محنة الإمام محمد بن عبد الوهاب
--------------------------------------------------------------------------------
سلسلة ترويض المحن
رقم 20
كتبه للمفكرة: شريف عبد العزيز
SHABDAZIZ@hotmail.com
محنة الإمام محمد بن عبد الوهاب
مفكرة الإسلام: من رحمة الله عز وجل بالأمة الإسلامية، أنه يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، كما صح ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فيعيد رسوم الدين الأولى، وينفض الغبار الذي ران على حقائقه وأصوله، ويتولى قضية الأمة الكلية، فيلمع نجمها من جديد بعد أن كاد أن يأفل ويذهب بريقه ورونقه، وهذا المجدد الذي اصطفاه الله عز وجل لهذه المهمة العظيمة وهذا القدر الجسيم، يلاقي في سبيل تحقيق ما قُدِّر له، الكثير من العنت والمشقة وتحالف الخصوم ضده، وكثرة المخالفين، وقلة المناصرين، يلاقي الأكاذيب والأباطيل والافتراءات والشائعات ضده وضد أفكاره وما يدعو إليه، إن قدر المجدد أن يجد الأمة على شفا الانهيار، وقد أوشكت على النكوص، ونسيت معالم الدين وأصوله، وقد تقلدت البدع وانتهجت الخرافات وانقلبت الموازين والحقائق، عندها يقوم المجدد في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم، ويلاقي تمامًا ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم من محن وشدائد، ولكن العاقبة في النهاية دومًا وحتمًا لمنهجه وطريقته لأن الله عز وجل قد حكم وهو أحكم الحاكمين أن العاقبة دومًا للمتقين. والمحنة أو قل المحن التي تعرض لها الإمام محمد بن عبد الوهاب، إنما كانت من نفس جنس محن المجددين، التي تخرج للأمة في النهاية عظماء وأئمة يخلد ذكرهم وأثرهم عبر التاريخ.
التعريف به:
هو الشيخ الإمام المجدد، شيخ الإسلام ومفيد الأنام، قاطع المبتدعين، مشيد أعلام الدين، مقرر دلائل البراهين، محيي معالم الدين بعد دروسها، ومظهر آيات التوحيد بعد أفول أقمارها وشموسها، الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي النجدي، ولد على الأرجح عام 1115هـ الموافق عام 1703م ببلدة "العينية" التي تقع بالقرب من مدينة الرياض، فهو ينحدر من أصول عربية خالصة تنتهي إلى مضر، وقد نشأ في أسرة علمية راسخة، فأبوه الشيخ عبد الوهاب كان قاضيًا لبلدة العينية، ويعمل مدرسًا للعلم الشرعي، له مجالس عديدة في الحديث والتفسير، وكان جده سليمان بن علي عالم نجد في زمانه، له اليد الطولى في العلم وانتهت إليه الرياسة في نجد، وكذلك كان أعمام الشيخ وإخوته.
وعلى شاكلة أبناء أسرته، سلك محمد بن عبد الوهاب طريق العلم صغيرًا، فتفقه أولاً على أبيه وحضر مجالسه، وأبدى نبوغًا من صغره وتفتحًا مبكرًا في عقله وكذا بسطة في الجسم، فحفظ القرآن في العاشرة، وبلغ مبلغ الرجال في الثانية عشرة، فزوجه أبوه وجعله يؤم المصلين ويدربه على الإجابة على الفتاوى وتنمية ملكة الدرس، وكانت أسرة الشيخ كعادة أهل نجد من أتباع المذهب الحنبلي، فتأثرت شخصية الشيخ بالإمام أحمد بن حنبل ومدرسته وعلماء الحنابلة عمومًا وابن تيمية خصوصًا والذي كانت مكتبة أسرة الشيخ زاخرة بكتبه ومؤلفاته، والتي تركت الأثر الأكبر في شخصية محمد بن عبد الوهاب وأسلوبه الدعوي والحركي لأفكاره التجديدية.
ولما اشتد عود الشيخ محمد خرج في رحلة علمية، فبدأ بالحجاز فأدى فريضة الحج، ثم توجه إلى المدينة وأخذ العلم من شيوخها مثل عبد الله بن إبراهيم آل السيف، والعلامة المحدث محمد بن حياة السندي، وأبي المواهب البعلي الدمشقي، ثم توجه إلى البصرة وظل بها أربع سنوات درس فيها اللغة والحديث، وقد تعرض لمحنة مع أهلها حتى أجبروه على الخروج منها، ثم حاول التوجه إلى الشام ولكن ضياع نفقته أجبره على العودة إلى بلده "العينية"، وقد استفاد الشيخ من رحلاته العلمية في الاطلاع على أحوال العالم الإسلامي وما وصل إليه من تخلف وبعد كبيرين عن منهج النبوة وقد أفاده ذلك بشدة في تكوين رؤيته الإصلاحية للأمة الإسلامية.
أوضاع الأمة الإسلامية:
وذلك في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي، والثاني عشر الهجري، ووقتها كانت الأمة الإسلامية تشهد تراجعًا ملحوظًا على كافة المستويات، وتعاني من تدهور شديد في مكانتها على المستوى الأممي، حيث عانت الدولة العثمانية والتي تحكم معظم أنحاء العالم الإسلامي من الضعف والتفكك وتسلط الأعداء عليها، وانتشرت الرشوة والمفاسد في أركانها، وهذا التدهور أثر سلبًا وبشدة على أحوال الأمة الإسلامية، وكانت بلاد نجد التي وُلد بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومنها بدأ دعوته الإصلاحية، خير شاهد على الانحطاط والتدهور الذي أصاب الأمة على كل المستويات، الاجتماعية والدينية والسياسية.
فعلى المستوى الاجتماعي كانت بلاد نجد تحكمها الأعراف والتقاليد الموروثة للقبائل العربية وأغلبهم من البدو الرحل الذين لا يعرفون الاستقرار، وسمتهم الرئيسية التقاتل والإغارة على من جاورهم، وقد انتشرت بينهم مفاهيم الحياة البدوية الجاهلية التي كانوا عليها قبل الإسلام وعادت العصبية القبلية بينهم، فمزقتهم وشردتهم لطوائف متناحرة وعاد السلب والنهب ليكون مصدر العيش في بلاد نجد.
أما على المستوى السياسي في منطقة نجد، فقد كان بها فراغ سياسي كبير، بعزوف الدولة العثمانية عن إرسال ولاة وأمراء للمنطقة، بل من الثابت تاريخيًا أن إقليم نجد لم يخضع للحكم العثماني كما خضع أطرافه في الحجاز والأحساء مثلاً، وكان حكمه متروكًا لشيوخ القبائل يديرونه قبليًا فيما بينهم، مما جعل إقليم نجد منقسمًا لعدة إمارات متنافرة، يغلب على علاقاتها الكثير من التوتر والصراع والحروب المتتالية، ولم تكن الروابط التي تجمعها سوى المصالح التجارية، وأشهر الأسر النجدية الحاكمة في ذلك الوقت هي آل معمر في العينية، ودهام بن دواس في الرياض، وآل زامل في الخرج، وآل سعود في الدرعية.
أما على المستوى الديني، فلقد سيطرت البدع والخرافات والشركيات على عقول أهل نجد وامتزجت بالنفسية، وأصبحت في حس كثير من الناس جزءًا من عقيدة الإسلام، والدين منها براء، وقد انتشرت بنجد القباب والمشاهد والأضرحة، وكثر عدد الأدعياء الجهلة الذين يخرجون من بقعة لأخرى حاملين في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات، واعتقد الناس في كل شيء حتى الأحجار والأشجار والكهوف والغيران، وعادت الأرض مظلمة كأيام الجاهلية الأولى، وقد خيم الجهل على العقول وألقى بظلاله وحجبه السوداء على النفوس والصدور، وفي ظل تلك الأوضاع والأحوال العامة المتردية للأمة الإسلامية، كانت الساحة مهيأة لاستقبال مشروع إصلاحي ضخم ينقذ الأمة من كبوتها، والظروف تدعو وبكل وسيلة لظروف المصلح والمجدد الذي يعيد للأمة ما اندرس من أمر دينها، وكان رجل الساعة هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
--------------------------------------------------------------------------------
سلسلة ترويض المحن
رقم 20
كتبه للمفكرة: شريف عبد العزيز
SHABDAZIZ@hotmail.com
محنة الإمام محمد بن عبد الوهاب
مفكرة الإسلام: من رحمة الله عز وجل بالأمة الإسلامية، أنه يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، كما صح ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فيعيد رسوم الدين الأولى، وينفض الغبار الذي ران على حقائقه وأصوله، ويتولى قضية الأمة الكلية، فيلمع نجمها من جديد بعد أن كاد أن يأفل ويذهب بريقه ورونقه، وهذا المجدد الذي اصطفاه الله عز وجل لهذه المهمة العظيمة وهذا القدر الجسيم، يلاقي في سبيل تحقيق ما قُدِّر له، الكثير من العنت والمشقة وتحالف الخصوم ضده، وكثرة المخالفين، وقلة المناصرين، يلاقي الأكاذيب والأباطيل والافتراءات والشائعات ضده وضد أفكاره وما يدعو إليه، إن قدر المجدد أن يجد الأمة على شفا الانهيار، وقد أوشكت على النكوص، ونسيت معالم الدين وأصوله، وقد تقلدت البدع وانتهجت الخرافات وانقلبت الموازين والحقائق، عندها يقوم المجدد في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم، ويلاقي تمامًا ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم من محن وشدائد، ولكن العاقبة في النهاية دومًا وحتمًا لمنهجه وطريقته لأن الله عز وجل قد حكم وهو أحكم الحاكمين أن العاقبة دومًا للمتقين. والمحنة أو قل المحن التي تعرض لها الإمام محمد بن عبد الوهاب، إنما كانت من نفس جنس محن المجددين، التي تخرج للأمة في النهاية عظماء وأئمة يخلد ذكرهم وأثرهم عبر التاريخ.
التعريف به:
هو الشيخ الإمام المجدد، شيخ الإسلام ومفيد الأنام، قاطع المبتدعين، مشيد أعلام الدين، مقرر دلائل البراهين، محيي معالم الدين بعد دروسها، ومظهر آيات التوحيد بعد أفول أقمارها وشموسها، الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي النجدي، ولد على الأرجح عام 1115هـ الموافق عام 1703م ببلدة "العينية" التي تقع بالقرب من مدينة الرياض، فهو ينحدر من أصول عربية خالصة تنتهي إلى مضر، وقد نشأ في أسرة علمية راسخة، فأبوه الشيخ عبد الوهاب كان قاضيًا لبلدة العينية، ويعمل مدرسًا للعلم الشرعي، له مجالس عديدة في الحديث والتفسير، وكان جده سليمان بن علي عالم نجد في زمانه، له اليد الطولى في العلم وانتهت إليه الرياسة في نجد، وكذلك كان أعمام الشيخ وإخوته.
وعلى شاكلة أبناء أسرته، سلك محمد بن عبد الوهاب طريق العلم صغيرًا، فتفقه أولاً على أبيه وحضر مجالسه، وأبدى نبوغًا من صغره وتفتحًا مبكرًا في عقله وكذا بسطة في الجسم، فحفظ القرآن في العاشرة، وبلغ مبلغ الرجال في الثانية عشرة، فزوجه أبوه وجعله يؤم المصلين ويدربه على الإجابة على الفتاوى وتنمية ملكة الدرس، وكانت أسرة الشيخ كعادة أهل نجد من أتباع المذهب الحنبلي، فتأثرت شخصية الشيخ بالإمام أحمد بن حنبل ومدرسته وعلماء الحنابلة عمومًا وابن تيمية خصوصًا والذي كانت مكتبة أسرة الشيخ زاخرة بكتبه ومؤلفاته، والتي تركت الأثر الأكبر في شخصية محمد بن عبد الوهاب وأسلوبه الدعوي والحركي لأفكاره التجديدية.
ولما اشتد عود الشيخ محمد خرج في رحلة علمية، فبدأ بالحجاز فأدى فريضة الحج، ثم توجه إلى المدينة وأخذ العلم من شيوخها مثل عبد الله بن إبراهيم آل السيف، والعلامة المحدث محمد بن حياة السندي، وأبي المواهب البعلي الدمشقي، ثم توجه إلى البصرة وظل بها أربع سنوات درس فيها اللغة والحديث، وقد تعرض لمحنة مع أهلها حتى أجبروه على الخروج منها، ثم حاول التوجه إلى الشام ولكن ضياع نفقته أجبره على العودة إلى بلده "العينية"، وقد استفاد الشيخ من رحلاته العلمية في الاطلاع على أحوال العالم الإسلامي وما وصل إليه من تخلف وبعد كبيرين عن منهج النبوة وقد أفاده ذلك بشدة في تكوين رؤيته الإصلاحية للأمة الإسلامية.
أوضاع الأمة الإسلامية:
وذلك في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي، والثاني عشر الهجري، ووقتها كانت الأمة الإسلامية تشهد تراجعًا ملحوظًا على كافة المستويات، وتعاني من تدهور شديد في مكانتها على المستوى الأممي، حيث عانت الدولة العثمانية والتي تحكم معظم أنحاء العالم الإسلامي من الضعف والتفكك وتسلط الأعداء عليها، وانتشرت الرشوة والمفاسد في أركانها، وهذا التدهور أثر سلبًا وبشدة على أحوال الأمة الإسلامية، وكانت بلاد نجد التي وُلد بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومنها بدأ دعوته الإصلاحية، خير شاهد على الانحطاط والتدهور الذي أصاب الأمة على كل المستويات، الاجتماعية والدينية والسياسية.
فعلى المستوى الاجتماعي كانت بلاد نجد تحكمها الأعراف والتقاليد الموروثة للقبائل العربية وأغلبهم من البدو الرحل الذين لا يعرفون الاستقرار، وسمتهم الرئيسية التقاتل والإغارة على من جاورهم، وقد انتشرت بينهم مفاهيم الحياة البدوية الجاهلية التي كانوا عليها قبل الإسلام وعادت العصبية القبلية بينهم، فمزقتهم وشردتهم لطوائف متناحرة وعاد السلب والنهب ليكون مصدر العيش في بلاد نجد.
أما على المستوى السياسي في منطقة نجد، فقد كان بها فراغ سياسي كبير، بعزوف الدولة العثمانية عن إرسال ولاة وأمراء للمنطقة، بل من الثابت تاريخيًا أن إقليم نجد لم يخضع للحكم العثماني كما خضع أطرافه في الحجاز والأحساء مثلاً، وكان حكمه متروكًا لشيوخ القبائل يديرونه قبليًا فيما بينهم، مما جعل إقليم نجد منقسمًا لعدة إمارات متنافرة، يغلب على علاقاتها الكثير من التوتر والصراع والحروب المتتالية، ولم تكن الروابط التي تجمعها سوى المصالح التجارية، وأشهر الأسر النجدية الحاكمة في ذلك الوقت هي آل معمر في العينية، ودهام بن دواس في الرياض، وآل زامل في الخرج، وآل سعود في الدرعية.
أما على المستوى الديني، فلقد سيطرت البدع والخرافات والشركيات على عقول أهل نجد وامتزجت بالنفسية، وأصبحت في حس كثير من الناس جزءًا من عقيدة الإسلام، والدين منها براء، وقد انتشرت بنجد القباب والمشاهد والأضرحة، وكثر عدد الأدعياء الجهلة الذين يخرجون من بقعة لأخرى حاملين في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات، واعتقد الناس في كل شيء حتى الأحجار والأشجار والكهوف والغيران، وعادت الأرض مظلمة كأيام الجاهلية الأولى، وقد خيم الجهل على العقول وألقى بظلاله وحجبه السوداء على النفوس والصدور، وفي ظل تلك الأوضاع والأحوال العامة المتردية للأمة الإسلامية، كانت الساحة مهيأة لاستقبال مشروع إصلاحي ضخم ينقذ الأمة من كبوتها، والظروف تدعو وبكل وسيلة لظروف المصلح والمجدد الذي يعيد للأمة ما اندرس من أمر دينها، وكان رجل الساعة هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.