الجرح والتعديل للشيخ عبد الحميد الجهني
--------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
يظن بعض الناس أن علم الجرح والتعديل كان موجوداً في عصر من العصور ثم انقرض ولم يعد له وجود من مئات السنين ؛ من زمن ابن معين وأبي زرعة وابن حبان وأمثالهم من علماء الحديث القدامى . أما في العصور المتأخرة فليس ثمة حاجة إلى هذا العلم لأن الأسانيد كتبت والأحاديث دونت والرواة عُدلّت وجُرّحت ، وما على المتأخر إلا الاستفادة من المتقدم , وليس لأحد أن يتكلم في الرجال جرحاً وتعديلاً بعد عصر الرواية ، فالجرح والتعديل مزبور في الكتب ولم يعد الآن رواةٌ للحديث ـ أصلاً ـ حتى ننشغل بجرحهم وتعديلهم ! هكذا يظن هؤلاء وهو ظن بليد ساذج ناشئ عن تصور خاطئ لعلم الجرح والتعديل حيث يتصورون أن هذا العلم خاص برواة الحديث وليس الأمر كما يتصورون ، فإن علماء السنة والحديث القدامى أدخلوا في كتب الجرح والتعديل رجالاً ليسوا من الرواة ولا صلة لهم بالرواية وهذا أمر معروف لا يحتاج إلى ضرب أمثلة . فيقال لهؤلاء : إذا كان الجرح والتعديل محصوراً في الرواة كما تزعمون فلماذا عمد علماء الحديث القدامى إلى رجال لا علاقة لهم بالرواية فأوردوهم في كتبهم ؟ أهو من أجل الغيبة والقدح في الناس وأكل لحومهم ( كما يظنه من يظنه منكم !) أم لأجل النصيحة للناس والتحذير من مسالك أولئك المجروحين وبدعهم وضلالاتهم ؟ فإن قلتم : ذكروهم لأجل الغيبة000 فقد وقعتم في شيء عظيم واتهام خطير لعلماء السلف لا يصدر إلا من زائغ مخذول لا مجال للكلام معه . وإن قلتم : بل ذكروهم تحذيراً من مناهجهم المخالفة للكتاب والسنة . قلنا : إذن التحذير من المبتدعة داخل في الجرح والتعديل بدليل صنيع الأئمة الأولين كما أقررتم أنتم به . وعليه فنقول : إن علم الجرح والتعديل لا ينقطع إذن مادام في الدنيا سنة وبدعة ، وهدى وضلالة ، وأهل حق وأهل باطل . ومن حارب (( الجرح والتعديل )) بعد هذا فإنما يحارب دين الله من حيث لا يشعر فلولا الجرح والتعديل لما عرفنا الفرق بين محمد بن سيرين ومعبد الجهني وبين أيوب السختياني وعمرو بن عبيد وبين ابن المبارك وبشر المريسى بل في عصرنا الحاضر كيف عرف الناس ضلالات زاهد الكوثري وتحريفات محمد على الصابوني واعتزاليات محمد الغزالي وطامات سيد قطب وصوفيات عبد الرحيم الطحان وإخوانيات سلمان العودة ، أليس كشف هؤلاء وتحذير الناس منهم كان بالجرح والتعديل ؟ ولو أن أهل العلم سكتوا عن هؤلاء فسكت الشيخ عبد الرحمن المعلمي عن زاهد الكوثري وسكت الشيخ صالح الفوزان عن محمد بن على الصابوني وسكت الشيخ ربيع عن سيد قطب فكيف يعرف الناس الحق ويهتدون إلى الصواب و يتبينون أخطاء وضلالات أولئك . فإن قال قائل : إن الرد على المخالف واجب على العلماء ونحن لا ننكره لكننا ننكر الجرح والتعديل في هذا العصر . قيل له : قد قررنا آنفاً أن الرد على المخالفين والتحذير منهم هو جزء لا يتجزأ عن علم الجرح والتعديل وبينا الدليل على ذلك . وأنتم إن وافقتمونا على هذا فالخلاف يكون عندئذ لفظياً فنحن نقول (( جرح وتعديل )) وأنتم تقولون (( الرد على المخالف )) والمضمون واحد بين العبارتين . مع أن استعمال كلمة ( جرح وتعديل ) أولى لأنها كلمة سلفية درج عليها العلماء من قديم ، ولأنها أشمل حيث يدخل فيه التعديل والمراد به التزكية حيث يسأل الإمام أو العالم السلفي عن أشخاص فيزكيهم ويثني عليهم ويوصي بالأخذ عنهم وهذا مفيد أيضاً خصوصاً لطلبة العلم . ولا أظن أن أحداً من العقلاء يقول عن (( التعديل )) إنه انقطع الآن ولا حاجة لنا به . وأرى من المهم هنا التنويه بكلمة قالها الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في حق أحد علمائنا الأفاضل ممن له جهود مشكورة في الرد على المخالفين والتحذير من الضلال المبتدعين وليس ينكر هذه الجهود إلا أعمى البصيرة مصاب بالكبر الذي هو بطر الحق وغمط الناس . ألا وهو قول الألباني في الشيخ ربيع إنه حامل لواء الجرح والتعديل وهي كلمة حق صادرة من إمام المحدثين في هذا العصر وداخلة في باب (( التعديل )) والمقصود بها هو الذي لا يُعرف له في هذا العصر نظير في الرد على المخالف خصوصا بعد موت الشيخ حمود التويجري فهو بحق حامل لواء الجرح والتعديل بيد أن مشكلة الشيخ ربيع أنه يعيش في بيئة عشش فيها الإخوان المسلمون وباضوا وفرخوا ، وقد أدخلوا على الشباب كثيراً من المفاهيم الخاطئة كمفهوم الموازنات الذي عمل الشيخ ربيع نفسه على سحقه ، ومفهوم لا تتكلم في الناس حتى ولو كان هؤلاء الناس من أضل الناس . ومفهوم أن علم الجرح والتعديل انقطع مع انقطاع القرون الأولى , وغير ذلك من المفاهيم التي حالت بين الشباب وبين الاستفادة من كتب الشيخ ربيع ومقالاته في الرد على المخالفين , وإذا كان ما يقوم به الشيخ ربيع وأمثاله من أهل السنة في الرد على المخالفين الذي هو جزء من علم الجرح والتعديل ، إذا كان هذا غيبة وكلاماً في الناس ! فماذا نسمي ما كان يقوم به أحمد بن حنبل وكلامه معروف في يعقوب بن شيبة وعبد الله بن سعيد بن كلاب والحارث المحاسبى والحسين الكرابيسي وعلى بن الجعد وابن الثلجي وغيرهم كثير ممن كان يجرحهم ليس لأجل الرواية ، وإنما لأجل العقائد والمناهج .
وماذا يسمى أيضاً ما كان يقوم به شيخ الإسلام ابن تيمية من كلامه في ابن عربي ونصر المنبجي والجاشنكير وغيرهم ممن لا علاقة لهم بالحديث وروايته , قال البرزالي - رحمه الله - : وفي شوال ( سنة 707 هـ ) شكى الصوفية بالقاهرة على الشيخ تقي الدين ( ابن تيمية ) وكلامه في ابن عربي وغيره إلى الدولة . اهـ ( البداية والنهاية 18 / 74 ) وقال ابن كثير : ... أن الشيخ تقي الدين ابن تيمية كان ينال من الجاشنكير ومن شيخه نصر المنبجي ... ويتكلم فيهما وفي ابن عربي وأتباعه . اهـ ( المصدر السابق 18 / 83 ـ 84 ) ، فهل هذا من الغيبة ؟ اللهم عذراً إليك فقد احتجنا إلى توضيح الواضحات لما ابتلينا به من عقول مغلقات قد أفسدتها التعصبات وحجّرتها الحزبيات ! حتى أصبح علم الجرح والتعديل وهو العلم الذي حفظ به دين الله أصبح كبيرة من كبائر الذنوب وأصبح من يحمله مرغوباً عنه وعن علمه لأنه يتكلم في الناس !! فالبشرى ينبغي أن تزف الآن إلى مشائخ الطرق الصوفية وملالي الحوزات الرافضية وغيرهم من الضلال بأن علم الجرح والتعديل الذى أقضَّ مضاجعكم وهتك أستاركم وكشف مخازيكم وبين ضلالاتكم وأبعد الشباب عنكم وحذر الأمة منكم قد أصبح في عِداد الأموات ! حتى الأجزاء الحية التي بقيت منه قد تحولت عند الجماعات الحزبية إلى غِيبة محرمة بإجماع المسلمين , وما عاد شبابهم يقبلون كلاماً في أحد , وهاهو الرافضي اللبناني حسن نصر الله قد مجدَّه شباب السنة وعظموه وهتفوا له بصواريخ طائشة أطلقها على اليهود ! ولم يسمعوا إلى كلام شيوخهم أنه رافضي خبيث ! فهذا دليل واضح على أن علم الجرح والتعديل ما عاد له قيمه عند هؤلاء الشباب الذين تربوا في محاضن الإخوان المسلمين ، وأمثالها من الجماعات الحزبية , بل قد حرروا قواعد مضادة لعلم الجرح والتعديل ومن ذلك قولهم (( ليس أحد إلا وتكلم فيه فتنبه )) وهذه من أخبث القواعد لأنها تجعل الشابَّ ضائعاً مائعاً حائراً ، إذا حُذِّرَ من الكوثري أو الصابوني أو أبي غدة أو الترابي أو الغزالي يقابل نصائح الناصحين وتحذير المحذرين بهذه القاعدة الخبيثة (( ليس أحد إلا وتكلم فيه )) يعني : لن أقبل ! والله المستعان . واختم الكلام بنفيسة من نفائس الحافظ السخاوي ( ت 902 ) وهو التلميذ الأبر والأشهر للحافظ ابن حجر ( ت 852 ) حيث قال رحمه الله في كتابه (( فتح المغيث )) :
فإن قيل : قد شغف جماعة من المتأخرين القائمين بالتأريخ وما أشبهه كالذهبي ثم شيخنا ( ابن حجر ) بذكر المعائب ولو لم يكن المعاب من أهل الرواية ، وذلك غيبة محضة ولذا تعقب ابن دقيق العيد ابن السمعاني في ذكره بعض الشعراء ، وقدح فيه بقوله : إذا لم يضطر إلى القدح فيه للرواية لم يجز ، ونحوه ابن المرابط : قد دونت الأخبار وما بقي للتجريح فائدة ، بل انقطعت من رأس الأربعمائة ، ودندن هو وغيره ـ ممن لم يتدبر مقالته ـ بعيب المحدثين بذلك ، قلت ـ القائل الحافظ السخاوي ـ : الملحوظ في تسويغ ذلك كونه نصيحة ولا انحصار لها في الرواية ... إلى آخر كلامه رحمه الله وهو كلام متين خلاصته ما ذكرته آنفاً أن علم الجرح والتعديل قائم على النصيحة للمسلمين ، والنصيحة لا تنحصر في الرواية فقط ولأجل ذا كتب الحافظ الذهبي رسالته (( ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل )) وبلغ بها إلى عصره وهو القرن الثامن وذكر من علماء عصره : شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ أبا الحجاج المزي والحافظ البرزالي ... ومعلوم أن كلام هؤلاء ليس كله في الرواة ولا سيما الأول منهم . وكذلك الحافظ السخاوي حيث اعتمد رسالة الذهبي ونقلها في رسالته (( المتكلمون في الرجال )) وبلغ فيها إلى شيخه الحافظ ابن حجر المتوفى في منتصف القرن التاسع . فإذا كان العلماء حافظوا على علم الجرح والتعديل إلى القرن التاسع فما الذي يمنع من بقائه إلى القرن الخامس عشر مع قيام المقتضى أم أن المخالفين للسنة من ذوي الأهواء والبدع بقوا إلى القرن التاسع ثم انقرضوا فانقرض معهم الجرح والتعديل ؟!
فإن قال قائل : إن الجرح والتعديل قد وضعه بعض الناس في غير موضعه فتراهم يتكلمون في غالب الناس ولا يتحاشون من الأقوام من أحد ولو كان هذا الذي يتكلمون فيه معروفاً بالسنة والطريقة المستقيمة ثم يجعلون هذا القدح الظالم من الجرح والتعديل الذي كان عليه الأئمة ، فنحن من أجل منع هؤلاء من هذا العبث والعيث في أعراض الناس قلنا : إنه لا جرح ولا تعديل في هذه الأزمان !
فالجواب : أن هذا البلاء كان موجوداً في زمن الأئمة حيث كان بعض الناس يتكلمون بدون علم ولا ورع ولم يكن معالجة هذا الداء بالمنع من الجرح والتعديل ؛ لأن العلماء يعلمون أن إغلاق الجرح والتعديل يفضي إلى مفاسد عظيمة أضعاف أضعاف تلك المفسدة المذكورة .
قول الحافظ السخاوي عن الشيخ أبي القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي المعروف بأبي شامة المتوفى سنة ( 665 ) : كان ـ مع كونه عالماً راسخاً في العلم مقرئاً محدثاً نحوياً يكتب الخط المليح المتقن مع التواضع ، والإنطراح ، والتصانيف العدة ـ كثير الوقيعة في العلماء والصلحاء وأكابر الناس ، والطعن عليهم والتنقص لهم وذكر مساويهم وكونه عند نفسه عظيماً فصار ساقطاً من أعين كثير من الناس ممن علم منه ذلك ، وتكلموا فيه ، وأدى ذلك إلى امتحانه بدخول رجلين جليلين عليه داره في صورة مستفتيين ، فضرباه ضرباً مبرحاً إلى أن عيل صبره ولم يغثه أحد . اهـ
فالسخاوي ـ رحمه الله ـ الذي يندد هنا بهذا الأسلوب الأرعن في الوقيعة في الناس وينكره ويحذر منه هو نفسه الذي ذب عن علم الجرح والتعديل وقرر بقاءه إلى القرن التاسع ، إلى زمنه هو رحمه لله ، لتعلم أن العلماء لا يطرحون علماً كاملاً كعلم الجرح والتعديل من أجل أخطاء تقع من بعض المنتسبين له ولو جرينا على هذا النمط لألغينا علم الطب لكثرة ما يقع فيه من أخطاء ولا يقول بهذا عاقل . والمقصود أن الأخطاء والتصرفات الشاذة لا تسلم منها طائفة من الناس مهما بلغت في الرقى والكمال الإنساني إلا أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم . وعلى العاقل أن ينظر في المآلات ويوازن بين المصالح والمفاسد قبل أن يصدر الأحكام ويقرر إلغاء شيء أو إبقاءه .
علماً بأن علم الجرح والتعديل صار من بين العلوم كالجبل الراسي لا يقوى أحد على زحزحته فضلاً عن إلغائه وطرحه , وصدق فيه قول القائل :
كناطحٍ صخرةً يوماً ليفلُقَها *** *** *** فلمْ يضرْها وأهى قرنَهُ الوعلُ
وكتبه / أبو مالك عبد الحميد الجهني
فى يوم الثلاثاء 21/11/1427 هـ
لمصدر موقع الشيخ عبد الحميد الجهني
--------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
يظن بعض الناس أن علم الجرح والتعديل كان موجوداً في عصر من العصور ثم انقرض ولم يعد له وجود من مئات السنين ؛ من زمن ابن معين وأبي زرعة وابن حبان وأمثالهم من علماء الحديث القدامى . أما في العصور المتأخرة فليس ثمة حاجة إلى هذا العلم لأن الأسانيد كتبت والأحاديث دونت والرواة عُدلّت وجُرّحت ، وما على المتأخر إلا الاستفادة من المتقدم , وليس لأحد أن يتكلم في الرجال جرحاً وتعديلاً بعد عصر الرواية ، فالجرح والتعديل مزبور في الكتب ولم يعد الآن رواةٌ للحديث ـ أصلاً ـ حتى ننشغل بجرحهم وتعديلهم ! هكذا يظن هؤلاء وهو ظن بليد ساذج ناشئ عن تصور خاطئ لعلم الجرح والتعديل حيث يتصورون أن هذا العلم خاص برواة الحديث وليس الأمر كما يتصورون ، فإن علماء السنة والحديث القدامى أدخلوا في كتب الجرح والتعديل رجالاً ليسوا من الرواة ولا صلة لهم بالرواية وهذا أمر معروف لا يحتاج إلى ضرب أمثلة . فيقال لهؤلاء : إذا كان الجرح والتعديل محصوراً في الرواة كما تزعمون فلماذا عمد علماء الحديث القدامى إلى رجال لا علاقة لهم بالرواية فأوردوهم في كتبهم ؟ أهو من أجل الغيبة والقدح في الناس وأكل لحومهم ( كما يظنه من يظنه منكم !) أم لأجل النصيحة للناس والتحذير من مسالك أولئك المجروحين وبدعهم وضلالاتهم ؟ فإن قلتم : ذكروهم لأجل الغيبة000 فقد وقعتم في شيء عظيم واتهام خطير لعلماء السلف لا يصدر إلا من زائغ مخذول لا مجال للكلام معه . وإن قلتم : بل ذكروهم تحذيراً من مناهجهم المخالفة للكتاب والسنة . قلنا : إذن التحذير من المبتدعة داخل في الجرح والتعديل بدليل صنيع الأئمة الأولين كما أقررتم أنتم به . وعليه فنقول : إن علم الجرح والتعديل لا ينقطع إذن مادام في الدنيا سنة وبدعة ، وهدى وضلالة ، وأهل حق وأهل باطل . ومن حارب (( الجرح والتعديل )) بعد هذا فإنما يحارب دين الله من حيث لا يشعر فلولا الجرح والتعديل لما عرفنا الفرق بين محمد بن سيرين ومعبد الجهني وبين أيوب السختياني وعمرو بن عبيد وبين ابن المبارك وبشر المريسى بل في عصرنا الحاضر كيف عرف الناس ضلالات زاهد الكوثري وتحريفات محمد على الصابوني واعتزاليات محمد الغزالي وطامات سيد قطب وصوفيات عبد الرحيم الطحان وإخوانيات سلمان العودة ، أليس كشف هؤلاء وتحذير الناس منهم كان بالجرح والتعديل ؟ ولو أن أهل العلم سكتوا عن هؤلاء فسكت الشيخ عبد الرحمن المعلمي عن زاهد الكوثري وسكت الشيخ صالح الفوزان عن محمد بن على الصابوني وسكت الشيخ ربيع عن سيد قطب فكيف يعرف الناس الحق ويهتدون إلى الصواب و يتبينون أخطاء وضلالات أولئك . فإن قال قائل : إن الرد على المخالف واجب على العلماء ونحن لا ننكره لكننا ننكر الجرح والتعديل في هذا العصر . قيل له : قد قررنا آنفاً أن الرد على المخالفين والتحذير منهم هو جزء لا يتجزأ عن علم الجرح والتعديل وبينا الدليل على ذلك . وأنتم إن وافقتمونا على هذا فالخلاف يكون عندئذ لفظياً فنحن نقول (( جرح وتعديل )) وأنتم تقولون (( الرد على المخالف )) والمضمون واحد بين العبارتين . مع أن استعمال كلمة ( جرح وتعديل ) أولى لأنها كلمة سلفية درج عليها العلماء من قديم ، ولأنها أشمل حيث يدخل فيه التعديل والمراد به التزكية حيث يسأل الإمام أو العالم السلفي عن أشخاص فيزكيهم ويثني عليهم ويوصي بالأخذ عنهم وهذا مفيد أيضاً خصوصاً لطلبة العلم . ولا أظن أن أحداً من العقلاء يقول عن (( التعديل )) إنه انقطع الآن ولا حاجة لنا به . وأرى من المهم هنا التنويه بكلمة قالها الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في حق أحد علمائنا الأفاضل ممن له جهود مشكورة في الرد على المخالفين والتحذير من الضلال المبتدعين وليس ينكر هذه الجهود إلا أعمى البصيرة مصاب بالكبر الذي هو بطر الحق وغمط الناس . ألا وهو قول الألباني في الشيخ ربيع إنه حامل لواء الجرح والتعديل وهي كلمة حق صادرة من إمام المحدثين في هذا العصر وداخلة في باب (( التعديل )) والمقصود بها هو الذي لا يُعرف له في هذا العصر نظير في الرد على المخالف خصوصا بعد موت الشيخ حمود التويجري فهو بحق حامل لواء الجرح والتعديل بيد أن مشكلة الشيخ ربيع أنه يعيش في بيئة عشش فيها الإخوان المسلمون وباضوا وفرخوا ، وقد أدخلوا على الشباب كثيراً من المفاهيم الخاطئة كمفهوم الموازنات الذي عمل الشيخ ربيع نفسه على سحقه ، ومفهوم لا تتكلم في الناس حتى ولو كان هؤلاء الناس من أضل الناس . ومفهوم أن علم الجرح والتعديل انقطع مع انقطاع القرون الأولى , وغير ذلك من المفاهيم التي حالت بين الشباب وبين الاستفادة من كتب الشيخ ربيع ومقالاته في الرد على المخالفين , وإذا كان ما يقوم به الشيخ ربيع وأمثاله من أهل السنة في الرد على المخالفين الذي هو جزء من علم الجرح والتعديل ، إذا كان هذا غيبة وكلاماً في الناس ! فماذا نسمي ما كان يقوم به أحمد بن حنبل وكلامه معروف في يعقوب بن شيبة وعبد الله بن سعيد بن كلاب والحارث المحاسبى والحسين الكرابيسي وعلى بن الجعد وابن الثلجي وغيرهم كثير ممن كان يجرحهم ليس لأجل الرواية ، وإنما لأجل العقائد والمناهج .
وماذا يسمى أيضاً ما كان يقوم به شيخ الإسلام ابن تيمية من كلامه في ابن عربي ونصر المنبجي والجاشنكير وغيرهم ممن لا علاقة لهم بالحديث وروايته , قال البرزالي - رحمه الله - : وفي شوال ( سنة 707 هـ ) شكى الصوفية بالقاهرة على الشيخ تقي الدين ( ابن تيمية ) وكلامه في ابن عربي وغيره إلى الدولة . اهـ ( البداية والنهاية 18 / 74 ) وقال ابن كثير : ... أن الشيخ تقي الدين ابن تيمية كان ينال من الجاشنكير ومن شيخه نصر المنبجي ... ويتكلم فيهما وفي ابن عربي وأتباعه . اهـ ( المصدر السابق 18 / 83 ـ 84 ) ، فهل هذا من الغيبة ؟ اللهم عذراً إليك فقد احتجنا إلى توضيح الواضحات لما ابتلينا به من عقول مغلقات قد أفسدتها التعصبات وحجّرتها الحزبيات ! حتى أصبح علم الجرح والتعديل وهو العلم الذي حفظ به دين الله أصبح كبيرة من كبائر الذنوب وأصبح من يحمله مرغوباً عنه وعن علمه لأنه يتكلم في الناس !! فالبشرى ينبغي أن تزف الآن إلى مشائخ الطرق الصوفية وملالي الحوزات الرافضية وغيرهم من الضلال بأن علم الجرح والتعديل الذى أقضَّ مضاجعكم وهتك أستاركم وكشف مخازيكم وبين ضلالاتكم وأبعد الشباب عنكم وحذر الأمة منكم قد أصبح في عِداد الأموات ! حتى الأجزاء الحية التي بقيت منه قد تحولت عند الجماعات الحزبية إلى غِيبة محرمة بإجماع المسلمين , وما عاد شبابهم يقبلون كلاماً في أحد , وهاهو الرافضي اللبناني حسن نصر الله قد مجدَّه شباب السنة وعظموه وهتفوا له بصواريخ طائشة أطلقها على اليهود ! ولم يسمعوا إلى كلام شيوخهم أنه رافضي خبيث ! فهذا دليل واضح على أن علم الجرح والتعديل ما عاد له قيمه عند هؤلاء الشباب الذين تربوا في محاضن الإخوان المسلمين ، وأمثالها من الجماعات الحزبية , بل قد حرروا قواعد مضادة لعلم الجرح والتعديل ومن ذلك قولهم (( ليس أحد إلا وتكلم فيه فتنبه )) وهذه من أخبث القواعد لأنها تجعل الشابَّ ضائعاً مائعاً حائراً ، إذا حُذِّرَ من الكوثري أو الصابوني أو أبي غدة أو الترابي أو الغزالي يقابل نصائح الناصحين وتحذير المحذرين بهذه القاعدة الخبيثة (( ليس أحد إلا وتكلم فيه )) يعني : لن أقبل ! والله المستعان . واختم الكلام بنفيسة من نفائس الحافظ السخاوي ( ت 902 ) وهو التلميذ الأبر والأشهر للحافظ ابن حجر ( ت 852 ) حيث قال رحمه الله في كتابه (( فتح المغيث )) :
فإن قيل : قد شغف جماعة من المتأخرين القائمين بالتأريخ وما أشبهه كالذهبي ثم شيخنا ( ابن حجر ) بذكر المعائب ولو لم يكن المعاب من أهل الرواية ، وذلك غيبة محضة ولذا تعقب ابن دقيق العيد ابن السمعاني في ذكره بعض الشعراء ، وقدح فيه بقوله : إذا لم يضطر إلى القدح فيه للرواية لم يجز ، ونحوه ابن المرابط : قد دونت الأخبار وما بقي للتجريح فائدة ، بل انقطعت من رأس الأربعمائة ، ودندن هو وغيره ـ ممن لم يتدبر مقالته ـ بعيب المحدثين بذلك ، قلت ـ القائل الحافظ السخاوي ـ : الملحوظ في تسويغ ذلك كونه نصيحة ولا انحصار لها في الرواية ... إلى آخر كلامه رحمه الله وهو كلام متين خلاصته ما ذكرته آنفاً أن علم الجرح والتعديل قائم على النصيحة للمسلمين ، والنصيحة لا تنحصر في الرواية فقط ولأجل ذا كتب الحافظ الذهبي رسالته (( ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل )) وبلغ بها إلى عصره وهو القرن الثامن وذكر من علماء عصره : شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ أبا الحجاج المزي والحافظ البرزالي ... ومعلوم أن كلام هؤلاء ليس كله في الرواة ولا سيما الأول منهم . وكذلك الحافظ السخاوي حيث اعتمد رسالة الذهبي ونقلها في رسالته (( المتكلمون في الرجال )) وبلغ فيها إلى شيخه الحافظ ابن حجر المتوفى في منتصف القرن التاسع . فإذا كان العلماء حافظوا على علم الجرح والتعديل إلى القرن التاسع فما الذي يمنع من بقائه إلى القرن الخامس عشر مع قيام المقتضى أم أن المخالفين للسنة من ذوي الأهواء والبدع بقوا إلى القرن التاسع ثم انقرضوا فانقرض معهم الجرح والتعديل ؟!
فإن قال قائل : إن الجرح والتعديل قد وضعه بعض الناس في غير موضعه فتراهم يتكلمون في غالب الناس ولا يتحاشون من الأقوام من أحد ولو كان هذا الذي يتكلمون فيه معروفاً بالسنة والطريقة المستقيمة ثم يجعلون هذا القدح الظالم من الجرح والتعديل الذي كان عليه الأئمة ، فنحن من أجل منع هؤلاء من هذا العبث والعيث في أعراض الناس قلنا : إنه لا جرح ولا تعديل في هذه الأزمان !
فالجواب : أن هذا البلاء كان موجوداً في زمن الأئمة حيث كان بعض الناس يتكلمون بدون علم ولا ورع ولم يكن معالجة هذا الداء بالمنع من الجرح والتعديل ؛ لأن العلماء يعلمون أن إغلاق الجرح والتعديل يفضي إلى مفاسد عظيمة أضعاف أضعاف تلك المفسدة المذكورة .
قول الحافظ السخاوي عن الشيخ أبي القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي المعروف بأبي شامة المتوفى سنة ( 665 ) : كان ـ مع كونه عالماً راسخاً في العلم مقرئاً محدثاً نحوياً يكتب الخط المليح المتقن مع التواضع ، والإنطراح ، والتصانيف العدة ـ كثير الوقيعة في العلماء والصلحاء وأكابر الناس ، والطعن عليهم والتنقص لهم وذكر مساويهم وكونه عند نفسه عظيماً فصار ساقطاً من أعين كثير من الناس ممن علم منه ذلك ، وتكلموا فيه ، وأدى ذلك إلى امتحانه بدخول رجلين جليلين عليه داره في صورة مستفتيين ، فضرباه ضرباً مبرحاً إلى أن عيل صبره ولم يغثه أحد . اهـ
فالسخاوي ـ رحمه الله ـ الذي يندد هنا بهذا الأسلوب الأرعن في الوقيعة في الناس وينكره ويحذر منه هو نفسه الذي ذب عن علم الجرح والتعديل وقرر بقاءه إلى القرن التاسع ، إلى زمنه هو رحمه لله ، لتعلم أن العلماء لا يطرحون علماً كاملاً كعلم الجرح والتعديل من أجل أخطاء تقع من بعض المنتسبين له ولو جرينا على هذا النمط لألغينا علم الطب لكثرة ما يقع فيه من أخطاء ولا يقول بهذا عاقل . والمقصود أن الأخطاء والتصرفات الشاذة لا تسلم منها طائفة من الناس مهما بلغت في الرقى والكمال الإنساني إلا أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم . وعلى العاقل أن ينظر في المآلات ويوازن بين المصالح والمفاسد قبل أن يصدر الأحكام ويقرر إلغاء شيء أو إبقاءه .
علماً بأن علم الجرح والتعديل صار من بين العلوم كالجبل الراسي لا يقوى أحد على زحزحته فضلاً عن إلغائه وطرحه , وصدق فيه قول القائل :
كناطحٍ صخرةً يوماً ليفلُقَها *** *** *** فلمْ يضرْها وأهى قرنَهُ الوعلُ
وكتبه / أبو مالك عبد الحميد الجهني
فى يوم الثلاثاء 21/11/1427 هـ
لمصدر موقع الشيخ عبد الحميد الجهني