مقال رائع في حجاب المرأة
هذا مقال في حكم تغطية المرأة وجهها ، وقد رأيته مناسبا للنشر لحسن عرضه و تبيينه لمقدمات مهمةفي هذه المسالة التي كثر الخوض فيها من قبل أصحاب الشهوات في وسائل الإعلام مما أثار الشبهة لدى كثير من النساء و الرجال ...
الدلالة المحكمة لآيات الحجاب
لطف الله خوجه
من مميزات هذا القرن، من جهة المسائل الفقهية: ظهور الجدل والتأليف في مسألة كشف وجه المرأة. وهذا بعكس القرون السابقة؛ حيث انحصر البحث في بطون الكتب الفقهية، والحديثية، والتفاسير. لم تكن هذه المسألة جدلاً في المنتديات، ولا دعوة على المنابر، ولم تؤلف فيها مؤلفات مستقلة، كلاَّ(1)، بل كان العالِم يعرض رأيه
كان العلماء في هذه المسألة على قولين:
- الأول: إيجاب التغطية على جميع النساء، بمن فيهن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن.
- الثاني: استحباب التغطية على جميع النساء، حاشا أزواج النبي رضوان الله عليهن، فعليهن التغطية.
وبهذا يُعلم اتفاقهم في شيء، واختلافهم في شيء:
- فقد اتفقوا على وجوب التغطية في حق أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - ، فكان هذا إجماعاً.
- واختلفوا في حق عموم النساء، بين موجب ومستحب، فكان هذا خلافاً.
وأهم ما يجب ملاحظته في مذهب المستحبين: أن قولهم تضمن أمرين مهمين هما:
- الأول: استحبابهم التغطية؛ وذلك يعني أفضليتها على الكشف؛ فحكم الاستحباب فوق حكم المباح. ففي المباح: يستوي الفعل والترك. لكن في الاستحباب: يفضل فعل المستحب.
- الثاني: اشتراطهم لجواز الكشف شرطاً هو: أمن الفتنة. والفتنة هي: حسن المرأة، وصغر سنها (أن تكون شابة)، وكثرة الفساق. فمتى لم تُؤْمَن الفتنة فالواجب التغطية.
وبهذا يُعلم أن تجويزهم الكشف مقيَّدٌ غير مطلق، مقيد بشرط أمن الفتنة، ومقيد بأفضلية التغطية، وهذا ما لم يلحظه الداعون للكشف اليوم، وهم يستندون في دعوتهم إلى هؤلاء العلماء.
وقد التزم المستحبون ذلك الشرط وذلك التفضيل، فانعكس على مواقفهم:
- فأما الشرط: فالتزامهم به أدى بهم لموافقة الموجبين في بعض الأحوال، فأوجبوا التغطية حال الفتنة، فنتج من ذلك: حصول الإجماع على التغطية حال الفتنة. فالموجبون أوجبوها في كل حال، والمستحبون أوجبوها حال الفتنة، فصح إجماعهم على التغطية حال الفتنة؛ لأنهم جميعاً متفقون على هذا الحكم في هذا الحال.. هذا بالأصل، وذاك بالشرط.
- وأما التفضيل: فالتزامهم به منعهم من السعي في نشر مذهبهم، والدعوة إليه، وحمل النساء عليه؛ ولأجله لم يكتبوا مؤلفات مستقلة تنصر القول بالكشف ـ حسب علمي ـ. فما كان لهم استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. ترتب على ذلك أثر مهم هو: إجماع عملي تمثل في منع خروج النساء سافرات؛ فلم يكن لاختلافهم العلمي النظري أثرٌ في واقع الحال.. وهذا ما لم يلحظه الداعون للكشف اليوم، وهم يستندون في دعوتهم إلى هؤلاء العلماء.
فملخص أقوالهم:
- ثلاثة إجماعات: إجماع على التغطية في حق أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - ، وإجماع على التغطية حال الفتنة، وإجماع عملي في منع خروج النساء سافرات.
- وإيجاب على الجميع، بمن فيهن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - ، في كل حال.
- واستحباب على الجميع دون أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - ، مقيد بشرط أمن الفتنة، ومقيد بالأفضلية.
هذه هي المذاهب في هذه المسألة.
وهكذا مرت المسألة بينهم في تلك القرون: خلاف نظري، يمحوه اتفاق عملي. فانعكس على أحوال المسلمات، فلم تكن النساء يخرجن سافرات الوجوه، كاشفات الخدود، طيلة ثلاثة عشر قرناً، عمر الخلافة الإسلامية، حكى ذلك وأثبته جمع من العلماء، منهم:
1 - أبو حامد الغزالي، وقد عاش في القرن الخامس، في الشام والعراق (توفي 505هـ)، الذي قال في كتابه: (إحياء علوم الدين): «ولم يزل الرجال على مر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات»(1).
2 - الإمام النووي، وقد عاش في القرن السابع؛ حيث نقل في كتابه: (روضة الطالبين)(2) الاتفاق على ذلك، فقال في حكم النظر إلى المرأة: «والثاني: يحرم، قاله الاصطخري وأبو علي الطبري، واختاره الشيخ أبو محمد، والإمام، وبه قطع صاحب المهذب والروياني، ووجهه الإمام باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات، وبأن النظر مظنة الفتنة، وهو محرك للشهوة؛ فاللائق بمحاسن الشرع، سد الباب والإعراض عن تفاصيل الأحوال، كالخلوة بالأجنبية».
3 - أبو حيان الأندلسي المفسر اللغوي، وقد عاش في القرن الثامن، قال في تفسيره (البحر المحيط)(3): «وكذا عادة بلاد الأندلس، لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة».
4 - ابن حجر العسقلاني، وقد عاش في القرن التاسع، قال في الفتح(4): «استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى: المساجد، والأسواق، والأسفار منتقبات؛ لئلا يراهن الرجال».
5 - ابن رسلان، الذي حكى «اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لا سيما عند كثرة الفساق»(5).
وهكذا كان الحال في بدايات القرن الأخير؛ فقد ظهر التصوير قبل مائة وخمسين عاماً، تقريباً، وصوَّر المصورون أحوال كثير من البلاد الإسلامية، منذ مائة عام، وزيادة، وفيها ما يحكي واقع حال النساء في بلاد الإسلام: تركستان، الهند، وأفغانستان، وإيران، والعراق، وتركيا، والشام، والحجاز، واليمن، ومصر، والمغرب العربي؛ حيث الجميع محجبات الوجوه والأبدان حجاباً كاملاً سابغاً، حتى في المناطق الإسلامية النائية، كجزيرة زنجبار في جنوبي إفريقيا، في المحيط الهندي، وقد زرتها عام 1420هـ، ودخلنا متحفها القديم، ورأينا صور سلاطينها من العمانيين، وصور نسائها، وكن جميعاً محجبات على الصفة الآنفة، وعندنا شاهد في هذا العصر: المرأة الأفغانية؛ فحجابها السابغ الذي يغطي جميع بدنها، حتى وجهها، قريب إلى حد كبير مما كان عليه النساء في سائر البلدان. فهذا الحال أشهر ما يستدل له؛ فالصور أدلة يقينية؛ فقد ظلت المرأة متمسكة بهذا الحجاب الكامل إلى عهد قريب، ولم يظهر السفور إلا بعد موجات الاستعمار والتغريب، حيث كان من أولويات المستعمر:
- نزع حجاب المرأة.
- تعطيل العمل بالشريعة.
وقد اتُّخذ لتحقيق هذين الهدفين طريقان: القوة، والشبهة. والأخطر طريق الشبهة.
لقد ظهر من يدعو وينادي بالسفور، من على المنابر، والصحف، والكتب، باعتبار أن كشف الوجه مسألة خلافية؛ حيث نظروا في تراث الإسلام، فتتبعوا مسائل الخلاف، وأفادوا منها في تأييد وإسناد دعواهم؛ فكانوا شَبَهاً بالمستشرقين، والفرق: أن المستشرقين بحثوا، وفتشوا للطعن في الإسلام نفسه، وهؤلاء بحثوا، وفتشوا للتشكيك في أحكام مستقرة، جرى عليها العمل، ومن ذلك: حجاب المرأة، وبخاصة كشف الوجه.
فوجدوا لطائفة من العلماء أقوالاً تجيزه، ولا تحرمه، لكن بشرط أمن الفتنة.
فأخذوا أقوالهم، وتركوا شروطهم. كما أخذوا قولهم بالجواز، وتركوا قولهم بالاستحباب.
ونسبوا قولهم الجديد، المحدَث، في جواز كشف الوجه مطلقاً، من غير قيد بشرط، ولا قيد بأفضلية إلى هؤلاء العلماء، فلم يحفظوا أمانة الأداء، ولم يحرروا نسبة الأقوال، ثم زعموا أنه قول جماهير العلماء.
وما كان لهم أن ينتسبوا لهؤلاء العلماء فيما أحدثوه من قول؛ فما هم منهم، ولا هم منهم.
ثم إنهم ربطوا بين السفور والتقدم، وزعموا أن سبب انحطاط الأمة، إنما كان باحتجاب المرأة، وبعدها عن ميدان الرجال. وسمع لهم من سمع، وانساق كثير من المسلمين لهذه الأفكار، لانتفاء الحصانة، وضعف القناعة، فتمثلوها، وطبقوها، فحدث في تاريخ الإسلام حدث غير سابق، غريب كل الغربة عن أخلاق المسلمين؛ حيث خرجت المرأة المسلمة سافرة، تتشبه في لباسها بالكافرة.
صارت المرأة في الصورة التي أرادها المتحررون، ومرت عقود، وشارف قرن على الأفول، لكن تلـك البلــدان المتحــررة ما زالت من دول العالم الثالث؛ فأين التقدم الذي يجيء مع كشف الوجه، والتبرج، والاختلاط، وخروج المرأة من بيتها؟
والدعوات نفسها اليوم تعاد في مأرز الإسلام، ومأوى الإيمان، من دون اعتبار.
وأخطر ما في الأمر تبني مذهب الكشف طائفةٌ من المنتسبين للتيار الإسلامي، ممن كانوا يعارضون هذا المذهب؛ ذلك أن رأيهم مسموع، وقولهم له محل من القبول، لغلبة التدين، وإذا تذكرنا أن أول السفور ونزع الحجاب في البلاد الإسلامية، كان بدؤه كشف الوجه، فهمنا لِمَ كان تبني هؤلاء لهذا القول خَطِراً؟
ولا شك أن باعث هذا التغير في موقف هؤلاء الأفاضل اشتباه في المسألة. فالقناعة تامة بأنهم محبون للخير، متبعون للدليل، لكن الخلاف فيها غرّهم، فظنوا صحة مذهب الكشف، وربما رجحوه، ومحل الخلل عدم تحرير المسألة بدقة. وهذا ما لوحظ على أصحاب هذا الاتجاه، والشبهة إن أتت من نص شرعي، فلا تُزال إلا بنص واستدلال شرعي، ومجرد الخلاف لا يسوِّغ الانتقاء؛ إذ ليس كل خلاف سائغ، بل ثمة خلاف مردود. والواضح أن النصوص المستدل بها على جواز الكشف، ليست من القوة بحيث ترجح على النصوص الموجبة للتغطية؛ ففي القرآن ثلاث آيات، هي آيات الحجاب، وهن قوله ـ تعالى ـ:
- {وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53].
ـ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْـمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59].
ـ {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31].
هذه الآيات كلها تدل دلالة محكمة على وجوب غطاء الوجه، فإذا ثبت إحكامها؛ فكل ما عداها متشابه، يُرَدُّ إليها. ومعلوم أن النصوص منها المحكم، ومنها المتشابه، فالمتشابه يُرَدُّ إلى المحكم، هذا سبيل أهل الإيمان الراسخين في العلم، كما دل عليه قوله ـ تعالى ـ:
- {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].