من كتاب: التصوف المنشأ و المصادر
للعلامة المجاهد: احسان الهي ظهير رحمه الله
التــقـــيَـــة
من أهم المبادئ الشيعية وأسسهم ومعتقداتهم الإخفاء والكتمان , وإظهار ما لا يعتقدونه في السر , وإعلان ما يبطنون خلافه , وهذا من أخطر ما يؤمن به الشيعة , ويميزهم من الطوائف المسلمة الأخرى , ويحول بينهم وبين الالتقاء بهم , لأنه لا يعلم ظاهرهم من باطنهم , وكذبهم من صدقهم , كما قال السيد محب الدين الخطيب :
( وأول موانع التجاوب الصادق بالإخلاص بيننا وبينهم ما يسمونه التقية , فإنها عقيدة دينية تبيح لهم التظاهر لنا بغير ما يبطنون , فينخدع سليم القلب منا بما يتظاهرون له به من رغبتهم في التفاهم والتقارب , وهم لا يريدون ذلك ولا يرضون به ولا يعملون له ) [1] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :
( النفاق والزندقة في الرافضة أكثر منه في سائر الطوائف , بل لا بد لكل منهم من شعبة نفاق , فإن أساس النفاق الذي بني عليه الكذب , وأن يقول الرجل بلسانه ما ليس في قلبه كما أخبر الله تعالى عن المنافقين : أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم .
والرافضة تجعل هذا من أصول دينها وتسميه التقية , وتحكي هذا عن أئمة أهل البيت الذين برأهم الله عن ذلك حتى يحكوا ذلك عن جعفر الصادق أنه قال : التقية ديني ودين آبائي , وقد نزّه الله المؤمنين من أهل البيت وغيرهم عن ذلك , بل كانوا من أعظم الناس صدقا وتحقيقا للإيمان , وكان دينهم التقوى , لا التقية ) [2] .
فهناك روايات كثيرة فوق الحصر , التي أوردها الشيعة في كتبهم لاعتناق هذه العقيدة من أئمتهم المعصومين , ونحن أوردنا العديد منها في كتابنا الشيعة والسنة , وخصصنا بابا مستقلا لبيان هذا المبدأ وأهميته عند القوم , كما عقدنا فصلا مستقلا في كتابنا الجديد ( بين الشيعة وأهل السنة ) لهذا الموضوع , فمن أراد التعمق والتفصيل فليرجع إليهما , ولكن نذكر هنا روايتين عن القوم :
روى الكشي عن حسين بن معاذ بن مسلم النحوي : ( عن أبي عبد الله ( ع) قال :
( قال لي ( أبو عبد الله ) : بلغني أنك تقعد في الجامع , فتفتي الناس ؟ قال : قلت : نعم , وقد أردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج أني أقعد في الجامع , فيجيء الرجل , فيسألني عن الشيء فإذا عرفته بالخلاف أخبرته بما يقولون ... قال ( أي معاذ بن مسلم ) فقال لي ( أبو عبد الله ) : اصنع كذا , فإني اصنع كذا ) [3]
ورواية أخرى رواها الكليني عن جعفر أنه قال لأصحابه معلى بن خنيس : ( يا معلى , أكتم لأمرنا ولا تذعه , فإنه من كتم أمرنا ولم يذعه أعزه الله به في الدنيا , وجعله نورا بين عينيه في الآخرة , يقوده في الجنة .
يا معلىّ , من أذاع أمرنا ولم يكتمه أذله الله به في الدنيا , ونزع النور من بين عينيه في الآخرة , وجعله ظلمة تقوده إلى النار .
يا معلى , إن التقية من ديني ودين آبائي , ولا دين لمن لا تقية له ) [4] .
وعلى ذلك قال صدوقهم ابن بابويه القمي :
( اعتقادنا في التقية أنها واجبة , لا يجوز رفعها إلى أن يقوم القائم , ومن تركها قبل خروجه فقد خرج عن دين الإمامية , وخالف الله ورسوله والأئمة ) [5] .
وقال مفيدهم :
( التقية كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه , ومكاتمة المخالفين , وترك مظاهرتهم بما يعقب ضررا في الدين أو الدنيا , وفرض ذلك إذن علم بالضرورة أو قوي في الظن ) [6] .
فهذا هو معتقد الشيعة ومبدؤهم الذي اشتهروا به , وعيّروا عليه , وطعنوا فيه .
ولكن المتصوفة أخذوه بكامله عنهم , وزادوا عليهمحيث اتهموا رسول الله بتهمة برّأ الله ساحته عنها بقوله : { وما هو على الغيب بضنين } [7] .
واستندوا بحديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمهم بأنه هو القائل : ( من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) [8] .
فقالوا :
( أمر الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بكتم أشياء مما لا يسعه غيره للحديث المروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : أوتيت ليلة أسري بي ثلاثة علوم , فعلم أخذ عليّ في كتمه , وعلم خيّرت في تبليغه , وعلم أمرت بتبليغه .
فالعلم الذي أمر بتبليغه هو علم الشرائع , والعلم الذي خيّر في تبليغه هو علم الحقائق , والعلم الذي أخذ عليه في كتمه هو الأسرار الإلهية ولقد أودع الله جميع ذلك في القرآن . فالذي أمر بتبليغه ظاهر . والذي خيّر في تبليغه باطن لقوله ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) وقوله ( وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) وقوله ( وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه ) وقوله ( ونفخت فيه من روحي ) فإن جميع ذلك له وجه يدلّ على الحقائق ووجه يتعلق بالشرائع , فهو كالتخير , فمن كان فهمه إلهيا فقد بلغ ذلك , ومن لم يكن فهمه ذلك الفهم وكان مما لو فوجئ بالحقائق أنكرها , فإنه ما بلغ إليه ذلك لئلا يؤدي ذلك إلى ضلالته وشقاوته . والعلم الذي أخذ عليه في كتمه فإنه مودع في القرآن بطريق التأويل لغموض الكتم , فلا يعلم ذلك إلا من أشرف على نفس العلم أولا , وبطريق الكشف الإلهي , ثم سمع القرآن بعد ذلك , فإنه يعلم المحلّ الذي أودع الله فيه شيئا من العلم المأخوذ على النبي صلى الله عليه وسلم في كتمه وإليه الإشارة بقوله تعالى ( وما يعلم تأويله إلا الله ) على قراءة من وقف هنا , فالذي يطلع تأويله في نفسه هو المسمى بالله فافهم ) [9] .
ويقول أبو نصر السراج الطوسي :
( إن حقائق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وما خصّه الله تعالى به من العلم , لو وضعت على الجبال لذابت إلا أنه كان يظهرها لهم على مقاديرهم ) [10] .
أي لم يظهر النبي صلى الله عليه وسلم جميع العلوم التي كان قد خصه الله بها – حسب زعمهم – وذلك لأجل أن الناس لم يكونوا يقدرون على حملها ومعرفتها .
وبمثل ذلك نقل الشعراني عن سيده محمد الحنفي أنه قال :
( وههنا كلام لو أبديناه لكم لخرجتم مجانين لكن نطويه عمن ليس من أهله ) [11] .
وهذا عين ما ذكره الشيعة عن جعفر بن الباقر أنه قال :
( إن عندنا والله سرا من سرّ الله , وعلما من علم الله , أمرنا الله بتبليغه , فبلّغنا من الله عز وجل ما أمرنا بتبليغه , فلم نجد له موضعا ولا أهلا ولا حمالة يحتملونه ) [12] .
ونسبوا إلى علي رضي الله عنه أنه قال :
( إن أمرنا صعب مستصعب لا يحمله إلا عبد امتحن الله قلبه للإيمان , ولا يعي حديثنا إلا صدور أمينة , وأحلام رزينة ) [13] .
أيضا ( لا يحتمله ملك مقرب , ولا نبي مرسل , ولا مؤمن أمتحن الله قلبه للإيمان ) [14] .
هذا وأن الصوفية اتهموا أبا هريرة رضي الله عنه أنه قال :
( حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين من العلم : أما أحدهما فبثثته في الناس , وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم ) [15] .
كما كذبوا على عليّ بن الحسين زين العابدين أنه قال :
( يا ربّ جوهر علم لو أبوح به لقيل لي : أنت ممن يعبد الوثـــنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتـــونه حســــــنا
إني لأكتم من علمي جـــواهره كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتننا )[16] .
وقال النفزي الرندي :
( في قلوب الأحرار قبور الأسرار , والسر أمانة الله تعالى عند العبد , فافشى بالتعبير عنه خيانة , والله تعالى لا يحب الخائنين , وأيضا فإن الأمور المشهودة لا يستعمل فيها إلا الإشارة والإيماء , واستعمال العبارات فيها إفصاح بها وإشهار لها , وفي ذلك ابتذالها وإذاعتها , ثم إن العبارة عنها لا تزيدها إلا غموضا وانغلاقا , لأن الأمور الذوقية يستحيل إدراك حقائقها بالعبارات النطقية , فيؤدي ذلك إلى الإنكار والقدح في علوم السادة الأخيار .
قال أبو علي الروذباري رضي الله تعالى عنه : علمنا هذا إشارة , فإذا صار عبارة خفي ) [17] .
وأما لسان الدين بن الخطيب فقال :
( حملة علم النبوة هم الذين عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل , قالوا : وهذا العلم هو الذي لا يجوز كشفه , ولا إذاعته ولا ادعاؤه , ومن كشفه وأذاعه وجب قتله واستحل دمه وينسبون في ذلك إلى خواص النبوة وخلفائها كثيرا كقوله :
يا ربّ جوهر علم لو أبوح به لقيل لي : أنت ممن يعبد الوثـــنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتـــونه حســــــنا ) [18]
وكان كبار المتصوفة يعملون بهذا المبدأ , ولم يكونوا يظهرون للناس علومهم وأفكارهم كما روى الكلاباذي عن الجنيد أنه قال للشبلي :
( نحن حبّرنا هذا العلم تحبيرا , ثم خبأناه في السراديب , فجئت أنت , فأظهرته على رؤوس الملأ .
فقال : أنا أقول وأنا أسمع , فهل في الجارين غيري ) [19] .
ونقل الشعراني كذلك عن الجنيد أنه ( كان يستر كلام أهل الطريق عمن ليس منهم , وكان يستتر بالفقه والإفتاء على مذهب أبي ثور , وكان إذا تكلم في علوم القوم أغلق باب داره , وجعل مفتاحه تحت وركه ) [20] .
وأيضا روى عن الشاذلي أنه كان يقول :
( امتنعت عني الرؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم رأيته , فقلت : يا رسول الله , ماذ نبي ؟ فقال : إنك لست بأهل لرؤيتنا لأنك تطلع الناس على أسرارنا ) [21] .
والصوفية يكتمون آراءهم ومعتقداتهم عن غيرهم , ويوصون مريديهم في كتبهم ومؤلفاتهم التي كتبت للخاصة وخاصة الخاصة , فالصوفي الشهير عبد السلام الفيتوري يكتب في كتابه ( الوصية الكبرى ) :
( إخواني , وسنذكر لكم كلاما في المغيبات لكن يجب الإمساك عنها إلا لأهله الذين يكتمونه , ولا ينبغي إظهاره للسفهاء الذين يلحقون به إلى الأمراء والجبابرة وأهل الدنيا ) [22] .
وهناك نص مهم جدا ذكره الشعراني يقطع في هذا الموضوع فيقول :
وكان بعض العارفين يقول
( نحن قوم يحرم النظر في كتبنا على من لم يكن من أهل طريقتنا , وكذلك لا يجوز لأحد أن ينقل كلامنا إلا لمن يؤمن به , فمن نقله إلى من لا يؤمن به دخل هو والمنقول إليه جهنم الإنكار , وقد صرح بذلك أهل الله تعالى على رؤوس الأشهاد وقالوا :
من باح بالسرّ استحق القتل ) [23] .
وقد ذكر الدباغ حكايات كثيرة عن الذين لم يكتموا السرّ فابتلاهم الله ببلايا عديدة , من القتل والصلب والحرق والعمى وغير ذلك [24] .
وكان منهم الحلاج , لأنه لم يقتل إلا لإفشاء سرّه [25] .
وكما يروون أن الخضر عبر على الحلاج وهو مصلوب , فقال له الحلاج :
( هذا جزاء أولياء الله ؟
فقال له الخضر : نحن كتمنا فسلمنا , وأنت بحت فمتّ ) [26] .
وكما رووا عن أبي بكر الشبلي أنه قال :
( كنت أنا والحسين بن منصور شيئا واحدا إلا أنه أظهر وكتمت ) [27] .
وننقل أخيرا أن أحمد بن زروق , وابن عجيبة ذكرا عن الجنيد أنه كان يجيب عن المسألة الواحدة بجوابين مختلفين , فكان يجيب هذا بخلاف ما يجيب ذاك [28] .
هذا عين ما رواه الشيعة على محمد الباقر كما ذكر الكليني عن زرارة بن أعين أنه قال :
( سألت أبا جعفر عن مسألة فأجابني , ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني . ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي , فلما خرج الرجلان قلت : يا ابن رسول الله , رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه ؟
فقال : يا زرارة , إن هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم , ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم الناس علينا , ولكان أقل لبقائنا وبقائكم .
قال : ثم قلت لأبي عبد الله عليه السلام : شيعتكم لو حملتموهم على الأسنة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين , قال : فأجابني بمثل جواب أبيه ) [29] .
فهذا هو المبدأ الخطير الآخر الذي أخذه المتصوفة من الشيعة ليكونوا حزبا سرّيا يعمل في الخفاء لهدم مبادئ الإسلام وتعاليمه , ولتأسيس ديانة جديدة تعمل لتوهين القوى الإسلامية ونشاط المسلمين لنشر الكتاب والسنة , والتقاعد عن الجهاد والغزوات , وبناء المجتمع الإسلامي على أسس كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , وقد وضعناه أمام الباحثين والقراء مع المقارنة بين أفكار الآخذين والذين أخذ عنهم , معتمدين على أوثق الكتب وأثبتها وأهمها لدى الطرفين .
==============
المراجع:
[1]الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها مذهب الشيعة الإثني عشرية ص 8 الطبعة السادسة .
[2]منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية ج1 ص 159 ط باكستان .
[3]رجال الكشي ص 218 تحت ترجمة معاذ بن مسلم ط مؤسسة الأ‘لمي كربلاء العراق .
[4]الأصول من الكافي للكليني ج2 ص 223 , 224 ط إيران .
[5]الاعتقادات لابن بابويه القمي ص 44 .
[6]شرح اعتقادات الصدوق فضل التقية ص 241 .
[7]التكوير الآية 24 .
[8]رواه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد وغيرهم .
[9]الإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلي ج1 ص 117 الطبعة الرابعة 1402 هـ مصر .
[10]كتاب اللمع للطوسي ص 159 .
[11]طبقات الشعراني ج2 ص 98 .
[12]الأصول من الكافي ج1 ص 402 , أيضا بصائر الدرجات الكبرى للصفار ص 40 .
[13]انظر نهج البلاغة .
[14]الأصول من الكافي ج1 ص 402 .
[15]إيقاظ الهمم لابن عجيبة الحسني ص 145 ط مصر .
[16]أيضا .
[17]غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج1 ص 214 .
[18]روضة التعريف بالحب الشريف ص 432 .
[19]التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ص 172 ط القاهرة .
[20]اليواقيت والجواهر للشعراني ج2 ص 93 ط مصطفى البابي الحلبي مصر 1378 هـ .
[21]انظر الطبقات للشعراني ج2 ص 75 .
[22]الوصية الكبرى لعبد السلام الأسمر الفيتوري ص 105 " مكتبة النجاح طرابلس ليبيا الطبعة الأولى .
[23]اليواقيت والجواهر للشعراني ص17 ط مصطفى البابي الحلبي مصر .
[24]انظر الإبريز للدباغ ص 12 .
[25]انظر تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار ص 252 ط باكستان .
[26]شرح حال الأولياء لعز الدين المقدسي مخطوط ورقة 251 .
[27]أربعة نصوص ص 19 بتحقيق ماسينيون ط باريس .
[28]انظر قواعد التصوف لابن زروق ص 11 . ط القاهرة , أيضا إيقاظ الهمم لابن عجيبة ص 144 .
[29]الأصول من الكافي كتاب فضل العلم باب اختلاف الحديث ج 1 ص 65 . ط طهران .
عن نسخة الكترونية من الكتاب
والنقل
لطفا من هنا
[url=http://www.alsoufia.org/vb/showthread.php?t=6638]http://www.alsoufia.org/vb/showthread.php?t=6638
[/url]