مقدمة لأهمية التاريخ والنظر فيه والاستفادة منه:
إن الأمة التي لا تقرأ تاريخها ولا تستفيد منه في حاضرها ومستقبلها لهي أمة مقطوعة منبتة، فالماضي ليس مفتاحاً لفهم الحاضر فحسب، بل هومن أسس إعادة صياغة الحاضر، ومقولة "التاريخ يعيد نفسه" ليـسـت خطأ من كل الوجوه، وقد استخدم القرآن الكريم قصص الأمم السابقةللتأثير في نـفـوس الناس، أو للتأثير في نفوس الذين لم تنتكس فطرتهم، قال تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيد) هود: ١٠٠، و ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) يوسف: ١٠٩ ولا بد لأهل كل عصر من أن يواجهوا النوع ذاته من التعقيدات التي واجهها أسلافهم، وإن سجل التاريخ ما هو إلا المنار الذي ينبئ الملاحين الجدد عن الصخور المهلكة التي قد تكون خافية تحت سطح البحر. ولو أن المسلمين في هذا العصراستوعبوا دروس الماضي لما أخطئوا في كثير من الأمور، كما أن الدراسة المتأملة للحاضر تساعدنا أيضاً على فهم الماضي، والذي جرب تقلبات الدول والمجتمعات وشاهد المؤامرات السياسية، وعاين الركود الاقتصادي، يكون أقدر على تفهم الحوادث الماضية التي ليست نسخةمطابقة للحاضر ولكن فيها شبه كبير فيه.
يقول المؤرخ ابن الأثير: "وأنه لا يحدث أمر إلا وقد تقدم هو أو نظيره فيزداد الإنسان بذلك عقلاً ويصبح لأن يقتدي به أهلاً ". ومن هذه الأحداث التي تقدمت أو تقدم لها نظيرها هو قضية اعتماد منهج المواجهة المسلحة والخروج على الحكام أو الأمراء نتيجة ممارسات وانتقادات يراهاالخارجون على الحكام والأمراء ويرونها مبررا لما يقومون به من أعمال،وللخروج على الحكام والأمراء أمثلة عديدة سجلتها كتب التاريخ من أيام السلف إلى أيامنا هذه، والعاقل اللبيب، من ينظر على هذه الأمثلة نظرة اعتبار وتفحص ليستخلص منها بعد ذلك الدروس والعبر. وليس الحديث هنا دفاعًا عن هؤلاء الحكام ولا إقرارًا لهم على مذهبهم، ولكنها نظرة شاملة إلى الآثار والعواقب التي تحدث عند الخروج عليهم وهيعواقب لم يختلف عليها أحد. وليس الحديث عن التصويب أو التخطئة وإنما عن عواقب هذا الخروج على أمة الإسلام والمسلمين حكامًاومحكومين.
صور للخروج على الحكام قديمًا:
أولاً: خروج الحسين بني علي رضي الله تعالى عنهما على يزيد بن معاوية سنة 61هـ:
لما مات معاوية وبويع ليزيد، بايع ابن عمر وابن عباس وفر الحسين وابن الزبير إلى مكة. وكثر ورود الكتب إلى الحسين من بلاد العراقيدعونه إليهم ويستحثونه في القدوم إليهم ليبايعوه عوضًا عن يزيد بن معاوية ويخبروه أنهم لم يبايعوا أحدًا حتى الآن وينتظرونه. أرسل الحسينابن عمه مسلم بن عقيل إلى العراق ليكشف له حقيقة الأمر.
ولما دخل مسلم الكوفة تسامع أهلها بقدومه فجاءوا إليه فبايعوه على إمرة الحسين وحلفوا لينصرنه بأنفسهم وأموالهم ووصل عدد المبايعين إلى ثمانية عشر ألف مبايع.. كتب مسلم إلى الحسين ليقدم إلى الكوفة فقد تمهدت له البيعة والأمور قد استتبت له. وهنا تجهز الحسين من مكة قاصدًاالكوفة، وكتب في الوقت ذاته يزيد إلى ابن زياد أن يقدم الكوفة ويطلب مسلم بن عقيل ثم يقتله إذا قدر عليه أو ينفيه.
قام عبيد الله بن زياد بإخراج بعض الأمراء وأمرهم أن يركبوا في الكوفة يخذلون الناس عن مسلم بن عقيل ففعلوا، وهنا انفض الناس من حوله فبقي وحده ليس معه من يدله على الطريق ثم ألقي القبض عليه وبكى عندها قائلاً : "أما والله لست أبكي على نفسي ولكن أبكي على الحسين وآل الحسين، إنه قد خرج إليكم اليوم من مكة". وتوجه الحسين إلى الكوفة رغم توسلات الناس إليه بعدم الخروج.
قال له ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : "أخبرني إن كانوا قد دعوك بعد ما قتلوا أميرهم ونفوا عدوهم وضبطوا بلادهم فسر إليهم، وإن كانأميرهم حيا وهو مقيم قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم فإنهم إنما دعوك للفتنة والقتال، ولا آمن عليك أن يستنفروا عليك الناس ويقلبوا قلوبهم عليك،فيكون الذين دعوك أشد الناس عليك، والله لأظنك ستقتل غدًا بين نسائك وبناتك ولولا أن يزري ذلك بي وبك لنشبت يدي في رأسك، ولو أعلم أناإذا تناشبنا أقمتَ لفعلت".
ولحق ابن عمر رضي الله تعالى عنهما الحسين وهو في مسيره إلى العراق على مسيرة ثلاث ليال فقال: أين تريد؟ قال: العراق وإذا معه صحفوكتب، فقال: هذه كتبهم وبيعتهم فقال: لا تأتهم، فأبى، فقال ابن عمر: إني محدثك حديثا. إن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فخيره بين الدنياوالآخرة فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا، وإنك بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما يليها أحد منكم أبدًا وما صرفها الله عنكم إلا للذيهو خير لكم، فأبى أن يرجع، قال: فاعتنقه ابن عمر وبكى وقال: أستودعك الله من قتيل.
وقال له ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما : "أتخرج إلى قوم قتلوا أباك وأخرجوا أخاك".
وعلم الحسين بمقتل مسلم بن عقيل لكنه رفض أن يرجع. وكان جيش الحسين مائة وخمسين رجلاً ومعهم أهل بيته جميعًا وقد عرض الحسينعلى جيش ابن زياد بقيادة عمرو بن سعد وشمر بن ذي الجوشنة ثلاث خصال فلم يقبلوها منه، وأصرا على أن ينزل الحسين على حكم ابن زياد. وكانت المعركة وقتل الحسين رضي الله تعالى عنه وقتل معه ستة عشر رجلاً كلهم من أهل بيته، ما على وجه الأرض يومئذ لهم شبه كما قال الحسن البصري. وأرسلت رأس الحسين إلى عبيد الله بن زياد ثم إلى يزيد.
قال سعيد بن المسيب : "لو أن حسينا لم يخرج -أي إلى العراق- لكان خيرًا له".
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: "قد كان ينبغي لحسين أن يعرف أهل العراق ولا يخرج إليهم".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إنه لم يكن في الخروج مصلحة لا في دين ولا في دنيا، وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يحصل لو قعد فيبلده، فإن ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء بل زاد الشر بخروجه وقتله، ونقص الخير بذلك، وصار سببًا لشر عظيم،وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن". اهـ.
ثانيًا: وقعة الحرة في عام 63 هجرية:
وكان سببها خلع أهل المدينة ليزيد وتولية عبد الله بن مطيع على قريش وعبد الله بن حنظلة بن أبي عامر على الأنصار، واجتمع الناس علىإخراج عامل يزيد من المدينة وعلى إجراء بني أمية منها فاجتمع بنو أمية في دار مروان بن الحكم وحاصرهم أهل المدينة فيها، وقد أنكر ابنعمر على أهل المدينة بيعتهم لابن مطيع وابن حنظلة على الموت واعتزل هو بآل بيته الناس وقد أرسل يزيد جيشًا قوامه خمسة عشر ألف رجلعلى رأسهم مسلم بن عقبة وقال له: ادع القوم ثلاثًا فإن رجعوا إلى الطاعة فاقبل منهم وكف عنهم، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا ظهرت عليهمفأبح المدينة ثلاثًا، ثم اكفف عن الناس ثم إذا فرغت من المدينة فاذهب إلى مكة لحصار ابن الزبير، وانهزم أهل المدينة بعد قتال شديد، واستباحمسلم بن عقبة المدينة ثلاثة أيام وقتل خلقًا من أشرافها وقرائها وانتهب أموالاً كثيرة منها.
قال الزهري عن عدد القتلى: إنهم سبعمائة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار ووجوه الموالي، وممن لا أعرف من حر وعبد عشرةآلاف.
ثالثًا: خروج سليمان بن صرد على رأس جيش التوابين على مروان بن الحكم في سنة 65هـ:
اجتمع إلى سليمان بن صرد الخزرجي الأنصاري رضي الله تعالى عنه وهو صحابي جليل روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث فيالصحيحين، اجتمع إليه نحو من سبعة عشر ألفًا كلهم يطلبون الأخذ بثأر الحسين ممن قتله وكان هؤلاء يرون أنهم كانوا سببًا في قتل الحسينلخذلانهم له فسموا أنفسهم بجيش التوابين، وتواعدوا على الخروج في يوم فلما خرج الناس أخذوا يصيحون بأعلى أصواتهم: يالثارات الحسينفسمع الناس فخرجوا، وخرج أشراف الكوفة فكانوا قريبًا من عشرين ألفًا فلما عزم على المسير بهم لم يصف معه منهم سوى أربعة آلاف، فساربهم مراحل: ما يتقدمون مرحلة إلى الشام إلا تخلف عنه طائفة من الناس الذين كانوا معه، فلما سمع أهل الشام بهم أعدوا جيشًا كبيرًا قوامهأربعون ألف مقاتل، وتقدم جيش الخلافة وقابل جيش التوابين في موقعة عين وردة. كانت موقعة عين وردة موقعة رهيبة إذا اقتتل الجيشان قتالاًشديدًا وكانت مقتلة عظيمة بين المسلمين حتى خاض المقاتلون في الدماء وكانت الدائرة لجيش الخلافة فقد قتل سليمان بن صرد رضي الله تعالىعنه وأمراؤه وعامة جيشه ولم يبق إلا القليل منهم الذين فروا عائدين إلى الكوفة.
رابعًا: خروج ابن الأشعث على عبد الملك بن مروان سنة 80هـ:
وهذه الفتنة من أعظم ما ابتليت به أمة الإسلام بعد الفتنة الكبرى بسبب ما أصاب المسلمين فيها من قتل لأئمة الهدى وأعلام الدين.
وكان سببها: أن الحجاج كان يبغض ابن الأشعث ويقول: ما رأيته قط إلا هممت بقتله وكان هو يفهم ذلك ويضمر له السوء وزوال الملك عنه. فلما أمّرَه الحجاج على الجيوش التي غزت بلاد الترك وحدث ما حدث من فتح لبعض البلدان ثم التوقف حتى يصلحوا من حالهم ويتقووا إلى أنينصرم فصل الشتاء ثم يغزون رتبيل.وبعث ابن الأشعث بذلك إلى الحجاج فكتب الحجاج إليه يستهجن هذا الرأي ويستضعف عقله ويقرعهبالجبن والنكول عن الحرب ويأمره حتمًا بدخول بلاد رتبيل، ثم أردف بكتاب ثان ثم بكتاب ثالث، فغضب ابن الأشعث وقال: يكتب إلي بمثل هذاوهو لا يصلح أن يكون من بعض جندي ولا من بعض خدمي ـ ثم جمع ابن الأشعث رؤوس أهل العراق وقال لهم موضحًا رأيه ورأي الحجاجوأعلمهم أنه لن يتراجع عن رأيه فثار الناس إليه وقالوا: لا بل نأبى على عدو الله الحجاج ولا نسمع له ولا نطيع. وخلع الناس الحجاج ولميخلعوا عبد الملك.. ووثبوا إلى عبد الرحمن بن الأشعث فبايعوه عوضًا عن الحجاج. وصالح ابن الأشعث رتبيل وانقلب عائدًا إلى الحجاج ليقاتلهويأخذ منه العراق. وفي منتصف الطريق خلعوا عبد الملك بن مروان أيضًا وبايعوا ابن الأشعث على الكتاب والسنة. فلما بلغ المهلب بن أبيصفرة ما صنع ابن الأشعث أرسل إليه ناصحًا: ابق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، انظر إلى نفسك فلا تهلكها، ودماء المسلمين فلا تسفكها،والجماعة فلا تفرقها، والبيعة فلا تنكثها، اجتمع إلى ابن الأشعث ثلاثة وثلاثون ألف فارس ومائة وعشرون ألف راجل وخرج الحجاج إليه فيجيش عظيم والتقى الجيشان في يوم الأضحى عند نهر دخيل وانهزمت مقدمة الحجاج وقتل أصحاب ابن الأشعث منهم خلقًا كثيرًا نحو ألفوخمسمائة، ودخل ابن الأشعث البصرة فخطب الناس بها وبايعهم وبايعوه على خلع عبد الملك ونائبه الحجاج وقال لهم ابن الأشعث: ليسالحجاج بشيء ولكن اذهبوا بنا إلى عبد الملك لنقاتله، ووافقه على خلعها جميع من في البصرة من الفقهاء والقراء والشيوخ والشباب. ثم كانتواقعة الزاوية سنة 82هـ بين الحجاج وابن الأشعث وكانت الجولة للحجاج وقتل خلق كثير من القراء من أصحاب ابن الأشعث.. ثم كانت وقعةدير الجماجم بين الجيشين وكان ابن الأشعث معه مائة ألف ومثلهم من الموالي واستمر القتال قرابة العام والأيام دول بين الجيشين.وأمر الحجاجبالهجوم على كتيبة القراء في جيش ابن الأشعث فقتل منهم خلقًا كثيرًا ثم حمل على بقية أصحاب ابن الأشعث فانهزموا وذهبوا في كل وجهوهرب ابن الأشعث ومعه نفر قليل من الناس. وقتل الحجاج خمسة آلاف أسير ودخل الكوفة وجعل لا يبايع أحدًا من أهلها إلا قال: أشهد علىنفسك أنك قد كفرت، فإذا قال: نعم. بايعه، وإن أبى قتله؛ فقتل منهم خلقًا كثيرًا أبى أن يشهد على نفسه بالكفر. وتتبع الحجاج أصحاب ابن الأشعثوقتل منهم بين يديه صبرًا مائة وثلاثين ألفًا منهم من الأخيار والسادات والعلماء والأبرار مثل محمد بن سعد بن أبي وقاص وكان آخرهم سعيد بنجبير رحمهم الله ورضي عنهم. وكان جملة من قتل في هذه الفتنة من المسلمين حوالي مائة وخمسين ألفًا.
قال ابن كثير: "وابن الأشعث من كندة وليس من قريش ثم قال: وكيف يعمدون إلى خليفة قد بويع له بالإمارة على المسلمين من سنين فيعزلونهوهو من صليبة قريش ويبايعون لرجل كندي بيعة لم يتفق عليها أهل الحل والعقد؟ ولهذا لما كانت هذه زلة وفلتة نشأ بسببها شر كبير هلك فيهخلق كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون" اهـ.
خامسا: خروج محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي ابن أبي طالب وأخيه إبراهيم على الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور:
وقصة هذا الخروج تتلخص في الآتي: تغيب محمد وأخوه من مبايعة أبي جعفر المنصور وذهبا هربا في البلاد الشاسعة، فسأل المنصور أباهماعنهما فحلف أنه لا يدري أين صارا من أرض الله، ثم ألح المنصور على عبد الله في طلب ولديه فغضب عبد الله من ذلك وقال: والله لو كانا تحتقدمي ما دللتك عليهما. فغضب المنصور وأمر بسجنه وأمر ببيع رقيقه وأمواله فلبث في السجن ثلاث سنين، وأشاروا على المنصور بحبس بنيحسن عن آخرهم، فحبسهم وجد في طلب إبراهيم ومحمد، وبعث الجواسيس في البلاد فلم يقع لهما على خبر، ونقل آل حسن من حبس المدينة إلىحبس العراق وفي أرجلهم القيود وفي أعناقهم الأغلال، وقد أرسل معهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان المعروف بالديباج لحسنوجهه وأمه هي فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب وكان محمد هذا أخا لعبد الله بن حسن لأمه، وكانت ابنته تحت إبراهيم بن عبد الله بنحسن وقد حملت منه فاستحضره الخليفة وقال: قد حلفت بالعتاق والطلاق أنك لم تغشني وهذه ابنتك حامل فإن كان من زوجها فقد حبلت منهوأنت تعلم به، وإن كان من غيره فأنت ديوث. فأجابه عثمان بجواب أغاظه فأمر به فجردت عنه ثيابه ثم ضربه بين يديه مائة وخمسين سوطًا منهاثلاثون فوق رأسه أصاب أحدهما عينه فسالت ثم رد إلى السجن، وقد بقي كالعبد الأسود من زرقة الضرب وتراكم الدماء فوق جلده، وكان فيالمحبس محمد بن إبراهيم بن عبد الله وكان فتى جميلاً وكان يقال له الديباج الأصفر من حسن جماله وبهائه، فأحضره المنصور بين يديه وقالله: أما لأقتلنك قتلة ما قتلتها أحدًا من قبل. ثم ألقاه بين أسطوانتين وسد عليه حتى مات وقد هلك كثير من آل حسن في السجن فكان فيمن هلك فيالسجن عبد الله بن حسن بن حسن ابن علي بن أبي طالب وأخوه إبراهيم بن الحسن وغيرهما، وقل من خرج منهم من الحبس، وقد جعلهمالمنصور في سجن لا يسمعون فيه أذانًا ولا يعرفون فيه وقت الصلاة، ثم بعث أهل خراسان يشفعون في محمد بن عبد الله العثماني فأمر بضربعنقه وأرسل برأسه إلى أهل خراسان. وأما ما كان من أمر محمد بن عبد الله فما زال بعض الناس يؤنبونه على اختفائه وعدم ظهوره، حتى عزمعلى الخروج فواعد أصحابه على الظهور في الليلة الفلانية، وأقبل محمد بن عبد الله بن حسن في مائتين وخمسين في المدينة المنورة فمر بسجنالمدينة فأخرج من فيها وجاء دار الإمارة فحاصرها، وأمسك الأمير رباح بن عثمان أمير المدينة وسجنه في دار مروان، واستظهر محمد بن عبدالله على المدينة ودان له معظم أهلها، وجعل محمد يستميل رؤوس أهل المدينة فمنهم من أجابه ومنهم من امتنع عليه وقال له بعضهم: كيفأبايعك وقد ظهرت في بلد ليس فيها مال تستعين به على استخدام الرجال. ولزم بعضهم منزله فلم يخرج منه.
وأما ما كان من أمر المنصور فإنه جهز الجيوش إلى محمد بن عبد الله وعلى رأسهم عيسى بن موسى فلما قدم عيسى بن موسى، المدينة فرأهلها منها وتركوا محمدًا وقليلاً من أصحابه وكانوا زهاء ثلاثمائة رجل، والتحم الجيشان وقتل كثير من جيش محمد وهرب أكثرهم وبقي محمدفي شرذمة قليلة ثم بقي وحده وليس معه أحد ثم قتل وقطعت رأسه وأرسل بها إلى المنصور.
سادسًا: ذكر خروج إبراهيم بن عبد الله بن حسن بالبصرة سنة 143هـ:
حيث أرسل محمد بن عبد الله بن حسن أخاه إبراهيم إلى البصرة وتواعدوا على الخروج في يوم واحد، ولما بلغ إبراهيم خبر ظهور أخيه محمدفي المدينة خرج في البصرة وبايعه عدد كبير من أهل البصرة وكان الناس يقصدونه من كل فج لمبايعته، وجعل المنصور يرصد لهم الجنود فيالطرق المؤدية إلى البصرة فيقتلوهم ويأتون برؤوسهم فيصلبها بالكوفة ليتعظ الناس، ثم أرسل المنصور جيشًا كبيرًا لقتال إبراهيم، فخرجإبراهيم في جيشه والتقى الجيشان وهزم جيش إبراهيم وثبت إبراهيم ونفر قليل معه، ثم قتل إبراهيم وقطعت رأسه وأرسلت إلى المنصور.
وبعد..
ورغم أن هذه التجارب التاريخية تتناول زمانا غير زماننا وظروفا غير ظروفنا ووقائع قد تختلف في بعض جزئياتها أو تتفق في أخرى معجزئيات واقعنا، ولكن هذه الوقائع تحمل لنا أعظم الدروس وأسمى الخبرات، فالعبرة عظيمة والفائدة جليلة والحكمة باهرة في هذا التاريخالعظيم، وهل هناك أفضل من تاريخنا لكي نأخذ منه العبرة والعظة؟ إنها حكمة السنين تأتينا سهلة سلسة في عدة صفحات، إنها عظة التاريخالإسلامي لكل جيل بعد هذا الجيل العظيم.. وهؤلاء العظماء من السلف قد جربوا.. وقديمًا قال حكماء السلف : "سلوا المجرب فقد استطلعالحقيقة ووقف على الدقيقة وعلم ما لم تعلموا".
ولا يستطيع المرء أن يحيا حياتين أو أن يعيش عمره مرتين عمر يجرب فيه ويخطئ وعمر يتعلم فيه من خطئه، والعاقل من اعتبر بغيره واتعظبه.
صور للخروج على الحكام حديثًا:
هذه الحقيقة التاريخية عندما غابت عن بعض أبناء الصحوة في بلاد إسلامية خاضوا التجربة المريرة بأنفسهم وذاقت أمتهم بسببها الويلاتوفقدت الدعوة الإسلامية فيها كثيرا من مكاسبها وأريقت دماء وأزهقت أنفس بريئة وكان المستفيد الأوحد من ذلك كله هو أعداء الأمة، قبل أنتدرك هذه الفئة خطأ ما أقدمت عليه ومفاسده وعواقبه لتتراجع عنه ولكن متى؟!
ومن هذه الأمثلة المعاصرة الشهيرة:
الجماعة الإسلامية في مصر:
حيث تبنت الجماعة منهج المواجهة والعنف في تغيير المنكر، ثم تطورت الأحداث وتفاقم الصراع بين الطرفين ووقعت مصادمات مسلحة بينهاوبين أفراد الشرطة سقط فيها ضحايا من الطرفين وأريقت دماء، وأزهقت نفوس، وطورد آخرون وألقي في السجن كوكبة من الشباب الملتزمسواء ممن كان يتبنى هذا الفكر أم لا، حيث اختلط الحابل والنابل، حيث قضوا زهرة عمرهم خلف القضبان، ووقع فصام نكد بين الطرفين كانالخاسر فيها الجميع والمستفيد الوحيد هم الأعداء المتربصون بالأمة.ولو تعلم هؤلاء الدرس من التاريخ ما سلكوا مسلكهم هذا ولاستجابوالنصائح أهل العلم ولكفوا عن ذلك، ولكن كان أمر الله قدرا مقدورا.ولعل الله سبحانه أراد بهذه الأمة رشدا أن تفيء قطاعات عريضة من أصحابهذا الفكر إلى رشدها وتعترف بخطئها، وهذا لا شك أمر يحمد للقائمين عليه ولمن ساعدهم على ذلك. غير أن هذه المراجعات وتلك الاعترافاتلا ينبغي أن تجعلنا نغفل سبب هذا الداء وذلك الانحراف الذي ذاقت الأمة بسببه ويلات ولحقت بالدعوة الإسلامية انتكاسات خطيرة نتيجة ذلكإضافة إلى ما نجم عنه من تشويه متعمد أو غير متعمد للإسلام كدين يحض على العنف والقتل ويقتل أبناؤه بعضهم بعضا تحت مسمى الجهاد!!!.
الجماعات الإسلامية المسلحة في الجزائر:
ظنَّ الجماعات الإسلامية الحركية بمختلف مدارسهم في الجزائر أنـهم قادرون على تحقيق أهدافهم عن طريق القوة بعد أن أغلق الخيار الحزبيالسياسي بوجههم، فأعلنوا العمل المسلح، ومنذ عام 1992 م والجزائر تعيش في فوضى لا مثيل لها: فالسجون لم تعد تتسع، والمساجد أقفرت إلامن المسنين، وتعددت جماعات العمل المسلح فمن الجماعة الإسلامية المسلحة إلى جماعة حماة الدعوة السلفية إلى الجماعة السلفية للدعوة والقتال ومرورا بالجيش الإسلامي للإنقاذ ناهيك عن جماعة الموحدين أو جماعة الهجرة والتكفير إلى أن وصل المطاف إلى تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي و.....فكثر القتل والسلب والنهب، ولم يعد أحد آمناً لا حاكماً ولا محكوماً، وتحدث العالم أجمع عن المذابح الجماعية التيشملت الشيوخ والأطفال والنساء، والمدن والقرى والطرقات، وشاهد الناس في كل مكان من الكرة الأرضية صوراً من التمثيل بجثث القتلىتقشعر من هولها الأبدان،فبلغ عدد القتلى ما يزيد على مائتي ألف قتيل ومئات الآلاف من اليتامى والأرامل وفي غياب الدعوة انتشر الفساد،بمختلف أشكاله وألوانه، وكثرت الأمراض النفسية.. وفضلاً عن هذا وذاك لم يتحقق النصر الذي وعدنا به الذين أعلنوا الجهاد لأن الحسابات كانت خاطئة.ولأن ما بني على فاسد فالنتيجة تكون فاسدة لا محالة .
لقد ثبت بعد طول هذه المحنة ما حذر منه علماؤنا، وشهد له التاريخ، فالفساد القليل دُفِع بفساد كثير، والمنكر الأخف دُفِعَ بمنكر أعظم, والمفسدةكانت راجحة على المصلحة، وكل مسلم يفكر بعقل سوي يتمنى أن تكون أمور الدعوة والدعاة في الجزائر بقيت كما كانت عليه قبل انتخاباتم. 1991
ورحم الله شيخ الإسلام حين قال في منهاج السنة : " لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلط ان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هوأعظم من الفساد الذي أزالته".
منقول من