خطبة الجمعة في المسجد النبوي بالمدينة النبوية
لفضيلة الشيخ : حسين آل الشيخ
بتاريخ : 19- 4-1426هـ
وهي بعنوان : عظمة الإسلام
الحمد لله الذي أنعم علينا بدين الإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، أفضل الأنام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما تعاقبت الشهور والأعوام.
أمّا بعد:
فيا أيّها المسلمون
تمسَّكوا بهذا الدين، والتَزِموا بتوجيهاتِه وتعاليمِه تفلِحوا دنيًا وأخرى.
معاشرَ المسلمين
مِن منطلَق ما أصاب البشريّةَ من تلاعبٍ بالمصطلَحات البرّاقة وما حلَّ بها من تشويهٍ للمناهج السديدةِ والحقائق السليمةِ فإنَّ أهلَ الإسلام ينادونَ العالمَ كلَّه ويناشِدون البشريةَ جميعَها إلى تفهُّم حقيقةِ هذا الدين والتبصُّر في مضامينِه والتبحُّر في قواعدِه وأصوله وكلّيّاتِه والتعرُّف على جزئيّاته وفروعه؛ لتنقيةِ الأفكار من الشوائبِ التي تُحسَب على الإسلام وتسهِم في تشويهِ صورته النقيّة الصافية، كلُّ ذلك بموضوعيّةٍ وإنصاف وتلقٍّ من أهل العلم العاملين العَالمين ذوِي الورَع والتقوى، دون تحيُّز ولا هَوى، وبلا انحرافٍ في مسلَك علميٍّ أو منهَج تطبيقي.
كيف لا ينادُون بذلك وهم يعانون أذًى متكرِّرًا، ينال مسلَّماتِ دينهم وثوابِت عقيدتهم
بل
وينال مِن كتاب ربِّهم وشَخص رسولهم ونبيِّهم عليه أفضل الصلاة والتسليم؟!
نعَم
يجِب عليهم ذلك وهم يرونَ تشويهًا لحقائقِ الإسلام وفَهمًا مغلوطًا لمفاهيمه في دهاليزِ الثقافة العالميّة عن تعمُّد تاراتٍ وعن غِرّةٍ تارةً أخرى.
حُقَّ لأهل الإسلام أن ينادُوا، بل وواجبٌ محتَّم عليهم دعوةُ العالم كلِّه للمشاركة فيما هدَاهم الله إليه من هدايةِ الرّحمة الشاملة والسعادةِ التامّة.
أيّتها البشرية
الأمر كلُّه من قبل ومن بعد لله وحده، أنزَل كتابه هدًى ورحمة، إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ[الإسراء:9]، وأرسل رسولَه محمّدًا للبشريّة أجمع؛ لينقِذَها من الظلمات إلى النور من الجاهليّة إلى العلم، ليكونَ للبشرية رحمةً عامّة وخيرًا مطلقًا وإصلاحًا شاملاً، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ[الأنبياء:107].
أيتها البشريّة
دين الله الذي أرسَل به محمّدًا دينُ الله للبشريّة كافة، ضمّنه سبحانه نظامًا كامِلاً متكامِلاً للحياةِ بنظامٍ جامع محكَم، وفق أسُس ومبادئ حكيمةٍ متقَنَة وقواعِدَ أساسيّة ثابتة؛ لتسعَدَ بها البشريّة في هذه الحياة وتنجوَ وتفوزَ في الآخرة. دينٌ غايتُه الكبرى وهدفه الأسمى الإصلاح بشتَّى صورِه وكافّة أشكاله.
وإنّنا ـ ونحن في مقامِ إيجازٍ لا بَسط وفي مقام إجمالٍ لا تفصيل ـ لنرسل رسالةً صادقة للبشريّة جمعاء من منبرِ رسول الله ، للبشريّة كافّة، رسالةً تتضمّن وقفاتٍ مختصرةً، وتتضمَّن بيانًا شافيًا للجاهل وردًّا مفحِمًا للمكابر، فيمَنْ يزعم بهتانًا وعدوانًا أنَّ الإسلام دين يدعو لعدَم التسامُح ويتضمَّن في طيّات أحكامِه الدعوةَ للعنف ويحمِل انتِهاكًا لحقوق الإنسان المزعومَة.
إنها رسالةٌ تتضمَّن إيضاحَ بعضِ مبادئ منظومةِ نظامِ الإسلام الشامل المبنيِّ على المبادئ الإصلاحيّة التي تسعَد بها البشرية كلّها. إنها وقفةٌ على جملةٍ من المبادئ المثلَى في الإسلام؛ ليعلَمَ كلُّ منصفٍ عظمةَ الإسلام وأنه سبقَ بتشريعاتِه المحكَمَة ما حواه الإعلانُ العالميّ لحقوق الإنسان بحقوقٍ في الإسلام لبني الإنسان بكلِّ شمولٍ وسعة وعُمق، وأن يعلمَ المنصفون أنه لا يوجدُ تشريع أفاضَ في تقريرِ هذه الحقوق وتفاصيلِها وتبيِينها وإظهارِها في صورةٍ صادقة مثلَمًا حَوته أحكام الإسلام.
أيتها البشرية
الدينُ الإسلاميّ قرَّرَ مبادئ الحرّيّة بمدلولها العام
حرّيّةٌ
لا تقيَّد بمجرَّد أهواءِ النّفوس وشطَطَها وميلها، وإنما تقيَّد بنصوص إلهيةٍ وتوجيهاتٍ نبويّة لا تراعِي إلا تحقيقَ المصالح الحقيقيّة لسعادة الدنيا والآخرة
حريةٌ
مبنيّة على قواعد الحقّ والعدل والإنصاف
حرّيّة
لا تُستَغَلّ في الاعتداء على الآخرين ولا بالإضرار بالعالمين
حرّيّة
أساسُها الخضوع للخالق وعدمُ الخضوع لغيره، تحقِّق للبشريةِ بعقيدةِ التوحيد
الحريّةَ
الكاملة من الخضوع والذّلِّ لغير الله الواحدِ المعبود
حريّةٌ
ترفع العبدَ عن كلّ رهبة بغير حقٍّ عن أعناق البشر وتحطِّم الطواغيتَ التي تطغَى وتتجبَّر وتملأُ بالذلِّ والرَّهبة أفئدةَ البشر.
والإسلامُ
ـ وهو يكفلُ مبادئَ الحرية الحقّة ـ لا يَغفل عن تقريرِها لغيرِ المسلمين
حينما يقرِّر عدمَ الجَبر على اعتناقِ هذا الدين
وإنما واجبُ المسلمين الدعوةُ إلى هذا الدين وبيانُ محاسنِه للعالمين وإيضاحُ صورتِه الحقيقيّة للناس أجمعين
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين[يونس:99].
ذكرَ بعض المفسِّرين
أنَّ عمر رضي الله عنه قال لعجوزٍ نصرانيّة: أسلِمي أيّتها العجوز تسلَمِي، إنَّ الله بعث محمّدًا بالحقّ
قالت: أنا عجوزٌ كبيرة والموتُ أقرب
قالَ عمَر: اللّهمّ اشهَد، وتلا قوله: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ[البقرة:256].
أيّها الناس
دينُ الإسلام جاء ليَحفَظ للإنسانيّة كرامتَها، وينظُرُ إلى الإنسان انطلاقًا من هذهِ المكانة العاليةِ التي خُصَّ بها البشَر،
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً[الإسراء:70]؛
ولهذا فالنّاس في نظرةِ الإسلام متساوونَ في الحقوقِ، لا فَضلَ لأحدٍ على أحد إلاّ بالتزام التوحيدِ والتمسّك بتقوى الخالق
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
[الحجرات:13]
ولهذا أكَّد على أهلِ الإسلام احترامَ مشاعِرِ الآخرين، فنهَى عن سبّ معتقَدات غيرِ المسلمين حتى لا يجرَّهم ذلك إلى النيلِ من مقدَّسات المسلمين:
وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ
[الأنعام:108].
قال القرطبيّ:
"لا يحلّ لمسلم أن يسبَّ صلبانهم ولا دينَهم ولا كنائسَهم، ولا يتعرَّض إلى ما يؤدِّي إلى ذلك؛ لأنّه بمنزلة البَعث على المعصيَة" انتهى، لكنّ المسلمَ يدعو إلى هداية الإسلام بما شرعه الربُّ العلاّم:
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
[النحل:125].
وها هو مُعلِّم البشريّة محمد يضرِب مثالاً تطبيقيًّا في احترامِ البشَر من حيث هم،
فحينما قال: ((إذا رأيتم الجنازَةَ فقوموا حتى تخلِّفَكم))، فمرَّت به جنازَة فقامَ عليه الصلاة والسلام، فقيل له: إنها جنازة يهوديّ! فقال: ((أليست نفسًا؟!)).
دين الإسلام
بنِيَت تشريعاته وأسِّسَت أحكامُه على مبدأ الإحسانِ والدّعوة إليه حتى مَع الآخرين ممّن ليسوا محارِبين معتدين ظالمين،
يقول سبحانه :
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا[البقرة:83]،
ونبينا يقول:
((إنَّ الله كتب الإحسانَ على كلّ شيء)).
ومن الصّوَر التطبيقيّة لهذا الأصل
قوله جل وعلا:
لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ
[الممتحنة:8].
والبِرّ هنا هو الإحسانُ بالقول والفعل.
كان عبد الله بن عَمرو يوصِي غلامَه أن يعطيَ جارَه اليهوديّ من الأضحية، وكان يكرِّر له الوصيةَ حتى دُهِش الغلام
فسأله فقال ـ أي: عبد الله ـ: سمعتُ رسول الله يقول: ((ما زال جبريلُ يوصيني بالجار حتى ظنَنتُ أنه سيُورِّثه))
رواه البخاري.
ومِن هنا شهِد المنصفون من غيرِ المسلمين بهذه الخاصّيّة
حينما يقول قائلهم:
"إنَّ المسلمين في مُدُن الأندلس كانوا يعامِلون النصارى بالحُسنى"،
ويقول آخر:
"ساعَدَ الإسلامُ وما أمَر به من العدلِ والإحسان كلَّ المساعدة على انتشاره في العالم".
أيّها الناس
دينُ الإسلام ترتكِز أصولُه وثوابِتُه وتتفرَّع جزئيّاته وأحكامه على تحقيقِ مبدَأ الأخلاق بِاختلافِ مراتبِها بما لا يوجَدُ له نظير في النّظُم والحضارات كلِّها،
يقول :
((إنما بعِثتُ لأتمِّمَ مكارِمَ الأخلاق))
رواه مسلم.
دينُ الرحمة
بشتَّى صوَرِها ومختَلف أنواعها، يدعو إلى إيصالِ النّفع وتحقيقِ المصالح إلى العبادِ، روى مسلم أنَّ النبيَّ قيل له: ادعُ على المشركين، قال: ((إنِّي لم أبعَث لعَّانًا، وإنما بُعِثتُ رحمة)).
نعم، إنّ نبيَّ الرحمة والعطف والشّفقة
يقول عليه الصلاة والسلام:
((لا يرحَمُ الله من لا يرحَم النّاسَ))
متفق عليه.
ولم ولن ترَى البشريّة رحيمًا مشفِقًا كمحمّد
في سنن أبي داودَ من حديثِ ابن مسعود قال:
كنّا مع النبيِّ في سفر، فانطلق لحاجَتِه فرأينا حُمَّرةً معها فرخان، فأخذنا فرخَيها فجاءتِ الحمَّرةُ فجعلَت تُفرِّش،
فجاء النبيّ فقال:
((من فجَع هذه بولَدِها؟ ردّوا إليها ولدها))
يقول ابن مسعود:
ورَأى عليه الصّلاة والسلام قريةَ نملٍ قد حرَّقناها
فقال: ((من حرّق هذه؟ إنّه لا ينبغي أن يعذِّب بالنار إلا ربُّ النار)). والأمثلة التطبيقيّة على رحمة هذا الدين لا يحصيهَا لِسان ولا يسَع تعدادَها مثلُ هذا الموضعِ والمكان.
دينُ الإسلام
دينٌ يحقِّق قاعدةَ العَدل ومبادِئ المواساة، عَدلٌ معيارُه وميزانه لا يخضَع لأهواء البشَر ومداركِهم، ولكن لميزانٍ لا تميل كفَّته ولا يضطرب مقياسُه، إنه وحي الله الذي أرسَلَ به رسولَه وأنزل به كتابَه، نزل لإحقاقِ الحقّ وإبطال الباطل وإقامةِ العدل في كلّ شأن ومهما تغيَّر الزمان والمكان، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى[النحل:90].
أصولُه وفروعه وتوجيهاتُه مبنيّة على الأمر اللاّزم بالعدل حتى مع الأعداء المحاربين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[المائدة:8]، ورسولنا يقول: ((ألا من ظلَم معاهدًا أو انتَقصه أو كلَّفه فوق طاقتِه أو أخذ منه شيئًا بغيرِ طيبِ نفس فأنا حجيجُه يومَ القيامة)) رواه أبو داود.
يقول أحَدُ المؤرِّخين الشهيرين من غير المسلمين: "إنَّ الشريعة الإسلاميّةَ أسَّست في العالم تقاليدَ عظيمة للتعامُل العادل، وإنها لتنفُخ في الناس روحَ الكرَم والسماحة كما أنها إنسانيّة السِّمَة ممكِنَة التنفيذ"، ويقول آخر: "بل كان المسلِمون على خلافِ غَيرهم، إذ يظهر لنا أنهم لم يألوا جُهدًا أن يعامِلوا كلَّ رعاياهم من المسيحيِّين بالعدل والقسطاس".
أيها الناس
دينُ الإسلام جاءَ ليحفَظَ الضروريات الخمس: الدين والنّفوس والعقول والأموال والنّسل والأعراض، وما يلحَق بهذه الضروريات من حاجيّات وتحسينيّات، حتى شملَت توجيهاتُه حفظَ نفوس وأموال وأعراضِ غيرِ المسلمين من المعاهَدين والمستأمَنين:
((من قتل معاهَدًا لم يَرح رائحةَ الجنة، وإنّ ريحها ليوجَد من مسيرة أربعين عامًا))
وفي المسند:
((ألا لا تحلّ أموالُ المعاهَدين إلاّ بحقها))
وقد نصَّ عُلماء الحنفيّة والمالكيّة على تحريم غِيبةِ المعاهّد؛ لما ورد عنه كما في الجامع الصغير: ((مَن آذَى ذميًّا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله)) الحديث
بل
إنَّ الإسلامَ يوجِّه أتباعَه وهم في حالِ المعركةِ بوصايا يوجِزُها خليفة رسولِ الله أبو بكرٍ موجِزًا توجيهاتِ رسولِنا حينما يقول لأسامةَ: (إنِّي موصيكَ بعشرٍ: لا تقتُلنّ امرأةً ولا صبيًّا ولا كبيرًا هرِمًا، ولا تقطَع شجَرًا مثمِرًا، ولا تخرِّبنَّ عامِرًا، ولا تعقِرَنّ شاةً ولا بعيرًا إلا لمأكلَة، ولا تغرِّقنّ نخلاً ولا تحرِّقنَّه، ولا تغلُّوا، ولا تجبُنوا) الوصيّة.
دين الإسلام
دينٌ أصَّل مبادِئَ التكافُلِ الاجتماعي قبل أن يعرِفها العالم المعاصِر بما ليس له نظيرٌ ولا يوجَد له مثيل، دعا إلى التعاوُن، أوجَبَ الزكاة، فرَض الكفّارات، حثَّ على الصدَقات لتُقضَى الحاجاتُ وتنفَكّ الكرُبات.
وقد شمل بهذا النّظامِ المحكَم حتى غير المسلمين، روى أبو عبيدٍ في الأموال في مراسيلِ سعيدٍ أنَّ رسولَ الله تصدَّق على بيتٍ من اليهود ثم أُجرِيَت عليهم الصدَقةُ من بعد
وروى أبو يوسف أنَّ عمر أمر خازِن بيت المال بصرفِ حاجةِ شيخٍ كبيرٍ ضريرِ البصر من غيرِ المسلمين من بيتِ المال، وفي كتاب الخراج أنَّ خالدَ بن الوليد كتب في صلحه مع أهل الحيرة: (وجعلتُ لهم أيّما شيخٍ ضعُف عن العمل أو أصابَته آفةٌ من الآفات أو كان غنيًّا فافتقَر وصار أهلُ دينه يتصدَّقون عليه طُرِحَت جِزيتُه، وعِيلَ مِن بيت مال المسلمين وعياله ما أقام بدارِ الهِجرة).
دين الإسلام
دينٌ تقوم دعوتُه على الدعوةِ إلى الخير والهدَى والإصلاح في الدنيا والآخرة، فهو يتَّخِذ من الرفق قاعدتَه ومِن اليُسر تأصيلَه، ففي قواعِدِه الكبرى "الحرج مرفوع" "المشقّةُ تجلِب التيسير"، ووصيّة نبيِّ الإسلام: ((يسِّروا ولا تعسِّروا، بشِّروا ولا تنفِّروا)).
دينٌ قامت أصولُه وكليّاته وانبثَقَت فروعُه وجزئيّاتُه لتحقيقِ الأصل المكِين: الشريعة جاءَت لتحصيل المصالح وتكثيرِها ودرء المفاسد وتقليلِها.
دين لا يرضى بالأذَى، ولا يقِرّ الضّرَر لغير المعتدِين الظالمين، لا ضرَر ولا ضِرار.
دينٌ جعَل لكلّ شيءٍ حقَّه بترتيبٍ بديع ونظامٍ متقَن كما هو مقرَّر في نظريّة الحقوق المبثوثَة في ثنايا فقه الإسلام من حقوقِ الأشخاص إلى حقوقِ الجماعة، مِن حقوق الوالي إلى حقوقِ الرّعيّة، من حقوقِ المسلمين إلى حقوقِ غيرهم. حقوقٌ يلتزِم بها المسلِمون من منطلَق التعبُّد لله الذي لا يداخِلُه هوى، ولا يتأثَّر الالتزامُ به بمصلحةٍ أو منفَعَة. حقوقٌ يلتزِم بها المسلِم وَفقَ المشروع من غير ضرَرٍ ولا إضرارٍ، وفقَ الأصل المعهود المسمَّى في الفقه الإسلام: نظريّةُ منعِ التعسُّف في استعمال الحقّ.
أيها الناس
دين الإسلام أعلَى شأنَ المرأة ورفع من قدرِها وأزال عنها ما لَقِيَته مِن ظلمٍ وهوان لفَّ حياتَها ووجودَها دهورًا طويلة، فسوَّى بينها وبين الرجل في دعامَتَي التعامُل البشريّة وَفقَ نظريّة الحقوق والواجبات إلاّ في بعضِ المسائل التي توافِقُ خصائصَ كلٍّ واستعدادَه الفطريَّ والجسديّ والنفسيّ، وَفقَ ما تدعو إليه المصالح الخاصّة والعامة للمجتمع، فهي في نظرةِ الإسلام شريكةُ الرجل، تتعاوَن معه لغايةٍ مشتَرَكة، ولكلٍّ دوره وواجباتُه في دفع عجَلة الحياةِ وتحقيقِ العبوديّة لله والإصلاحِ الكامل في الأرض، حَسبَ التبايُن في الخلقِ والتنوُّع في الاختصاص وتنسيقِ الأدوار، وَفقَ الخصائصِ والمؤهّلات والقدرات، وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ[البقرة:288]، يقول : ((إنما النّساء شقائقُ الرّجال)) حديث صحيح، بل وأكَّدَ على حقوقِها كثيرًا، وأوصى بها في كلِّ مراحِلِها، ففي خطبة الوداع يقول : ((اتَّقوا الله في النساء)).
هذه بعضٌ من منظومةٍ كلِّيَّة من مبادئ وكلّيّات هذا الدين، التي هي أصول ثابتةٌ تتَّسِم بالملاءَمَة لجميع البشرية، لا تخضع لمعاييرَ زمنيّة أو مكانيّة أو مصالح نفعيّة، بل هي أصولٌ يُلزم بها المتمسِّكين به دينًا وتعبُّدًا لله وحدَه
فانظري وتأمَّلي وتعقَّلي أيتها البشريّة
ثم قِفي وتساءلِي:
أين ميزانُ هذه المبادِئ من مصطلحاتٍ معاصِرة برّاقة:
"حقوق الإنسان" "حقوق المرأة" "السّلام العالمي" "مبادئ الحرية والديمقراطية"
ممّا لا يخفى على عاقلٍ مدرِك محقِّق أنها مصطلحاتٌ في غالبها تخضَع لمعاييرَ مزدَوجةَ، تتغيَّر بتغيّر المصالح، وتتبدّل بتبدُّل المنافع، وتطَبَّق وفقَ الأهواء والآراء،
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِين[سبأ:24].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ، ونفعَنا بما فيهِ منَ الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفِر الله تعالى لي ولكم ولسائِر المسلمين والمسلِمات من كلّ ذنب، فاستغفِروه إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد للهِ علَى إِحسَانِه، والشّكر لَه علَى توفيقِه وامتِنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنِه، وأشهَد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبدُه ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
فيا أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي وصية الله للأولين والآخرين.
عباد الله
في الوقتِ الذي ننادي العالم كلَّه لهداية الإسلام ونورِه وضيائه لتَسعد وتصلحَ أحوالها نذكِّر الناسَ أنَّ العالم اليومَ في أحوج ما يكونُ إلى إعادةِ ترتيب الأوراقِ والالتزام بالموازينِ الصحيحة،
وإلا فلِماذا حقوقُ الإنسان تَذهَب أدراجَ الرّيَاح وتعودُ تلك المبادِئ مجرّدَ أساطير وأوهامٍ وخرافات حينما يتعلَّق الأمر بالمسلمين وقضاياهم العادلة؟!
ولماذا الازدواجيّةُ في التطبيقِ الفعليّ لدعاوَى الحرّيّات والديمقراطيّة لمزعومة في كثيرٍ من قضايا المسلمين؟!
أين عُقلاء العالم عن محاسَبَة من يحتلُّ أراضِي المسلمين وحقّ سيادَتهم؟!
وأين هم عمَّن يتحدَّى المسلمين ويغيظُهم بتدنيسِ أعظَم ما هو عندهم كتابُ ربَّهم؟!
وأين المحاسَبَة لمن يتهجَّم على خير البشريّة رسولِ ربِّ العالمين إلى أهل الأرض كلِّهم؟!
أين حقوقُ الإنسان عمّا يتعرَّض له المسلمون في أماكنَ شتّى من آفاقِ الأرض من قتلٍ وتدميرٍ وإبادة؟!
أين فلاسِفَة الحريّات ومفكّرو حقوقِ الإنسان كما يزعمون عن تلك الموضوعاتِ الجليّة والحقائق الناصعة؟!
ثمّ
إنّ الله أمرنا بأمرٍ عظيم، ألا وهو الصّلاة والسّلام على النبي الكريم.
منقول