بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد:
فإن قراءة القرآن على "مقامات الموسيقى"! قمة الاستهانة بحق القرآن وتشبيهه بمزمور الشيطان، وإخراج القارئ له عن التدبر والتأمل إلى مشابهة حال المشركين الذين قال الله فيهم: (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) (الأنفال:35).
والرجاء الإطلاع على أقوال أهل العلم قديمًا وحديثًا في إنكار هذه البدعة الشاذة ؛ولكن نريد فقط هنا أن نوضح الفكرة العامة لهذه البدعة ومدى نكارتها؛ فنقول:
إن "المقام الموسيقي" يشبه إلى حد ما بحور الشعر عند الشعراء، فكما قام "الخليل بن أحمد" بتحليل الشعر، ووجد أن هناك "أوزانًا" معينة محصورة قادرة على إيصال إيقاع صوتي متناغم متجانس يعطيك لذة السمع بالتوافق بين إيقاع كل بيت، فقد درس فلاسفة العصر العباسي كالكندي وغيره المقطوعات الموسيقية؛ ليكتشف أن هناك فقرات موسيقية أساسية يمكن تحليل أي نسيج موسيقي إليها.
وأن هذه الفقرات الموسيقية الأساسية هي عبارة عن عدد من الأصوات الموسيقية المتتابعة والمتفاوتة في الشدة صعودًا وهبوطًا؛ بحيث تعطي في النهاية إحساسًا ما: إما بالفرح أو الحزن، أو التأمل، أو غيرها من الأحاسيس.
وعُرِفت هذه الفقرات الأساسية "بالمقامات"، والتي أصبحت بالنسبة للموسيقيين لَبِنات يمكن أن يُكوِّنوا منها مقطوعة موسيقية كبيرة تحكي تجربة شعورية فيها فرح، ثم حزن، ثم نسيان كما هي غالب عادتهم في ذكر الحب والهجر، وما يعقبه من حزن أو نسيان أو معنى آخر.
وهذا المعنى في الموسيقى بغض النظر عن اقترانها بالقرآن هو أحد الحكم التي استنبطها العلماء لتحريم الشرع للموسيقى حتى سماها "ابن القيم" -رحمه الله- وغيره بـ"خمر النفوس"؛ ذلك أن الموسيقى تخاطب الغرائز البهيمية في الإنسان، وتسلب العقل سلطانه على الجوارح والمشاعر، وتتولى هي إعطاءه حزنًا أو فرحًا أو شجاعة، كل هذا بعد عزل سلطان العقل.
ومن أعجب ما ابتلي به أصحاب الغناء أنك تجد أنهم ربما ركَّبوا ألحانًا راقصة على كلمات حزينة، وتكون الغلبة بالطبع لللحن؛ فتجد سامعيها يتراقصون على أنغامها!
ولهذا المعنى أيضًا قيَّد العلماء إباحة الإنشاد الخالي من الآلات الموسيقية بألا يكون على هيئة غناء المغنين؛ أي: خُلوَّه من تنغيم تلك المقامات التي تتوغل في أوصال النفس.
وأما القرآن فإنما نزل للتدبر والتأمل ) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ) (ص:29)، فلابد أن تكون الغلبة فيه للكلمة، ولاسيما وكلمات القرآن فيها تنغيم ذاتي من تتابع الحركات والسكنات في الجملة، جعله مستغنٍ عن أوزان الشعراء؛ فاستغناؤه عن مقامات الموسيقيين أولى.
وإنما يستحب للقارئ أن يتغنى بالقرآن مترنمًا به على وفق ألفاظه ومعانيه، لا أن يركِّب عليه مقامًا يعطي رسالة ذاتية قد تتفق أو تختلف معه لفظًا ومعنى، ووصلاً ووقفًا؛ فهذا مما لا يقول به عاقل يعلم أن القرآن كلام، بل أبلغ كلام يُراد منه أن يعقل منه قارئه معناه، وأن يشعر بالشعور الملائم لهذا المعنى؛ ومن ثمَّ يستقر عنده ما اكتسبه من حب لخير أو بغض لشر، أو تَخَلُّق بخلق: كالصبر، والحلم، ونحوها... بخلاف الموسيقى التي لا تعطي إلا شعورًا وهميًا كاذبًا يشابه تمامًا الشعور الذي تمنحه الخمر لشاربها!
بقيت شبهة:أن البعض يقول: إن ما من قارئ إلا ويقرأ بمقام شئتم أم أبيتم، وأن ما يفعلونه هو إرشاد القارئ لأنسب مقام تقرأ به كل آية!
نقول: إن الزعم بأن هذه المقامات قد استوعبت كل الاحتمالات زعم باطل، فعند اختيار مقام معين تقرأ به آية فأيهما سيخضع للآخر؟ فإن قلتَ: إنك تخضع المقام للفظ الآية؛ لم يبقَ للمقام فائدة، وبقي الأمر على ما ذكرنا من ترتيل الكلام والتغني به بحسب ألفاظه ومعانيه.
وإن قلتَ: إن الغلبة للمقام كان هذا من التحريف والتبديل لمعاني القرآن إن لم يكن لألفاظه، وقد حدث هذا بالفعل كما ذكر من شاهد تلك التجارب الأولى، وكيف قاد الاستغراق في المقام لكثير من القراء بزيادة مد أو حذفه! وربما أدغم حرف حتى وكأنه لم يقرأ على طريق المغنين حينما يحاولون إخضاع ألفاظ أغانيهم لمقاماتها.
وأما تعلم هذه المقامات مجردة عن قراءة القرآن كنوع من التمرين له على حسن الأداء المتناغم حتى إذا جاء وقرأ القرآن طاوعه صوته على حُسن الأداء، فيمنع أيضًا سدًا للذريعة؛ لإيقاف باب العبث؛ وللبعد عن الافتتان بأحوال أهل الفسق والفجور.(للعلم فهذا مقتبس أسال الله ان يجزي كاتبه خيرا )
وإليكم كتاب "البيان لحكم قراءة القرآن بالألحان " تأليف الدكتور أيمن السويد وتقريظ العلامة ابن باز رحمه الله على هذا الرابط:
http://www.archive.org/details/albayan_608