خزانة الربانيون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    محنة الإمام محمد بن عبد الوهاب

    avatar
    أبو عمر عادل
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 363
    العمر : 67
    البلد : مصر السنية
    العمل : أخصائي اجتماعي
    شكر : 1
    تاريخ التسجيل : 29/06/2008

    الملفات الصوتية محنة الإمام محمد بن عبد الوهاب

    مُساهمة من طرف أبو عمر عادل 08.09.09 19:42

    محنة الإمام محمد بن عبد الوهاب

    --------------------------------------------------------------------------------





    سلسلة ترويض المحن
    رقم 20
    كتبه للمفكرة: شريف عبد العزيز
    SHABDAZIZ@hotmail.com
    محنة الإمام محمد بن عبد الوهاب

    مفكرة الإسلام: من رحمة الله عز وجل بالأمة الإسلامية، أنه يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، كما صح ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فيعيد رسوم الدين الأولى، وينفض الغبار الذي ران على حقائقه وأصوله، ويتولى قضية الأمة الكلية، فيلمع نجمها من جديد بعد أن كاد أن يأفل ويذهب بريقه ورونقه، وهذا المجدد الذي اصطفاه الله عز وجل لهذه المهمة العظيمة وهذا القدر الجسيم، يلاقي في سبيل تحقيق ما قُدِّر له، الكثير من العنت والمشقة وتحالف الخصوم ضده، وكثرة المخالفين، وقلة المناصرين، يلاقي الأكاذيب والأباطيل والافتراءات والشائعات ضده وضد أفكاره وما يدعو إليه، إن قدر المجدد أن يجد الأمة على شفا الانهيار، وقد أوشكت على النكوص، ونسيت معالم الدين وأصوله، وقد تقلدت البدع وانتهجت الخرافات وانقلبت الموازين والحقائق، عندها يقوم المجدد في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم، ويلاقي تمامًا ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم من محن وشدائد، ولكن العاقبة في النهاية دومًا وحتمًا لمنهجه وطريقته لأن الله عز وجل قد حكم وهو أحكم الحاكمين أن العاقبة دومًا للمتقين. والمحنة أو قل المحن التي تعرض لها الإمام محمد بن عبد الوهاب، إنما كانت من نفس جنس محن المجددين، التي تخرج للأمة في النهاية عظماء وأئمة يخلد ذكرهم وأثرهم عبر التاريخ.
    التعريف به:
    هو الشيخ الإمام المجدد، شيخ الإسلام ومفيد الأنام، قاطع المبتدعين، مشيد أعلام الدين، مقرر دلائل البراهين، محيي معالم الدين بعد دروسها، ومظهر آيات التوحيد بعد أفول أقمارها وشموسها، الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي النجدي، ولد على الأرجح عام 1115هـ الموافق عام 1703م ببلدة "العينية" التي تقع بالقرب من مدينة الرياض، فهو ينحدر من أصول عربية خالصة تنتهي إلى مضر، وقد نشأ في أسرة علمية راسخة، فأبوه الشيخ عبد الوهاب كان قاضيًا لبلدة العينية، ويعمل مدرسًا للعلم الشرعي، له مجالس عديدة في الحديث والتفسير، وكان جده سليمان بن علي عالم نجد في زمانه، له اليد الطولى في العلم وانتهت إليه الرياسة في نجد، وكذلك كان أعمام الشيخ وإخوته.
    وعلى شاكلة أبناء أسرته، سلك محمد بن عبد الوهاب طريق العلم صغيرًا، فتفقه أولاً على أبيه وحضر مجالسه، وأبدى نبوغًا من صغره وتفتحًا مبكرًا في عقله وكذا بسطة في الجسم، فحفظ القرآن في العاشرة، وبلغ مبلغ الرجال في الثانية عشرة، فزوجه أبوه وجعله يؤم المصلين ويدربه على الإجابة على الفتاوى وتنمية ملكة الدرس، وكانت أسرة الشيخ كعادة أهل نجد من أتباع المذهب الحنبلي، فتأثرت شخصية الشيخ بالإمام أحمد بن حنبل ومدرسته وعلماء الحنابلة عمومًا وابن تيمية خصوصًا والذي كانت مكتبة أسرة الشيخ زاخرة بكتبه ومؤلفاته، والتي تركت الأثر الأكبر في شخصية محمد بن عبد الوهاب وأسلوبه الدعوي والحركي لأفكاره التجديدية.
    ولما اشتد عود الشيخ محمد خرج في رحلة علمية، فبدأ بالحجاز فأدى فريضة الحج، ثم توجه إلى المدينة وأخذ العلم من شيوخها مثل عبد الله بن إبراهيم آل السيف، والعلامة المحدث محمد بن حياة السندي، وأبي المواهب البعلي الدمشقي، ثم توجه إلى البصرة وظل بها أربع سنوات درس فيها اللغة والحديث، وقد تعرض لمحنة مع أهلها حتى أجبروه على الخروج منها، ثم حاول التوجه إلى الشام ولكن ضياع نفقته أجبره على العودة إلى بلده "العينية"، وقد استفاد الشيخ من رحلاته العلمية في الاطلاع على أحوال العالم الإسلامي وما وصل إليه من تخلف وبعد كبيرين عن منهج النبوة وقد أفاده ذلك بشدة في تكوين رؤيته الإصلاحية للأمة الإسلامية.
    أوضاع الأمة الإسلامية:
    وذلك في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي، والثاني عشر الهجري، ووقتها كانت الأمة الإسلامية تشهد تراجعًا ملحوظًا على كافة المستويات، وتعاني من تدهور شديد في مكانتها على المستوى الأممي، حيث عانت الدولة العثمانية والتي تحكم معظم أنحاء العالم الإسلامي من الضعف والتفكك وتسلط الأعداء عليها، وانتشرت الرشوة والمفاسد في أركانها، وهذا التدهور أثر سلبًا وبشدة على أحوال الأمة الإسلامية، وكانت بلاد نجد التي وُلد بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومنها بدأ دعوته الإصلاحية، خير شاهد على الانحطاط والتدهور الذي أصاب الأمة على كل المستويات، الاجتماعية والدينية والسياسية.
    فعلى المستوى الاجتماعي كانت بلاد نجد تحكمها الأعراف والتقاليد الموروثة للقبائل العربية وأغلبهم من البدو الرحل الذين لا يعرفون الاستقرار، وسمتهم الرئيسية التقاتل والإغارة على من جاورهم، وقد انتشرت بينهم مفاهيم الحياة البدوية الجاهلية التي كانوا عليها قبل الإسلام وعادت العصبية القبلية بينهم، فمزقتهم وشردتهم لطوائف متناحرة وعاد السلب والنهب ليكون مصدر العيش في بلاد نجد.
    أما على المستوى السياسي في منطقة نجد، فقد كان بها فراغ سياسي كبير، بعزوف الدولة العثمانية عن إرسال ولاة وأمراء للمنطقة، بل من الثابت تاريخيًا أن إقليم نجد لم يخضع للحكم العثماني كما خضع أطرافه في الحجاز والأحساء مثلاً، وكان حكمه متروكًا لشيوخ القبائل يديرونه قبليًا فيما بينهم، مما جعل إقليم نجد منقسمًا لعدة إمارات متنافرة، يغلب على علاقاتها الكثير من التوتر والصراع والحروب المتتالية، ولم تكن الروابط التي تجمعها سوى المصالح التجارية، وأشهر الأسر النجدية الحاكمة في ذلك الوقت هي آل معمر في العينية، ودهام بن دواس في الرياض، وآل زامل في الخرج، وآل سعود في الدرعية.
    أما على المستوى الديني، فلقد سيطرت البدع والخرافات والشركيات على عقول أهل نجد وامتزجت بالنفسية، وأصبحت في حس كثير من الناس جزءًا من عقيدة الإسلام، والدين منها براء، وقد انتشرت بنجد القباب والمشاهد والأضرحة، وكثر عدد الأدعياء الجهلة الذين يخرجون من بقعة لأخرى حاملين في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات، واعتقد الناس في كل شيء حتى الأحجار والأشجار والكهوف والغيران، وعادت الأرض مظلمة كأيام الجاهلية الأولى، وقد خيم الجهل على العقول وألقى بظلاله وحجبه السوداء على النفوس والصدور، وفي ظل تلك الأوضاع والأحوال العامة المتردية للأمة الإسلامية، كانت الساحة مهيأة لاستقبال مشروع إصلاحي ضخم ينقذ الأمة من كبوتها، والظروف تدعو وبكل وسيلة لظروف المصلح والمجدد الذي يعيد للأمة ما اندرس من أمر دينها، وكان رجل الساعة هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
    avatar
    أبو عمر عادل
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 363
    العمر : 67
    البلد : مصر السنية
    العمل : أخصائي اجتماعي
    شكر : 1
    تاريخ التسجيل : 29/06/2008

    الملفات الصوتية رد: محنة الإمام محمد بن عبد الوهاب

    مُساهمة من طرف أبو عمر عادل 08.09.09 19:43

    محنة الإمام محمد بن عبد الوهاب 2

    --------------------------------------------------------------------------------

    أسس الإصلاح:
    في ظل تلك الظروف والأوضاع التي عليها الأمة الإسلامية تفتحت عينا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وبعد رحلته العلمية التي ذكرناها تفتحت مداركه ونضج مشروعه الإصلاحي الكبير؛ فقد ظل الشيخ طيلة الفترة الممتدة من سنة 1728م حتى سنة 1738م يطوف البلاد ويجتمع مع العلماء والشيوخ، ويشاهد أوضاع المسلمين في المشرق والمغرب، ويتحسس مواطن الداء، وأسباب الخلل، ثم عاد إلى بلدته بنجد وقد بلغ سن الخامسة والثلاثين من العمر، وقد تهيأ في عقله مشروعه الإصلاحي، واختمرت عنده أسس الإصلاح التي سيبني عليها دعوته الإصلاحية وحركته التجديدية، مع حتمية الإشارة إلى أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد تأثر تأثيرًا كليًا بأفكار وآراء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، بل إن الشيخ محمد هو الذي سيحيي مشروع ابن تيمية وسيدخله حيز التنفيذ، ويحقق ما عجز عنه شيخ الإسلام ابن تيمية نفسه رحمه الله، ومن أهم هذه الأسس ما يلي:
    التوحيد: الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وفرق الله عز وجل به بين الكفر والإيمان، وعصم به الدماء والأموال والأعراض، ودعا الناس كلهم إليه وحاربهم عليه، ولاقى المحن والشدائد من أجل نشره وإظهاره، التوحيد الخالص من كل شوائب الشركيات والجهاليات والخرافات، التوحيد الصافي النقي، الذي ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة، حيث وجد الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن المسلمين قد غلبت عليهم الخرافات والشركيات وصاروا أبعد ما يكون عن التوحيد الصحيح، ووقعوا فريسة للدجل والبدع مما أضعفهم، بل وأخرجهم من زمرة المسلمين بالكلية، وبالتالي سلط الله عز وجل عليهم عدوهم من أنفسهم والشيطان وغير ذلك، وأن هذا الانحراف الذي أصاب عقيدة المسلمين وحاد بهم عن طريق التوحيد الخالص كان على رأس الأمراض والأدواء التي أصابت الأمة وأدت إلى تخلفها وضعفها، وبالتالي لابد من نشر التوحيد الصحيح ونبذ كل البدع والشركيات من حياة المسلمين، وتطهير الدين مما علق به من أدران الجاهلية الأولى.
    الجهاد: وذلك ضد كل مظاهر الخروج على الدين الصحيح، وكل ما يقدح في عقيدة المسلم وتوحيده الخالص، وإزالة كل مظاهر الشرك والخرافة من حياة المسلمين، وذلك ليس في بلاد نجد وحدها ولكن في كل بلاد الإسلام، حتى يعود الدين كله لله عز وجل، أي الجهاد من أجل نشر الإصلاح والدعوة، والشيخ محمد بن عبد الوهاب بهذه النقطة وبهذا الأساس قد حوَّل أفكاره وأفكار ابن تيمية لواقع عملي حقيقي، وبذاك الجهد والجهاد حققت حركته الإصلاحية نجاحًا كبيرًا، وتحولت من حركة ودعوة إصلاحية إلى دولة وكيان قوي استطاع من خلاله نشر العقيدة الصحيحة في أرجاء المعمورة، وتطبيقًا لهذا الأساس فقد دعا الشيخ محمد بن عبد الوهاب وشارك بنفسه في هدم القباب والمشاهد والأضرحة وقطع الأشجار والنخيل الذي يتبرك به، وأرسل السرايا والجيوش إلى الحجاز والعراق للقضاء على مظاهر الشرك والخروج على الدين، وأقام الحدود على أصحاب الجرائم.
    الاجتهاد: حيث دعا الشيخ إلى فتح باب الاجتهاد ونبذ التقليد والتعصب المذموم الذي أورث الأمة العداوة والشقاق وفساد ذات البين، والرجوع مباشرة إلى المرجعية الأولى ـ الكتاب والسنة ـ ومصادر الشريعة المجمع عليها، مع احترام اجتهادات علماء الأمة من الأئمة الأربعة وغيرهم من سلف الأمة، ولكن لكثرة الوقائع والمتغيرات التي تواجه المسلمين، وكثرة الحوادث عليهم، جعل الأمر يتطلب بل ويتوجب إلى فتح باب الاجتهاد في الدين لمن ملك أدواته واستوفى شروطه، لمواكبة حاجات المسلمين المتجددة ونوازل العصر المتتابعة.
    رحلة الكفاح والمحن:
    كانت الجدية والثبات على المبدأ والصبر على المكاره واحتمال الأذى في سبيل ما يعتقد ويدعو إليه هي أهم شمائل وصفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكذلك سائر المصلحين والمجددين، فالأهداف عظيمة والطموحات كبيرة والعوائق كثيرة والطريق طويل وموحش، لذلك كان من الطبيعي جدًا أن تكون المحن والابتلاءات على نفس المستوى مع الأهداف والطموحات. وكما قال الشاعر:

    إذا النفوس كن كبارًا تعبت في مرادها الأجسام
    وهذه هي رحلة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله نحو تحقيق مشروعه الإصلاحي وإحياء معالم الدين الأولى مرة أخرى وما جرى فيها من فعاليات ومحن وابتلاءات، ولا نستطيع أن نستوعب فعاليات حياة الشيخ ومحنه كلها، ولكن نقف عند أهم المحطات في مسيرة الشيخ وعطائه الدعوي وجهاده الإصلاحي، وما تعرض إليه من محن في كل محطة.
    محنته في البصرة:
    خرج الشيخ في رحلة علمية كعادة طلاب العلم إلى الحجاز وبها أقام عدة سنوات، ثم رحل إلى البصرة ليطلب العلم من مشايخها، وظل بها أربع سنوات يدرس اللغة والحديث على يد الشيخ محمد المجموعي، وخلال إقامته بالبصرة رأى أهلها وأغلبهم من الروافض الإمامية غارقين في البدع والشركيات، فسأل شيخه عن ذلك، فأفتاه بالتحريم والإنكار لما يفعلونه فأخذ الشيخ في الإنكار على أهل البصرة ونهيهم عن مظاهر الشركيات المنتشرة بينهم واشتد عليهم في ذلك، ويرد على شبههم، ويدحض أباطيلهم، حتى ضاقوا به ذرعًا واجتمع رؤساء الشيعة الإمامية في البصرة عليه وآذوه أشد الأذى، ثم أخرجوه منها وقت الهجيرة، وضربوا شيخه محمد المجموعي أيضًا.
    فلما خرج الشيخ من البصرة كان الوقت شديد القيظ، فسار وحده في حر الظهيرة حتى اشتد به العطش وقد تعمد الروافض إخراجه في هذا الوقت بلا زاد ولا ماء ولا دابة، ليهلك عطشًا بالطريق إمعانًا في إيذائه، حتى غشي عليه وأشرف على الهلاك، فقيض الله عز وجل له من ينقذه وهو رجل اسمه أبو حميدان من أهل منطقة الزبير، أدركه وهو يجود بنفسه، فحمله على حماره وسقاه وأصلح حاله، ثم قام بتوصيله إلى منطقة الزبير.
    محنته في حريملاء:
    بعد أن أنهى الشيخ رحلته العلمية والتي تبلورت خلالها الأسس والأفكار التي سيبني عليها الشيخ دعوته الإصلاحية وحركته التجديدية، عاد إلى منطقة نجد، لتكون نقطة انطلاق وخط البداية لدعوته المباركة، ولكنه لم يعد إلى "العينية" مسقط رأسه، بل عاد إلى بلدة "حريملاء"، والسبب في ذلك أن أباه القاضي عبد الوهاب بن سليمان قد انتقل إليها وتقلد قضاءها، فلما وصل إليها أخذ في الدعوة إلى التوحيد الصحيح ونبذ البدع والخرافات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خاصة في باب الشركيات المنتشرة في المنطقة.
    لم يعجب هذا النشاط الدعوي الكثير من الجهال وسدنة الخرافة وحراس البدع، فأخذوا في تأليب الناس ضده وضد ما يدعو إليه، حتى أن أباه القاضي عبد الوهاب خاف عليه أن يفتك به أحد هؤلاء الجهلة المبتدعين، فأخذ عليه العهود والمواثيق المغلظة ألا يدعو لأفكاره ودعوته تلك، وكان ذلك الأمر من جملة المحن التي تعرض إليها الشيخ، إذ كيف يرى المنكر ولا ينكره، ويرى الجهل والخرافات والشركيات مطبقة على حياة المسلمين ولا ينهض لإزالتها، كيف لا ينشر التوحيد الخالص وينقذ هذه الجموع الغفيرة من هاوية الضلالات والشركيات.
    ظل الشيخ محصورًا ممنوعًا من الدعوة والحركة طيلة سنتين كاملتين حتى توفي والده عام 1153هـ ـ 1740م، بعدها انطلق الشيخ كالنجم الثاقب والإعصار الهادر يدعو إلى التوحيد الصحيح ونبذ الخرافات والشركيات، وأعلن عن بنود دعوته، واشتد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاستجاب لدعوته العديد من أهل حريملاء، وهذا الأمر لم يعجب الفساق والمفسدين في البلد، وكان في المدينة رهط من العبيد يقال لهم: الحميان، يغلب عليهم الفسق والتعدي، فأراد الشيخ أن يمنعهم من الإفساد في الأرض، فتآمروا عليه وقرروا قتله ليلاً والناس نيام، وبالفعل تسوروا عليه جدار داره، ولكن الله عز وجل الذي يدافع عن المؤمنين، ويحفظ عباده الصالحين، كشف خبرهم، وذلك عندما رآهم بعض جيران الشيخ، فصاحوا بهم، فهربوا قبل تنفيذ الجريمة وهم يضمرون معاودة الكرة إذا سنحت الفرصة.
    لم يفت ذلك التآمر في عزيمة الشيخ ومضى في دعوته، ولكنه شعر أنه يبذل جهودًا ضخمة في حين الاستجابة ضعيفة، والإعراض والصدود لدعوته يزداد يومًا بعد يوم، فقرر أن يخرج من هذه القرية الظالم أهلها، ليبحث لدعوته عن ساحة جديدة وبيئة صالحة لأفكاره فخرج من حريملاء متجهًا إلى مسقط رأسه بلدة "العينية".
    محنته في العينية:
    انتقل الشيخ إلى العينية ورئيسها يومئذ عثمان بن معمر، فتلقاه وأكرمه وزوجه من بنت عمه ودخل في دعوته وأعلن عن تأييده الكامل له، فأخذ الشيخ محمد يدعو إلى التوحيد بكل قوة وانتقل إلى الأساس الثاني في دعوته وهو الجهاد ضد البدع والخرافات، وإزالة المنكر بالقوة بعد توافر السلطة اللازمة لذلك، فقطع عدة أشجار كانت معظمة عند أهل العينية ثم انتقل بجهاده ضد الشركيات إلى خارج "العينية" حيث قاد كتيبة مكونة من ستمائة رجل على رأسهم رئيس العينية "عثمان بن معمر"، وقام بهدم القبة المزعومة على قبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه، والتي عند قرية "الجبيلة" وقد حاول أهل الجبيلة منعهم ولكن لما رأوا إصرار الشيخ يهدم القبة بنفسه ولوحده لخوف الناس الذين تغلغلت الخرافات في أنفسهم من أن يصيبهم أذى إذا هدموا القبة، وقد تربص جهال البدو وسفهاؤهم ما يحدث للشيخ بسبب هدمها في الصباح، فإذا هو مصبحًا في أحسن حال.
    وبعد ذلك أتت امرأة إلى الشيخ واعترفت عنده بالزنا وتأكد الشيخ من صحة فعلها وسلامة عقلها، فأمر بها فرجمت وقد اشترك أهل العينية في رجمها، فعظمت دعوة الشيخ بعدها وكبرت دولته وفشا التوحيد بين الناس، وقد أدت هذه الحادثة أي إقامته لحد الرجم لاشتهار أمره في الآفاق.
    كان لانتشار دعوة الشيخ وتعاظم دولته وأمره وقع كبير في نفوس المنتفعين من الفساد والبدع من تجار الخرافة وسدنة القبور والأضرحة، ثم عظمت مخاوفهم بعد حادثة الرجم فهرعوا إلى أمير منطقة الإحساء سليمان الحميدي وطلبوا منه أن يضغط على أمير "العينية" عثمان بن معمر، ليكف الشيخ عن دعوته ويسكت صوته ولو بالقتل، وكان أهل الإحساء بصفة خاصة من أشد الناس على الشيخ ودعوته؛ لأنهم كانوا غارقين في المحرمات ومستمتعين بالإباحية الكاذبة التي خلفتها لهم دولة القرامطة التي ظلت تحكم الإحساء لعشرات السنين من قبل، وظل كثير من أهلها مقتنعين لأفكار القرامطة.
    أرسل سليمان الحميدي إلى عثمان بن معمر يتهدده ويتوعده ويأمر بقتل الشيخ محمد، وهدده بقطع الخراج والراتب الشهري الذي يناله عثمان من سليمان، وبمنع تجار العينية من العمل والاتجار في الإحساء وما جاورها، وأثر التهديد في نفس عثمان وخاف بشدة من سليمان وآثر العاجلة على الآجلة وخاف على دنياه من أن يهدمها عليه سليمان، فطلب من الشيخ أن يخرج من بلده ويذهب حيث شاء، فحاول الشيخ محمد أن يهدئ من روعه ويذكره بأمر الآخرة، ولكن مهابة سليمان والخوف منه قد ملأ صدر عثمان وأخذ بمجامع فؤاده، وأمر الشيخ بالخروج من العينية وحده وذلك عام 1157هـ.
    ولأن المرء إذا آثر الدنيا على الآخرة فإنها تهوي به إلى أسفل سلم المروءة والأخلاق، فإن عثمان بن معمر قد كلف فارسًا من عنده أن يخرج مع الشيخ محمد بحجة حراسته وقد كلفه أن يقتل الشيخ عند منتصف الطريق بين الدرعية والعينية، فسار الفارس راكبًا خلف الشيخ الذي كان يسير على قدميه في حر الصيف وبيده مروحة وهو يقرأ القرآن ويكرر قوله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]، فلما وصلا لمنتصف الطريق وضع الفارس يده على سيفه ليستله ويفتك بالشيخ، فإذا بكرامة هائلة للشيخ محمد رحمه الله، إذ يبست يد الفارس على قائم سيفه، فلم يستطع أن يحركها، وملأ الرعب قلبه، فترك الفارس الشيخ وولى هاربًا عائدًا إلى أميره عثمان بن معمر.
    avatar
    أبو عمر عادل
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 363
    العمر : 67
    البلد : مصر السنية
    العمل : أخصائي اجتماعي
    شكر : 1
    تاريخ التسجيل : 29/06/2008

    الملفات الصوتية رد: محنة الإمام محمد بن عبد الوهاب

    مُساهمة من طرف أبو عمر عادل 08.09.09 19:44

    محنة الإمام محمد بن عبد الوهاب 3

    --------------------------------------------------------------------------------

    المنح بعد المحن:
    يقول الله عز وجل وقوله الحق في محكم التنزيل: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، فإن الله عز وجل قد فتح على الشيخ محمد بن عبد الوهاب فتوحات عظيمة، وبعد ثباته وجهاده وصبره على الدعوة، وتحمله شتى أنواع الأذى، جاءت المنح بعد المحن، فقد هاجر الشيخ محمد مرة أخرى من العينية إلى الدرعية باحثًا عن النصير الذي يقوم معه بالدعوة بسنانه وحسامه، ولعل إصرار الشيخ محمد على البحث عن القوة والسلطة التي تدعمه من أهم أسباب نجاح دعوته وقيام دولته بعد ذلك، وهذا هو السر وراء نجاح مشروعه الإصلاحي، في حين فشلت غيرها من المشاريع الإصلاحية الكبيرة بما فيها مشروع شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنها افتقدت التأييد السياسي وقوة السلطة اللازمة لتأسيس أركان الدولة الحاملة لأفكار الدعوة الإصلاحية.
    انتقل الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى الدرعية وهناك وجد ترحيبًا كبيرًا من آل سعود حكام الدرعية وتعاهدوا معه على النصرة والجهاد، وإذا كان انضمام الأمير عثمان بن معمر لدعوة الشيخ ومساهمته في نشرها كان عاملاً مهمًا في ذيوعها، فقد كان انتقال الشيخ إلى الدرعية وتأييد آل سعود له السبب الرئيس في انتشار الدعوة السلفية ليس في نجد وحتى شبه الجزيرة العربية، ولكن في العالم الإسلامي بأسره، وحققت الدعوة نجاحًا إستراتيجيًا واسعًا وحققت كل أهدافها.
    ومع انتشار الدعوة وتنامي قوة دولتها في الدرعية حتى شملت معظم أنحاء نجد، ظهر العديد من خصوم الدعوة وزادت الوشايات والشائعات الكاذبة على الشيخ ودعوته، وعمل خصوم الشيخ على تشويه صورته في نجد والحجاز وحتى خارج الجزيرة العربية.
    لم تفت هذه العداوات والخصومات في عضد الشيخ ومن معه من آل سعود، ويكفي أن الشيخ ظل يدعو إلى التوحيد ويجاهد من أجل نشره قرابة النصف قرن من الزمان، وقد شارك معه في نشر الدعوة الأمير محمد بن سعود، ثم ولده عبد العزيز، ثم حفيده سعود، حتى توفي الشيخ محمد بن عبد الوهاب سنة 1206هـ ـ 1791م، وهو على أعتاب التسعين.
    لقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب خليقًا بالمشروع الإصلاحي الكبير الذي اضطلع به وقرره ووضع أسسه وجاهد طوال عمره من أجل نشره، فلقد كان رحمه الله صادقًا صابرًا ثابتًا، صاحب عزيمة وهمة تناطح السحاب، كثير الذكر لله عز وجل، واثقًا بنصر الله، شديد الهيبة، نشر راية الجهاد في البلاد بعد أن كانت فتنًا ودولاً متناحرة، وعرف التوحيد الصغير والكبير بعد أن كان لا يعرفه إلا الخواص، وعرفت الشريعة طريقها إلى التطبيق وحياة المسلمين، وحارب الجهل والخرافات حتى طهر البلاد ونفوس العباد من آثارها الخبيثة وقرر أصول دعوته في العديد من المصنفات النافعة والتي ما زال ينتفع بها الناس حتى الآن منها كتاب التوحيد، وتفسير القرآن، ومختصر السيرة، وكتاب كشف الشبهات، والكبائر، والمسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية.
    ونظرًا للدور البارز والكبير الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب في محاربة البدع والخرافات والشركيات، وهدمه للقباب والأضرحة والمشاهد التي ضل على عتباتها الكثير من المسلمين، حتى خلت بلاد الجزيرة العربية كلها من أي أثر لهذه الأوثان التي كانت تعبد من دون الله، نظرًا لهذا الدور العظيم فإن الطرق الصوفية بأسرها وبشتى فرقها التي تخرج عن الحصر، تعادي الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتصفه بأحط الأوصاف والسباب والشتائم، وقد ساعدت الدولة العثمانية على رواج هذه الأكاذيب والشائعات، وذلك لاعتبارها الشيخ ودعوته خروجًا على سلطانها، كما أن الطرق الصوفية كانت متغلغلة في داخل الدولة العثمانية، وقد قامت الدولة العثمانية التي كانت تخاف من قيام دولة خلافة عربية تطيح بها، قامت بتعبئة بعض العلماء لشن حملة شرسة على الشيخ ودعوته، فألفت الكتب ودبجت الخطب، وشرعت الأقلام والألسن للطعن في الشيخ وأتباعه، ورمي الشيخ وأتباعه بالزندقة والخروج على الإسلام وعلى سلطان الخليفة، وأتت هذه الحملة الشرسة أكلها، فلهج الناس في كل مكان بذم الشيخ ووصف أتباعه بالوهابية، وقد ساعدت الطرق الصوفية المنتشرة في أرجاء العالم الإسلامي على ترويج هذه الأكاذيب، حتى أصبحت كلمة الوهابية مرادفة لكل معاني الذم والقدح وعداوة الرسول صلى الله عليه وسلم بزعمهم، والعجيب أنهم قد تقلدوا لفظ "الوهابية" التي يطلقونها على أتباع الدعوة السلفية المباركة أصلاً من الشيعة الروافض الإمامية، والذين يعادون أهل السنة معاداة شديدة على وجه العموم، وأتباع الدعوة السلفية على وجه الخصوص، وقد مر بنا أن الشيخ رحمه الله قد صادف أول محنة بالبصرة مع الروافض الإمامية الغارقين في الشرك والخرافة، ومن يومها والروافض يحاربون ويعادون الدعوة السلفية المباركة في كل مكان، حتى أن أحد الروافض قد قام بجريمة في غاية الشناعة والحقارة عندما أقدم على اغتيال الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود أمير الدرعية وهو يصلي العصر وذلك سنة 1218هـ ـ 1803م، وبعدها توالت جرائم الروافض الإمامية بحق أهل السنة، أتباع السلف الصالح، من يومها حتى الآن وما يحدث على أرض العراق الآن خير شاهد على عداوة الروافض لأهل السنة.
    وبالجملة، فإن محنة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم تنته بعد موته، فلقد عانى الرجل أثناء رحلة كفاحه من أجل الدعوة الكثير من البلايا والمحن، وحتى بعد موته ورغم نجاح دعوته وحركته المباركة وقيام مشروعه الإصلاحي في شكل دولة قوية ظاهرة ما زالت قائمة إلا إن المحن ما زالت تقع على تاريخه وتراثه ونتاجه الفكري وأسلوبه الدعوي، وما زالت المكتبات في شتى البلاد الإسلامية زاخرة بالكتب المليئة بالسب والشتم والقدح بحق الشيخ، وما زالت الأكاذيب والأباطيل تطلق في حقه وحق أتباعه، حتى أقدمت عدة دول على تحريم وتجريم الانتماء للدعوة السلفية، وأغلب هذه الدول محتلة أو واقعة تحت تأثير الاحتلال مثل الشيشان وإقليم كردستان.
    ولكن رغم كل هذه الأباطيل والأكاذيب التي تطلق بحق الشيخ وأتباع الدعوة السلفية، ورغم حجم الكراهية الكبيرة التي ورثها أعداء الدعوة للأجيال جيل بعد جيل، إلا أن الدعوة السلفية ما زالت قائمة وقوية وظاهرة وينضم إليها كل يوم طلائع الشباب المؤمن الواعي، الباحث عن الحق والسعادة في الدنيا والآخرة، في حين أتباع الخرافة وشيعة القبور أعدادهم تتضاءل وطرقهم تتناقص، والناس ينفضون من حولهم، وهذه آية بينة من الله عز وجل يميز بها المنهج الحق والدعوة الصحيحة من المناهج الباطلة والدعوات الفاسدة.

      الوقت/التاريخ الآن هو 14.11.24 20:02