[b]من أعلام أهل السنة والجماعة
عبد الله بن المبارك العالم المجاهد
- رحمه الله تعالى
عبد الله بن المبارك العالم المجاهد
- رحمه الله تعالى
د . محمد بن مطر الزهراني
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد :
فان الله اصطفى من خلقه أنبياء ورسلاً ، وجعل خاتمهم أفضلهم ، وإمامهم محمداً -صلى الله عليه وسلم- ، وجعل رسالته خاتمة الرسالات ، ودينه ناسخاً لما قبله .
ثم اختار لصحبته صفوة الخلق بعد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ، وقد كانوا - بفضل الله - جديرين بذلك الاختيار ، فحملوا الرسالة من بعده -صلى الله عليه وسلم- وكانوا أمناء على أدائها على الوجه الأكمل ، وكانوا المجتمع الأنموذج والتطبيق الفعلي لمبادئ تلك الرسالة ، ووسيلتهم في ذلك :
1- السلوك العملي الذي هو تطبيق لمبادئ الرسالة .
2- وتعليم الناس دين الله .
3- والجهاد لإعلاء كلمة الله .
4- والصبر على الأذى والمشاق في سبيل الله ..
فتخرج على أيدي هؤلاء الأئمة الأعلام تلاميذ نجباء كانوا على حمل الرسالة من بعد أشياخهم أمناء ، وهكذا خرّج كل جيل جيلاً بعده يحمل الرسالة ويؤدي الأمانة ، وهذا من حفظ الله لهذا الدين الذي ختم به الأديان .
وكان من يهتدي بهدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته من بعده ويسلك منهجهم في كل صغيرة وكبيرة يعرفون بأهل السنة والجماعة ، ومن هؤلاء أهل الحديث المشتغلون بالسنة النبوية وخدمتها قولاً وعملاً ، ومن خالف منهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام عرفوا بأصحاب الأهواء أو (المبتدعة ) ، وكان على رأس هؤلاء الخوارج والروافض والجهمية والقدرية والمرجئة والمعتزلة وغيرهم من تلك الطوائف المنحرفة عن ذلك المنهج القويم .
وكلمة أهل الحديث أصبحت علماً - في القرون الثلاثة المفضلة - على من اتصف بهذه الصفات :
1- الاشتغال بخدمة السنة النبوية سنداً ومتناً ، حيث ظهر على أيديهم علم الرجال ، وعلم مصطلح الحديث الذي امتازت به الأمة الإسلامية عن غيرها من
الأمم .
2- الالتزام بالكتاب والسنة قولا وعملاً ، عقيدة وعبادة معاملات وسلوكاً ، سياسة واجتماعاً مع فهمها الفهم الصحيح على نهج رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وصحابته الكرام .
3- عدم تأويل آيات وأحاديث الصفات ، أو صرفها عن ظاهرها بغير دليل .
4- عدم تحكيم العقل والهوى في النصوص بدون دليل صحيح ، كما فعل المبتدعة من جهمية ومعتزلة وغيرهم ممن انحرف عن منهج أهل السنة والجماعة .
5- فضح أهل البدع والأهواء وبيان ضلالهم وانحرافهم وتحذير الأمة منهم ومن ضلالاتهم ، كل ذلك نصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم .
6- الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله وأن يكون الدين كله لله ، وذلك بالسنان والبيان ، كما فعل سلفهم الصالح من الصحابة رض عنهم .
وقد وصف الحافظ ابن حبان في مقدمة صحيحه أهل الحديث ، فقال :
( ... ثم اختار طائفة لصفوته ، وهداهم للزوم طاعته ، من اتباع سبل الأبرار ، في لزوم السنن والآثار ، فزين قلوبهم بالإيمان ، وأنطق ألسنتهم بالبيان ، من كشف أعلام دينه وأتباع سنن نبيه بالدُّؤوب في الرحل والأسفار ، وفراق الأهل والأوطان في جمع السنن ورفض الأهواء ، والتفقه فيها بترك الآراء ، فتجرد القوم للحديث وطلبوه ، ورحلوا فيه وكتبوه ، وسألوا عنه وأحكموه ، وذاكروا به ونشروه ، وتفقهوا فيه وأصلوه ، وفرعوا عليه وبذلوه ... ) [1] .
وسأعرض تحت هذا العنوان ( من أعلام السنة والجماعة ) نماذج من أولئك الأئمة الأعلام مبينا حسب الإمكان جهودهم العلمية والعملية في خدمة هذا الدين وتعلمه وتعليمه للناس ، لعل شباب الإسلام اليوم يجدون في الاقتداء بهؤلاء الأئمة ويحذون حذوهم فيحيون منهج أهل السنة والجماعة بين الناس ويكونون الأنموذج العملي لمبادئ تلك الرسالة كما كان أسلافهم من أهل القرون المفضلة .
وأول ما أبداً به من هؤلاء الأعلام إمام أهال السنة في خراسان في زمانه ، وقدوة المتقين في وقته ، العالم الرباني المجاهد : عبد الله بن المبارك أبو عبد الرحمن التركي الأب ، الخوارزمي الأم ، ولد سنة ثماني عشرة بعد المائة وتوفي سنة إحدى وثمانين ومائة [2] .
قال الإمام الذهبي : ( ... الإمام شيخ الإسلام عالم زمانه وأمير الأتقياء في وقته ، طلب العلم وهو ابن عشرين سنة ، سمع من هشام بن عروة ، وإسماعيل بن أبي خالد ، وسليمان الأعمش ، وسليمان التيمي ، وحميد الطويل ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وموسى بن عقبة ، ومعمر بن راشد ، وابن جريج ، ومالك بن أنس ، والثوري ، وشعبة ، وخلق كثير .
وروى عنه داود العطار وابن عيينة ، وأبو إسحاق الفزاري ، ومعتمر بن سليمان ، ويحيى بن القطان وعبد الرحمن بن مهدي ، وعبد الله وهب ، وعبد
الرزاق الصنعاني وخلق غيرهم ) [3] .
مكانته العلمية :
قال الخطيب البغدادي : كان ابن المبارك من الربانيين في العلم الموصوفين بالحفظ ومن المذكورين بالزهد .
وقال عبد الرحمن بن المهدي : ما رأيت أعلم بالحديث من سفيان الثوري ، ولا أحسن عقلاً من مالك ، ولا أقشف من شعبة ، ولا أنصح لهذه الأمة من عبد الله بن المبارك .
وقال الأسود بن سالم : كان ابن المبارك إماماً يقتدي به ، وكان من أثبت الناس في السنة إذا رأيت رجلا يغمز ابن المبارك بشيء فاتهمه على الإسلام .
وقال سفيان بن عيينة : نظرت في أمر الصحابة وأمر ابن المبارك فما رأيت لهم عليه فضل إلا بصحبتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وغزوهم معه .
وقال العباس بن مصعب : جمع ابن المبارك الحديث والفقه والعربية وأيام الناس والشجاعة . والسخاء والتجارة .
وقال أحمد بن حنبل : لم يكن أحد في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه [4] .
هذه شهادات أئمة عدول تبين لنا تلك المكانة العالية التي كان يحتلها هذا الإمام المجاهد ، والعالم الرباني بين علماء الأمة ، هذه المكانة لم يكن ينالها ابن المبارك لو أنه آثر أن يعيش كما يعيش غيره من الناس على هامش الحياة آثر الدعة والراحة على الجد والجهاد والتضحية والبذل ..
بل كان همه رحمه الله وشغله الشاغل نصرة هذا الدين وإعلاء كلمة الله ، فكان يبذل في سبيل ذلك نفسه وماله وعلمه وصحته ووقته رحمه الله ورضي عنه .