منهج الإمام ابن القيم في صياغة القواعد والضوابط الفقهية
المقدمة:
إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهْدِه الله فلا مضِلَّ له، ومَن يضْلِل فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحْدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسوله.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ عِلْم القواعد الفقهيَّة علْمٌ عَظُم شأنه وقدْرُه، وعَلا شرَفُه وفخْرُه؛ لامتِزاج الفروع فيه بالأصول، واعتِضاد المنقول فيه بالمعْقول.
ونظرًا لأهمية هذا العلم، وكثْرة مَباحثه؛ فقد عقَدْتُ العزْم على دراسة جانب مِن جوانبه لم يُعْطَ من الأهمية ما يَستحِقُّ، ألا وهو مَناهج الفقهاء في التقْعيد والتَّأصيل.
ونظرًا لكثرة هذه المناهج وتشعُّبِها؛ فقد قصَرْتُ البحث على منهج إمامٍ مشهور بالتقعيد والتأصيل؛ ألا وهو الإمام: شمْسُ الدِّين محمدُ بنُ أبي بكر بن أيوبَ الزرعِيُّ الدِّمَشْقي، المعروفُ بابنِ قَيِّمِ الجَوْزيَّة (ت 751 هـ).
وبِناءً عليه يُمكن إجمال الأسباب الدَّاعِيَة لاختيار هذا الموضوع في الآتي:
1 - المكانة العلمية الكبيرة للإمام ابن القيِّم - رحمه الله - فهو تلميذُ شيْخِ الإسلام ابن تيميَّة الأَبْرز، ووارِثُ علومِه وناشرُها، إضافةً إلى كونه من العلماء القلائل الذين كانت لهم اليَدُ الطُّولَى، والقَدَم الرَّاسخة في التَّقْعيد والتأصيل، مع ما كَتب الله لمؤلَّفاته مِن القَبول بين المُوافق والمُخالف.
2 - أنَّ دراسة مَناهج الأئمَّة الكبار في التقعيد والتأصيل - وعلى رأسهم الإمام ابن القيم - فيه إسْهام في خِدْمة علومِهم، وكشْفٌ عن جوانبِ التَّجْديد والإبْداع الفقْهي لديْهم.
3 - قلَّةُ الدِّراسات المتعلِّقة بمناهج الأئمة في القواعد الفقهية، فأغلب المؤلفات والبحوث والدراسات كانت باتجاهِ استخراج القواعد والضَّوابط الفقهية من خلال كتاب معيَّن، أو لإمام معين من خلال كتبه، أو دراسةِ بعْضِ القواعد الفقهيَّة المشهورة، أو تحقيق بعض المؤلفات في هذا الفَن، وأمَّا ما يتعلَّق بدراسة مناهج الفقهاء في التَّقْعيد والتأصيل فلا تَزال شحيحةً؛ ولذلك كان هذا البحثُ أداءً لبعض الحقِّ في هذا الجانب.
ونظرًا لطُول مادَّة هذا البحث، وتفَرُّقها بين مؤلَّفات الإمام ابن القيم، البالغة أكثر مِن ستَّةٍ وثلاثين كتابًا، ولِكثْرة جوانب التميُّز في التقعيد والتأصيل لدَيْه؛ فإنَّني قد قصَرْتُه على جانب واحد من جوانبِ منهجه في التقعيد والتأصيل، ألاَ وهو جانب الصِّياغة، مُرْجِئًا الحديث عن باقي الجوانب إلى بُحوث أخرى قادِمةٍ - بإذن الله.
الدِّراسات السابقة:
لم أجد - فيما اطَّلعْتُ عليه - دراسةً سابقةً تناولَتْ هذا الموضوع، إلا دراستين، وهُما:
1 - منهج الإمام ابن القيم في القواعد الفقهية؛ للدكتور أنور صالح أبو زيد.
وهي رسالة دكتوراه بالجامعة الإسلاميَّة بالمدينة المنوَّرة[1].
وقد قَسَّم بحْثَه إلى قسمين:
الأول: في منْهجِه في الاستدلال.
والثاني: في منهجه في التطبيق، وخصَّص في هذا القسم فصلاً عن منهجه في صياغة القاعدة، وجعَلَه في مَبْحثين:
المبحث الأول: ما صاغَه صياغةَ أهلِ هذا الفن.
المبحث الثاني: ما صاغَه بأسلوبِه الخاص.
وهذا كلُّه لا يمثِّل إلا مَطْلبًا واحدًا من المبْحَث الأخير في هذا البحث، إضافةً إلى أنَّ طريقة عَرْضي لهذا الموضوع مُغايِرةٌ لطريقة عرْضِه، ومستقِلَّةٌ عنها، وهذا يُعْلَم مِن خلال المقارنة بين البحثين.
2 - القواعد الفقهيَّة المستخرَجة من كتاب "إعلام الموقعين"؛ للدكتور عبدالمجيد جمعة[2].
وقد تحدَّث في فصْلٍ من القسم الأول من كتابه، عن منْهَج ابن القيم في القواعد، وحصَرَه في أربع نقَاط؛ وهي: التَّأصيل، والنَّقْد، والاستدلال، والصياغة.
ولَم يتحدَّث عن الصياغة إلا في نصْفِ صفحة بكلام إنشائي عام.
خطة البحث:
قسَّمْتُ هذا البحثَ إلى مقدِّمة، وتمْهِيد، وخمسةِ مباحث، وخاتِمة.
المقدِّمة: وتشمل: أسبابَ اختيارِ الموضوع، والدِّراسات السابقة، وخُطَّة البحث.
التمهيد: في تعْرِيف المنْهَج والقواعد والضَّوابط الفقهية.
المبحث الأول: منْهَجه باعتبار الإيجاز والإطْناب.
المبحث الثاني: منْهجه باعتبار الإفْراد والتَّركيب.
المبحث الثالث: منهجُه باعتبار التَّكْرار وعدَمِه.
المبحث الرابع: منهجُه باعتبار الجزْم والتردُّد.
المبحث الخامس: منهجه باعتبار الاستِقْلال والتَّبَعية.
الخاتمة: وفيها أهمُّ نتائج البحث.
واللهَ أسألُ أن يَجعل هذا العملَ خالصًا لوجهه الكريم، وأنْ يرزُقَنا السَّدَاد في القول والعمل، إنه سَمِيع مُجِيب.
التمهيد: في تعريف المنهج والقواعد والضوابط الفقهيَّة:
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف المنهج:
أولاً: التعريف اللغوي:
المنهج في اللُّغَة: الشَّيْء الواضح الذي يَسير المرْء على وَفْقِه، كالطَّريق وما في معناه.
قال - تعالى -: ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48]، وقال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - : "سُبُلاً وسنة"[3].
ونَهَج لِيَ الأمْر: أوضحه، ونَهَجْت الطريق: إذا أبَنْته وأوضَحْته.
وفلان يَسْتَنهِج سبيلَ فُلان: أي يَسلك مَسْلَكه[4].
ثانيًا: التعريف الاصطلاحي:
لم أقِفْ على تعريفٍ محدَّد للمنهج عند المتقدِّمين، وإنْ كانوا قد استعملوه لبيان الطُّرُق والأساليب والوسائل التي تؤدِّي إلى المقصود.
وقد دَرَج كثيرٌ من العلماء على إضافة "المِنهاج" لأسماء مؤلَّفاتِهم؛ جَرْيًا على هذا الاصطلاح، ومِن تلك المؤلَّفات: المنهاج في شُعَب الإيمان؛ لأبي عبدالله الحليمي (ت 403 هـ)، والمنهاج في ترتيب الحجَّاج؛ لأبي الوليد الباجي (ت 474 هـ)، ومِنْهاج الطَّالبين؛ للإمام النَّوَوي (ت 676 هـ)، ومنهاج الوُصول إلى عِلْم الأُصول؛ للقاضي البيضاوي (ت 685 هـ)، ومنهاج السُّنَّة النبويَّة؛ لشيخ الإسلام ابن تيميَّة (728 هـ)، ومَنْهج الطُّلاَّب؛ لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري (ت 926 هـ)، وغيرها.
وفي العصر الحاضر توسَّع مَدلول كلمة "المنهج"، وأُلِّفَتْ فيه كتُبٌ وبُحوث عديدة، حتى أَصبح عِلمًا مستقلاًّ قائمًا بِذاته، وله مَدارِسُه، ونُظُمه، وأساليبه، وعُرِّف بتعريفات عديدة متقاربة، منها:
• "أنه وَسيلة مُحدَّدة توصِّل إلى غاية محدَّدة"[5].
• "خُطوات مُنظَّمة يتَّخِذها الباحث؛ لِمعالجةِ مَسألةٍ أو أكْثَر، ويتَّبعها للوصول إلى نتيجة"[6].
• "هو الطريق المؤدِّي إلى الكَشْف عن الحقيقة في العلوم، بواسطة طائفةٍ من القواعد العامة التي تُهَيمِن على سَيْر العَقْل وتحديد عَمَليَّاته، حتَّى يَصِل إلى نتيجة معلومة"[7].
ويُمكن أن نَستخلص مِن التَّعريفات السَّابقة أنَّ المنهج وإِنِ اختلفَتْ مَجالاته تَبعًا لاخْتلاف العلوم وتنوُّعِها، فلا بدَّ مِن توافُرِ شُروط ثلاثة فيه، وهي[8]:
1 - أنْ يَكون واضحًا بيِّنًا، لا لبس فيه.
2 - أن يكون منظَّمًا مُرتَّبًا ومحدَّدًا، يُمكِن السَّيْر على مِنْواله.
3 - أن يُوصَل إلى نتيجة معلومة؛ سواء أكانت ذِهْنيَّةً أم مَحسُوسة.
وبِناءً على كلِّ ذلك، فإنَّ المُراد بالمنهج في هذا البَحْث هو: الطُّرُق والأساليب، والوسائل الواضحة التي سَار عليها الإمامُ ابنُ القيِّم في استخراجِ وبناءِ وصياغةِ القواعد والضَّوابط الفقهية.
المَطْلب الثاني: تعريف القاعدة الفقهية:
أولاً: التعريف اللغوي:
القاعدة في اللُّغة: تأتي لِمَعانٍ عديدة، تَدور حول معْنيَي الاستِقْرار والثَّبات، فمِن ذلك القُعود، وهو نَقيض القيام، وقَواعد البيت: أُسُسه التي عليها يَثْبت، وبِها يستَقِرُّ[9].
ثانيًا: التعريف الاصطلاحي:
للقاعدة الفقهية تعريفاتٌ كثيرة عند القدماء والمُعاصرين، وقد استَعْرَضها عددٌ من الباحثين، وذكَروا ما يَرِد عليها مِن نقود وردود، ثم اجتهدوا في الخروج بتعريف جامع مانع، خالٍ من الإيرادات والاعتراضات[10].
ولعلَّ أرجحَ تعريف للقاعدة الفقهية هو: "قضيَّةٌ كُلِّية فقهية، منطَبِقة على فروع من أبواب"[11].
المطلب الثالث: تعريف الضابط الفقهي:
أولاً: التعريف اللغوي:
الضَّابط اسمُ فاعل، مِن ضَبَط الشيء: إذا حَفِظه بحَزْم، ورجل ضابط: شديدٌ حَازم[12].
ثانيًا: التعريف الاصطلاحي:
بِناءً على ما سبق مِن تعريف القاعدة الفقهيَّة، يُمكِن تعريف الضابط بأنه: "قضية كلِّيَّة فقهيَّة منطَبِقة على فروع من باب"[13].
والفرْق بين القاعدة والضابط: أنَّ القاعدة تشمل فروعًا مِن عدَّة أبواب، والضَّابط يشمل فروعًا من باب واحد من أبواب الفقه[14].
المقدمة:
إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهْدِه الله فلا مضِلَّ له، ومَن يضْلِل فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحْدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسوله.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ عِلْم القواعد الفقهيَّة علْمٌ عَظُم شأنه وقدْرُه، وعَلا شرَفُه وفخْرُه؛ لامتِزاج الفروع فيه بالأصول، واعتِضاد المنقول فيه بالمعْقول.
ونظرًا لأهمية هذا العلم، وكثْرة مَباحثه؛ فقد عقَدْتُ العزْم على دراسة جانب مِن جوانبه لم يُعْطَ من الأهمية ما يَستحِقُّ، ألا وهو مَناهج الفقهاء في التقْعيد والتَّأصيل.
ونظرًا لكثرة هذه المناهج وتشعُّبِها؛ فقد قصَرْتُ البحث على منهج إمامٍ مشهور بالتقعيد والتأصيل؛ ألا وهو الإمام: شمْسُ الدِّين محمدُ بنُ أبي بكر بن أيوبَ الزرعِيُّ الدِّمَشْقي، المعروفُ بابنِ قَيِّمِ الجَوْزيَّة (ت 751 هـ).
وبِناءً عليه يُمكن إجمال الأسباب الدَّاعِيَة لاختيار هذا الموضوع في الآتي:
1 - المكانة العلمية الكبيرة للإمام ابن القيِّم - رحمه الله - فهو تلميذُ شيْخِ الإسلام ابن تيميَّة الأَبْرز، ووارِثُ علومِه وناشرُها، إضافةً إلى كونه من العلماء القلائل الذين كانت لهم اليَدُ الطُّولَى، والقَدَم الرَّاسخة في التَّقْعيد والتأصيل، مع ما كَتب الله لمؤلَّفاته مِن القَبول بين المُوافق والمُخالف.
2 - أنَّ دراسة مَناهج الأئمَّة الكبار في التقعيد والتأصيل - وعلى رأسهم الإمام ابن القيم - فيه إسْهام في خِدْمة علومِهم، وكشْفٌ عن جوانبِ التَّجْديد والإبْداع الفقْهي لديْهم.
3 - قلَّةُ الدِّراسات المتعلِّقة بمناهج الأئمة في القواعد الفقهية، فأغلب المؤلفات والبحوث والدراسات كانت باتجاهِ استخراج القواعد والضَّوابط الفقهية من خلال كتاب معيَّن، أو لإمام معين من خلال كتبه، أو دراسةِ بعْضِ القواعد الفقهيَّة المشهورة، أو تحقيق بعض المؤلفات في هذا الفَن، وأمَّا ما يتعلَّق بدراسة مناهج الفقهاء في التَّقْعيد والتأصيل فلا تَزال شحيحةً؛ ولذلك كان هذا البحثُ أداءً لبعض الحقِّ في هذا الجانب.
ونظرًا لطُول مادَّة هذا البحث، وتفَرُّقها بين مؤلَّفات الإمام ابن القيم، البالغة أكثر مِن ستَّةٍ وثلاثين كتابًا، ولِكثْرة جوانب التميُّز في التقعيد والتأصيل لدَيْه؛ فإنَّني قد قصَرْتُه على جانب واحد من جوانبِ منهجه في التقعيد والتأصيل، ألاَ وهو جانب الصِّياغة، مُرْجِئًا الحديث عن باقي الجوانب إلى بُحوث أخرى قادِمةٍ - بإذن الله.
الدِّراسات السابقة:
لم أجد - فيما اطَّلعْتُ عليه - دراسةً سابقةً تناولَتْ هذا الموضوع، إلا دراستين، وهُما:
1 - منهج الإمام ابن القيم في القواعد الفقهية؛ للدكتور أنور صالح أبو زيد.
وهي رسالة دكتوراه بالجامعة الإسلاميَّة بالمدينة المنوَّرة[1].
وقد قَسَّم بحْثَه إلى قسمين:
الأول: في منْهجِه في الاستدلال.
والثاني: في منهجه في التطبيق، وخصَّص في هذا القسم فصلاً عن منهجه في صياغة القاعدة، وجعَلَه في مَبْحثين:
المبحث الأول: ما صاغَه صياغةَ أهلِ هذا الفن.
المبحث الثاني: ما صاغَه بأسلوبِه الخاص.
وهذا كلُّه لا يمثِّل إلا مَطْلبًا واحدًا من المبْحَث الأخير في هذا البحث، إضافةً إلى أنَّ طريقة عَرْضي لهذا الموضوع مُغايِرةٌ لطريقة عرْضِه، ومستقِلَّةٌ عنها، وهذا يُعْلَم مِن خلال المقارنة بين البحثين.
2 - القواعد الفقهيَّة المستخرَجة من كتاب "إعلام الموقعين"؛ للدكتور عبدالمجيد جمعة[2].
وقد تحدَّث في فصْلٍ من القسم الأول من كتابه، عن منْهَج ابن القيم في القواعد، وحصَرَه في أربع نقَاط؛ وهي: التَّأصيل، والنَّقْد، والاستدلال، والصياغة.
ولَم يتحدَّث عن الصياغة إلا في نصْفِ صفحة بكلام إنشائي عام.
خطة البحث:
قسَّمْتُ هذا البحثَ إلى مقدِّمة، وتمْهِيد، وخمسةِ مباحث، وخاتِمة.
المقدِّمة: وتشمل: أسبابَ اختيارِ الموضوع، والدِّراسات السابقة، وخُطَّة البحث.
التمهيد: في تعْرِيف المنْهَج والقواعد والضَّوابط الفقهية.
المبحث الأول: منْهَجه باعتبار الإيجاز والإطْناب.
المبحث الثاني: منْهجه باعتبار الإفْراد والتَّركيب.
المبحث الثالث: منهجُه باعتبار التَّكْرار وعدَمِه.
المبحث الرابع: منهجُه باعتبار الجزْم والتردُّد.
المبحث الخامس: منهجه باعتبار الاستِقْلال والتَّبَعية.
الخاتمة: وفيها أهمُّ نتائج البحث.
واللهَ أسألُ أن يَجعل هذا العملَ خالصًا لوجهه الكريم، وأنْ يرزُقَنا السَّدَاد في القول والعمل، إنه سَمِيع مُجِيب.
التمهيد: في تعريف المنهج والقواعد والضوابط الفقهيَّة:
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف المنهج:
أولاً: التعريف اللغوي:
المنهج في اللُّغَة: الشَّيْء الواضح الذي يَسير المرْء على وَفْقِه، كالطَّريق وما في معناه.
قال - تعالى -: ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48]، وقال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - : "سُبُلاً وسنة"[3].
ونَهَج لِيَ الأمْر: أوضحه، ونَهَجْت الطريق: إذا أبَنْته وأوضَحْته.
وفلان يَسْتَنهِج سبيلَ فُلان: أي يَسلك مَسْلَكه[4].
ثانيًا: التعريف الاصطلاحي:
لم أقِفْ على تعريفٍ محدَّد للمنهج عند المتقدِّمين، وإنْ كانوا قد استعملوه لبيان الطُّرُق والأساليب والوسائل التي تؤدِّي إلى المقصود.
وقد دَرَج كثيرٌ من العلماء على إضافة "المِنهاج" لأسماء مؤلَّفاتِهم؛ جَرْيًا على هذا الاصطلاح، ومِن تلك المؤلَّفات: المنهاج في شُعَب الإيمان؛ لأبي عبدالله الحليمي (ت 403 هـ)، والمنهاج في ترتيب الحجَّاج؛ لأبي الوليد الباجي (ت 474 هـ)، ومِنْهاج الطَّالبين؛ للإمام النَّوَوي (ت 676 هـ)، ومنهاج الوُصول إلى عِلْم الأُصول؛ للقاضي البيضاوي (ت 685 هـ)، ومنهاج السُّنَّة النبويَّة؛ لشيخ الإسلام ابن تيميَّة (728 هـ)، ومَنْهج الطُّلاَّب؛ لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري (ت 926 هـ)، وغيرها.
وفي العصر الحاضر توسَّع مَدلول كلمة "المنهج"، وأُلِّفَتْ فيه كتُبٌ وبُحوث عديدة، حتى أَصبح عِلمًا مستقلاًّ قائمًا بِذاته، وله مَدارِسُه، ونُظُمه، وأساليبه، وعُرِّف بتعريفات عديدة متقاربة، منها:
• "أنه وَسيلة مُحدَّدة توصِّل إلى غاية محدَّدة"[5].
• "خُطوات مُنظَّمة يتَّخِذها الباحث؛ لِمعالجةِ مَسألةٍ أو أكْثَر، ويتَّبعها للوصول إلى نتيجة"[6].
• "هو الطريق المؤدِّي إلى الكَشْف عن الحقيقة في العلوم، بواسطة طائفةٍ من القواعد العامة التي تُهَيمِن على سَيْر العَقْل وتحديد عَمَليَّاته، حتَّى يَصِل إلى نتيجة معلومة"[7].
ويُمكن أن نَستخلص مِن التَّعريفات السَّابقة أنَّ المنهج وإِنِ اختلفَتْ مَجالاته تَبعًا لاخْتلاف العلوم وتنوُّعِها، فلا بدَّ مِن توافُرِ شُروط ثلاثة فيه، وهي[8]:
1 - أنْ يَكون واضحًا بيِّنًا، لا لبس فيه.
2 - أن يكون منظَّمًا مُرتَّبًا ومحدَّدًا، يُمكِن السَّيْر على مِنْواله.
3 - أن يُوصَل إلى نتيجة معلومة؛ سواء أكانت ذِهْنيَّةً أم مَحسُوسة.
وبِناءً على كلِّ ذلك، فإنَّ المُراد بالمنهج في هذا البَحْث هو: الطُّرُق والأساليب، والوسائل الواضحة التي سَار عليها الإمامُ ابنُ القيِّم في استخراجِ وبناءِ وصياغةِ القواعد والضَّوابط الفقهية.
المَطْلب الثاني: تعريف القاعدة الفقهية:
أولاً: التعريف اللغوي:
القاعدة في اللُّغة: تأتي لِمَعانٍ عديدة، تَدور حول معْنيَي الاستِقْرار والثَّبات، فمِن ذلك القُعود، وهو نَقيض القيام، وقَواعد البيت: أُسُسه التي عليها يَثْبت، وبِها يستَقِرُّ[9].
ثانيًا: التعريف الاصطلاحي:
للقاعدة الفقهية تعريفاتٌ كثيرة عند القدماء والمُعاصرين، وقد استَعْرَضها عددٌ من الباحثين، وذكَروا ما يَرِد عليها مِن نقود وردود، ثم اجتهدوا في الخروج بتعريف جامع مانع، خالٍ من الإيرادات والاعتراضات[10].
ولعلَّ أرجحَ تعريف للقاعدة الفقهية هو: "قضيَّةٌ كُلِّية فقهية، منطَبِقة على فروع من أبواب"[11].
المطلب الثالث: تعريف الضابط الفقهي:
أولاً: التعريف اللغوي:
الضَّابط اسمُ فاعل، مِن ضَبَط الشيء: إذا حَفِظه بحَزْم، ورجل ضابط: شديدٌ حَازم[12].
ثانيًا: التعريف الاصطلاحي:
بِناءً على ما سبق مِن تعريف القاعدة الفقهيَّة، يُمكِن تعريف الضابط بأنه: "قضية كلِّيَّة فقهيَّة منطَبِقة على فروع من باب"[13].
والفرْق بين القاعدة والضابط: أنَّ القاعدة تشمل فروعًا مِن عدَّة أبواب، والضَّابط يشمل فروعًا من باب واحد من أبواب الفقه[14].