بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الألباني -رحمه الله- شيخ الحديث في هذا العصر، يلقّب
بمحدِّث الشام، ولو قيل: محدِّث الدنيا ، لاستحق ذلك، ولا أزكي على الله أحدا.
تعرض- رحمه الله- كغيره من العلماء الى الافتراءات والكذب
عليه، وخلاصة ما كذبوا عليه ورموه به في نقاط تسعة:
-محدِّث وليس بفقيه!
-لا علم له بالأصول!
-لا شيوخ له!
-شاذّ متفرد لما عليه الناس!
-لا يحترم العلماء ولا يعرف قدرهم!
-ظاهري المذهب!
-متساهل في التصحيح!
-متناقض في أحكامه على الحديث!
-لا يهتم بنقد المتن!
وهذه الأمور هي في الغالب ما يُرمَى به أهل
الحديث في كل عصر، وقد رأيت عرضَها وردَّها ذبًّا ودفاعًا عنهم، وهذا أقل ما
يمكن أن نقدمه من باب البر بهم
-رحم الله الجميع-.
محدث وليس بفقيه!
هذه العبارة إن أريد بها مجرد الوصف بأنه من
أهل الحديث، النابغين النابهين فيه، ولم يرتب على ذلك شيء من سلب نعمة
الفقه، فهذا لا اعتراض عليه، إذ الإمام الألباني- رحمه الله- من أئمة
الحديث بعصرنا، المشهود له بالدراية وطول الباع فيه،
شهد له بذلك، وهذا- ولله الحمد- مما لا يختلف فيه اثنان ولا ينتطح فيه
عنزان، على ما أحسب.
أما إذا أريد بهذه العبارة إسقاط فقه
الألباني للحديث وبيان معانيه واختياراته وترجيحاته في مسائل
العلم، فهذا معنى منكر باطل، يرد عليه بما يلي:
يقال لهم: ما الفقه عندكم؟ إن أردتم بالفقه
حفظ المسائل والمتون والخوض بالافتراضات، دون تأصيل ذلك على الدليل
الصحيح، فهذا الإمام الألباني-
رحمه الله- من أبعد الناس عنه.
وإن أردتم بالفقه: الفهم والتفقه لنصوص
الكتاب العزيز والسنة المطهرة على ضوء فهم الصحابة-رضوان
الله عليهم وتابعيهم-، دون تعصب لأحد، إلا للدليل، فنحن نطالب بدليل واحد
على أن الإمام - رحمه الله- لم يكن كذلك!
إن هذه الكلمة: محدث وليس بفقيه! بتلك
المعاني الباطله كلمة شيطانية، الهدف منها الحط من قدر
ومنزلة أهل الحديث، وأن الفقيه يمكن أن يستغني عن الحديث.
هذه المقولة أوّلها هفوة، وبدعة، وآخرها تحلّل وزندقة.
أمّا كونها بدعة، فلأننا لم نعهدها من السلف
الصالح، أما كونها تحللّ وزندقة فلأنها تجر إلى إطراح كلام أهل العلم
جميعه، وبالتالي إسقاط الشرائع، وتعطيل الأحكام فيقال مرة: هذا الحكم
قاله فلان وهو محدث وليس بفقيه، فلا يقبل، ويقال مرة: هذا
الحكم قاله فلان، وهو فقيه ليس بمحدث، فلا يقبل. والنتيجة التحلل عن أحكام الديانة!!!!
أما قولهم:
لا علم له بالأصول!
فهذه دعوى أين الدليل عليها؟ والواقع في كتب الشيخ خلافها.
بل المعروف من سيرة الشيخ- رحمه الله- أنه
كان يعقد درسين كل أسبوع يحضرهما طلبة العلم، وبعض أساتذة الجامعات، ومن
الكتب التي درّسها في حلقاته العلمية: كتاب أصول الفقه لعبد الوهاب
خلاف.
وهذه التهمة- وهي نفي العلم بأصول الفقه- قد يلوكها بعضهم
في الطعن على أهل الحديث، فيرميهم بها.
وإلى هؤلاء أقول: من المهم التنبه هنا إلى الأمورالتالية:
1-أن السنة النبوية هي دلائل القرآن، كما قال الإمام أحمد
بن حنبل-رحمه الله- في رسالته في السنة، رواية عبدوس.
فكل حكم في القرآن تدل عليه السنة، وتبيّنه وتدل على
المراد منه، وبها يتوصل إلى معرفة المراد.
2-أن علم الأصول مبني على دلالات القرآن
العظيم والسنة النبوية، بحسب اللسان العربي، مع مراعاة
عرف زمن التشريع، والدراية بملابسات التشريع، وهذاالأمر سلّم للصحابة، لا
يشاركهم في معرفته والاطلاع عليه غيرهم، ولا طريق للوصول إليه إلا عن طريقهم.
إذا تقرر هذا: فاعلم أن أهل الحديث هم أسعد
الناس بكل ذلك، فلا أحد أعلم منهم بما جاء عن الرسول-صلى الله عليه وسلم- ولا
أحد أعلم منهم بما جاء عن الصحابة-رضوان الله عليهم- فهم بالحقيقة
أهل الأصول، ومن منهجهم جعل نصوص القرآن والسنة أصلا يبنون عليه، وهل سعى
علماء الأصول إلا إلى هذا؟
ومنه تعلم أن علماء أهل الحديث هم علماء الأصول الشرعية،
وقواعد الاستنباط من خلال اتباعهم لما جاء عن الصحابة والتابعين.
أمّا قولهم:
لا شيوخ له!
فهذه كلمة عجلى, فإن الشيخ الالباني- رحمه
الله- درس على والده بعض علوم الآلة كعلم الصرف، ودرس
عليه أيضا من كتب الفقه الحنفي: " مختصر القدوري ", وتلقى منه قراءة القرآن الكريم،
وختمه عليه بقراءة حفص تجويدا.
ودرس على الشيخ سعيد البرهاني: " مراقي الفلاح "
في الفقه الحنفي، و" شذور الذهب " في النحو، وبعض كتب البلاغة.
وكان يحضر ندوات العلامة محمد بهجت العطار-رحمه
الله- مع بعض أساتذة المجمع العلمي بدمشق، منهم: "عز الدين
التنوخي "-رحمه الله-، إذ كانوا يقرأون" الحماسة " لأبي تمام.
والتقى الألباني-رحمه الله- وهو في مقتبل العمر
بالشيخ محمد راغب الطباخ-رحمه الله- وقد أظهر الشيخ الطباخ إعجابه
بالألباني، وقدّم اليه ثبته " الأنوار الجلية في مختصر
الأثبات الحنبلية
".
فإذا علمت هذا، ظهر لك مدى ما يحمله قولهم: " لا
شيوخ له "! من مخالفة للواقع.
ولا يضر الشيخ قلة شيوخه.
وكم من عالم كان قليل الشيوخ، ولم يؤثر ذلك
في علمه، بل ورواة الحديث فيهم من لم يرو إلا عن الرجلين والثلاثة بل
والواحد، وشهد له الأئمة بالضبط والحفظ والإتقان، ولم يمنع
ذلك من الأخذ عنهم والسماع منهم.
فهذا أبا عمر أحمد بن عبد الله بن محمد اللخمي
المعروف بابن الباجي ( توفي قريبا من400هـ) من أهل إشبيلية، وكان
وحيد عصره وفقيه زمانه، جمع الحديث والفقه، والفضل، وكان يحفظ بعض كتب
السنة، وكتب الغريب حفظا حسنا.
أما قولهم:
شاذ متفرد مخالف لما عليه الناس!
فهذه دعوة متهافتة، إنما أهل الحديث والألباني-
رحمه الله- ولا أزكي على الله أحدا- من الغرباء، الذين يحيون ما أمات
الناس من سنة النبي- صلى الله عليه وسلم -.
وقولهم: " تفرد فلان بكذا " لا ينفي عنه الفقه،
ولا ينسبه إلى الشذوذ.
قال أبو محمد بن حزم- رحمه الله- في" الأحكام في
أصول الأحكام " (5/661-662)
:
(إن حد الشذوذ هو مخالفة الحق، فكل من خالف
الصواب في مسألة ما فهو فيها شاذ، وسواء كانوا أهل الأرض كلهم بأسرهم أو
بعضهم. والجماعة والجملة هم أهل الحق، ولو لم يكن في الأرض منهم إلا
واحد، فهو الجماعة، وهو الجملة. وقد أسلم أبو بكر
وخديجة- رضي الله عنهما- فقط فكانا هما الجماعة، وكان سائر أهل الأرض غيرهما وغير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أهل شذوذ وفرقة).
فليس الشذوذ مخالفة الواحد من العلماء لجماعة منهم.
وليس الشذوذ مخالفة ما جرى عليه العمل، أو شاع بين الناس.
فكم من مسألة انفرد بها الأئمة الأعلام كأبي
حنيفة والشافعي ومالك وأحمد ، وما عُدّ ذلك عيبا في حقهم، ولا سالبا نعت
الفقه عنهم، ولا مانعا له، ولا داعيا إلى نسبتهم- رحمة الله عليهم- إلى
الشذوذ والتفرد!
وكيف يوصف بالشذوذ من جرّد المتابعة للمعصوم- صلى الله
عليه وسلم -.
بل بعض الأئمة الأعلام من خالف السنة والأثر، ولم يقل أهل
العلم عنهم: إنهم شذوا أو تفردوا.
فهذا الحافظ ابن أبي شيبة (ت235هـ) يصنف كتاب
ضمن كتابه ( المصنف) بعنوان
" الرد على أبي حنيفة " يصدره بقوله: " هذا
ما خالف به أبو حنيفة الأثر الذي جاء عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ".
وهذا الليث بن سعد- رحمه الله- يقول: " أحصيت
على مالك بن أنس سبعين مسألة كلها مخالفة لسنة النبي- صلى الله عليه وسلم-،
مما قال مالك فيها برأيه. قال الليث: ولقد كتبت إليه بذلك ". وهذا
الأثر موجود في" جامع بيان العلم وفضله " (2/148).
ثم متى كان جريان عمل الناس على شيء حجة مطلقة في شرع
الله ترد من أجله النصوص؟
أي ذنب لأهل الحديث والألباني- رحمه الله- إذا
وقفوا على حديث ظهرت لهم صحته، ولم يظهر له معارض معتبر، فعملوا به،
ودعوا الناس إلى العمل على إحياء هذه السنة التي تضمنها
هذا الحديث. سبحان الله! بدلا من أن يشكر لهم هذا العمل يذموا، وينسبوا فيه
إلى الشذوذ والتفرد!
أمّا قولهم:
لا يحترم العلماء ولا يعرف قدرهم!
فهو دعوى عرية عن الدليل، بل الواقع خلافها،
وكل ما في الأمر أن بعض الناس توهّم أن الشيخ الألباني- رحمه الله- لما
يعمل بالحديث الصحيح الذي لم يعلم له مخالفا معتبراً، أهدر بتصرفه هذا
العلماء الذين لم يعملوا بهذا الحديث، ولم يحترم قدرهم، وهذا وهم لا
وجه له لما يلي:
-أن هناك فرقا بين تجريد المتابعة للمعصوم- صلى الله عليه
وسلم- وبين إهدار أقوال العلماء.
فتجريد المتابعة : أن لا تقدّم على ما جاء به
قول أحد، كائناً من كان، بل تنظر في صحة الحديث أوّلاً،
فإذا صحّ لك نظرت في معناه ثانياً، فإذا تبين لك لم تعدل عنه، ولو
خالفك مَن بين المشرق والمغرب.
ومن نفائس كلام الإمام الألباني- رحمه الله- في" السلسلة
الصحيحة " تعليقاً على حديث رقم(221):
(تشبث به-يعني الحديث- وعض عليه بالنواجذ، ودع عنك آراء
الرجال، فإنه إذا ورد الأثر بطل النظر، وإذا ورد نهر الله بطل نهر معقل).
وللعلم:
لايوجد-فيما أعلم- مسألة اختار الإمام الألباني- رحمه
الله- فيها قولاً لم يسبقه إليه أحد من أهل العلم، وهو يحرص-رحمه
الله- دائماً على أن يذكر سلفه فيما اختار العمل به من الأقوال
التي ظهر له موافقتها للنصوص.
والشيخ-
رحمه الله- يرجع إلى أقوال العلماء ويعتبر كلامهم ويستفيد
منه ، دون تعصب أو تقليد ، فقد قال في مقدمة كتابه "
صفة صلاة النبي- صلى الله عليه وسلم- ":
(وأمّا الرجوع الى أقوالهم-يعني: العلماء- والاستفادة
منها والاستعانة بها على تفهّم وجه الحق فيما اختلفوا فيه مما ليس
عليه نص الكتاب والسنة، أو ما كان بحاجة إلى توضيح، فأمر لا ننكره، بل
نأمر به ، ونحضّ عليه، لأن الفائدة منه مرجوّة، لمن سلك سبيل
الاهتداء بالكتاب والسنّة).
وتبقى الإشارة إلى قضية شدة الشيخ- رحمه الله- في
ردوده على مخالفيه، والواقع أن هذه القضية نسبية، تختلف من شخص لآخر،
فبعضهم يسميها موضوعية في البحث ، وتجرّد لطلب الحق دون مجاملة، وآخرون
يسمونها شدة وترك الرفق، وعلى كل حال ينبغي أن لا تغيب
الأمور التالية:
1-أن بعضهم يطلب من الشيخ من الرفق في ردّه
عليه بما لا يلتزم هو به في ردوده، فهم يطلبون من الشيخ أن يعاملهم في ردّه
عليهم بما لا يلتزمون هم به في ردودهم على مخالفيهم
2-أن الشدّة في تقرير الحق لا تعني أنه باطل، ولا تمنع من
قبوله.
3-أن الرفق في تقرير الباطل لا يعني أنه حق.
4-أن الشدّة قد تكون أحياناً من الحكمة في الدعوة.
وللشيخ- رحمه الله- تعليق لما نسب إليه من شدة فانظره في "
السلسلة الضعيفة" المجلد الاول ص27.
أمّا قولهم:
ظاهري المذهب!
فهذه دعوى تحتاج لدليل, والواقع وصف أهل
الحديثبأنهم من أهل الظاهر من الكلمات التي تُسمع بين
الفينة والأخرى، ولذلك فان وصف الألباني بها ليس بمستغرب، إذ هو من أهل الحديث!
ولإزالة اللبس الذي يكون قد علق بأذهان البعض لا بد من
هذه التساؤلات:
هل صرح الشيخ في كتبه أنه ظاهري المذهب؟
وهل مجرد إحالة الشيخ إلى كتب ابن حزم تعني أنه ظاهري؟
علما أن الشيخ الألباني - رحمه الله- في مواضع
شتى يشنّع على ابن حزم الظاهري ففي" تمام المنّة " ص160 قال: خلافا
لما قعقع حوله ابن حزم
...
وفي نفس المصدر ص162 قال: وأغرب ابن حزم كعادته في التمسك
بالظاهرية.
ومن مؤلفات الألباني- رحمه الله- كتابه في الرد على ابن
حزم في مسألة المعازف
ولذا فإن أهل الحديث-والألباني منهم- من أبعد الناس عن
الأخطاء التي سجلها العلماء على الظاهرية.
بل يصرّح الشيخ- رحمه الله- في أكثر من موضع
وأشهرها في مقدمة كتابه " صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم- "
من أنه يعتمد في منهجه على اتباع الأحاديث والآثار، ولا يخرج عنها، مع
احترام الأئمة جميعا والاستفادة من فقههم.
يتبع
والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الألباني -رحمه الله- شيخ الحديث في هذا العصر، يلقّب
بمحدِّث الشام، ولو قيل: محدِّث الدنيا ، لاستحق ذلك، ولا أزكي على الله أحدا.
تعرض- رحمه الله- كغيره من العلماء الى الافتراءات والكذب
عليه، وخلاصة ما كذبوا عليه ورموه به في نقاط تسعة:
-محدِّث وليس بفقيه!
-لا علم له بالأصول!
-لا شيوخ له!
-شاذّ متفرد لما عليه الناس!
-لا يحترم العلماء ولا يعرف قدرهم!
-ظاهري المذهب!
-متساهل في التصحيح!
-متناقض في أحكامه على الحديث!
-لا يهتم بنقد المتن!
وهذه الأمور هي في الغالب ما يُرمَى به أهل
الحديث في كل عصر، وقد رأيت عرضَها وردَّها ذبًّا ودفاعًا عنهم، وهذا أقل ما
يمكن أن نقدمه من باب البر بهم
-رحم الله الجميع-.
محدث وليس بفقيه!
هذه العبارة إن أريد بها مجرد الوصف بأنه من
أهل الحديث، النابغين النابهين فيه، ولم يرتب على ذلك شيء من سلب نعمة
الفقه، فهذا لا اعتراض عليه، إذ الإمام الألباني- رحمه الله- من أئمة
الحديث بعصرنا، المشهود له بالدراية وطول الباع فيه،
شهد له بذلك، وهذا- ولله الحمد- مما لا يختلف فيه اثنان ولا ينتطح فيه
عنزان، على ما أحسب.
أما إذا أريد بهذه العبارة إسقاط فقه
الألباني للحديث وبيان معانيه واختياراته وترجيحاته في مسائل
العلم، فهذا معنى منكر باطل، يرد عليه بما يلي:
يقال لهم: ما الفقه عندكم؟ إن أردتم بالفقه
حفظ المسائل والمتون والخوض بالافتراضات، دون تأصيل ذلك على الدليل
الصحيح، فهذا الإمام الألباني-
رحمه الله- من أبعد الناس عنه.
وإن أردتم بالفقه: الفهم والتفقه لنصوص
الكتاب العزيز والسنة المطهرة على ضوء فهم الصحابة-رضوان
الله عليهم وتابعيهم-، دون تعصب لأحد، إلا للدليل، فنحن نطالب بدليل واحد
على أن الإمام - رحمه الله- لم يكن كذلك!
إن هذه الكلمة: محدث وليس بفقيه! بتلك
المعاني الباطله كلمة شيطانية، الهدف منها الحط من قدر
ومنزلة أهل الحديث، وأن الفقيه يمكن أن يستغني عن الحديث.
هذه المقولة أوّلها هفوة، وبدعة، وآخرها تحلّل وزندقة.
أمّا كونها بدعة، فلأننا لم نعهدها من السلف
الصالح، أما كونها تحللّ وزندقة فلأنها تجر إلى إطراح كلام أهل العلم
جميعه، وبالتالي إسقاط الشرائع، وتعطيل الأحكام فيقال مرة: هذا الحكم
قاله فلان وهو محدث وليس بفقيه، فلا يقبل، ويقال مرة: هذا
الحكم قاله فلان، وهو فقيه ليس بمحدث، فلا يقبل. والنتيجة التحلل عن أحكام الديانة!!!!
أما قولهم:
لا علم له بالأصول!
فهذه دعوى أين الدليل عليها؟ والواقع في كتب الشيخ خلافها.
بل المعروف من سيرة الشيخ- رحمه الله- أنه
كان يعقد درسين كل أسبوع يحضرهما طلبة العلم، وبعض أساتذة الجامعات، ومن
الكتب التي درّسها في حلقاته العلمية: كتاب أصول الفقه لعبد الوهاب
خلاف.
وهذه التهمة- وهي نفي العلم بأصول الفقه- قد يلوكها بعضهم
في الطعن على أهل الحديث، فيرميهم بها.
وإلى هؤلاء أقول: من المهم التنبه هنا إلى الأمورالتالية:
1-أن السنة النبوية هي دلائل القرآن، كما قال الإمام أحمد
بن حنبل-رحمه الله- في رسالته في السنة، رواية عبدوس.
فكل حكم في القرآن تدل عليه السنة، وتبيّنه وتدل على
المراد منه، وبها يتوصل إلى معرفة المراد.
2-أن علم الأصول مبني على دلالات القرآن
العظيم والسنة النبوية، بحسب اللسان العربي، مع مراعاة
عرف زمن التشريع، والدراية بملابسات التشريع، وهذاالأمر سلّم للصحابة، لا
يشاركهم في معرفته والاطلاع عليه غيرهم، ولا طريق للوصول إليه إلا عن طريقهم.
إذا تقرر هذا: فاعلم أن أهل الحديث هم أسعد
الناس بكل ذلك، فلا أحد أعلم منهم بما جاء عن الرسول-صلى الله عليه وسلم- ولا
أحد أعلم منهم بما جاء عن الصحابة-رضوان الله عليهم- فهم بالحقيقة
أهل الأصول، ومن منهجهم جعل نصوص القرآن والسنة أصلا يبنون عليه، وهل سعى
علماء الأصول إلا إلى هذا؟
ومنه تعلم أن علماء أهل الحديث هم علماء الأصول الشرعية،
وقواعد الاستنباط من خلال اتباعهم لما جاء عن الصحابة والتابعين.
أمّا قولهم:
لا شيوخ له!
فهذه كلمة عجلى, فإن الشيخ الالباني- رحمه
الله- درس على والده بعض علوم الآلة كعلم الصرف، ودرس
عليه أيضا من كتب الفقه الحنفي: " مختصر القدوري ", وتلقى منه قراءة القرآن الكريم،
وختمه عليه بقراءة حفص تجويدا.
ودرس على الشيخ سعيد البرهاني: " مراقي الفلاح "
في الفقه الحنفي، و" شذور الذهب " في النحو، وبعض كتب البلاغة.
وكان يحضر ندوات العلامة محمد بهجت العطار-رحمه
الله- مع بعض أساتذة المجمع العلمي بدمشق، منهم: "عز الدين
التنوخي "-رحمه الله-، إذ كانوا يقرأون" الحماسة " لأبي تمام.
والتقى الألباني-رحمه الله- وهو في مقتبل العمر
بالشيخ محمد راغب الطباخ-رحمه الله- وقد أظهر الشيخ الطباخ إعجابه
بالألباني، وقدّم اليه ثبته " الأنوار الجلية في مختصر
الأثبات الحنبلية
".
فإذا علمت هذا، ظهر لك مدى ما يحمله قولهم: " لا
شيوخ له "! من مخالفة للواقع.
ولا يضر الشيخ قلة شيوخه.
وكم من عالم كان قليل الشيوخ، ولم يؤثر ذلك
في علمه، بل ورواة الحديث فيهم من لم يرو إلا عن الرجلين والثلاثة بل
والواحد، وشهد له الأئمة بالضبط والحفظ والإتقان، ولم يمنع
ذلك من الأخذ عنهم والسماع منهم.
فهذا أبا عمر أحمد بن عبد الله بن محمد اللخمي
المعروف بابن الباجي ( توفي قريبا من400هـ) من أهل إشبيلية، وكان
وحيد عصره وفقيه زمانه، جمع الحديث والفقه، والفضل، وكان يحفظ بعض كتب
السنة، وكتب الغريب حفظا حسنا.
أما قولهم:
شاذ متفرد مخالف لما عليه الناس!
فهذه دعوة متهافتة، إنما أهل الحديث والألباني-
رحمه الله- ولا أزكي على الله أحدا- من الغرباء، الذين يحيون ما أمات
الناس من سنة النبي- صلى الله عليه وسلم -.
وقولهم: " تفرد فلان بكذا " لا ينفي عنه الفقه،
ولا ينسبه إلى الشذوذ.
قال أبو محمد بن حزم- رحمه الله- في" الأحكام في
أصول الأحكام " (5/661-662)
:
(إن حد الشذوذ هو مخالفة الحق، فكل من خالف
الصواب في مسألة ما فهو فيها شاذ، وسواء كانوا أهل الأرض كلهم بأسرهم أو
بعضهم. والجماعة والجملة هم أهل الحق، ولو لم يكن في الأرض منهم إلا
واحد، فهو الجماعة، وهو الجملة. وقد أسلم أبو بكر
وخديجة- رضي الله عنهما- فقط فكانا هما الجماعة، وكان سائر أهل الأرض غيرهما وغير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أهل شذوذ وفرقة).
فليس الشذوذ مخالفة الواحد من العلماء لجماعة منهم.
وليس الشذوذ مخالفة ما جرى عليه العمل، أو شاع بين الناس.
فكم من مسألة انفرد بها الأئمة الأعلام كأبي
حنيفة والشافعي ومالك وأحمد ، وما عُدّ ذلك عيبا في حقهم، ولا سالبا نعت
الفقه عنهم، ولا مانعا له، ولا داعيا إلى نسبتهم- رحمة الله عليهم- إلى
الشذوذ والتفرد!
وكيف يوصف بالشذوذ من جرّد المتابعة للمعصوم- صلى الله
عليه وسلم -.
بل بعض الأئمة الأعلام من خالف السنة والأثر، ولم يقل أهل
العلم عنهم: إنهم شذوا أو تفردوا.
فهذا الحافظ ابن أبي شيبة (ت235هـ) يصنف كتاب
ضمن كتابه ( المصنف) بعنوان
" الرد على أبي حنيفة " يصدره بقوله: " هذا
ما خالف به أبو حنيفة الأثر الذي جاء عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ".
وهذا الليث بن سعد- رحمه الله- يقول: " أحصيت
على مالك بن أنس سبعين مسألة كلها مخالفة لسنة النبي- صلى الله عليه وسلم-،
مما قال مالك فيها برأيه. قال الليث: ولقد كتبت إليه بذلك ". وهذا
الأثر موجود في" جامع بيان العلم وفضله " (2/148).
ثم متى كان جريان عمل الناس على شيء حجة مطلقة في شرع
الله ترد من أجله النصوص؟
أي ذنب لأهل الحديث والألباني- رحمه الله- إذا
وقفوا على حديث ظهرت لهم صحته، ولم يظهر له معارض معتبر، فعملوا به،
ودعوا الناس إلى العمل على إحياء هذه السنة التي تضمنها
هذا الحديث. سبحان الله! بدلا من أن يشكر لهم هذا العمل يذموا، وينسبوا فيه
إلى الشذوذ والتفرد!
أمّا قولهم:
لا يحترم العلماء ولا يعرف قدرهم!
فهو دعوى عرية عن الدليل، بل الواقع خلافها،
وكل ما في الأمر أن بعض الناس توهّم أن الشيخ الألباني- رحمه الله- لما
يعمل بالحديث الصحيح الذي لم يعلم له مخالفا معتبراً، أهدر بتصرفه هذا
العلماء الذين لم يعملوا بهذا الحديث، ولم يحترم قدرهم، وهذا وهم لا
وجه له لما يلي:
-أن هناك فرقا بين تجريد المتابعة للمعصوم- صلى الله عليه
وسلم- وبين إهدار أقوال العلماء.
فتجريد المتابعة : أن لا تقدّم على ما جاء به
قول أحد، كائناً من كان، بل تنظر في صحة الحديث أوّلاً،
فإذا صحّ لك نظرت في معناه ثانياً، فإذا تبين لك لم تعدل عنه، ولو
خالفك مَن بين المشرق والمغرب.
ومن نفائس كلام الإمام الألباني- رحمه الله- في" السلسلة
الصحيحة " تعليقاً على حديث رقم(221):
(تشبث به-يعني الحديث- وعض عليه بالنواجذ، ودع عنك آراء
الرجال، فإنه إذا ورد الأثر بطل النظر، وإذا ورد نهر الله بطل نهر معقل).
وللعلم:
لايوجد-فيما أعلم- مسألة اختار الإمام الألباني- رحمه
الله- فيها قولاً لم يسبقه إليه أحد من أهل العلم، وهو يحرص-رحمه
الله- دائماً على أن يذكر سلفه فيما اختار العمل به من الأقوال
التي ظهر له موافقتها للنصوص.
والشيخ-
رحمه الله- يرجع إلى أقوال العلماء ويعتبر كلامهم ويستفيد
منه ، دون تعصب أو تقليد ، فقد قال في مقدمة كتابه "
صفة صلاة النبي- صلى الله عليه وسلم- ":
(وأمّا الرجوع الى أقوالهم-يعني: العلماء- والاستفادة
منها والاستعانة بها على تفهّم وجه الحق فيما اختلفوا فيه مما ليس
عليه نص الكتاب والسنة، أو ما كان بحاجة إلى توضيح، فأمر لا ننكره، بل
نأمر به ، ونحضّ عليه، لأن الفائدة منه مرجوّة، لمن سلك سبيل
الاهتداء بالكتاب والسنّة).
وتبقى الإشارة إلى قضية شدة الشيخ- رحمه الله- في
ردوده على مخالفيه، والواقع أن هذه القضية نسبية، تختلف من شخص لآخر،
فبعضهم يسميها موضوعية في البحث ، وتجرّد لطلب الحق دون مجاملة، وآخرون
يسمونها شدة وترك الرفق، وعلى كل حال ينبغي أن لا تغيب
الأمور التالية:
1-أن بعضهم يطلب من الشيخ من الرفق في ردّه
عليه بما لا يلتزم هو به في ردوده، فهم يطلبون من الشيخ أن يعاملهم في ردّه
عليهم بما لا يلتزمون هم به في ردودهم على مخالفيهم
2-أن الشدّة في تقرير الحق لا تعني أنه باطل، ولا تمنع من
قبوله.
3-أن الرفق في تقرير الباطل لا يعني أنه حق.
4-أن الشدّة قد تكون أحياناً من الحكمة في الدعوة.
وللشيخ- رحمه الله- تعليق لما نسب إليه من شدة فانظره في "
السلسلة الضعيفة" المجلد الاول ص27.
أمّا قولهم:
ظاهري المذهب!
فهذه دعوى تحتاج لدليل, والواقع وصف أهل
الحديثبأنهم من أهل الظاهر من الكلمات التي تُسمع بين
الفينة والأخرى، ولذلك فان وصف الألباني بها ليس بمستغرب، إذ هو من أهل الحديث!
ولإزالة اللبس الذي يكون قد علق بأذهان البعض لا بد من
هذه التساؤلات:
هل صرح الشيخ في كتبه أنه ظاهري المذهب؟
وهل مجرد إحالة الشيخ إلى كتب ابن حزم تعني أنه ظاهري؟
علما أن الشيخ الألباني - رحمه الله- في مواضع
شتى يشنّع على ابن حزم الظاهري ففي" تمام المنّة " ص160 قال: خلافا
لما قعقع حوله ابن حزم
...
وفي نفس المصدر ص162 قال: وأغرب ابن حزم كعادته في التمسك
بالظاهرية.
ومن مؤلفات الألباني- رحمه الله- كتابه في الرد على ابن
حزم في مسألة المعازف
ولذا فإن أهل الحديث-والألباني منهم- من أبعد الناس عن
الأخطاء التي سجلها العلماء على الظاهرية.
بل يصرّح الشيخ- رحمه الله- في أكثر من موضع
وأشهرها في مقدمة كتابه " صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم- "
من أنه يعتمد في منهجه على اتباع الأحاديث والآثار، ولا يخرج عنها، مع
احترام الأئمة جميعا والاستفادة من فقههم.
يتبع