إبليس : حقيقته وأحواله .. دراسة عقدية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد :
فهذه أخواني دراسة عقدية في إبليس نشرت في مجلة جامعة الإمام العدد 33 محرم عام 1422 بقلم الدكتور : محمد العلي
أنقلها إليكم مع الاختصار غير المخل .
--------------------------------------------
تعريف إبليس والفرق بينه وبين الجن والشياطين :
أولاً // تعريف إبليس :
لغة :
----------
أبلس الرجل إبلاساً فهو مبلس إذا قطع به وسكت وتحير .
وأبلس من رحمة الله أي يئس وندم وحزن يقال : أُبلِسَ من رحمة الله أي أُويس
ومنه قوله تعالى : " ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون " أي ييأسون من كل
خير ؛ وذلك لأنهم ما قدموا لذلك اليوم إلا الإجرام .
والبلس : من لا خير عنده .
والإبلاس : هو الانقطاع والسكوت مع الحيرة والندم والقنوط واليأس
ولهذا سمي إبليس بهذا الاسم لانقطاع حجته وحيرته ويأسه من رحمة الله تعالى إذ لا خير عنده .
وقيل : سمي بهذا الاسم لأنه لما أويس من رحمة الله أبلس يأساً أي سكت وانقطع يأساً .
روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : " إبليس أبلسه الله من الخير كله وجعله شيطاناً رجيماً عقوبة لمعصيته" .
وقال ابن كثير : " فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله : أي أيسه من الخير كله وجعله شيطاناً رجيماً عقوبة لمعصيته .
ترك السجود فلهذا أبلس من الرحمة : أي أويس من الرحمة فأبعده الله جل وعلا وأرغم أنفه وطرد من باب رحمته ومحل أنسه وحضرة قدسه وسماه إبليس إعلاماً له بأنه قد أبلس من الرحمة وأنزله من السماء مذموماً مدحوراً .
وجاء عند البعض أنه لم يسمى إبليس إلا بعد المعصية أما قبل المعصية وامتناعه عن السجود فقد ذكرت بعض الآثار غير الثابتة ، غير الثابتة ، أن اسمه كان الحارث وفي بعضها عزازيل وفي أخرى نائل وفي رابعة الحكم وخامسة يافل
وفي بعض الآثار يكنى مرة وفي بعض آخر أبا كدوس وأبا الكروبيين
===
والحق أنه لم يثبت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم شيء من تلك الأسماء والكنى فوجب الوقوف عند النص .
وإبليس اسم أعجمي غير مشتق عند الأكثر فلا ينصرف للعجمة والتعريف .
فهي كلمة معربة جمعها أبالسة وأباليس .
وقيل هو عربي وزنه إفعيل مشتق من أبلس إذا أيس لم ينصرف للتعريف ولأنهلا نظير له في الأسماء فشبه بالأسماء الأعجمية .
اصطلاحاً :
----------------------
إبليس اسم علم على عدو الله تعالى الذي خلقه من نار وأمره بالسجود لآدم عليه السلام إكراماً له وتشريفاً فأبى إبليس أن يسجد لآدم واستكبر فلعنه الله وطرده وأنظر إلى يوم الوقت المعلوم .
ولهذا يمكن أن يعرف إبليس بأنه أبو الجن المنظر إلى يوم الدين .
تعريف الجن
جَنَ الشيء يَجُنُّه جَنّاً : ستره . وكل شيء ستر عنك فقد جُنَّ عنك .
وأجنة ستره وبه سمي الجن لاستتارهم واختفائهم عن الأبصار .
قال الجوهري : والجن خلاف الإنس والواحد جني يقال سُميت بذلك لأنها تتقي ولا ترى .
والجن : ولد الجان الذي هو إبليس وهم نوع من العالم سموا بذلك لاجتنانهم عن الأبصار : ولأنهم استجنوا من الناس فلا يرون وهم الجنة .
والجن عالم آخر غير عالم الملائكة والإنس : خلقهم الله تعالى من نار يرون الإنس في حال لا يراهم الإنس فيها وهم مشاركون للإنس في جنس التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم إلا أنهم ليسوا مماثلين في الحد والحقيقة فلا يكون ما أمروا به ونهوا عنه مساوياً لما على الإنس في الحد فهم مأمورون بالأصول والفروع بحسبهم .
تعريف الشيطان :
----------------------------
الشطن : الحبل وقيل الحبل الطويل شديد الفتل والجمع أشطان ، والشطون من الآبار التي تنزع بحبلين من جانبيها وهي متسعة الأعلى ضيقة الأسفل .
يقال : بئر شطون : أي ملتوية عوجاء بعيدة القعر وحرب شطون : عسرة شديدة
وشطن عنه : بعد
وأشطنه : أبعده
والشاطن : البعيد عن الحق
والشيطان فيعال من شطن إذا بعد .
وقيل : الشيطان فعلان من شاط يشيط إذا هلك واحترق مثل هيمان وغيمان من هام وغام .
ويقال استشاط غضباً : إذا احتد في غضبه والتهب .
وكلمة الشيطان فيها للعلماء قولين :
الأول : إن النون أصلية فيكون من الشطن وهو البعد فالشيطان بعد عن الخير أو من الحبل الطويل أي أنه طال في الشر .
الثاني : النون زائدة فيكون من شاط يشيط إذا هلك أو من استشاط إذا احتد والتهب .
وقد رجح الطبري الأول .
وقال ابن كثير : " الشيطان في الغة العرب مشتق من شطن إذا بعد فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر وبعيد بفسقه عن كل خير ".
وقيل مشتق من شاط لأنه مخلوق من نار .
ومنهم من يقول : كلاهما صحيح في المعنى ولكن الأول أصح وعليه يدل كلام العرب .
وقال سيبويه : العرب تقول : تشيطن فلان إذا فعل فِعل الشياطين
ولو كام من شاط لقالوا : تشيط فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح ولهذا يسمون كل من تمرد من جني وإنسي وحيوان شيطان .
فكلمة شيطان على هذا عربية فصيحة خلافاً لمن زعم غير ذلك .
والله تعالى أعلم
إطلاق لفظ الشيطان على كل متمرد
قال بعض المفسرين : إن جميع الشياطين أولاد إبليس إلا أن الذي يوسوس للإنس يسمى شيطان الإنس والذي يوسوس للجن يسمى شيطان الجن .
وهذا القول فيه نظر والحق أن لفظ الشيطان يطلق على كل متمرد من الإنس والجن والدواب وهذا ما ذلت عليه النصوص الشرعية فيطلق الشيطان على إبليس لبعده عن الحق وتمرده عليه قال تعالى : " فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه "
والمراد بالشيطان هنا إبليس
أما إطلاق لفظ الشيطان على كل متمرد من الإنس والجن فدل عليه قوله تعالى : " وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً "
قال الطبري في تفسير هذه الآية : " معنى به أنه جعل مردة الإنس والجن لكل نبي عدواً يوحي بعضهم إلى بعض من القول ما يؤذيهم به .
وقال في موضع آخر : والشيطان في كلام العرب كل متمرد من الجن والإنس والدواب وكل شيء وكذلك قال ربنا جل ثناؤه : " وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن " فجعل من الإنس شياطين مثل الذي جعل من الجن .
ومن السنة ما رواه أبو ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا ذر تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن " فقلت : أو للإنس شياطين ؟ قال : " نعم " .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتبع حمامة فقال : " شيطان يتبع شيطانة "
أما إطلاق لفظ الشيطان على المتمرد من الحيوان فيدل عليه ما رواه عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخر الرحل فإن لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود ".
قلت يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر ؟ قال : يا ابن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال : " الكلب الأسود شيطان " .
فالكلب الأسود شيطان الكلاب كما أن الجن تتصور بصورته كثيراً
قال أبو جعفر الطبري : وإنما سمي المتمرد من كل شيء شيطاناً لمفارقته أخلاقه وأفعاله أخلاق سائر جنسه وأفعاله وبعده عن الخير .
وقال ابن كثير : فالصحيح ما تقدم من حديث أبي ذر أن للإنس شياطين منهم وشيطان كل شيء مارده ولهذا جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الكلب الأسود شيطان "
ومعناه والله أعلم : شيطان في الكلاب .
ونقل الطبري وغيره عن بعض المفسرين أنهم قالوا : " إن من الجن شياطين ومن الإنس شياطين وإن شيطان الجن إذا أعياه المؤمن ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليعينه عليه .
وأورد القرطبي عن مالك بن دينار أنه قال : شياطين الإنس تغلب شياطين الجن إن شيطان الإنس أشد عليّ من شيطان الجن لأني إذا تعوذت بالله ذهب شيطان الجن عني وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عياناً .
الفرق بين إبليس والجن والشياطين
اختلف العلماء في علاقة إبليس بالجن والشياطين على ثلاثة أقوال هي :
الأول : أن إبليس هو أبو الجن مؤمنهم وكافرهم ، وكفارهم هم الشياطين وعلى هذا فإبليس هو أصل الجن والشياطين ومصدرهم .
الثاني : أن إبليس هو أبو الشياطين وأصلهم أما الجن فإن أصلهم هو الجان الوارد ذكره في قوله تعالى (( والجان خلقناه من قبل من نار السموم ))
الثالث : أن إبليس ليس هو أبا للجن ولا للشياطين وإنما هو واحد من الجن بدليل قوله تعالى : (( إلا إبليس كان من الجن ))
قال بدر الدين العيني : " اختلف في أصلهم فعن الحسن أن الجن ولد إبليس ومنهم المؤمن والكافر ، والكافر يسمى شيطان .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : هم ولد الجان وليسوا شياطين منهم الكافر والمؤمن وهم يموتون والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس وقد روي عن ابن عباس أن الجان في الآية هو إبليس .
ولعل الراجح هو القول الأول : فإن الجان في قوله تعالى : " والجان خلقناه من قبل من نار السموم " ،، هو إبليس على الصحيح .
قال الطبري في تفسير الآية : وعنى بالجان ههنا إبليس أبا الجن يقول تعالى ذكره وإبليس خلقناه من قبل الإنسان من نار السموم " .
وعن الحسن البصري قال : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنسان .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ولم يكن في المأمورين بالسجود أحد من الشياطين لكن أبوهم إبليس هو كان مأموراً فامتنع وعصى .
وفي موضع آخر قال : وأيضاً فإبليس الذي هو أبو الجن لم يكن معصيته تكذيباً .
وقال أيضاً : والشياطين هم مردة الإنس والجن وجميع الجن ولد إبليس .
وقد جزم ابن القيم بأن إبليس أبو الجن في أكثر من موضع .
وقال ابن حجر في حديثه عن الجن : فقد اختلف في أصلهم فقيل إن أصلهم من ولد إبليس فمن كان منهم كافراً سمي شيطاناً .
وقيل : إن الشياطين خاصة أولاد إبليس وما عداهم ليسوا من ولده .
ثم رجح أن أصلهم من ولد إبليس وأن الشياطين والجن لمسمى واحد وإنما صارا صنفين باعتبار الكفر والإيمان فلا يقال لمن آمن منهم إنه شيطان .
وقال الرازي : والأصح أن الشيطان قسم من الجن فكل من كان منهم مؤمناً فإنه لا يسمى بالشيطان ، وكل من كان منهم كافلااً يسمى بهذا الاسم .
وممن رجح ذلك أيضاً السعدي رحمه الله في تفسيره .
والله تعالى أعلم
مادة خلقه
خلق الله سبحانه وتعالى إبليس من نار وقد دل على ذلك القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة .
فمن القرآن الكريم .
قوله تعالى : " قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين "
وقال تعالى : " والجان خلقناه من قبل من نار السموم " .
قال أبو جعفر الطبري : " واختلف أهل التأويل في معنى نار السموم فقال بعضهم هي السموم الحار التي تقتل ونسب هذا القول إلى ابن عباس رضي الله عنهما ثم قال : وقال آخرون : يعني بذلك من لهب النار ونسبه إلى الضحاك وغيره وقال بعضهم : الحرور بالنهار والسموم بالليل .
وقال عبد الرحمن بن سعدي : " من نار السموم " أي من النار الشديدة الحرارة .
قال تعالى : " وخلق الجان من مارج من نار "
أي من طرف لهبها وخالصها كما روى ذلك ابن كثير عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهم .
وروى البغوي عن مجاهد أنه قال : هو ما اختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت .
أما من السنة النبوية :
فقول النبي صلى الله عليه وسلم : " خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم " .
ومعنى " خلق الجان من مارج من نار " أي من نار مختلطة بهواء مشتعل والمرج الاختلاط فهو من عنصرين هواء ونار كما أن آدم من عنصرين تراب وماء عجن به فحدث له اسم الطين كما حدث للجن اسم المارج .