العسل في القرآن والسنة
د. محمود أبو الهدى الحسيني
ما يكاد ذلك الشراب المُشتهى يذكر في الكتاب الكريم إلا وتطير الأرواح إلى عالمِ جمال جِنانيٍ ترسمه عبارات قرآنية بليغة في صورة تزدهي بألوانها البديعة وتتراقص بأنغامها الجميلة لتشهد فيها
العسل في المشـــتهيات الجـنانيـــــــــة الغيبيـــــــــــــــة
في معنى قوله تعالى :
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ (15)محمد
وما تكاد تنزل تلك الأرواح مع التنزلات القرآنية إلى أرضها حتى تجد الكتاب العزيز يرسم لها صورة أخرى ، لكنها في هذه المرة صورة أرضية
وفي الأرض تجد تجلياتِ العظمة الإلهية في صنعتها ، وآثار العناية الربانية في حكمتها
إنك تجد في الصورة الجنانية نهراً من عسل مصفى أوجده الخالق العظيم بكلمة : ( كن) (فكان) بقدرته ، لكنك ترى في الصورة الأرضية عبارات تلامس مفردات العادة الكونية ، وتتحدث عن قوانين الكون السببية التي تعبر عن نظام الله تعالى المتقن في مملكته ، وتحلق بك إلى عالم روائي من بدايته إلى نهايته في كلمات موجزة جامعة مانعة
ترى فيها العسل في المشتهيات المحســــــوسة الحاضــــــرة :
وهو معنى قوله تعالى :
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ(68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(69)النحل
وقالوا في معناها قولاً لكنه – كما هي كل عبارات التفسير - لا يغادر كونه طوافاً حول كعبة حسنها ، ودلاء اختلست غَرفةً من محيطات دلالاتها :
أولاً - النحل صانعة العسل :
1 - أســــــــماؤها :
ما سمي النحل باسمه إلا لأن الله عز وجل نحَلَهُ العسل الذي يخرج منه
كما أنه يسمى : ( الدّبْرَ ) و (اليعسوبَ ) أيضاً ، وتقع تلك الأسماء على كلٍّ من الذكر والأنثى ، إلا أن الله عز وجل أَنّثها فقال: أَنِ اتَّخِذِي من الجِبال بيوتاً
2 - الوحي الإلهي إليها :
وحيه تعالى إلى النحل إلهامها وخلق إدراكها لمنافعها ولاجتناب مضارها وتدبيرِ معاشها .
وكان مضمون ذلك الوحي الإلهي للنحل
أ - يتضمن شرحاً وبيانا يتعلق ببيـــوتـهــا :
وهو معنى قوله تعالى :
أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ :
فدلها تعالى على موطنين أبدعهما سبحانه ولم يكن فيهما للإنسان يد صناعة ولا سلطان تملُّك ، هما : كُوى الجبال ، وتجاويف الأشجار .
وعلى موطن يعرِشه الإنسان ويصنعه لها من الأخشاب والأغصان والظلال ، لتصنع في هذه المواطن بيوتها المسدسة المتقنة العجيبة .
ب – يتضمن الوحي الإلهي إلى النحل بياناً متعلقاً بطعـامهـا :
وهو معنى قوله تعالى :
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ :
إنه الإذن الإلهي التسخيري أن تأكل من كل الثمرات ، وأن تقف على كل الأزهار
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل النحل لكل الثمرات في مثال ضربه ليكون محل نظر واعتبار ، فقال :
"مثل بلال كمثل النحلة، غدت تأكل من الحلو والمر، ثم هو حلو كله".
ويتكرر التمثيل للمؤمن بالنحلة في روايات عديدة من السنة المطهرة ، كقوله صلى الله عليه وسلم :
مثل المؤمن مثل النحلة: لا تأكل إلا طيبا، ولا تضع إلا طيبا ( وإن وقعت على عود نخِرٍ لم تكسره ) .
وقالوا : من وجوه المشابهة بين المؤمن والنحلة :
الفطنةُ وقلة المؤونة وكثرة النفع ، وقلَّة الأَذى ، والقَـناعة ، والنشاط في الليل ، والتنزُّه عن الأَقذار ، وطيبُ المطعم ، والأكل من كسب نفسه ، وطاعتُه لأَمِيره .
ج – يتضمن الوحي الإلهي إلى النحل بياناً متعلقاً بالطرق التي تسلكها :
وهو معنى قوله تعالى :
فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا :
وهو إذن إلهي تسخيري أيضاً حتى تسلك الطرق التي جعلها لها الله تبارك وتعالى مذللة مسهلة في الأجواء الواسعة والبراري الشاسعة ، والأودية والجبال الشاهقة ، ثم لتعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة
فالطرق التي تسلكها النحل على هذا التفسير هي المذللة الميسرة .
وقال قوم من أهل التفسير :
معناها فاسلكي الطرق وأنت مذللة مطيعة ، لأن الذلول هو الذي يقاد ويذهب به حيث أراد صاحبه. والنحل يخرجون ويذهبون بها وهي تتبعهم.
3 - الشراب الخارج من بطونها :
جاء التوصيف القرآني بعد ذكره تعالى لمضمون الوحي مبيناً آثار ذلك الوحي ونتائجَه العملية ، فقد اتخذت النحل البيوت امتثالاً لذلك لأمر ، وأكلت من كل الثمرات امتثالاً ، وسلكت سبل ربها امتثالاً فكان بعد ذلك أنه:
يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ
وقال ( شراب ) لأن العسل داخل عند العرب في الأشربة .
يقول الصحابي أنس بن مالك رضي الله عنه :
لقد سقيت النبي صلى الله عليه وسلم بقدحي هذا الشرابَ كله العسل والماء واللبن .
وهو يخرج – كما يقرر القرآن الكريم من بطون النحل .
وقدّم عند ذكره لذلك الشراب توصيفه وتوظيفه
أما التوصيف فقال فيه :
مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ
بين الأبيض والأصفر والأحمر وغيره من الألوان الحسنة على اختلاف المراعي والمآكل .
وأما التوظيف فعبر عنه بقوله :
فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ
وكان النبي صلى الله عليه وسلم الإمامَ الموجه إلى تحقيق ذلك التوظيف :
فقد جاء إليه رجل فقال إن أخي استطلق بطنه فقال:
"اسقه عسلا"
فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال يا رسول الله سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا قال :
"اذهب فاسقه عسلا"
فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال يا رسول الله ما زاده إلا استطلاقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"صدق الله وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا"
فذهب فسقاه عسلا فبرئ.
حقيقة مستمدٌّ علمُها من وحي السماء لا بد أنها محققة في الواقع ، وتأخر ظهورها في الواقع – بحسب المظنون – لا يغير من كونها حقاً ثابتاً في نفسه .
ومن الذي جزم بالتأخر ، بل ومن الذي حدد مدة الشفاء ، إن وحي السماء قرر تحقق الشفاء ، ولم يبين مدته ، وتوهم ذلك الرجل التأخر ، لجهله زمنَ ظهور الشفاء بحسب العادة الكونية والقوانين السببية التي خلقها الله تبارك وتعالى في عوالم مخلوقاته .
وما معنى قوله صلى الله عليه وسلم : وكذب بطن أخيك ؟
إن الكذب هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو ، قصداً كان ذلك الإخبار أو من غير قصد .
ولما كان بقاء الاستطلاق مع وجود الدواء خبراً عملياً أوهم عدم تحقق الشفاء ؛ والواقع أن البطن صار في طريقه إلى الشفاء ، جاز في هذه الحالة أن يوصف البطن بالكذب ، لأن خبره العملي أوهم خلاف الواقع .
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بالتوجيه إلى سقاية المريض العسل ، فأرسل إلى المريض عسلاً ، وهو أبلغ في التأكيد :
يقول الصحابي عامر بن مالك : بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم من وعك كان بي ألتمس منه دواء وشفاء، فبعث إلي بعكة من عسل .
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم العسل مع غيره من العقاقير ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :
"عليكم بالسنا والسنوت فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام"
.قيل يا رسول الله وما السام؟ قال "الموت"
والسِنَّوْت : لغة في العسل .
وذكر صلى الله عليه وسلم العسل نائباً عن العقاقير في أسباب الشفاء ، ثم ذكر غيره من وسائل المداواة والمعالجة .
وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:
الشفاء في ثلاثة في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنا أنهي أمتي عن الكي .
وعدَّ صلى الله عليه وسلم نوعين من الشفاء وأمر بهما فقال:
"عليكم بالشفاءين العسل والقرآن" .
ولعل المتأمل في الحديث يدرك أن أحدهما شفاءٌ للجسم – وهو العسل –وأن الآخر شفاءٌ للنفس وهو القرآن الكريم .
ويظهر في البحث سؤال متعلق بالشفاء الذي في العسل أهو الشفاء من كل داء ، أم أنه شفاء من بعض الأدواء وأنه لا ينبغي استعماله لكل داء ؟
والتصريح بأنه شفاء من كل داء لم يرد إلا في حديث (السنوت)، وقد وجدت مرادفات لغوية للسنوت في غير العسل جعلت الدلالة اللغوية ظنية في هذا الحديث .
وقال بعض من تكلم على الطب النبوي لو قال فيه الشفاء للناس لكان دواء لكل داء ، ولكن قال فيه شفاء للناس
وبالاستقراء لآثار السلف من الصحابة والتابعين نجدهم قد درجوا على الاعتقاد بأن الشفاء من جميع الأمراض محقق بالعسل استناداً إلى نص القرآن ، وهذا يعني أنهم فهموا من النص القرآني أنه شفاء من كل داء .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : إن العسل فيه شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور .
وقال علي رضي الله عنه :
كونوا في الدنيا كالنحلة ؛ كل الطير يستضعفها وما علموا ما ببطنها من النفع والشفاء .
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا يشكو قرحة ولا شيئا إلا جعل عليه عسلا حتى الدمل إذا كان به طلاه عسلا، فقال له تلميذه نافع : تداوي الدمل بالعسل؟ فقال أليس يقول الله: {فيه شفاء للناس}
وكان الربيع بن خثيم ( وهو من كبار التابعين ) يقول ليس للنفساء مثل الرطب، ولا للمريض مثل العسل .
وكان ( يزيد بن عبيد )أبو وجزة السعدي ( وهو من التابعين ) يستعمل العسل في جميع الأمراض حتى في الكحل
على أن الذين استنتجوا من لفظ القرآن الكريم ( فيه شفاء للناس ) ، أنه لما جاء مُنَكَّراً لم يعم جميع الأسقام ولو قال فيه الشفاء للناس لكان دواء لكل داء؛ يُرَدُّ عليهم بما ورد في السنة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أورد الشفاء معرفاً لا منَكَّراً بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم ذكره :
"عليكم بالشفاءين العسل والقرآن" .
والسنة – كما هو معلوم – مبينة للقرآن الكريم .
ثم إن إيراد السنة المطهرة لشفاء العسل مقترناً بشفاء القرآن الكريم يدل على عموم الشفاء في العسل لجميع الأسقام الجسدية ، لأنه جاء مقترناً مع شفاء يعم جميع أسقام النفس وهو شفاء القرآن الكريم .
والله تعالى أعلم .
وختمت آية العسل في القرآن الكريم بقوله تعالى :
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
أي يتفكرون في عظمة خالقها ومسخرها وميسرها مستدلين بذلك على أنه سبحانه الفاعل القادر الحكيم العليم .
ونتساءل هل ذكر العسل في القرآن الكريم في غير هذه المواضع ؟
والجواب عليه نعم إنه ذكر فيه لكن بغير اسمه .
قال تعالى : {وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} .
قال المؤرج وهو أحد علماء اللغة والتفسير: إن السلوى : هو العسل .
وذكر أنه كذلك بلغة كنانة وقد سمي به لأنه يسلى به ( أي تجد النفس فيه سلوانا ) – أي نسياناً للهم - .
وقال الجوهري أيضاً : السلوى : العسل .
ولا يُعترض على هذا الإيراد بأن العسل قد ذكر في الأشربة ، أما السلوى فقد ذكر في الطعام بقوله تعالى :
( وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد ) ، والمقصود المن والسلوى ، لأن لفظ الطعام يطلق على ما يُطعَم ويُشرَب قال الله تعالى في ماء النهر الذي ابتلي به جنود طالوت : ( ومن لم يطعمه فإنه مني )
وهكذا يكون القرآن الكريم قد أورد ذكر العسل في الغذاء والدواء ، إضافة إلى إيراده بين ما يُتنعّم به في الجنة ، ومع أن نعيم الجنة ولذائذها هو أعلى وأسمى من نعيم الدنيا ولذائذها ، لكن المتأمل يأخذ من ذلك الورود إشارة وفائدة .
اختيار العسل في الشراب المحبوب:
وزيادة على ما تقدم من الأحاديث النبوية الواردة في العسل عند تفسير الآيات السابقة ؛ نجد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته القولية والفعلية ، أخباراً أخرى وفوائد تضاف إلى ما ذكر آنفاً .
فقد دخل العسل في طعام النبي صلى الله عليه وسلم وشرابه المعتاد :
وروت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الحلواء والعسل
وروت أن أحب الشراب إليه العسل
وفي روايات حديث الإسراء أن ملكاً قدم للنبي صلى الله عليه وسلم عند الصخرة التي في المسجد الأقصى آنية ثلاثاً في أحدها العسل وأنه صلى الله عليه وسلم اختار شربه .
د. محمود أبو الهدى الحسيني
ما يكاد ذلك الشراب المُشتهى يذكر في الكتاب الكريم إلا وتطير الأرواح إلى عالمِ جمال جِنانيٍ ترسمه عبارات قرآنية بليغة في صورة تزدهي بألوانها البديعة وتتراقص بأنغامها الجميلة لتشهد فيها
العسل في المشـــتهيات الجـنانيـــــــــة الغيبيـــــــــــــــة
في معنى قوله تعالى :
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ (15)محمد
وما تكاد تنزل تلك الأرواح مع التنزلات القرآنية إلى أرضها حتى تجد الكتاب العزيز يرسم لها صورة أخرى ، لكنها في هذه المرة صورة أرضية
وفي الأرض تجد تجلياتِ العظمة الإلهية في صنعتها ، وآثار العناية الربانية في حكمتها
إنك تجد في الصورة الجنانية نهراً من عسل مصفى أوجده الخالق العظيم بكلمة : ( كن) (فكان) بقدرته ، لكنك ترى في الصورة الأرضية عبارات تلامس مفردات العادة الكونية ، وتتحدث عن قوانين الكون السببية التي تعبر عن نظام الله تعالى المتقن في مملكته ، وتحلق بك إلى عالم روائي من بدايته إلى نهايته في كلمات موجزة جامعة مانعة
ترى فيها العسل في المشتهيات المحســــــوسة الحاضــــــرة :
وهو معنى قوله تعالى :
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ(68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(69)النحل
وقالوا في معناها قولاً لكنه – كما هي كل عبارات التفسير - لا يغادر كونه طوافاً حول كعبة حسنها ، ودلاء اختلست غَرفةً من محيطات دلالاتها :
أولاً - النحل صانعة العسل :
1 - أســــــــماؤها :
ما سمي النحل باسمه إلا لأن الله عز وجل نحَلَهُ العسل الذي يخرج منه
كما أنه يسمى : ( الدّبْرَ ) و (اليعسوبَ ) أيضاً ، وتقع تلك الأسماء على كلٍّ من الذكر والأنثى ، إلا أن الله عز وجل أَنّثها فقال: أَنِ اتَّخِذِي من الجِبال بيوتاً
2 - الوحي الإلهي إليها :
وحيه تعالى إلى النحل إلهامها وخلق إدراكها لمنافعها ولاجتناب مضارها وتدبيرِ معاشها .
وكان مضمون ذلك الوحي الإلهي للنحل
أ - يتضمن شرحاً وبيانا يتعلق ببيـــوتـهــا :
وهو معنى قوله تعالى :
أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ :
فدلها تعالى على موطنين أبدعهما سبحانه ولم يكن فيهما للإنسان يد صناعة ولا سلطان تملُّك ، هما : كُوى الجبال ، وتجاويف الأشجار .
وعلى موطن يعرِشه الإنسان ويصنعه لها من الأخشاب والأغصان والظلال ، لتصنع في هذه المواطن بيوتها المسدسة المتقنة العجيبة .
ب – يتضمن الوحي الإلهي إلى النحل بياناً متعلقاً بطعـامهـا :
وهو معنى قوله تعالى :
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ :
إنه الإذن الإلهي التسخيري أن تأكل من كل الثمرات ، وأن تقف على كل الأزهار
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل النحل لكل الثمرات في مثال ضربه ليكون محل نظر واعتبار ، فقال :
"مثل بلال كمثل النحلة، غدت تأكل من الحلو والمر، ثم هو حلو كله".
ويتكرر التمثيل للمؤمن بالنحلة في روايات عديدة من السنة المطهرة ، كقوله صلى الله عليه وسلم :
مثل المؤمن مثل النحلة: لا تأكل إلا طيبا، ولا تضع إلا طيبا ( وإن وقعت على عود نخِرٍ لم تكسره ) .
وقالوا : من وجوه المشابهة بين المؤمن والنحلة :
الفطنةُ وقلة المؤونة وكثرة النفع ، وقلَّة الأَذى ، والقَـناعة ، والنشاط في الليل ، والتنزُّه عن الأَقذار ، وطيبُ المطعم ، والأكل من كسب نفسه ، وطاعتُه لأَمِيره .
ج – يتضمن الوحي الإلهي إلى النحل بياناً متعلقاً بالطرق التي تسلكها :
وهو معنى قوله تعالى :
فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا :
وهو إذن إلهي تسخيري أيضاً حتى تسلك الطرق التي جعلها لها الله تبارك وتعالى مذللة مسهلة في الأجواء الواسعة والبراري الشاسعة ، والأودية والجبال الشاهقة ، ثم لتعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة
فالطرق التي تسلكها النحل على هذا التفسير هي المذللة الميسرة .
وقال قوم من أهل التفسير :
معناها فاسلكي الطرق وأنت مذللة مطيعة ، لأن الذلول هو الذي يقاد ويذهب به حيث أراد صاحبه. والنحل يخرجون ويذهبون بها وهي تتبعهم.
3 - الشراب الخارج من بطونها :
جاء التوصيف القرآني بعد ذكره تعالى لمضمون الوحي مبيناً آثار ذلك الوحي ونتائجَه العملية ، فقد اتخذت النحل البيوت امتثالاً لذلك لأمر ، وأكلت من كل الثمرات امتثالاً ، وسلكت سبل ربها امتثالاً فكان بعد ذلك أنه:
يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ
وقال ( شراب ) لأن العسل داخل عند العرب في الأشربة .
يقول الصحابي أنس بن مالك رضي الله عنه :
لقد سقيت النبي صلى الله عليه وسلم بقدحي هذا الشرابَ كله العسل والماء واللبن .
وهو يخرج – كما يقرر القرآن الكريم من بطون النحل .
وقدّم عند ذكره لذلك الشراب توصيفه وتوظيفه
أما التوصيف فقال فيه :
مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ
بين الأبيض والأصفر والأحمر وغيره من الألوان الحسنة على اختلاف المراعي والمآكل .
وأما التوظيف فعبر عنه بقوله :
فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ
وكان النبي صلى الله عليه وسلم الإمامَ الموجه إلى تحقيق ذلك التوظيف :
فقد جاء إليه رجل فقال إن أخي استطلق بطنه فقال:
"اسقه عسلا"
فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال يا رسول الله سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا قال :
"اذهب فاسقه عسلا"
فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال يا رسول الله ما زاده إلا استطلاقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"صدق الله وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا"
فذهب فسقاه عسلا فبرئ.
حقيقة مستمدٌّ علمُها من وحي السماء لا بد أنها محققة في الواقع ، وتأخر ظهورها في الواقع – بحسب المظنون – لا يغير من كونها حقاً ثابتاً في نفسه .
ومن الذي جزم بالتأخر ، بل ومن الذي حدد مدة الشفاء ، إن وحي السماء قرر تحقق الشفاء ، ولم يبين مدته ، وتوهم ذلك الرجل التأخر ، لجهله زمنَ ظهور الشفاء بحسب العادة الكونية والقوانين السببية التي خلقها الله تبارك وتعالى في عوالم مخلوقاته .
وما معنى قوله صلى الله عليه وسلم : وكذب بطن أخيك ؟
إن الكذب هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو ، قصداً كان ذلك الإخبار أو من غير قصد .
ولما كان بقاء الاستطلاق مع وجود الدواء خبراً عملياً أوهم عدم تحقق الشفاء ؛ والواقع أن البطن صار في طريقه إلى الشفاء ، جاز في هذه الحالة أن يوصف البطن بالكذب ، لأن خبره العملي أوهم خلاف الواقع .
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بالتوجيه إلى سقاية المريض العسل ، فأرسل إلى المريض عسلاً ، وهو أبلغ في التأكيد :
يقول الصحابي عامر بن مالك : بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم من وعك كان بي ألتمس منه دواء وشفاء، فبعث إلي بعكة من عسل .
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم العسل مع غيره من العقاقير ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :
"عليكم بالسنا والسنوت فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام"
.قيل يا رسول الله وما السام؟ قال "الموت"
والسِنَّوْت : لغة في العسل .
وذكر صلى الله عليه وسلم العسل نائباً عن العقاقير في أسباب الشفاء ، ثم ذكر غيره من وسائل المداواة والمعالجة .
وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:
الشفاء في ثلاثة في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنا أنهي أمتي عن الكي .
وعدَّ صلى الله عليه وسلم نوعين من الشفاء وأمر بهما فقال:
"عليكم بالشفاءين العسل والقرآن" .
ولعل المتأمل في الحديث يدرك أن أحدهما شفاءٌ للجسم – وهو العسل –وأن الآخر شفاءٌ للنفس وهو القرآن الكريم .
ويظهر في البحث سؤال متعلق بالشفاء الذي في العسل أهو الشفاء من كل داء ، أم أنه شفاء من بعض الأدواء وأنه لا ينبغي استعماله لكل داء ؟
والتصريح بأنه شفاء من كل داء لم يرد إلا في حديث (السنوت)، وقد وجدت مرادفات لغوية للسنوت في غير العسل جعلت الدلالة اللغوية ظنية في هذا الحديث .
وقال بعض من تكلم على الطب النبوي لو قال فيه الشفاء للناس لكان دواء لكل داء ، ولكن قال فيه شفاء للناس
وبالاستقراء لآثار السلف من الصحابة والتابعين نجدهم قد درجوا على الاعتقاد بأن الشفاء من جميع الأمراض محقق بالعسل استناداً إلى نص القرآن ، وهذا يعني أنهم فهموا من النص القرآني أنه شفاء من كل داء .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : إن العسل فيه شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور .
وقال علي رضي الله عنه :
كونوا في الدنيا كالنحلة ؛ كل الطير يستضعفها وما علموا ما ببطنها من النفع والشفاء .
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا يشكو قرحة ولا شيئا إلا جعل عليه عسلا حتى الدمل إذا كان به طلاه عسلا، فقال له تلميذه نافع : تداوي الدمل بالعسل؟ فقال أليس يقول الله: {فيه شفاء للناس}
وكان الربيع بن خثيم ( وهو من كبار التابعين ) يقول ليس للنفساء مثل الرطب، ولا للمريض مثل العسل .
وكان ( يزيد بن عبيد )أبو وجزة السعدي ( وهو من التابعين ) يستعمل العسل في جميع الأمراض حتى في الكحل
على أن الذين استنتجوا من لفظ القرآن الكريم ( فيه شفاء للناس ) ، أنه لما جاء مُنَكَّراً لم يعم جميع الأسقام ولو قال فيه الشفاء للناس لكان دواء لكل داء؛ يُرَدُّ عليهم بما ورد في السنة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أورد الشفاء معرفاً لا منَكَّراً بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم ذكره :
"عليكم بالشفاءين العسل والقرآن" .
والسنة – كما هو معلوم – مبينة للقرآن الكريم .
ثم إن إيراد السنة المطهرة لشفاء العسل مقترناً بشفاء القرآن الكريم يدل على عموم الشفاء في العسل لجميع الأسقام الجسدية ، لأنه جاء مقترناً مع شفاء يعم جميع أسقام النفس وهو شفاء القرآن الكريم .
والله تعالى أعلم .
وختمت آية العسل في القرآن الكريم بقوله تعالى :
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
أي يتفكرون في عظمة خالقها ومسخرها وميسرها مستدلين بذلك على أنه سبحانه الفاعل القادر الحكيم العليم .
ونتساءل هل ذكر العسل في القرآن الكريم في غير هذه المواضع ؟
والجواب عليه نعم إنه ذكر فيه لكن بغير اسمه .
قال تعالى : {وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} .
قال المؤرج وهو أحد علماء اللغة والتفسير: إن السلوى : هو العسل .
وذكر أنه كذلك بلغة كنانة وقد سمي به لأنه يسلى به ( أي تجد النفس فيه سلوانا ) – أي نسياناً للهم - .
وقال الجوهري أيضاً : السلوى : العسل .
ولا يُعترض على هذا الإيراد بأن العسل قد ذكر في الأشربة ، أما السلوى فقد ذكر في الطعام بقوله تعالى :
( وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد ) ، والمقصود المن والسلوى ، لأن لفظ الطعام يطلق على ما يُطعَم ويُشرَب قال الله تعالى في ماء النهر الذي ابتلي به جنود طالوت : ( ومن لم يطعمه فإنه مني )
وهكذا يكون القرآن الكريم قد أورد ذكر العسل في الغذاء والدواء ، إضافة إلى إيراده بين ما يُتنعّم به في الجنة ، ومع أن نعيم الجنة ولذائذها هو أعلى وأسمى من نعيم الدنيا ولذائذها ، لكن المتأمل يأخذ من ذلك الورود إشارة وفائدة .
اختيار العسل في الشراب المحبوب:
وزيادة على ما تقدم من الأحاديث النبوية الواردة في العسل عند تفسير الآيات السابقة ؛ نجد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته القولية والفعلية ، أخباراً أخرى وفوائد تضاف إلى ما ذكر آنفاً .
فقد دخل العسل في طعام النبي صلى الله عليه وسلم وشرابه المعتاد :
وروت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الحلواء والعسل
وروت أن أحب الشراب إليه العسل
وفي روايات حديث الإسراء أن ملكاً قدم للنبي صلى الله عليه وسلم عند الصخرة التي في المسجد الأقصى آنية ثلاثاً في أحدها العسل وأنه صلى الله عليه وسلم اختار شربه .
مسائل متفرقة في العسل :
1 – ما ذكر في السنة أنه يُفْسِدُ العسل:
قال صلى الله عليه وسلم :
الحسد يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل
ولعل الصبر - وهو مادة شديدة المرارة - تفسد العسل من جهة طعمه .
وقال صلى الله عليه وسلم :
الخلق الحسن يذيب الخطايا كما يذيب الماء الجليد، والخلق السوء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل
وربما كان إفساد الخل للعسل من جهة تكوينه وتراكيبه .
2 – بيان إمكان التخمر في العســــــــــــــــــــــل :
قال صلى الله عليه وسلم :
من الحنطة خمر، ومن التمر خمر، ومن الشعير خمر، ومن الزبيب خمر، ومن العسل خمر
3 – هل في العسل زكاة ؟ :
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله أن لا يأخذ من الخيل ولا العسل صدقة.
وذهب الأئمة الشافعي ومالك إلى أن لا زكاة في العسل ، وضعَّف أحمد حديثَ أنه صلّى الله عليه وسلّم أخذ من العسل العُشر .
أما أبو حنيفة فقال بوجوب الزكاة في العسل - في قليله وكثيره ، لأن النصاب عنده فيه ليس بشرط ، وقال : إنه يجب العشر فيه .
وفرق أبو يوسف بين العسل الجبلي وغيره وذهب إلى أنه لا زكاة في العسل الجبلي .
يلاحظ مما تقدم أن أكثر الأئمة على أن لا زكاة في العسل ، وقد تكون دلالة ذلك في النتيجة حثّاً على شُربه والانتفاع به .
4 – هل كان العسل يقسم في الغنائم ؟ :
قال ابْن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا :
كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا الْعَسَلَ وَالْعِنَبَ فَنَأْكُلُهُ وَلَا نَرْفَعُهُ .
والمعنى : أنهم كانوا يأكلونه ولا يرفعونه إلى متولي قسمة الغنائم .
الخلاصة :
نجد من البحث المتقدم أن القرآن الكريم والسنة المطهرة قد أوليا أهمية كبيرة للعسل غذاء ودواء ، واعتنى بهما عناية كبيرة ، وما قدمته نزر يسير من كثير والله تعالى ولي التوفيق
والحمد لله رب العالمين .
د . محمود أبو الهدى الحسيني . من موقعه
http://www.albadr-alkamel.com/arabic/man-mainpage.htm