًا}. وفي سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: {وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداًلَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} والآيات الكثيرة التي ذكرناها في ذلك تبين أن (إن) نافية. فالنفي الصريح الذي لا نزاع فيه يبين أن المراد في محل النزاع النفي الصريح. وخير ما يفسر به القرآن القرآن فكون المعبر في الآية: وما كان للرحمن ولد بصيغة النفي الصريح مطابق لقوله تعالى في سورة بني إسرائيل {وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا}. وقوله تعالى في أول الفرقان {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى المُلْكِ}. وقوله تعالى: {مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ}. وقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} وقوله تعالى {أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَوَلَدَ ٱللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ} إلى غير ذلك من الآيات. وأما على القول بأن إن شرطية وأن قوله تعالى: {فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ} جزاء لذلك الشرط فإن ذلك لا نظير له ألبتة في كتاب الله، ولا توجد فيه آية تدل على مثل هذا المعنى. الأمر الثالث: هو أن القول بأن (إن) شرطية لا يمكن أن يصح له معنى في اللغة العربية، إلا معنى محذور، لا يجوز القول به بحال، وكتاب الله جل وعلا، يجب تنزيهه عن حمله على معان محذورة لا يجوز القول بها. وإيضاح هذا أنه على القول بأن (إن) شرطية، وقوله: {فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ} جزاء الشرط لا معنى لصدقه ألبتة إلا بصحة الربط بين الشرط والجزاء. والتحقيق الذي لا شك فيه أن مدار الصدق والكذب في الشرطية المتصلة، منصب على صحة الربط بين مقدمها الذي هو الشرط وتاليها الذي هو الجزاء، والبرهان القاطع على صحة هذا، هو كون الشرطية المتصلة، تكون في غاية الصدق مع كذب طرفيها معاً، أو أحدهما لو أزيلت أداة الربط بين طرفيها، فمثال كذبهما معاً مع صدقها قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا} فهذه قضية في غاية الصدق كما ترى، مع أنها لو أزيلت أداة الربط بين طرفيها كان كل واحد من طرفيها، قضية كاذبة بلا شك، ونعني بأداة الربط لفظة لو من الطرف الأول، واللام من الطرف الثاني، فإنهما لو أزيلا وحذفا صار الطرف الأول كان فيهما آلهة إلا الله، وهذه قضية في منتهى الكذب، وصار الطرف الثاني فسدتا أي السماوات والأرض، وهذه قضية في غاية الكذب كما ترى. فاتضح بهذا أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات على صحة الربط بين الطرفين وعدم صحته. فإن كان الربط صحيحاً فهي صادقة، ولو كذب طرفاها أو أحدهما عند إزالة الربط. وإن كان الربط بينهما كاذباً كانت كاذبة كما لو قلت: لو كان هذا إنساناً لكان حجراً، فكذب الربط بينهما وكذب القضية بسببه كلاهما واضح. وأمثلة صدق الشرطية مع كذب طرفيها كثيرة جداً كالآية التي ذكرنا، وكقولك لو كان الإنسان حجراً لكان جماداً، ولو كان الفرس ياقوتاً لكان حجراً، فكل هذه القضايا ونحوها صادقة مع كذب طرفيها لو أزيلت أداة الربط. ومثال صدقها مع كذب أحدهما، قولك لو كان زيد في السماء ما نجا من الموت فإنها شرطية صادقة لصدق الربط بين طرفيها، مع أنها كاذبة أحد الطرفين دون الآخر، لأن عدم النجاة من الموت صدق، وكون زيد في السماء كذب، هكذا مثل بهذا المثال البناني، وفيه عندي أن هذه الشرطية التي مثل بها اتفاقية لا لزومية، ولا دخل للاتفاقيات في هذا المبحث. والمثال الصحيح: لو كان الإنسان حجراً لكان جسماً. واعلم أن قوماً زعموا أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات منصب على خصوص التالي الذي هو الجزاء، وأن المقدم الذي هو الشرط قيد في ذلك. وزعموا أن هذا المعنى هو المراد عند أهل اللسان العربي. والتحقيق الأول. ولم يقل أحد ألبتة بقول ثالث في مدار الصدق والكذب في الشرطيات. فإذا حققت هذا، فاعلم أن الآية الكريمة، على القول بأنها جملة شرط وجزاء لا يصح الربط بين طرفيها ألبتة بحال على واحد من القولين اللذين لا ثالث لهما إلا على وجه محذور لا يصح القول به بحال. وإيضاح ذلك أنه على القول الأخير، أن مصب الصدق والكذب، في الشرطيات إنما هو التالي الذي هو الجزاء، وأن المقدم الذي هو الشرط قيد في ذلك. فمعنى الآية عليه باطل بل هو كفر. لأن معناه أن كونه أول العابدين يشترط فيه أن يكون للرحمن ولد، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً. لأن مفهوم الشرط أنه إن لم يكن له ولد، لم يكن أول العابدين، وفساد هذا المعنى كما ترى. وأما على القول الأول الذي هو الصحيح أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات على صحة الربط بين طرفي الشرطية. فإنه على القول بأن الآية الكريمة جملة شرط وجزاء لا يصح الربط بين طرفيها ألبتة أيضاً، إلا على وجه محذور لا يجوز المصير إليه بحال، لأن كون المعبود ذا ولد، واستحقاقه هو، أو ولده العبادة، لا يصح الربط بينهما ألبتة إلا على معنى هو كفر بالله، لأن المستحق للعبادة لا يعقل بحال أن يكون ولداً أو والداً. وبه تعلم أن الشرط المزعوم في قوله {إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ} إنما يعلق به محال لاستحالة كون الرحمن ذا ولد. ومعلوم أن المحال لا يعلق عليه إلا المحال. فتعليق عبادة الله التي هي أصل الدين على كونه ذا ولد ظهور فساده كما ترى، وإنما تصدق الشرطية في مثل هذا لو كان المعلق عليه مستحيلاً، فادعاء أن (إن) في الآية شرطية مثل ما لو قيل: لو كان معه آلهة لكنت أول العابدين له، وهذا لا يصدق بحال، لأن واحداً من آلهة متعددة، لا يمكن أن يعبد، فالربط بين طرفيها مثل هذه القضية لا يصح بحال. ويتضح لك ذلك بمعنى قوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ}. فإن قوله إذاً: أي لو كان معه غيره من الآلهة، لذهب كل واحد منهم بما خلق واستقل به، وغالب بعضهم بعضاً ولم ينتظم للسماوات والأرض نظام ولفسد كل شيء. كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا}، وقوله تعالى: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِى ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً} على الصحيح الذي هو الحق من التفسيرين. ومعنى ابتغائهم إليه تعالى سبيلاً هو طلبهم طريقاً إلى مغالبته كما يفعله بعض الملوك مع بعضهم. والحاصل: أن الشرط إن علق به مستحيل فلا يمكن أن يصح الربط بينه وبين الجزاء، إلا إذا كان الجزاء مستحيلاً أيضاً لأن الشرط المستحيل لا يمكن أن يوجد به إلا الجزاء المستحيل. أما كون الشرط مستحيلاً والجزاء هو أساس الدين وعماد الأمر. فهذا مما لا يصح بحال. ومن ذهب إليه من أهل العلم والدين لا شك في غلطه. ولا شك في أن كل شرطية صدقت مع بطلان مقدمها الذي هو الشرط وصحة تاليها الذي هو الجزاء لا يصح التمثيل بها لهذه الآية بوجه من الوجوه، وأن ما ظنه الفخر الرازي من صحة التمثيل لها بذلك غلط فاحش منه بلا شك، وإيضاح ذلك أن كل شرطية كاذبة الشرط صادقة الجزاء عند إزالة الربط لا بد أن يكون موجب ذلك فيها أحد أمرين لا ثالث لهما ألبتة. وكلاهما يكون الصدق به من أجل أمر خاص لا يمكن وجود مثله في الآية الكريمة التي نحن بصددها، بل هو مناقض لمعنى الآية. والاستدلال بوجود أحد المتناقضين على وجود الآخر ضروري البطلان. ونعني بأول الأمرين المذكورين كون الشرطية اتفاقية لا لزومية أصلاً. وبالثاني منهما كون الصدق المذكور، من أجل خصوص المادة. ومعلوم أن الصدق من أجل خصوص المادة لا عبرة به في العقليات، وأنه في حكم الكذب لعدم اضطراده، لأنه يصدق في مادة ويكذب في أخرى. والمعتبر إنما هو الصدق اللازم المضطرد، الذي لا يختلف باختلاف المادة بحال. ولا شك أن كل قضية شرطها محال لا يضطرد صدقها إلا إذا كان جزاؤها محالاً خاصة. فإن وجدت قضية باطلة الشرط صحيحة الجزاء، فلا بد أن يكون ذلك، لكونها اتفاقية أو لأجل خصوص المادة فقط. فمثال وقوع ذلك لكونها اتفاقية قولك: إن كان زيد في السماء لم ينج من الموت. فالشرط الذي هو كونه في السماء باطل والجزاء الذي هو كونه لم ينج من الموت صحيح. وإنما صح هذا لكون هذه الشرطية اتفاقية. ومعلوم أن الاتفاقية لا علاقة بين طرفيها أصلاً. فلا يقتضي ثبوت أحدهما ولا نفيه ثبوت الآخر ولا نفيه، فلا ارتباط بين طرفيها في المعنى أصلاً وإنما هو في اللفظ فقط. فكون زيد في السماء لا علاقة له بعدم نجاته من الموت أصلاً، ولا ارتباط بينهما إلا في اللفظ. فهو كقولك: إن كان الإنسان ناطقاً فالفرس صاهل. وقد قدمنا إيضاح الفرق بين الشرطية اللزومية والشرطية الاتفاقية في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: {وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً} فراجعه. ومعلوم أن قوله {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ} لم يقل أحد إنها شرطية اتفاقية ولم يدع أحد، أنها لا علاقة بين طرفيها أصلاً. ومثال وقوع ذلك لأجل خصوص المادة فقط، ما مثل به الفخر الرازي لهذه الآية الكريمة، مع عدم انتباهه لشدة المنافاة بين الآية الكريمة وبين ما مثل لها به، فإنه لما قال: إن الشرط الذي هو {إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ} باطل، والجزاء الذي هو: {فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ} صحيح. مثل لذلك بقوله: إن كان الإنسان حجراً فهو جسم، يعني أن قوله: إن كان الإنسان حجراً شرط باطل فهو كقوله تعالى {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ} فكون الإنسان حجراً وكون الرحمن ذا ولد كلاهما شرط باطل. فلما صح الجزاء المرتب على الشرط الباطل في قوله: إن كان الإنسان حجراً فهو جسم دل ذلك على أن الجزاء الصحيح في قوله: {فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ} يصح ترتيبه على الشرط الباطل الذي هو {إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ}. وهذا غلط فاحش جداً، وتسوية بين المتنافيين غاية المنافاة، لأن الجزاء المرتب على الشرط الباطل في قوله: إن كان الإنسان حجراً فهو جسم إنما صدق لأجل خصوص المادة لا لمعنى اقتضاه الربط ألبتة. وإيضاح ذلك أن النسبة بين الجسم والحجر، والنسبة بين الإنسان والجسم هي العموم والخصوص المطلق في كليهما. فالجسم أعم مطلقاً من الحجر، والحجر أخص مطلقاً من الجسم، كما أن الجسم أعم من الإنسان أيضاً عموماً مطلقاً، والإنسان أخص من الجسم أيضاً خصوصاً مطلقاً: فالجسم جنس قريب للحجر، وجنس بعيد للإنسان، وإن شئت قلت: جنس متوسط له. وإيضاح ذلك أن تقول في التقسيم الأول: الجسم إما نام أي يكبر تدريجاً أو غير نام، فغير النامي كالحجر مثلاً، ثم تقسم النامي تقسيماً ثانياً؟ فتقول: النامي إما حساس أو غير حساس، فغير الحساس منه كالنبات. ثم تقسم الحساس تقسيماً ثالثاً فتقول: الحساس إما ناطق أو غير ناطق، والناطق منه هو الإنسان.