الجيل المثـالــي
لفضيلة الشيخ محب الدَين الخطيب
- رحمه الله -
- من ايام أفلاطون ( 430 – 348 ق . م ) وكتابه (( الجمهورية )) ثم من عصر أبي نصر الفارابي ( 260 – 339هـ ) وكتابه (( المدينة الفاضلة )) . إلى زمن السر توماس مور ( Tomas More 1478 – 1535 م ) وكتابه (( يوتوبيا )) Utopia من تلك العصور والأزمان – إلى يوم الناس هذا – والإنسانية تحلم بالجيل المثالي الذي يود البشر لو يظفرون به فيتخذونه قدوة لهم في السلم والحرب ، والمنشط والمكره في مختلف أطوار الحياة ، ليكون لهم من كماله الإمكاني المثل المقتدي به في كمالهم الإنساني . هي أمنية من أماني الشعوب والأمم ، من أقدم الأزمان إلى الآن ، تحدث عنها الحكماء ، وتغنى بها الشعراء ، وترنم بها رخيم أصوات الهاتفين ، وهمس بها ثفوة الضارعين والمناجين ، من كل صادح أو باغم . بل إن (( الجيل المثالي )) هو الذي دعا إلى تكوينه وعمل على تحقيقه الأنبياء من اولى العزم ، وهو الذي تمناه الحكماء وأهل العلم ، وهو الذي كانت الإنسانية ولا تزال ترنو إلى شبحه المرجى في أحلام يقظاتها وفترات غفواتها . تريث موسى بقومه في آفاق العريش وبرية سيناء وصحاري النقب وحوالي بئر سبع أربعين حولا يلتحف معهم سحائب السماء ويفترش أديم الغبراء ، وهو يحاول أن يربي منهم جيلاً مثالياً يستن بسنن الله ويتخلق بأخلاق الرفق والحزم والتضحية والاستقامة والاعتدال ، فيرضى بها عن ربه ويرضى ربه عنه ، ثم مات موسى ولما يبلغ من أمته هذه الأمنية … ونبغ في الصين حكيمها … كونغ فوتس الذي عرفناه من طريق الإفرنج باسم كونفوشيوس ( 550 – 479 ق . م ) ، ولا شك أنه كان من اصدق الدعاة إلى أن يتعامل الناس بالمروءة . لكنه لم يرتفع بدعوته إلى تخليص الصين من عبوديتها لين السماء ( الامبراطور ) ولما في السماء من شمس وقمر وكواكب وسحائب ورعود وصواعق وأمطار ، ولا إلى تخليصها من عبادة الأرض ، وما في الأرض من جبال وبحار وأنهار . ولا من أرواح الآباء ، وما تقيمه في سبيلهم من حدود وسدود وقيود . وقد أخفق كونغ فوتس في كل ما قام به من دعوة في أرجاء الصين ، فعاد إلى بلده يؤلف الصحائف في الدعوة إلى المروءة ، وقد رأينا تفصيل ذلك في كتابه ( الحوار ) ( 1 ) . ثم مات وليس له من المتأثرين بدعوته إلا عدد قليل من تلاميذه ، وبقيت الصين هي الصين من ذلك الحين إلى الآن … وأعلن حكماء اليونان مذاهبهم في الحكمة وتهذيب النفس ، فصنفوا في ذلك المصنفات ، وألقوا به الخطب . وقد اشتطوا في كثير مما صنفوا وخطبوا . - وكتاب (( الجمهورية )) لأفلاطون من أبرز الأمثلة على هذا الشطط . ثم أنقضى زمن حكماء اليونان وحكمتهم ، دون أن تعمل شعوبهم بما دعوها إليه ، لأن الدعوة والمدعوين للعمل بها لم يكونا أهلاً لذلك … وعالج المسيح في فلسطين عقول مواطنيه من العامة والخاصة ، ممن كانوا يقصدون هيكل أورشليم ، أو يتسلقون جبل الزيتون ، أو يترددون على شواطئ بحيرة طبريا وحقول أراض الجليل وحدائقها ، فلم يستجيب لدعوته إلا عدد ضئيل لا يكاد يسمى جماعة فضلاً عن أن يكون امة . إن الإنسانية من اقدم ازمانها ، وفي مختلف أوطانها ، لم تشهد (( الجيل المثالي )) إلا مرة واحدة حين فوجئت بإقباله عليها من صحارى أرض العرب يدعوا إلى الحق والخير بالقوة والرحمة ، فكان ذلك مفاجأة عجيبة لكل من شهد هذا الحادث التاريخي الفذ من روم وفرس وآراميين وكنعانيين وعبريين ومصريين وليبيين وبربر وفاندال ولا تين وتيوتون وسكسونيين وصقلبيين وغيرهم . وكانت المفاجأة عجيبة – بمصدرها ، وكيفيتها ، وأطوارها – ثم كانت عجيبة العجائب بنتائجها التى لا تزال إلى اليوم من معجزات التاريخ . أين كان هؤلاء ؟ وكيف تكونوا على حين غفلة من الأمم ؟ وما هذه الرسالة التي يحملونها ؟ وكيف نجحت ؟ وما هي وسائل نجاحها( 2 ) . سلسلة من الأسئلة لا يكاد الناس يتساءلون بأولها حتى يفاجأوا بما ينسيهم تاليه أوله . إلى أن رأوا من صفات هذه الأمة المثالية ما ايقنوا به أنها تحمل إلى الإنسانية رسالة الحق والخير ، وأنها تترجم عن رسالتها بأخلاقها ، وسيرتها وأعمالها ، وأن الذي اعتقدته وتخلقت به ودعت الأمم إليه هو الحق الذي قامت به السماوات والأرض . وكما تساءل الناس عن هذه العجائب في زمن وقوعها ، ثم أنساهم بعضها بعضاً . كذلك نحن نتساءل اليوم عن كثير من اسرارها . وبالرغم من ضياع العدد الأكبر من المراجع القديمة فيما احترق مع بيوت الفسطاط ومدارسها وجوامعها مدة أربعة وخمسين يوماً ( 3 ) ، وفيما غرق دجلة أيام ابن العلقمي ومستشاره ابن أبي الحديد ( 4 ) ، وفيما خسرناه بضياع الأندلس وكوارث الحروب الصليبية ، وفيما فرطنا به في أزمان الجهل والانحطاط – بالرغم من كل هذا – فإن النفوس استيقظت الآن لدراسة أحوال (( الجيل المثالي )) الفذ الذي عرفته الدنيا ، ولنقد الأصيل والدخيل من اخباره ، وتحليل عناصر الخير التى أنطوى عليها ، ومعرفة الأسباب التى صار بها جيلاً مثالياً ، لتستفيد الإنسانية من الأقتداء به ، والتأسي بسننه واخلاقه وتصرفاته . وأول ما نعلمه ونؤمن به من أسباب الكمال في هذا الجيل المثالي أنه تلقى تربيته على يد معلم الناس الخير خاتم رسل الله المبعوث بأكمل رسالات الله .إن هذا السبب في طليعة أسباب الكمال لهذا الجيل المثالي ، لا يشك أحد ذلك عاقل فضلاً عن مؤمن . ولكن يحق لنا أن نتسائل : ألم يكن موسى أحد المبعوثين برسالات الله ؟ ألم يتح لموسى أن يعاشر قومه في الحل والترحال معاشرة تربية ودعوة أكثر من أربعين سنة ؟ ومع ذلك فقد جاء في (( سفر العدد )) من التوراة الموجودة الآن في ايدي قومه ( 14 : 26 – 27 ) ما نصه : (( وكلم الرب التوراة وهارون قائلاً : حتى متى أغفر لهذه الجماعة الشريرة المتذمرة عليَّ ؟ (( 29 )) (( في هذه الفقرة تسقط جثثكم جميع المعدومين منكم حسب عددكم ، من ابن عشرين فصاعدا الذين تذمروا عليّ )) . أين – من أصحاب موسى هؤلاء – اصحاب محمد عليهما صلاة الله وسلامه يوم سار بهم إلى بدر وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ليناجزوا ثلاثة أضعافهم من أهل الرجولة والحماسة والبأس ، فلما بلغ النبي بهذه القلة القليلة من أصحابه وادي ذفران أراد أن يختبر إيمانهم ، فأخبرهم عن ريش ، واستشارهم في الموقف . فقام الصديق أبو بكر فقال وأحسن ، ثم قام عمر بن الخطاب الذي أعز الله به الإسلام فقال واحسن ، ثم قام فارسهم المقداد بن عمرو ( الأسود ) الكندي فقال : (( يا رسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك . والله ل نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : أذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون . فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه )) ، فقال له رسول الله ? خيراً ، ودعا له . ثم قال رسول الله ? : (( اشيروا عليَّ أيها الناس )) . فقال له سعد بن معاذ سيد الخزرج واقوى زعيم في الأنصار : (( والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ )) قال : (( أجل )) . قال سعد : (( فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة . فامض يا رسول الله لما اردت فنحن معك . فوالذي بعثك بالحق لو أستعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً . إنا لصبر في الحرب ، صدق في اللقاء ، لعل الله يريك منا ماتقر به عينك . فسر بنا على بركة الله )) . وقد كان عملهم أبين من قولهم وأصدق . - هكذا كانوا في مواقف البأس وعند الشدائد . ورأيناهم في تحريم الحقوق وإذعانهم للإنصاف والعدل في حياتهم السلمية كما تحدثت عنهم أم سلمة رضي الله عنها – فيما رواه عنها الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه – قالت : (( جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث قد درست ليس بينهما بينه ، فقال لهما رسول الله ? : إنكم تختثمون إليّ ، وأنما أنا بشر ، ولعل بعضكم الحن بحجته من بعض ، وإنما اقضى بينكم على نحو مما اسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا ياخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها اسطاماً في عنقه يوم القيامة فبكي الرجلان ، وقال كل واحد منهما : حقى لأخي ! فقال رسول الله ? : أما إذا قلتما ذلك فأذهبا ، فاقتسما ثم توخيا الحق ، ثم استهما ( أي اعملا قرعة على القسمين بعد قسمهما ) ، ثم ليحل كل واحد منكما صاحبه )) . - وهذان الرجلان المثاليان في الإيمان بالحق لا نزال إلى الآن نجهل أسميهما ، لأنهما من عامة الصحابة لا من خواصهم الممتازين بالفضائل الإنسانية النادرة المثال كالعشرة المبشرين بالجنة وطبقتهم ممن اختصم النبي صلى الله عليه وسلم بالمكانة والمناقب وهذه الطريقة في تربية محمد صلى الله عليه وسلم لصحابته على محبة الحق ، واستجابة أصحابه له فيما أحب صلى الله عليه وسلم أن يكونا عليه ، قد أشاعت هذا الخلق في الخاصة والعامة من أبناء ذلك الجيل المثالي . فلما كانت خلافة الصديق رضوان الله وسلامه عليه ناط منصب القضاء برمز العدالة في الإنسانية – وهو عمر بن الخطاب – فكانت تمر على عمر الشهر ولا ياتيه اثنان يتقاضيان عنده ، وأي حاجة بهذه الأمة المثالية إلى القضاء والمحاكم وهي أمة الحق ، ومن اخلاقها أن تتحرى الحق بنفسها فلا تحتاج إلى تحكيم القضاء فيه بل أن الطبقة الدنيا في هذا الجيل ( وأحوالها وأخلاقها معروفة في كل جيل وقبيل ) وهم ممن يستطيع الشيطان في العادة أن يغلبهم على إرادتهم في بعض الأحيان فيقعون في زلة يستوجبون عليها الحد الشرعي ، فإن من أعجب ما وقع في تاريخ البشر أن يأتي من يقع في شيء من تلك الزلة من أهل تلك الطبقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعترف له بزلته ، يلح بلجاجة وإصرار إقامة الحد عليه ( وفي ذلك حتفه ) ليتطهر مما دنسه به الشيطان . وكان نبي الرحمة إذا رأى هذا الإيمان العجيب في هذه الطبقة من أصحابه الطيبين يحاول جهده أن يدرأ الحد عنهم بكل ما يجيزه الشرع ، فيأبون إلا أن يتعجلوا عقوبة الدنيا ليتقوا بها عقوبة الآخرة .وهذه الملاحظة – عن هذه الطبقة بالذات – قد سبق إلى التنويه بها والتحدث عنها إمام كبير من ائمة أهل البيت من زيدية اليمن ، وهو الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة بن سليمان بن حمزة ( المتوفى ببلدة كوكبان باليمن سنة 614 ) نقل ذلك عنه عالم الزيدية في القرن التاسع السيد محمد بن إبراهيم بن علي المترضي الوزير ( 775 – 840 ) في كتابه (( الروض الباسم )) ( 1 : 55 – 56 ) فذكر تلك الطبقة وقال : (( إن اكثرهم تساهلا في امر الدين من يتجاسر على الإقدام على الكبائر ، لا سيما معصية الزنا … لكنا نظرنا في حالهم فوجدناهم فعلوا مالا يفعله من المتأخرين إلا أهل الورع الشحيح والخوف العظيم ، ومن يضرب بصلاحه المثل ويتقرب بحبه إلى الله عز وجل . وذلك أنهم بذلوا أرواحهم في مرضاة رب العالمين ، وليس يفعل ذلك إلا من يحق له منصب الإمامة في أهل التقوى واليقين )) . أي أن طبقة الدهماء في ذلك الجيل المثالي – ممن قد يقعون في الكبائر – كان لهم من صدق الإيمان والإستقامة على الحق ما يرفعهم إلى مرتبة من يحق له منصب الإمامة في امة من اهل التقوى والدين ، فكيف بخاصة الصحابة الذين نزههم الله عز وجل عن اصغر الهفوات ، ورفعهم إلى أعلى الدرجات . ولولا أن النبوة ختمت بمربيهم وهاديهم إلى الحق صلى الله عليه وسلم لما كان مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أقل من الأنبياء الذين سلفوا في الأمم الأخرى . وإن هذا الذي يتكلم عن الزناة من دهماء الصحابة واستحقاقهم لمنصب الإمامة إمام من علماء أهل البيت يعني ما يقول ، ويعلم معني أقواله . لكنه رأى هذه الطبقة في ذلك (( الجيل المثالي )) قد صدر عنها من صدق الإيمان ما لم تر أمة من امم الأرض مثله ، فحكم بعلمه ، وكان منصفاً لنفسه وللحق ، ولدعوة الإسلام واثارها في اهلها الأولين . وقد علق على كلام المنصور بالله علامة الزيدية السيد محمد بن إبراهيم الوزير ( 1 : 56 – 57 من الروض الباسم ) قائلاً يخاطب قارئ كتابه : (( فاخبرني على الإنصاف : من في زماننا – وقبل زماننا – من اهل الديانة سار إلى الموت نشيطاً ، وأتى إلى ولاة الأمر مقراً بذنبه مشتاقاً إلى ربه ، باذلاً في رضا الله لروحه ، ممكنا للولاة أو القضاء من الحكم بقتله ؟ ! وهذه الأشياء تنبه الغافل ، وتقوي بصيره العاقل . وإلا ففي قول الله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } كفاية وغنية ، مع ماعضدها من شهادة المصطفي عليه السلام بأنهم (( خير القرون )) ، وبأن غيرهم (( لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصفيه )) إلى أمثال ذلك من مناقبهم الشريفة ومراتبهم المنفية )) . )
لفضيلة الشيخ محب الدَين الخطيب
- رحمه الله -
- من ايام أفلاطون ( 430 – 348 ق . م ) وكتابه (( الجمهورية )) ثم من عصر أبي نصر الفارابي ( 260 – 339هـ ) وكتابه (( المدينة الفاضلة )) . إلى زمن السر توماس مور ( Tomas More 1478 – 1535 م ) وكتابه (( يوتوبيا )) Utopia من تلك العصور والأزمان – إلى يوم الناس هذا – والإنسانية تحلم بالجيل المثالي الذي يود البشر لو يظفرون به فيتخذونه قدوة لهم في السلم والحرب ، والمنشط والمكره في مختلف أطوار الحياة ، ليكون لهم من كماله الإمكاني المثل المقتدي به في كمالهم الإنساني . هي أمنية من أماني الشعوب والأمم ، من أقدم الأزمان إلى الآن ، تحدث عنها الحكماء ، وتغنى بها الشعراء ، وترنم بها رخيم أصوات الهاتفين ، وهمس بها ثفوة الضارعين والمناجين ، من كل صادح أو باغم . بل إن (( الجيل المثالي )) هو الذي دعا إلى تكوينه وعمل على تحقيقه الأنبياء من اولى العزم ، وهو الذي تمناه الحكماء وأهل العلم ، وهو الذي كانت الإنسانية ولا تزال ترنو إلى شبحه المرجى في أحلام يقظاتها وفترات غفواتها . تريث موسى بقومه في آفاق العريش وبرية سيناء وصحاري النقب وحوالي بئر سبع أربعين حولا يلتحف معهم سحائب السماء ويفترش أديم الغبراء ، وهو يحاول أن يربي منهم جيلاً مثالياً يستن بسنن الله ويتخلق بأخلاق الرفق والحزم والتضحية والاستقامة والاعتدال ، فيرضى بها عن ربه ويرضى ربه عنه ، ثم مات موسى ولما يبلغ من أمته هذه الأمنية … ونبغ في الصين حكيمها … كونغ فوتس الذي عرفناه من طريق الإفرنج باسم كونفوشيوس ( 550 – 479 ق . م ) ، ولا شك أنه كان من اصدق الدعاة إلى أن يتعامل الناس بالمروءة . لكنه لم يرتفع بدعوته إلى تخليص الصين من عبوديتها لين السماء ( الامبراطور ) ولما في السماء من شمس وقمر وكواكب وسحائب ورعود وصواعق وأمطار ، ولا إلى تخليصها من عبادة الأرض ، وما في الأرض من جبال وبحار وأنهار . ولا من أرواح الآباء ، وما تقيمه في سبيلهم من حدود وسدود وقيود . وقد أخفق كونغ فوتس في كل ما قام به من دعوة في أرجاء الصين ، فعاد إلى بلده يؤلف الصحائف في الدعوة إلى المروءة ، وقد رأينا تفصيل ذلك في كتابه ( الحوار ) ( 1 ) . ثم مات وليس له من المتأثرين بدعوته إلا عدد قليل من تلاميذه ، وبقيت الصين هي الصين من ذلك الحين إلى الآن … وأعلن حكماء اليونان مذاهبهم في الحكمة وتهذيب النفس ، فصنفوا في ذلك المصنفات ، وألقوا به الخطب . وقد اشتطوا في كثير مما صنفوا وخطبوا . - وكتاب (( الجمهورية )) لأفلاطون من أبرز الأمثلة على هذا الشطط . ثم أنقضى زمن حكماء اليونان وحكمتهم ، دون أن تعمل شعوبهم بما دعوها إليه ، لأن الدعوة والمدعوين للعمل بها لم يكونا أهلاً لذلك … وعالج المسيح في فلسطين عقول مواطنيه من العامة والخاصة ، ممن كانوا يقصدون هيكل أورشليم ، أو يتسلقون جبل الزيتون ، أو يترددون على شواطئ بحيرة طبريا وحقول أراض الجليل وحدائقها ، فلم يستجيب لدعوته إلا عدد ضئيل لا يكاد يسمى جماعة فضلاً عن أن يكون امة . إن الإنسانية من اقدم ازمانها ، وفي مختلف أوطانها ، لم تشهد (( الجيل المثالي )) إلا مرة واحدة حين فوجئت بإقباله عليها من صحارى أرض العرب يدعوا إلى الحق والخير بالقوة والرحمة ، فكان ذلك مفاجأة عجيبة لكل من شهد هذا الحادث التاريخي الفذ من روم وفرس وآراميين وكنعانيين وعبريين ومصريين وليبيين وبربر وفاندال ولا تين وتيوتون وسكسونيين وصقلبيين وغيرهم . وكانت المفاجأة عجيبة – بمصدرها ، وكيفيتها ، وأطوارها – ثم كانت عجيبة العجائب بنتائجها التى لا تزال إلى اليوم من معجزات التاريخ . أين كان هؤلاء ؟ وكيف تكونوا على حين غفلة من الأمم ؟ وما هذه الرسالة التي يحملونها ؟ وكيف نجحت ؟ وما هي وسائل نجاحها( 2 ) . سلسلة من الأسئلة لا يكاد الناس يتساءلون بأولها حتى يفاجأوا بما ينسيهم تاليه أوله . إلى أن رأوا من صفات هذه الأمة المثالية ما ايقنوا به أنها تحمل إلى الإنسانية رسالة الحق والخير ، وأنها تترجم عن رسالتها بأخلاقها ، وسيرتها وأعمالها ، وأن الذي اعتقدته وتخلقت به ودعت الأمم إليه هو الحق الذي قامت به السماوات والأرض . وكما تساءل الناس عن هذه العجائب في زمن وقوعها ، ثم أنساهم بعضها بعضاً . كذلك نحن نتساءل اليوم عن كثير من اسرارها . وبالرغم من ضياع العدد الأكبر من المراجع القديمة فيما احترق مع بيوت الفسطاط ومدارسها وجوامعها مدة أربعة وخمسين يوماً ( 3 ) ، وفيما غرق دجلة أيام ابن العلقمي ومستشاره ابن أبي الحديد ( 4 ) ، وفيما خسرناه بضياع الأندلس وكوارث الحروب الصليبية ، وفيما فرطنا به في أزمان الجهل والانحطاط – بالرغم من كل هذا – فإن النفوس استيقظت الآن لدراسة أحوال (( الجيل المثالي )) الفذ الذي عرفته الدنيا ، ولنقد الأصيل والدخيل من اخباره ، وتحليل عناصر الخير التى أنطوى عليها ، ومعرفة الأسباب التى صار بها جيلاً مثالياً ، لتستفيد الإنسانية من الأقتداء به ، والتأسي بسننه واخلاقه وتصرفاته . وأول ما نعلمه ونؤمن به من أسباب الكمال في هذا الجيل المثالي أنه تلقى تربيته على يد معلم الناس الخير خاتم رسل الله المبعوث بأكمل رسالات الله .إن هذا السبب في طليعة أسباب الكمال لهذا الجيل المثالي ، لا يشك أحد ذلك عاقل فضلاً عن مؤمن . ولكن يحق لنا أن نتسائل : ألم يكن موسى أحد المبعوثين برسالات الله ؟ ألم يتح لموسى أن يعاشر قومه في الحل والترحال معاشرة تربية ودعوة أكثر من أربعين سنة ؟ ومع ذلك فقد جاء في (( سفر العدد )) من التوراة الموجودة الآن في ايدي قومه ( 14 : 26 – 27 ) ما نصه : (( وكلم الرب التوراة وهارون قائلاً : حتى متى أغفر لهذه الجماعة الشريرة المتذمرة عليَّ ؟ (( 29 )) (( في هذه الفقرة تسقط جثثكم جميع المعدومين منكم حسب عددكم ، من ابن عشرين فصاعدا الذين تذمروا عليّ )) . أين – من أصحاب موسى هؤلاء – اصحاب محمد عليهما صلاة الله وسلامه يوم سار بهم إلى بدر وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ليناجزوا ثلاثة أضعافهم من أهل الرجولة والحماسة والبأس ، فلما بلغ النبي بهذه القلة القليلة من أصحابه وادي ذفران أراد أن يختبر إيمانهم ، فأخبرهم عن ريش ، واستشارهم في الموقف . فقام الصديق أبو بكر فقال وأحسن ، ثم قام عمر بن الخطاب الذي أعز الله به الإسلام فقال واحسن ، ثم قام فارسهم المقداد بن عمرو ( الأسود ) الكندي فقال : (( يا رسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك . والله ل نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : أذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون . فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه )) ، فقال له رسول الله ? خيراً ، ودعا له . ثم قال رسول الله ? : (( اشيروا عليَّ أيها الناس )) . فقال له سعد بن معاذ سيد الخزرج واقوى زعيم في الأنصار : (( والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ )) قال : (( أجل )) . قال سعد : (( فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة . فامض يا رسول الله لما اردت فنحن معك . فوالذي بعثك بالحق لو أستعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً . إنا لصبر في الحرب ، صدق في اللقاء ، لعل الله يريك منا ماتقر به عينك . فسر بنا على بركة الله )) . وقد كان عملهم أبين من قولهم وأصدق . - هكذا كانوا في مواقف البأس وعند الشدائد . ورأيناهم في تحريم الحقوق وإذعانهم للإنصاف والعدل في حياتهم السلمية كما تحدثت عنهم أم سلمة رضي الله عنها – فيما رواه عنها الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه – قالت : (( جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث قد درست ليس بينهما بينه ، فقال لهما رسول الله ? : إنكم تختثمون إليّ ، وأنما أنا بشر ، ولعل بعضكم الحن بحجته من بعض ، وإنما اقضى بينكم على نحو مما اسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا ياخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها اسطاماً في عنقه يوم القيامة فبكي الرجلان ، وقال كل واحد منهما : حقى لأخي ! فقال رسول الله ? : أما إذا قلتما ذلك فأذهبا ، فاقتسما ثم توخيا الحق ، ثم استهما ( أي اعملا قرعة على القسمين بعد قسمهما ) ، ثم ليحل كل واحد منكما صاحبه )) . - وهذان الرجلان المثاليان في الإيمان بالحق لا نزال إلى الآن نجهل أسميهما ، لأنهما من عامة الصحابة لا من خواصهم الممتازين بالفضائل الإنسانية النادرة المثال كالعشرة المبشرين بالجنة وطبقتهم ممن اختصم النبي صلى الله عليه وسلم بالمكانة والمناقب وهذه الطريقة في تربية محمد صلى الله عليه وسلم لصحابته على محبة الحق ، واستجابة أصحابه له فيما أحب صلى الله عليه وسلم أن يكونا عليه ، قد أشاعت هذا الخلق في الخاصة والعامة من أبناء ذلك الجيل المثالي . فلما كانت خلافة الصديق رضوان الله وسلامه عليه ناط منصب القضاء برمز العدالة في الإنسانية – وهو عمر بن الخطاب – فكانت تمر على عمر الشهر ولا ياتيه اثنان يتقاضيان عنده ، وأي حاجة بهذه الأمة المثالية إلى القضاء والمحاكم وهي أمة الحق ، ومن اخلاقها أن تتحرى الحق بنفسها فلا تحتاج إلى تحكيم القضاء فيه بل أن الطبقة الدنيا في هذا الجيل ( وأحوالها وأخلاقها معروفة في كل جيل وقبيل ) وهم ممن يستطيع الشيطان في العادة أن يغلبهم على إرادتهم في بعض الأحيان فيقعون في زلة يستوجبون عليها الحد الشرعي ، فإن من أعجب ما وقع في تاريخ البشر أن يأتي من يقع في شيء من تلك الزلة من أهل تلك الطبقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعترف له بزلته ، يلح بلجاجة وإصرار إقامة الحد عليه ( وفي ذلك حتفه ) ليتطهر مما دنسه به الشيطان . وكان نبي الرحمة إذا رأى هذا الإيمان العجيب في هذه الطبقة من أصحابه الطيبين يحاول جهده أن يدرأ الحد عنهم بكل ما يجيزه الشرع ، فيأبون إلا أن يتعجلوا عقوبة الدنيا ليتقوا بها عقوبة الآخرة .وهذه الملاحظة – عن هذه الطبقة بالذات – قد سبق إلى التنويه بها والتحدث عنها إمام كبير من ائمة أهل البيت من زيدية اليمن ، وهو الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة بن سليمان بن حمزة ( المتوفى ببلدة كوكبان باليمن سنة 614 ) نقل ذلك عنه عالم الزيدية في القرن التاسع السيد محمد بن إبراهيم بن علي المترضي الوزير ( 775 – 840 ) في كتابه (( الروض الباسم )) ( 1 : 55 – 56 ) فذكر تلك الطبقة وقال : (( إن اكثرهم تساهلا في امر الدين من يتجاسر على الإقدام على الكبائر ، لا سيما معصية الزنا … لكنا نظرنا في حالهم فوجدناهم فعلوا مالا يفعله من المتأخرين إلا أهل الورع الشحيح والخوف العظيم ، ومن يضرب بصلاحه المثل ويتقرب بحبه إلى الله عز وجل . وذلك أنهم بذلوا أرواحهم في مرضاة رب العالمين ، وليس يفعل ذلك إلا من يحق له منصب الإمامة في أهل التقوى واليقين )) . أي أن طبقة الدهماء في ذلك الجيل المثالي – ممن قد يقعون في الكبائر – كان لهم من صدق الإيمان والإستقامة على الحق ما يرفعهم إلى مرتبة من يحق له منصب الإمامة في امة من اهل التقوى والدين ، فكيف بخاصة الصحابة الذين نزههم الله عز وجل عن اصغر الهفوات ، ورفعهم إلى أعلى الدرجات . ولولا أن النبوة ختمت بمربيهم وهاديهم إلى الحق صلى الله عليه وسلم لما كان مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أقل من الأنبياء الذين سلفوا في الأمم الأخرى . وإن هذا الذي يتكلم عن الزناة من دهماء الصحابة واستحقاقهم لمنصب الإمامة إمام من علماء أهل البيت يعني ما يقول ، ويعلم معني أقواله . لكنه رأى هذه الطبقة في ذلك (( الجيل المثالي )) قد صدر عنها من صدق الإيمان ما لم تر أمة من امم الأرض مثله ، فحكم بعلمه ، وكان منصفاً لنفسه وللحق ، ولدعوة الإسلام واثارها في اهلها الأولين . وقد علق على كلام المنصور بالله علامة الزيدية السيد محمد بن إبراهيم الوزير ( 1 : 56 – 57 من الروض الباسم ) قائلاً يخاطب قارئ كتابه : (( فاخبرني على الإنصاف : من في زماننا – وقبل زماننا – من اهل الديانة سار إلى الموت نشيطاً ، وأتى إلى ولاة الأمر مقراً بذنبه مشتاقاً إلى ربه ، باذلاً في رضا الله لروحه ، ممكنا للولاة أو القضاء من الحكم بقتله ؟ ! وهذه الأشياء تنبه الغافل ، وتقوي بصيره العاقل . وإلا ففي قول الله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } كفاية وغنية ، مع ماعضدها من شهادة المصطفي عليه السلام بأنهم (( خير القرون )) ، وبأن غيرهم (( لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصفيه )) إلى أمثال ذلك من مناقبهم الشريفة ومراتبهم المنفية )) . )