التاسع عشر :كلامهم لايتعدى الذهن ولا حقيقة له في الخارج
قال :وإذا تأمل الخبير بالحقائق كلامهم فى أنواع علومهم لم يجد عندهم علما بمعلومات موجودة فى الخارج إلا القسم الذي يسمونه الطبيعي وما يتبعه من الرياضي ,وأما الرياضي المجرد فى الذهن فهو الحكم بمقادير ذهنية لا وجود لها فى الخارج والذى سموه علم ما بعد الطبيعة ؛إذا تدبر لم يوجد فيه علم بمعلوم موجود في الخارج وإنما تصوروا أمورا مقدرة فى أذهانهم لا حقيقة لها فى الخارج ,ولهذا منتهى نظرهم وآخر فلسفتهم وحكمهم هو الوجود المطلق الكلى والمشروط بسلب جميع الأمور الوجودية .
والمقصود أنهم كثيرا ما يدعون فى المطالب البرهانية والأمور العقلية ما يكونون قدروه فى أذهانهم ويقولون نحن نتكلم فى الأمور الكلية والعقليات المحضة ,وإذا ذكر لهم شىء قالوا نتكلم فيما هو أعلم من ذلك ,وفى الحقيقة من حيث هي هي ونحو هذه العبارات فيطلبون بتحقيق ما ذكروه فى الخارج ,ويقال بينوا هذا أي شيء هو فهنالك يظهر جهلهم وأن ما يقولونه هو أمر مقدر فى الأذهان لا حقيقة له فى الأعيان مثل أن يقال لهم اذكروا مثال ذلك ,والمثال أمر جزئى فإذا عجزوا عن التمثيل قالوا نحن نتكلم فى الأمور الكلية ؛فاعلم أنهم يتكلمون بلا علم وفيما لا يعلمون أن له معلوما فى الخارج بل ليس له معلوم فى الخارج وفيما يمتنع أن يكون له معلوم فى الخارج وإلا فالعلم بالأمور الموجودة إذا كان كليا كانت معلوماته ثابتة فى الخارج .
مجموع الفتاوى (9|229)
وقال أيضا :
إن القضايا الكلية العامة لا توجد في الخارج كلية عامة ,وإنما تكون كلية في الأذهان لا فى الأعيان وأما الموجودات فى الخارج فهي أمور معينة كل موجود له حقيقة تخصه يتميز بها عما سواه لا يشركه فيها غيره ؛فحينئذ لا يمكن الاستدلال بالقياس على خصوص وجود معين وهم معترفون بذلك وقائلون أن القياس لا يدل على أمر معين ,وقد يعبرون عن ذلك بأنه لا يدل على جزئي وإنما يدل على كلي فإذن القياس لا يفيد معرفة أمر موجود بعينه وكل موجود فإنما هو موجود بعينه فلا يفيد معرفة شىء من حقائق الموجودات وإنما يفيد أمورا كلية مطلقة مقدرة فى الأذهان لا محققة فى الأعيان .
فما يذكره النظار من الأدلة القياسية التى يسمونها براهين على إثبات الصانع سبحانه لا يدل شىء منها على عينه ,وإنما يدل على أمر مطلق لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه ؛فإذا قال هذا محدث وكل محدث فلا بد له من محدث إنما يدل هذا على محدث مطلق كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه ,وإنما تعلم عينه بعلم آخر يجعله الله فى القلوب وهم معترفون بهذا لأن النتيجة لا تكون أبلغ من المقدمات والمقدمات فيها قضية كلية لا بد من ذلك والكلى لا يدل على معين ,وهذا بخلاف ما يذكره الله فى كتابه من الآيات كقوله تعالى{ إن فى خلق لسموات والأرض } الآية إلى غير ذلك يدل على المعين كالشمس التى هي آية النهار والدليل أعم من القياس ؛فإن الدليل قد يكون على معين كما يستدل بالنجم وغيره من الكواكب على الكعبة فالآيات تدل على نفس الخالق سبحانه لا على قدر مشترك بينه وبين غيره فإن كل ما سواه مفتقر اليه نفسه فيلزم من وجوده وجود عين الخالق نفسه .
مجموع الفتاوى (9|234)
العشرون :أنهم قسموا جنس الدليل إلى القياس والاستقراء والتمثيل
قالوا لأن الاستدلال إما أن يكون بالكلى على الجزئى أو بالجزئى على الكلى أو بأحد الجزئيين على الآخر ,وربما عبروا عن ذلك بالخاص والعام فقالوا إما أن يستدل بالعام على الخاص أو بالخاص على العام أو بأحد الخاصين على الآخر...ثم ذكر رحمه الله ترتيبهم الذي وضعوه في القياس ثم عقب فقال :
أ- فنقول هذا الذى قالوه إما أن يكون باطلا وإما أن يكون تطويلا يبعد الطريق على المستدل فلا يخلو عن خطأ يصد عن الحق أو طريق طويل يتعب صاحبه حتى يصل إلى الحق مع إمكان وصوله بطريق قريب كما كان يمثله بعض سلفنا بمنزلة من قيل له أين أذنك فرفع يده رفعا شديدا ثم أدارها إلى أذنه اليسرى وقد كان يمكنه الإشارة إلى اليمنى أو اليسرى من طريق مستقيم وما أحسن ما وصف الله به كتابه بقوله{ إن هذا القرآن يهدى للتى هو أقوم } فأقوم الطريق إلى أشرف المطالب ما بعث الله به رسوله , وأما طريق هؤلاء فهى مع ضلالهم فى البعض وإعوجاج طريقهم وطولها فى البعض الآخر إنما توصلهم إلى أمر لا ينجى من عذاب الله فضلا عن أن يوجب لهم السعادة فضلا عن حصول الكمال للأنفس البشرية بطريقهم .
ب- بيان ذلك أن ما ذكروه من حصر الدليل فى القياس والاستقراء والتمثيل حصر لا دليل عليه بل هو باطل فقولهم أيضا أن العلم المطلوب لا يحصل إلا بمقدمتين لا يزيد ولا ينقص قول لا دليل عليه بل هو باطل ,واستدلالهم على الحصر بقولهم إما أن يستدل بالكلى على الجزئى أو بالجزئى على الكلي أو بأحد الجزئين على الآخر والأول هو القياس والثانى هو الاستقراء والثالث هو التمثيل ,فيقال لم تقيموا دليلا على انحصار الاستدلال فى الثلاثة ؛فإنكم إذا عنيتم بالاستدلال بجزئى على جزئى قياس التمثيل لم يكن ما ذكرتموه حاصرا ,وقد بقى الاستدلال بالكلى على الكلي الملازم له وهو المطابق له فى العموم والخصوص ,وكذلك الاستدلال بالجزئى على الجزئى الملازم له بحيث يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر ,ومن عدمه عدمه ؛فإن هذا ليس مما سميتموه قياسا ولا استقراء ولا تمثيلا وهذه هى الآيات .
وهذا كالاستدلال بطلوع الشمس على النهار وبالنهار على طلوع الشمس فليس هذا استدلالا بكلى على جزئى بل الاستدلال بطلوع معين على نهار معين استدلال بجزئى على جزئى وبجنس النهار على جنس الطلوع استدلال بكلي على كلي وكذلك الاستدلال بالكواكب على جهة الكعبة استدلال بجزئى على جزئى كالاستدلال بالجدي وبنات نعش والكواكب الصغير القريب من القطب الذى يسميه بعض الناس القطب ,وكذلك بظهور كوكب على ظهور نظيره فى العرض والاستدلال بطلوعه على غروب آخر وتوسط آخر ونحو ذلك من الأدلة التى اتفق عليها الناس قال تعالى { وبالنجم هم يهتدون } والاستدلال على المواقيت والأمكنة بالأمكنة أمر اتفق عليه العرب والعجم وأهل الملل والفلاسفة ؛فإذا استدل بظهور الثريا على ظهور ما قرب منها مشرقا ومغربا ويمينا وشمالا من الكواكب كان استدلالا بجزئى على جزئى لتلازمها ,وليس ذلك من قياس التمثيل فإن قضى به قضاء كليا كان استدلالا بكلى على كلى وليس استدلالا بكلى على جزئى بل بأحد الكليين المتلازمين على الآخر ,ومن عرف مقدار أبعاد الكواكب بعضها عن بعض وعلم ما يقارن منها طلوع الفجر استدل بما رآه منها على ما مضى من الليل .وما بقى منه وهو استدلال بأحد المتلازمين على الآخر ,ومن علم الجبال والأنهار والرياح استدل بها على ما يلازمها من الأمكنة .
مجموع الفتاوى (9|155) والرد على المنطقيين (159)
الحادي والعشرون :يمكن الحصول على اليقين بالقياس التمثيلي( ) خلافا لقولهم
أ- قال : ومما يبين أن حصول العلوم اليقينية الكلية والجزئية لا يفتقر إلى برهانهم من قضية كلية أن العلم بتلك القضية الكلية لا بد له من سبب ؛فإن عرفوها باعتبار الغائب بالشاهد ,وأن حكم الشيء حكم مثله كما إذا عرفنا أن هذه النار محرقة فالنار الغائبة محرقة لأنها مثلها وحكم الشيء حكم مثله ؛فيقال هذا استدلال بالقياس التمثيلي وهم يزعمون أنه لا يفيد اليقين بل الظن ؛فإذا كانوا إنما عملوا القضية الكلية بقياس التمثيل رجعوا في اليقين إلى ما يقولون إنه لا يفيد إلا الظن ,وإن قالوا بل عند الإحساس بالجزئيات يحصل في النفس علم كلي من واهب العقل أو تستعد النفس عند الإحساس بالجزئيات لأن يفيض عليها الكلي من واهب العقل أو قالوا من العقل الفعال –عندهم- أو نحو ذلك قيل لهم كلام فيها به يعلم أن الحكم الكلي الذي في النفس علم لا ظن ولا جهل ؛فإن قالوا هذا العلم بالبديهة أو الضرورة كان هذا قولا بأن هذه القضايا الكلية المعلومة بالبديهة والضرورة وأن النفس مضطرة إلى هذا العلم ,وهذا إن كان حقا فالعلم بالأعيان العينة وبأنواع الكليات يحصل أيضا في النفس بالبديهة والضرورة كما هو الواقع ؛فإن جزم العقلاء بالشخصيات من الحسيات أعظم من جزمهم بالكليات وجزمهم بكلية الأنواع أعظم من جزمهم بكلية الأجناس ,والعلم بالجزئيات أسبق إلى الفطرة فجزم الفطرة بها أقوى ثم كلما قوى العقل اتسعت الكليات ,وحينئذ فلا يجوز أن يقال أن العلم بالأشخاص موقوف على العلم بالأنواع والأجناس ,ولا أن العلم بالأنواع موقوف على العلم بالأجناس بل قد يعلم الإنسان أنه حساس متحرك بالإرادة قبل أن يعلم أن كل إنسان كذلك ,ويعلم أن الإنسان كذلك قبل أن يعلم أن كل حيوان كذلك فلم يبق علمه بأن غيره من الحيوان حساس متحرك بالإرادة موقوفا على البرهان ,وإذا علم حكم سائر الناس وسائر الحيوان فالنفس تحكم بذلك بواسطة علمها أن ذلك الغائب مثل هذا الشاهد أو أنه يساويه في السبب الموجب لكونه حساسا متحركا بالإرادة ونحو ذلك من قياس التمثيل والتعليل الذي يحتج به الفقهاء في اثبات الأحكام الشرعية .
مجموع الفتاوى (9|115)
وقال أيضا :وهؤلاء يزعمون أن ذلك القياس إنما يفيد الظن وقياسهم هو الذى يفيد اليقين وقد بينا فى غير هذا الموضع أن قولهم هذا من أفسد الأقوال ,وأن قياس التمثيل وقياس الشمول سواء وإنما يختلفان بالمادة المعينة ؛فإن كانت يقينية فى أحدهما كانت يقينية فى الآخر ,وإن كانت ظنية فى أحدهما كانت ظنية فى الآخر ,وذلك أن قياس الشمول مؤلف من الحدود الثلاثة الأصغر والأوسط والأكبر ,والحد الأوسط فيه هو الذى يسمى فى قياس التمثيل علة ومناطا وجامعا .
فإذا قال فى مسألة النبيذ كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام ؛ فلا بد له من إثبات المقدمة الكبرى وحينئذ يتم البرهان وحينئذ فيمكنه أن يقول النبيذ مسكر فيكون حراما قياسا على خمر العنب وبجامع ما يشتركان فيه من الإسكار ؛فإن الإسكار هو مناط التحريم فى الأصل وهو موجود فى الفرع فبما به يقرر أن كل مسكر حرام به يقرر أن السكر مناط التحريم بطريق الأولى بل التفريق فى قياس التمثيل أسهل عليه لشهادة الأصل له بالتحريم ؛فيكون الحكم قد علم ثبوته فى بعض الجزئيات ,ولا يكفى فى قياس التمثيل إثباته فى أحد الجزئين لثبوته فى الجزء الآخر لاشتراكهما فى أمر لم يقم دليل على استلزامه للحكم كما يظنه بعض الغالطين بل لابد أن يعلم أن المشترك بينهما مستلزم للحكم والمشترك بينهما هو الحد الأوسط .
مجموع الفتاوى (9|116)
وقال أيضا : تفريقهم بين قياس الشمول وقياس التمثيل بأن الأول قد يفيد اليقين والثانى لا يفيد إلا الظن فرق باطل بل حيث أفاد أحدهما اليقين أفاد الآخر اليقين وحيث لا يفيد أحدهما إلا الظن لا يفيد الآخر إلا الظن ؛فإن إفادة الدليل لليقين أو الظن ليس لكونه على صورة أحدهما دون الآحر بل باعتبار تضمن أحدهما لما يفيد اليقين ؛فإن كان أحدهما اشتمل على أمر مستلزم للحكم يقينا حصل به اليقين وإن لم يشتمل إلا على ما يفيد الحكم ظنا لم يفد إلا الظن ,والذى يسمى في أحدهما حدا أوسط :هو فى الآخر الوصف المشترك والقضية الكبرى المتضمنة لزوم الحد الأكبر للأوسط هو بيان تأثير الوصف المشترك بين الأصل والفرع فما به يتبين صدق القضية الكبرى به يتبين أن الجامع المشترك مستلزم للحكم ؛فلزوم الأكبر للأوسط هو لزوم الحكم للمشترك .
فإذا قلت النبيذ حرام قياسا على الخمر لأن الخمر إنما حرمت لكونه مسكرة وهذا الوصف موجود فى النبيذ كان بمنزلة قولك كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام فالنتيجة قولك النبيذ حرام والنبيذ هو موضوعها وهو الحد الأصغر والحرام محمولها وهو الحد الأكبر ,والمسكر هو المتوسط بين الموضوع والمحمول وهو الحد الأوسط المحمول فى الصغرى الموضوع فى الكبرى .
فإذا قلت النبيذ حرام قياس على خمر العنب لأن العلة فى الأصل هو الإسكار ,وهو موجود فى الفرع فثبت التحريم لوجود علته ؛فإنما استدللت على تحريم النبيذ بالسكر وهو الحد الأوسط لكن زدت فى قياس التمثيل ذكر الأصل الذى يثبت به الفرع ,وهذا لأن شعور النفس بنظير الفرع أقوى في المعرفة من مجرد دخوله فى الجامع الكلى ,وإذا قام الدليل على تأثير الوصف المشترك لم يكن ذكر الأصل محتاجا إليه ....
والمقصود هنا الكلام المنطق وما ذكر من البرهان وأنهم يعظمون قياس الشمول ويستخفون بقياس التمثيل ويزعمون أنه إنما يفيد الظن ,وأن العلم لا يحصل الا بذاك ,وليس الأمر كذلك بل هما فى الحقيقة من جنس واحد وقياس التمثيل الصحيح أولى بإفادة المطلوب علما كان أو ظنا من مجرد قياس الشمول ,ولهذا كان سائر العقلاء يستدلون بقياس التمثيل أكثر مما يستدلون بقياس الشمول بل لا يصح قياس الشمول فى الأمر العام إلا بتوسط قياس التمثيل ,وكل ما يحتج به على صحة قياس الشمول فى بعض الصور فإنه يحتج على صحة قياس التمثيل فى تلك الصورة.
مجموع الفتاوى (9|205)
ب- وقال أيضا: إن الحد الأوسط المكرر فى قياس الشمول وهو الخمر من قولك كل مسكر خمر وكل خمر حرام هو مناط الحكم فى قياس التمثيل ,وهو القدر المشترك الجامع بين الأصل والفرع ؛فالقياسان متلازمان كل ما علم بهذا القياس يمكن علمه بهذا القياس ثم إن كان الدليل قطعيا فهو قطعي فى القياسين أو ظنيا فظنى فيهما.
وأما دعوى من يدعى من المنطقيين وأتباعهم أن اليقين إنما يحصل بقياس الشمول دون قياس التمثيل فهو قول فى غاية الفساد وهو قول من لم يتصور حقيقة القياسين ,وقد يعلم بنص أن كل مسكر حرام كما ثبت فى الحديث الصحيح ,وإذا كان كذلك لم يتعين قياس الشمول لإفادة الحكم بل ولا قياس من الأقيسة؛ فإنه قد يعلم بلا قياس فبطل قولهم لا علم تصديقى إلا بالقياس المنطقي كما تقدم .
والمقصود هنا بيان قلة منفعته أو عدمها ؛فإن المطلوب إن كان ثم قضية علمت من جهة الرسول تفيد العموم وهو أن كل مسكر حرام حصل مدعاه فالقضايا الكلية المتلقاة عن الرسول تفيد العلم فى المطالب الإلهية .
مجموع الفتاوى (9|235)
ج- قياس الشمول يمكن جعله قياس تمثيل وبالعكس( )
فإن قيل من أين تعلم بأن الجامع يستلزم الحكم
قيل من حيث تعلم القضية الكبرى فى قياس الشمول
فإذا قال القائل هذا فاعل محكم لفعله وكل محكم لفعله فهو عالم فأي شىء ذكر فى علة هذه القضية الكلية فهو موجود فى قياس التمثيل وزيادة أن هناك أصلا يمثل به قد وجد فيه الحكم مع المشترك وفي الشمول لم يذكر شىء من الافراد التى ثبت الحكم فيها ومعلوم ان ذكر الكلي المشترك مع بعض افراده أثبت فى العقل من ذكره مجردا عن جميع الافراد باتفاق العقلاء
ولهذا قالوا ان العقل تابع للحس فإذا أدرك الحس الجزئيات أدرك العقل منها قدرا مشتركا كلي فالكليات تقع في النفس بعد معرفة الجزئيات المعينة فمعرفة الجزيئات المعينة من أعظم الاسباب فى معرفة الكليات فكيف يكون ذكرها مضعفا للقياس وعدم ذكرها موجبا لقوته وهذه خاصة العقل معرفة الكليات بتوسط معرفة الجزيئات فمن أنكرها انكر خاصة عقل الانسان ومن جعل ذكرها بدون شيء من محالها المعينة اقوى من ذكرها مع التمثيل بمواضعها المعينة كان مكابرا .
مجموع الفتاوى (9|238)
د-: الموجودات في الخارج تعرف بغير القياس المنطقي
قال :أما الموجودات الخارجية فتعلم بدون هذا القياس ,وإذا قيل إن من الناس من يعلم بعض الأعيان الخارجية بهذا القياس فيكون مبناه على قياس التمثيل الذى ينكرون أنه يقينى فهم بين أمرين :إن اعترفوا بأن قياس التمثيل من جنس قياس الشمول ينقسم إلى يقينى وظني بطل تفريقهم ,وإن ادعوا الفرق بينهما وأن قياس الشمول يكون يقينيا دون التمثيل منعوا ذلك ,وبين لهم أن اليقين لا يحصل فى هذه الأمور إلا أن يحصل بالتمثيل فيكون العلم بما لم يعلم من المفردات الموجودة فى الخارج قياسا على ما علم منها ,وهذا حق لا ينازع فيه عاقل بل هذا من أخص صفات العقل التى فارق بها الحس, إذ الحس لا يعلم إلا معينا والعقل يدركه كليا مطلقا لكن بواسطة التمثيل ثم العقل يدركها كلها مع عزوب الأمثلة المعينة عنه.
لكن هي في الأصل إنما صارت فى ذهنه كلية عامة بعد تصوره لأمثال معينة من أفرادها ,وإذا بعد عهد الذهن بالمفردات المعنية فقد يغلط كثيرا ؛بأن يجعل الحكم إما أعم وإما أخص ,وهذا يعرض للناس كثيرا حيث يظن أن ما عنده من القضايا الكلية صحيح ويكون عند التحقيق ليس كذلك .
وهم يتصورون الشىء بعقولهم ويكون ما تصوروه معقولا بالعقل فيتكلمون عليه ويظنون أنهم تكلموا فى ماهية مجردة بنفسها من حيث هي هى ,من غير أن تكون ثابتة فى الخارج ولا فى الذهن فيقولون الإنسان من حيث هو هو والوجود من حيث هو هو والسواد من حيث هو هو ونحو ذلك .
ويظنون أن هذه الماهية التى جردوها عن جميع القيود السلبية والثبوتية محققة فى الخارج على هذا التجريد ,وذلك غلط كغلط أوليهم فيما جردوه من العدد والمثل الأفلاطونية وغيرها بل هذه المجردات لا تكون إلا مقدرة في الذهن ,وليس كل ما فرضه الذهن أمكن وجوده فى الخارج وهذا الذى يسمى الإمكان الذهني.
فإن الإمكان على وجهين ذهني وهو أن يعرض الشىء على الذهن فلا يعلم امتناعه بل يقول يمكن هذا لا لعلمه بإمكانه بل لعدم علمه بامتناعه مع أن ذلك الشىء قد يكون ممتنعا في الخارج.
و خارجي وهو أن يعلم إمكان الشىء فى الخارج ,وهذا يكون بأن يعلم وجوده فى الخارج أو وجود نظيره أو وجوده ما هو أبعد عن الوجود منه ؛فإذا كان الأبعد عن قبول الوجود موجودا ممكن الوجود فالأقرب إلى الوجود منه أولى .
مجموع الفتاوى(9|224)
الثاني والعشرون: أنهم كما حصروا اليقين في الصورة القياسية حصروه فى المادة التى ذكروها من القضايا الحسيات والأوليات والمتواترات والمجربات والحدسيات ومعلوم أن لا دليل على نفي ما سوى هذه القضايا ثم مع ذلك إنما اعتبروا فى الحسيات والعقليات وغيرها ما جرت العادة باشتراك بنى آدم فيه ,وتناقضوا في ذلك فإن بني آدم إنما يشتركون كلهم فى بعض المرئيات وبعض المسموعات؛ فإنهم كلهم يرون عين الشمس والقمر والكواكب ويرون جنس السحاب والبرق ,وإن لم يكن ما يراه هؤلاء عين ما يراه هؤلاء عين ,وكذلك يشتركون في سماع صوت الرعد ,وأما ما سمعه بعضهم من كلام بعض وصوته فهذا لا يشترك بنو آدم فى عينه بل كل قوم يسمعون ما لم يسمع غيرهم وكذا أكثر المرئيات
وأما الشم والذوق واللمس فهذا لا يشترك جميع الناس فى شيء معين فيه ؛بل الذي يشمه هؤلاء ويذوقونه ويلمسونه ليس هو الذي يشمه ويذوقه ويلمسه هؤلاء .
لكن قد يتفقان فى الجنس لا فى العين وكذلك ما يعلم بالتواتر والتجربة والحدس فإنه قد يتواتر عند هؤلاء ويجرب هؤلاء ما لم يتواتر عند غيرهم ويجربوه ,ولكن قد يتفقان فى الجنس كما يجرب قوم بعض الأدوية ويجرب آخرون جنس تلك الأدوية فيتفق فى معرفة الجنس لا في معرفة عين المجرب ...
وعامة ما عندهم من العلوم الكلية بأحوال الموجودات هي من العلم بعادة ذلك الموجود وهو ما يسمونه الحدسيات وعامة ما عندهم من العلوم العقلية الطبيعية والعلوم الفلكية كعلم الهيئة فهو من قسم المجربات ,وهذه لا يقوم فيها برهان ؛فإن كون هذه الأجسام الطبيعية جربت وكون الحركات جربت لا يعرفه أكثر الناس إلا بالنقل , والتواتر في هذا قليل .
وغاية الأمر أن تنقل التجربة في ذلك عن بعض الأطباء أو بعض أهل الحساب وغاية ما يوجد أن يقول بطليموس هذا مما رصده فلان وأن يقول جالينوس هذا مما جربته أو ذكر لي فلان أنه جربه وليس فى هذا شيء من المتواتر ,وإن قدر أن غيره جربه أيضا فذاك خبر واحد وأكثر الناس لم يجربوا جميع ما جربوه ولا علموا بالأرصاد ما ادعوا أنهم علموه ,وإن ذكروا جماعة رصدوا فغايته أنه من المتواتر الخاص الذي تنقله طائفة .
فمن زعم أنه لا يقوم عليه برهان بما تواتر عن الأنبياء كيف يمكنه أن يقيم على غيره برهانا بمثل هذا التواتر ويعظم علم الهيئة والفلسفة ويدعي أنه علم عقلي معلوم بالبرهان ,وهذا أعظم ما يقوم عليه البرهان العقلي عندهم هذا حاله فما الظن بالإلهيات التى إذا نظر فيها كلام معلمهم الأول أرسطو وتدبره الفاضل العاقل لم يفده إلا العلم بأنهم كانوا من أجهل الخلق برب العالمين ,وأن كفار اليهود والنصارى أعلم منهم بهذه الأمور .
مجموع الفتاوى (9|246)
الثالث والعشرون :إن الأنبياء والأولياء لهم من علم الوحي والإلهام ما هو خارج عن قياسهم الذي ذكروه بل الفراسة أيضا ومثالها فإن ادخلوا ذلك فيما ذكروه من الحسيات والعقليات ,لم يمكنهم نفي ما لم يذكروه ,ولم يبق لهم ضابط ,وقد ذكر ابن سينا وأتباعه أن القضايا الواجب قبولها التى هي مادة البرهان الأوليات والحسيات والمجربات والحدسيات والمتواترات وربما ضموا إلى ذلك قضايا معها حدودها ,ولم يذكروا دليلا على هذا الحصر ,ولهذا اعترف المنتصرون لهم أن هذا التقسيم منتشر غير منحصر يتعذر إقامة دليل عليه ,وإذا كان كذلك لم يلزم ان كل ما لم يدخل فى قياسهم لا يكون معلوما وحينئذ فلا يكون المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتها من الخطأ .
فإنه وعامة هؤلاء المنطقيين يكذبون بما لم يستدل عليه بقياسهم ,وهذا فى غاية الجهل لاسيما إن كان الذي كذبوا به من أخبار الأنبياء
فإذا كان أشرف العلوم لا سبيل الى معرفته بطريقهم لزم أمران :
أحدهما :إن لا حجة لهم على ما يكذبون به مما ليس فى قياسهم دليل عليه .
و الثانى :إن ما علموه خسيس بالنسبة الى ما جهلوه فكيف اذا علم انه لا يفيد النجاة ولا السعادة .
مجموع الفتاوى (9|247)
الرابع والعشرون :أنهم يجعلون ما هو علم يجب تصديقه ليس علما وما هو باطل وليس بعلم يجعلونه علما
قال : فزعموا ما جاءت به الأنبياء فى معرفة الله وصفاته والمعاد لا حقيقة له فى الواقع وأنهم إنما أخبروا الجمهور بما يتخيلونه فى ذلك لينتفعوا به فى إقامة مصلحة دنياهم لا يعرفوا بذلك الحق ,وأنه من جنس الكذب لمصلحة الناس ويقولون أن النبى حاذق بالشرائع العملية دون العلمية ,ومنهم من يفضل الفيلسوف على كل نبى وعلى نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام ,ولا يوجبون اتباع نبى بعينه لا محمد .. وقد أخبر النبى عن الله بأسمائه وصفاته المعينة وعن الملائكة والعرش والكرسي والجنة والنار ,وليس فى ذلك شيء من ذلك بقياسهم وكذا أخبر عن أمور معينة مما كان وسيكون وليس شيء من ذلك يمكن معرفته بقياسهم لا البرهاني ولا غيره ؛فإن أقيستهم لا تفيد إلا أمورا كلية وهذه أمور خاصة .. والمقصود أن يعرف الإنسان أنهم يقولون من الجهل والكفر ما هو فى غاية الضلال فرارا من لازم ليس قط دليل على نفيه .
مجموع الفتاوى (9|249)
الخامس والعشرون :أن في غير الطرق التي استندوا إليها بيان للأمور أوضح وأجلى من قياسهم المنطقي
قال رحمه الله : أما الأمور الموجودة المحققة فتعلم بالحس الباطن والظاهر وتعلم بالقياس التمثيلى وتعلم بالقياس الذى ليس فيه قضية كلية ولا شمول ولا عموم بل تكون الحدود الثلاثة فيه الأصغر والأوسط والأكبر أعيانا جزئية والمقدمات والنتيجة قضايا جزئية ,وعلم هذه الأمور المعينة بهذه الطرق أصح وأوضح وأكمل ؛فإن من رأى بعينه زيدا فى مكان ,وعمرا فى مكان آخر استغنى عن أن يستدل على ذلك بكون الجسم الواحد لا يكون فى مكانين ,وكذلك من وزن دراهم كل منها ألف درهم استغنى عن أن يستدل على ألف درهم منها بأنها مساوية للصنجة,وهى شيء واحد ,والأشياء المساوية لشىء واحد متساوية وأمثال ذلك كثير , ولهذا يسمى هؤلاء أهل كلام أى لم يفيدوا علما لم يكن معروفا ,وإنما أتوا بزيادة كلام قد لايفيد وهو ما ضربوه من القياس لإيضاح ماعلم بالحس ,وإن كان هذا وهو ما ضربوه من القياس لإيضاح ما علم بالحس ,وإن كان هذا القياس وأمثاله ينتفع به فى موضع آخر...
وكذلك إذا علم الإنسان أن هذا الدينار مثل هذا وهذا الدرهم مثل هذا ,وأن هذه الحنطة والشعير مثل هذا ثم علم شيئا من صفات أحدهما وأحكامه الطبيعية مثل الاغتذاء والانتفاع أو العادية مثل القيمة والسعر أو الشرعية مثل الحل والحرمة علم أن حكم الآخر مثله ؛فأقيسة التمثيل تفيد اليقين بلا ريب أعظم من أقيسة الشمول ولا يحتاج مع العلم بالتماثل إلى أن يضرب لهما قياس شمول بل يكون من زيادة الفضول وبهذا الطريق عرفت القضايا الجزئية بقياس التمثيل ....
مجموع الفتاوى (9|76)
السادس والعشرون : أنهم معترفون بالحسيات الظاهرة والباطنة كالجوع والألم واللذة ونفوا وجود ما يمكن أن يختص برؤيته بعض الناس كالملائكة والجن ,وما تراه النفس عند الموت .
والكتاب والسنة ناطقان بإثبات ذلك ولبسط هذه الأمور موضع آخر وإنما المقصود أن ما تلقوه من القواعد الفاسدة المنطقية من نفي ما لم يعلم نفيه أوجب لهم من الجهل والكفر ما صار حاجبا ,وأنهم به أسوأ حالا من كفار اليهود والنصارى .
مجموع الفتاوى (9|249)
السابع والعشرون : أن يقال كون القضية برهانية معناه عندهم أنها معلومة للمستدل بها ,وكونها جدلية معناه كونها مسلمة ,وكونها خطابية معناه كونها مشهورة أو مقبولة أو مظنونة ,وجميع هذه الفروق هي نسب وإضافات عارضة للقضية ليس فيها ما هو صفة ملازمة لها فضلا عن أن تكون ذاتية لها على أصلهم بل ليس فيها ما هو صفة لها فى نفسها بل هذه صفات نسبية باعتبار شعورالشاعر بها ,ومعلوم أن القضية قد تكون حقا والإنسان لا يشعر بها فضلا عن أن يظنها أو يعلمها ,وكذلك قد تكون خطابية أو جدلية وهي حق فى نفسها بل تكون برهانية أيضا كما قد سلموا ذلك ,وإذا كان كذلك فالرسل صلوات الله عليهم أخبروا بالقضايا التى هي حق فى نفسها لا تكون كذبا باطلا قط ,وبينوا من الطرق العلمية التى يعرف بها صدق القضايا ما هو مشترك فينتفع به جنس بني آدم وهذا هو العلم النافع للناس .
وأما هؤلاء المتفلسفة فلم يسلكوا هذا المسلك بل سلكوا في القضايا الأمر النسبى فجعلوا البرهانيات ما علمه المستدل وغير ذلك لم يجعلوه برهانيا ,وإن علمه مستدل آخر ,وعلى هذا فيكون من البرهانيات عند إنسان وطائفة ما ليس من البرهانيات عند آخرين ؛فلا يمكن أن تحد القضايا العلمية بحد جامع بل تختلف باختلاف أحوال من علمها ومن لم يعلمها حتى أن أهل الصناعات عند أهل كل صناعة من القضايا التى يعلمونها مالا يعلمها غيرهم, وحينئذ فيمتنع أن تكون طريقتهم مميزة للحق من الباطل والصدق من الكذب باعتبار ما هو الأمر عليه فى نفسه عند أهل كل صناعة من الحق والباطل ومن الصدق والكذب ,ويمتنع أن تكون منفعتها مشتركة بين الآدميين بخلاف طريقة الأنبياء ؛فإنهم أخبروا بالقضايا الصادقة التى تفرق بين الحق والباطل والصدق والكذب ؛فكل ما ناقض الصدق فهو كاذب وكل ما ناقض الحق فهو باطل ؛فلهذا جعل الله ما أنزله من الكتاب حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه وأنزل أيضا الميزان وما يوزن به ويعرف به الحق من الباطل ولكل حق ميزان يوزن به بخلاف ما فعله الفلاسفة المنطقيون فإنه لا يمكن أن يكون هاديا للحق ولا مفرقا بين الحق والباطل ولا هو ميزان يعرف به الحق من الباطل .
وأما المتكلمون فما كان في كلامهم موافقا لما جاءت به الأنبياء فهو منه وما خالفه فهو من البدع الباطلة شرعا وعقلا .
فإن قيل نحن نجعل البرهانيات إضافية فكل ما علمه الإنسان بمقدماته فهو برهاني عنده وإن لم يكن برهانيا عند غيره .
قيل: لم يفعلوا ذلك فإن من سلك هذا السبيل لم يجد مواد البرهان فى أشياء معينة مع إمكان علم كثير من الناس لأمور أخرى بغير تلك المواد المعينة التى عيونها وإذا قالوا نحن لا نعين المواد فقد بطل أحد أجزاء المنطق وهو المطلوب .
مجموع الفتاوى (9|251)
الثامن والعشرون : أنهم لما ظنوا أن طريقهم كلية محيطة بطرق العلم الحاصل لبني آدم مع أن الأمر ليس كذلك وقد علم الناس إما بالحس وإما بالعقل وإما بالأخبار الصادقة معلومات كثيرة تعلم بطريقهم ذكروها ,ومن ذلك ما علمه الأنبياء صلوات الله عليهم من العلوم أرادوا إجراء ذلك على قانونهم الفاسد فقالوا النبى له قوة أقوى من قوة غيره ,وهو أن يكون بحيث ينال الحد الاوسط من غير تعليم فإذا تصور أدرك بتلك القوة الحد الذي قد يتعسر أو يتعذر على غيره إدراكه بلا تعليم لأن قوى الأنفس فى الإدراك غير محدودة ؛فجعلوا ما يخبر به الأنبياء من أنباء الغيب إنما بواسطة القياس المنطقى ,وهذا فى غاية الفساد فإن القياس المنطقي إنما تعرف به أمورا كلية كما تقدم .
مجموع الفتاوى (9|252)
التاسع والعشرون : قول بعضهم ليس في العقليات قياس باطل ومن قال من متأخري أهل الكلام والرأي كأبي المعالي وأبي حامد والرازي وأبي محمد المقدسي وغيرهم من أن العقليات ليس فيها قياس ,وإنما القياس فى الشرعيات ولكن الاعتماد فى العقليات على الدليل الدال على ذلك مطلقا فقولهم مخالف لقول نظار المسلمين بل وسائر العقلاء ؛فإن القياس يستدل به فى العقليات كما يستدل به فى الشرعيات ؛فإنه إذا ثبت أن الوصف المشترك مستلزم للحكم كان هذا دليلا فى جميع العلوم ,وكذلك إذا ثبت أنه ليس بين الفرع والأصل فرق مؤثر كان هذا دليلا فى جميع العلوم وحيث لا يستدل بالقياس التمثيلي لا يستدل بالقياس الشمولي .
مجموع الفتاوى (9|118) والرد على المنطقيين (118)
الثلاثون : قولهم الاستدلال لابد فيه من مقدمتين بلا زيادة ولا نقصان( ) أ- وأما قولهم الاستدلال لابد فيه من مقدمتين بلا زيادة ولا نقصان فهذا قول باطل طردا وعكسا ,وذلك أن احتياج المستدل إلى المقدمات مما يختلف فيه حال الناس فمن الناس من لا يحتاج إلا إلى مقدمة واحدة لعلمه بما سوى ذلك كما أن منهم من لا يحتاج فى علمه بذلك إلى استدلال بل قد يعلمه بالضرورة ومنهم من يحتاج الى مقدمتين ,ومنهم من يحتاج الى ثلاث ,ومنهم من يحتاج الى أربع وأكثر فمن أراد أن يعرف أن هذا المسكر المعين محرم ؛فإن كان يعرف أن كل مسكر محرم ولكن لا يعرف هل هذا المسكر المعين يسكر أم لا لم يحتج إلا إلى مقدمة واحدة وهو أن يعلم أن هذا مسكر فإذا قيل له هذا حرام فقال ما الدليل عليه فقال المستدل الدليل على ذلك أنه مسكر تم المطلوب .
وكذلك لو تنازع اثنان فى بعض أنواع الأشربة هل هو مسكر أم لا كما يسأل الناس كثيرا عن بعض الأشربة ولا يكون السائل ممن يعلم أنها تسكر أو لا تسكر ولكن قد علم أن كل مسكر حرام ؛فإذا ثبت عنده بخبر من يصدقه أو بغير ذلك من الأدلة أنه مسكر علم تحريمه ,وكذلك سائر ما يقع الشك فى اندراجه تحت قضية كلية من الأنواع والأعيان مع العلم بحكم تلك القضية كتنازع الناس فى النرد والشطرنج هل هما من الميسر أم لا ,وتنازعهم فى النبيذ المتنازع فيه هل هو من الخمر أم لا ,وتنازعهم فى الحلف بالنذر والطلاق والعتاق هل هو داخل فى قوله {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} أم لا وتنازعهم فى قوله {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} هل هو الزوج أو الولى المستقل وأمثال ذلك .
وقد يحتاج الاستدلال إلى مقدمتين لمن لم يعلم أن النبيذ المسكر المتنازع فيه محرم ولم يعلم أن هذا المعين مسكر فهو لا يعلم أنه محرم حتى يعلم أنه مسكر ,ويعلم أن كل مسكر حرام ,وقد يعلم أن هذا مسكر ويعلم أن كل مسكر خمر لكن لم يعلم أن النبى صلى الله عليه وسلم حرم الخمر لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته بين جهال أو زنادقة يشكون فى ذلك أو يعلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال :كل مسكر حرام أو يعلم أن هذا خمر وأن النبى حرم الخمر لكن لم يعلم أن محمدا رسول الله أو لم يعلم أنه حرمها على جميع المؤمنين بل ظن أنه أباحها لبعض الناس ؛فظن أنه منهم كمن ظن أنه أباح شربها للتداوى أو غير ذلك ؛فهذا لا يكفيه فى العلم بتحريم هذا النبيذ المسكر تحريما عاما إلا أن يعلم أنه مسكر وأنه خمر وأن النبى صلى الله عليه وسلم حرم كل مسكر ,وأنه رسول الله حقا فما حرمه حرمه الله وأنه حرمه تحريما عاما لم يبحه للتداوى أو للتلذذ ...
والمقصود أن قولكم أن الدليل الذى هو القياس لا يكون إلا جزئين فقط إن أردتم لفظين فقط وإن ما زاد على لفظين فهو أدلة لا دليل واحد لأن ذلك اللفظ الموصوف بصفات تحتاج كل صفة إلى دليل .
قيل لكم وكذلك يمكن أن يقال فى اللفظين هما دليلان لا دليل واحد ؛فإن كل مقدمة تحتاج إلى دليل ,وحينئذ فتخصيص العدد باثنين دون ما زاد تحكم لا معنى له؛ فإنه إذا كان المقصود قد يحصل بلفظ مفرد وقد لا يحصل إلا بلفظين وقد لا يحصل إلا بثلاثة أو بأربعة وأكثر فجعل الجاعل اللفظين هما الأصل الواجب دون ما زاد وما نقص ,وأن الزائد إن كان فى المطلوب جعل مطالب متعددة, وإن كان فى الدليل تذكر مقدمات جعل ذلك فى تقدير أقيسة متعددة تحكم محض ليس هو أولى من أن يقال بل الأصل فى المطلوب أن يكون واحدا ودليله جزاء واحدا فإذا زاد المطلوب على ذلك جعل مطلوبين أو ثلاثة أو أربعة بحسب دلالته ,وهذا إذا قيل فهو أحسن من قولهم لأن اسم الدليل مفرد فيجعل معناه مفردا والقياس هو الدليل .
ولفظ القياس يقتضى التقدير كما يقال قست هذا بهذا ,والتقدير يحصل بواحد وإذا قدر باثنين وثلاثة يكون تقديرين وثلاثة لا تقديرا واحدا ؛فتكون تلك التقديرات أقيسة لا قياسا واحدا فجعلهم ما زاد على الاثنين من المقدمات فى معنى أقيسة متعددة وما نقص عن الاثنين نصف قياس تام؛ اصطلاح محض لا يرجع الى معنى معقول كما فرقوا بين الصفات الذاتية والعرضية اللازمة للماهية والوجود بمثل هذا التحكم .
وحينئذ فيعلم أن القوم لم يرجعوا فيما سموه حدا وبرهانا إلى حقيقة موجودة ولا أمر معقول بل إلى اصطلاح ...
مجموع الفتاوى (9|170) والرد على المنطقيين (167)
ب- ثم إنهم لما علموا أن الدليل قد يحتاج إلى مقدمات وتكفي فيه مقدمة واحدة قالوا ربما أدرج في القياس قول زائد أى مقدمة ثالثة على مقدمتين لغرض فاسد أو صحيح كبيان المقدمتين ويسمونه المركب قالوا ومضمونه أقيسة متعددة سيقت لبيان أكثر من مطلوب واحد إلا أن المطلوب منها بالذات ليس إلا واحدا قالوا وربما حذفت إحدى المقدمات أما للعلم بها أو لغرض فاسد وقسموا المركب مفصول وموصول .
فيقال هذا اعتراف منكم بأن من المطالب ما يحتاج إلى مقدمات ,وما يكفى فيه مقدمة واحدة ثم قلتم إن ذلك الذى يحتاج إلى مقدمات هو فى معنى أقيسة متعددة فيقال لكم: إذا ادعيتم أن الذى لابد منه إنما هو قياس واحد مشتمل على مقدمتين وأن ما زاد على ذلك هو فى معنى أقيسة .
كل قياس لبيان مقدمة من المقدمات فقولوا إن الذى لا بد منه هو مقدمة واحدة وأن ما زاد على تلك المقدمة من المقدمات ؛فإنما هو لبيان تلك المقدمة ,وهذا أقرب إلى معقول ؛فإنه إذا لم يعلم ثبوت الصفة للموصوف وهو ثبوت الحكم للمحكوم عليه وهو ثبوت الخبر للمبتدأ أو المحمول للموضوع إلا بوسط بينهما هو الدليل فالذى لا بد منه هو مقدمة واحدة وما زاد على ذلك فقد يحتاج إليه وقد لا يحتاج إليه .
وأما دعوى الحاجة إلى القياس الذي هو المقدمتان للاحتياج إلى ذلك فى بعض المطالب فهو كدعوى الاحتياج فى بعضها إلى ثلاث مقدمات وأربع وخمس للاحتياج إلى ذلك فى بعض المطالب ,وليس تقدير عدد بأولى من عدد.
وما يذكرونه من حذف إحدى المقدمتين لوضوحها أو لتغليط يوجد مثله فى حذف الثالثة والرابعة ومن احتج على مسألة بمقدمة لا تكفى وحدها لبيان المطلوب أو مقدمتين أو ثلاثة لا تكفى طولب بالتمام الذى تحصل به كفاية ...
مجموع الفتاوى (9|178)
ج- وما بين لك أن المقدمة الواحدة قد تكفى فى حصول المطلوب أن الدليل هو ما يستلزم الحكم المدلول عليه كما تقدم بيانه ,ولما كان الحد الأول مستلزما للأوسط والأوسط للثالث ثبت أن الأول مستلزم للثالث ؛فإن ملزوم الملزوم ملزوم ولازم اللازم لازم ؛فإن الحكم لازم من لوازم الدليل ,لكن لم يعرف لزومه إياه إلا بوسط بينهما فالوسط ما يقرن بقولك لأنه .وهذا مما ذكره المنطقيون وابن سينا وغيره؛ ذكروا الصفات اللازمة للموصوف وأن منها ما يكون بين اللزوم وردوا بذلك على من فرق من أصحابهم بين الذاتى واللازم للماهية بأن اللازم ما افتقر إلى وسط بخلاف الذاتى فقالوا له كثير من الصفات اللازمة لا تفتقر إلى وسط وهى البينة اللزوم والوسط عند هؤلاء هو الدليل .
مجموع الفتاوى (9|179) والرد على المنطقيين (189)
الحادي والثلاثون :الدليل والبرهان هو اللزوم وما تقسيمهم إلى الأنواع الثلاثة فكلها تعود إلى ما ذكر فى استلزام الدليل للمدلول وما ذكروه فى الاقترانى يمكن تصويره بصورة الاستثنائى ,وكذلك الاستثنائى يمكن تصويره بصورة الاقترانى ؛فيعود الأمر الى معنى واحد وهو مادة الدليل والمادة لا تعلم من صورة القياس الذى ذكروه بل من عرف المادة بحيث يعلم أن هذا مستلزم لهذا علم الدلالة سواء صورت بصورة قياس أو لن تصور ,وسواء عبر عنها بعباراتهما و بغيرها بل العبارات التى صقلتها عقول المسلمين وألسنتهم خير من عباراتهم بكثير كثير .
و الاقترانى كله يعود إلى لزوم هذا لهذا وهذا لهذا ؛كما ذكر وهذا بعينه هو الاستثنائى المؤلف من المتصل والمنفصل .
فإن الشرطى المتصل استدلال باللزوم بثبوت اللزوم الذى هو المقدم وهو الشرط على ثبوت اللازم الذى هو التالى وهو الجزاء أو بانتفاء اللازم وهو التالي الذى هو الجزاء على انتفاء الملزوم الذى هو المقدم وهو الشرط .
وأما الشرطي المنفصل وهو الذى يسميه الأصوليون السبر والتقسيم ,وقد يسميه أيضا الجدليون التقسيم والترديد ؛فمضمونه الاستدلال بثبوت أحد النقيضين على انتفاء الآخر وبانتفائه على ثبوته ,و أقسامه أربعة ولهذا كان فى مانعة الجمع والخلو الاستثناءات الأربعة وهو أنه إن ثبت هذا انتفى نقيضه وكذا الآخر ,وإن انتفى هذا ثبت نقيضه وكذا الآخر ,ومانعة الجمع الاستدلال يثبوت أحد الضدين على انتفاء الآخر والأمران متنافيان ومانعة الخلو فيها تناقض لزوم والنقيضان لا يرتفعان فمنعت الخلو منهما ,ولكن جزاءها وجود شيء وعدم آخر ليس هو وجود الشيء وعدمه ووجود شيء وعدم آخر قد يكون أحدهما لازما للآخر وإن كانا لا يرتفعان لأن ارتفاعهما يقتضى ارتفاع وجود شيء وعدمه معا .
وبالجملة ما من شيء إلا وله لازم لا يوجد بدونه وله مناف مضاد لوجوده فيستدل عليه بثبوت ملزومه وعلى انتفائه بانتفاء لازمه ,ويستدل على انتفائه بوجود منافيه ويستدل بانتفاء منافيه على وجوده إذا انحصر الأمر فيهما ؛فلم يمكن عدمهما جميعا كما لم يمكن وجودها جميعا ,وهذا الاستدلال يحصل من العلم بأحوال الشيء وملزومها ولازمها ,وإذا تصورته الفطرة عبرت عنه بأنواع من العبارات وصورته فى أنواع صور الأدلة لا يختص شيء من ذلك بالصورة التى ذكروها فى القياس فضلا عما سموه البرهان؛ فإن البرهان شرطوا له مادة معينة وهى القضايا التى ذكروها وأخرجوا من الأوليات ما سموه وهميات وما سموه مشهورات وحكم الفطرة بهما لا سيما بما سموه وهميات أعظم من حكمها بكثير من اليقينيات التي جعلوها مواد البرهان .
مجموع الفتاوى (9|193)
وقال : فكذلك الدليل والبرهان هوالمرشد إلى المطلوب والموصل إلى المقصود وكلما كان مستلزما لغيره ؛فإنه يمكن أن يستدل به عليه ,ولهذا قيل الدليل ما يكون النظر الصحيح فيه موصلا إلى علم أو ظن .
فالمقصود أن كل ما كان مستلزم لغيره بحيث يكون ملزوما له؛ فإنه يكون دليلا عليه وبرهانا له سواء كانا وجوديين أو عدميين أو أحدهما وجوديا والآخر عدميا فأبدا الدليل ملزوم للمدلول عليه والمدلول لازم للدليل ...
والمقصود هنا أن المطلوب هو العلم والطريق إليه هو الدليل ؛فمن عرف دليل مطلوبه عرف مطلوبه سواء نظمه بقياسهم أم لا ,ومن لم يعرف دليله لم ينفعه قياسهم ولا يقال أن قياسهم يعرف صحيح الأدلة من فاسدها ؛فإن هذا إنما يقوله جاهل لا يعرف حقيقة قياسهم ؛فإن حقيقة قياسهم ليس فيه إلا شكل الدليل وصورته
وأما كون المعين مستلزما لمدلوله فهذا ليس فى قياسهم ما يتعرض له بنفي ولا إثبات ,وإنما هذا بحسب علمه بالمقدمات التى اشتمل عليها الدليل وليس فى قياسهم بيان صحة شىء من المقدمات ولا فسادها وإنما يتكلمون فى هذا إذا تكلموا فى مواد القياس وهو الكلام فى المقدمات من جهة ما يصدق بها وكلامهم فى هذا فيه خطأ كثير كما نبه عليه فى موضع آخر .
والمقصود هنا أن الحقيقة المعتبرة فى كل برهان ودليل فى العالم هو اللزوم فمن عرف أن هذا لازم لهذا استدل بالملزوم على اللازم وإن لم يذكر لفظ اللزوم ولا تصور معنى هذا اللفظ بل من عرف أن كذا لابد له من كذا أو أنه إذا كان كذا كان كذا وأمثال هذا ؛فقد علم اللزوم كما يعرف أن كل ما فى الوجود آية لله فإنه مفتقر إليه محتاج إليه لابد له من محدث كما قال تعالى{ أم خلقوا من غير شىء أم هم الخالقون} قال جبير بن مطعم: لما سمعت هذه الاية أحسست بفؤادى قد انصدع .
فإن هذا تقسيم حاصر يقول أخلقوا من غير خالق خلقهم فهذا ممتنع فى بدائه العقول أم خلقوا أنفسهم فهذا أشد امتناعا فعلم أن لهم خالقا خلقهم.
وهو سبحانه ذكر الدليل بصيغة استفهام الإنكار ليبن أن هذه القضية التى استدل بها فطرية بديهية مستقرة فى النفوس لا يمكن لأحد إنكارها فلا يمكن صحيح الفطرة أن يدعى وجود حادث بدون محدث أحدثه ولا يمكنه أن يقول هذا أحدث نفسه ,وكثير من النظار يسلك طريقا فى الاستدلال على المطلوب ويقول لا يوصل إلى مطلوب إلا بهذا الطريق ولا يكون الأمر كما قاله فى النفى وإن كان مصيبا فى صحة ذلك الطريق ؛فإن المطلوب كلما كان الناس إلى معرفته أحوج يسر الله على عقول الناس معرفة أدلته ؛فأدلة إثبات الصانع وتوحيده وأعلام النبوة وأدلتها كثيرة جدا وطرق الناس فى معرفتها كثيرة .
مجموع الفتاوى (9|213) والرد على المنطقيين (252)
الاستقراء من باب اللزوم وليس من باب الاستدلال بجزئي على كلي
قال : وأما الاستقراء فإنما يكون يقينيا إذا كان استقراء تاما وحينئذ فتكون قد حكمت على القدر المشترك بما وجدته في جميع الأفراد وهذا ليس استدلالا يجزئى على كلى ولا بخاص على عام بل استدلال بأحد المتلازمين على الآخر ؛فإن وجود ذلك الحكم في كل فرد من أفراد الكلى العام يوجب أن يكون لازما لذلك الكلى العام .
فقولهم إن هذا استدلال بخاص جزئي على عام كلي ليس بحق وكيف ذلك والدليل لا بد أن يكون ملزوما للمدلول ؛فإنه لو جاز وجود الدليل مع عدم المدلول عليه ولم يكن المدلول لازما له لم يكن إذا علمنا ثبوت ذلك الدليل نعلم ثبوت المدلول معه إذا علمنا أنه تارة يكون معه وتارة لا يكون معه فإنا إذا علمنا ذلك ثم قلنا إنه معه دائما كنا قد جمعنا بين النقيضين ,وهذا اللزوم الذي نذكره هنا يحصل به الاستدلال بأي وجه حصل اللزوم ,وكلما كان اللزوم أقوى وأتم وأظهر كانت الدلالة أقوى وأتم وأظهر .
الرد على المنطقيين (202)
والحمد لله أولا وآخرا
المصدر السابق