وقفات في طلب العلم
قال الإمام أحمد :
ما صليتُ غير الفرض ، استأثرتُ بمذاكرة أبي زرعة على نوافلي .
قلتُ :
ولذلك قصة : فقد قدم أبو زرعة عند الإمام أحمد ، فكانا يتذاكران الحديث ،فقال أحمد : ماصليتُ غير الفرض ...
ويُستفاد من هذا :
تقديم الأصلح من الأعمال على قاعدة ( إذا تعارضت مصلحتان قُدِّم الأعلى منهما )
فقدم الإمام أحمد مذاكرة العلم مع قرينه أبي زرعة على النوافل ، وفي هذا إشارة لفضل العلم على النافلة ، فتأمل .
قال عمر الناقد :
لما قدم سليمان الشاذكوني بغداد ، قال لي أحمد بن حنبل : اذهب بنا إلى سليمان نتعلم منه نقد الرجال .
قلتُ :
وفي هذا بيان أن النقد ( علم ) له أصوله وضوابطه ، وشروطه ، وموانعه ، فليس كل شخص ينقد ،
بل للنقد أهل يعرفون من ينقدون ،
ولماذا ينقدون ، وكيف ينقدون ، إلى غير ذلك من مسائل النقد ،
ولذلك ينبغي على طالب العلم
أن يحذر التجرؤ على نقد العلماء أو غيرهم بغير علم ، وبغير معرفة لما يتطلبه النقد ،
وينبغي على العالم أن يبحث عمن يعلمه النقد إن لم يعلم ،
فهذا الإمام أحمد مع جلالته ، يطلب العلم – أي التعرف على كيفية النقد – من سليمان .
لما صنَّف أبو عبيد القاسم بن سلام ( غريب الحديث ) عرضه على عبد الله بن طاهر فاستحسنه .
وقال :
إن عقلاً بعث صاحبه على عمل هذا الكتاب لحقيق أن لا يحوج إلى طلب المعاش ، فأجرى له عشرة آلاف درهم في كل شهر.
قلت :
وهكذا يكون التقدير للعالم ، تفريغه للعلم والتصنيف ونفع الناس وتشجيعه على ذلك ،
ولكن نحن في هذا الزمن نسينا حق العالم والمتعلم الذكي ، فلا تشجيع ، ولا تقدير ، حتى نُسي العالم ، وضاع قدره ،
فينبغي الإشادة بالنابغين من طلبة العلم لكي يشعر الواحد منهم بقدره وأن الأمة بحاجة إليه ، وكذلك العالم البحر ، لا يُهضم حقه ، ويُنسى فضله ، بل يجب الإشاعة بذكرة ومدحه بلا غلو ، ليعرف الناسُ قدره .
قال البُخاري :
سمعتُ أحمد بن حنبل يقول : إنما الناس بشيوخهم ، فإذا ذهب الشيوخ تودع من العيش.
قلتُ :
رحم الله السلف ، فقد كانوا يعظمون علمائهم وشيوخهم ويعرفون لهم قدرهم ، لأنهم صمام أمان لهذه الأمة من البدع والمنكرات وما يخالف الدين ، وكلما نقص منهم واحداً كلما دخل في الدين من البدع والخرافات ما لا يعلمه إلا الله ،
فالعلماء نور يهتدي به الناس ، وإذا ذهب النور ، تاه الناس ، ويالله ،
كم ر أينا وسمعنا ممن نسي أو تناسى فضل العلماء ،
وكم رأينا من يقدح فيهم ، ويتهمهم بسائر التهم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ،
فهذا الإمام أحمد يقول :
فإذا ذهب الشيوخ ، تودع من العيش ، فكأن الحياة لا تطيب إلا بوجودهم
فاللهم ارحم موتاهم ، واحفظ أحيائهم ، وارزقنا الأدب معهم على الوجه الذي يرضيك .
. . . . . . . . . . . . . . .
ذُكر للإمام أحمد أن رجلاً يشتم أصحاب الحديث ويقول :
أصحاب الحديث قوم سوء ، فقام الإمام أحمد ، وهو يقول : زنديق زنديق ، ونفض ثوبه.
قلت :
إذا كانت الغيبة حرام ، فما ظنكم بغيبة العالم وشتمه ؟
إن القدح في العالم لا يتناول شخصه ، بل يتعدى ذلك للعلم الذي يعلمه ويُعلمه للناس ، ولا يقدح فيهم إلا ( زنديق )
كما قاله الإمام أحمد ، وإذا انتُقص العالم وأهين ، فمن يثق الناس به ، وإذا زالت ثقتهم بالعالم فعمّن يتلقون الدين ؟
إن التناول من العلماء ، ليس فقط ذنب في حقهم ، بل يتعدى ضرره للمجتمع
ومتى ما كان المجتمع يقدر العلماء فأبشر بالخير والسعادة لهم ، ومتى ما حصل العكس ، فلا تسأل عن حال الغنم بلا راعي .
. . . . . قال إسحاق الأزرق :
ما أدركت أفضل من خالد الطحان ، فقيل له : قد رأيت سفيان ؟ قال : كان سفيان رجل نفسه ، وخالد رجل عامة.
قلت :
وهنا يظهر الفرق بين العالم المنعزل عن الناس وعن أسئلتهم وهمومهم ، وبين العالم الذي يخالط الناس ويساعد ضعيفهم ، ويزور مريضهم ، ويخاطب عامتهم ، ويُفتي لسائلهم ، وهو مع الناس في أي مكان ويقصد بذلك رضا الله وحده ، فالأول همه نفسه ، والثاني مقتدٍ بنبيه عليه الصلاة والسلام ، ولا شك في أنه أفضل ،
وفي الحديث الصحيح :
( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم ).
...........
جاء رجل للإمام أحمد وقال له : يا أبا عبد الله انظر في الأحاديث فإن فيها خطأ ،
فقال أحمد : عليك بأبي زكريا فإنه يعرف الخطأ.
قلت :
في هذا الأثر جُملٌ من الفوائد :
1)
حرص طلبة العلم على تصفية السنة من الخطأ والنقد ، سواءً كان ذلك الخطأ في السند أو في المتن .
2)
أن طالب العلم يسأل العالم المتخصص البارع في الفن الذي يريد السؤال عنه ، فهذا السائل جاء للإمام أحمد ليبصره بالخطأ ولم يسئل أي أحد .
3)
أن العالم المتبحر في العلوم قد يجهل بعض الفنون في العلم ، وهذا ليس بغريب لأن العلم واسع ، فهذا الإمام أحمد مع شدة عنايته بالسنة لم يجب على السائل بل أحاله إلى أبي زكريا .
4)
أن العالم إن لم يعرف جواب المسألة ، فلا يقل : لا أدري ، ويسكت ، بل يحيل السائل إلى من يستطيع إجابته .
5)
اعتراف العالم بعلم العالم الآخر ، وهذا من صدق التقوى في العلم ، ولا يعترف بالفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل.
فائدة :
أبو زكريا المذكور هو ( يحيى بن معين ) وكان الإمام أحمد يكنيه تبجيلاً له وتكريماً .
...................................
مجد الدين بن تيمية سُئل عن مسألة ، فقال :
الجواب عنها من ستين وجهاً : الأول ، والثاني ، وعدها كلها.
قلت :
وإن دل ذلك على شيء ، فإنما يدل على قوة الحافظة ، وسرعة الاستحضار
وهاتان الصفتان من المنن الربانية ، وياليتنا نسمع من يستحضر في المسائل قولان بالأدلة ، في زمننا هذا
رحم الله السلف وألهم الخلف .
...........
قال أبو إسحاق الشيرازي :
العلم الذي لا ينتفع به صاحبه ، أن يكون الرجل عالماً ولا يكون عاملاً.
قلت :
وقلّ أن نرى العالم العامل ، الزاهد في الدنيا ، الراغب في الآخرة.
....................
قال أبو محمد التميمي :
يقبح بكم أن تستفيدوا منا ، ثم تذكرونا ، فلا تترجموا علينا.
قلت :
فمن حق العلماء الترحم عليهم بعد موتهم ، فالتزم ذلك ياطالب العلم .
. . . .. .. . . . . .. . . . .
قال أبو إسحاق الشيرازي :
كنت أعيد كل درس ألف مرة ، فإذا كان في المسألة بيت يُستشهد به حفظت القصيدة التي فيها البيت .
قلت :
وذلك من علو الهمة في الطلب ، وبالتكرار يثبت العلم .
.................................
كان الخطيب يمشي وفي يده جزء يطالعه .
قلت :
فهذه أوقاتهم ، علم ، حتى في الطريق ، لئلا يفوت الزمان
فأين هذا ممن أضاع أيامه في اللهو ، ويزعم أنه طالب علم .
.......................................
قال بشر بن الحارث :
أدّوا زكاة الحديث ، اعملوا من كل مائتين حديث بخمسة أحاديث .
قلت :
وهذا يبين لنا أن زكاة العلم تكون بالعمل به ، ولا ننسى أيضاً أن من زكاة العلم تبليغه للناس ، ومن بخل بعلمه ولم يعلمه للناس ابتلي بثلاث
كما قال سفيان :
(1)
ينساه ولا يحفظه .
(2)
يموت ولا ينتفع به
(3)
أو تذهب كتبه .
.........................................
قال أبو نعيم :
ضمنتُ لك أن كل من لا يرجع إلى كتاب لا يؤمن عليه الزلل .
قلت :
ولذلك ينبغي للعالم مُراجعة الكتاب والنظر فيه ، والتثبت من العلم ليرسخ ويثبت ، ولأن العلم يُنسى ، وبالنظر للكتاب يثبت العلم.
............................................
قال الخطيب البغدادي :
يجب على المحدث الرجوع عما رواه إذا تبين أنه أخطأ فيه ، فإذا لم يفعل كان آثماً .
قلت :
وقليل من يكون عنده خُلُق الرجوع عن الخطأ
وذلك لأن النفس تحب الظهور ، والاعتراف بالخطأ والرجوع عنه ثقيل على النفس التي تحب الظهور
ولكن من كان علمه لله سهل عليه الرجوع
ووالله إن الرجوع عن الخطأ يرفع العبد و لا يضعه .
قال أبو نظرة :
كان الصحابة إذا اجتمعوا تذاكروا العلم وقرأوا سورة.
قلت :
فهذا هديهم ، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها
فينبغي لنا أن نقتدي بهم ، فتكون مجالسنا مجالس علم وفائدة .
..............................................
قال ابن مهدي :
لا يكون إماماً من يحدث عن كل أحد .
قلت :
فينبغي انتقاء المتحدث الذي يؤخذ منه الحديث ، فليس كل متحدث صادق في حديثه .
محبكم في الله :
أبو جهاد سلطان العمري
والنقل
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=26023